|
محمد السمّاك :الشاب الثمانيني الذي يسيل من يراعه عطر الفلسفة
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 5134 - 2016 / 4 / 16 - 12:53
المحور:
الادب والفن
قد لا أكون أفضل من يتحدث عن المفكر الموسوعي والمثقف البارز محمد السمّاك، فمعرفتي به لا تزيد عن عقدين من السنين، في حين إن كثيرين تمتدّ معرفتهم به وزمالتهم له إلى أبعد من ذلك بكثير. ثم إن رفقتي وصداقتي معه قريبة، وقد تعرّفت عليه قبل أن ألتقيه من خلال كتاباته ومساهماته الفكرية والثقافية، ولاسيّما دعوته للحوار وإيمانه الراسخ به. حين إلتقيته لأول مرّة قد تجاوز العقد السادس بقليل، وبدا شيخاً، يتمتّع بحكمة غزيرة ومعرفة عميقة، قريباً من صاحب القرار وفي الوقت نفسه قريباً من الجو الثقافي والمهني والمجتمع المدني في آن، ولاحظت في مداخلاته وأطروحاته، حيث التقينا في مؤتمرات وندوات عديدة في بيروت وفيينا وباريس ولندن والرياض، إنه يتحدّث عن الدولة من داخلها، لكنه حين يبلور بعض الآراء والمقترحات، يكون قد خلطها برأي من خارج الدولة، أي أن خطابه كان يحتمل الممانعة، وإن كان في الموالاة، فقد كنت تجد فيه الرأي الحصيف والفكر النافذ والاجتهاد المتميّز، الجامع وليس المفرّق . السماك صاحب فكر جوّال وداعية حوار، لا يكلّ ولا يملّ يدعو لتحقّقه، منذ ما يزيد عن أربعة عقود من الزمان ونيّف، حيث يجد فيه الامتلاء، ومنه يستخلص الدلالة، في سلمٍ مجتمعي وتراكم وتطور، لتعزيز قيم المساواة والتسامح والتعايش والاعتراف بالآخر وبحقوقه على أساس المواطنة الكاملة والشراكة والمشاركة وعدم التمييز والحق في الاعتقاد والتعبير. وتلك جزء من منظومته وعدّته الفكرية التي يتوسع في تفسيراته لها، والتي لا زال يدعو إليها، خصوصاً إعلان نبذ العنف والتمسّك بقيم التسامح بالحوار والسلم سبيلاً لحلّ الخلافات مهما كان نوعها ووزنها، لأن ذلك وحده الطريق نحو العيش الإنساني المشترك. يمكنني القول إن محمد السمّاك رؤيوياً وستراتيجياً، ولم ينزلق إلى التكتيك، كان يأخذ الأمور بميزان بعد النظر والثابت والمبدأي وليس بالطارئ والمؤقت والقصير النظر. ويتعامل مع الظواهر بالعقل وليس بالعاطفة. وحتى حين تعرّض للأذى، ظلّ صامتاً وصبوراً لأنه يعرف بحسّه الوطني والإنساني وبتجربته الغنية، إن أول ضحايا الصراع والعنف هو الاعتدال والوسطية والعقلانية، لكن أكثر ما أحزنه هو فقدان مكتبته. ولذلك ضاعف ما حصل من قناعاته بالدعوة إلى الحوار سبيلاً لحل الاشكالات القائمة، بصيغ دستورية وقانونية ومجتمعية واتفاقية وتوافقية، بالطائف أو بغيره. والسماك يؤمن بقدرة الحوار واللقاء المباشر على تذليل الكثير من الصعوبات، وحلّ الكثير من المشكلات، وإزالة الكثير من العقبات، ويمكنني أن أقول إن السمّاك هو رجل الدبلوماسية الناعمة وقدراتها السحرية، فهو حتى وإن قصد النقد أحياناً ولمّح به، فإن رأيه يأتي مغمّساً بالمودة، لأنه يعتقد إن ذلك سيلقى تأثيراً لدى الآخر، أكثر مما هو حاد وخشن وجارح. ولأنه يمتلك قلماً رشيقاً وأسلوباً أنيقاً ولغة شفيفة وكلمة سمحة، فقد كان تأثيره كبيراً على الأطراف المختلفة، من معه، ومن ضدّه، ومع صاحب القرار ومن يقف على مسافة منه، خصوصاً حين يدوف ذلك بالفلسفة والأدب، ولا شيء بالطبع خارج الأخلاق، فمن دونها سيكون كل شيء وليس السياسة وحدها نوعاً من الدونية واللاّإنسانية. جمع السمّاك صفات أساسية في شخصه، وقد لمستها من خلال علاقتي به، أولها إنه صاحب رأي، بل صاحب مشروع، ظل يدافع عنه في كل الظروف والأحوال، وثانيها إنه يتوجه إلى القمة والقاعدة في الآن، أي إلى صاحب القرار وإلى النخب وإلى من يمكن أن يكون مادة التغيير، وثالثها إنه لا يخصّ الموالاة أو المعارضة، بل إن ركني المعادلة لا بدّ لهما من القناعة بالحوار، ورابعها إنه يؤمن بالحوار المجتمعي، ولاسيّما بين النخب الدينية والثقافية، لأنه يعرف إنها يمكن أن تكون قوة اقتراح، وليس قوة احتجاج فحسب، خصوصاً وهو يؤمن بدور المجتمع المدني، وخامسها إنه يؤمن بدور الصحافة والإعلام، ولذلك فهو لا يألو جهداً أن يتوجه إلى الجمهور من خلال الكتابة في صحيفة المستقبل اللبنانية والاتحاد الاماراتية والشروق المصرية وغيرها، إضافة إلى الإعلام المرئي التلفازي والمسموع الإذاعي . وحين يكون السمّاك مستشاراً لدى الرئيس رفيق الحريري أو مستشاراً لدى مفتي الجمهورية، وفي أي محفل ، يتعامل بصفته إنساناً يحترم كرامة الآخر وحقه في الاختلاف، وهو الباحث عن المشتركات لتعظيمها والمختلفات لتقليصها، مدركاً أهمية تجسير الفجوة بين صاحب القرار والمثقف، وبين النخب السياسية والنخب الثقافية. السمّاك وهو يدلف نحو الثمانين بخطىً واثقة ورؤية استشرافية، يبدو أكثر شباباً وأكثر نضارة وأكثر حيوية وأكثر أملاً، لعلّ شفيعه على حد تعبير الروائي الروسي مكسيم غوركي عن أحد الثوريين الكبار في عصره: إن نصف عقله يعيش في المستقبل، والسمّاك الذي آمن بالحوار وعمل من أجله، ظل هذا الجزء من عقله يرى المستقبل، وأصبح كثيرون يشاطرونه هذا التوجّه. وعندما يكون في الثمانين وهو شاب ممتلئ بالديناميكية الحركية يصبح المشهد جواهرياً، إنه التحدي مصحوباً بالحب والجمال والدهشة : يا "ابن الثمانين" كم عولجت عن غَصص بالمُغريات فلم تَشْرَقْ ولم تَمِل ِ كم هزَّ دَوحَكَ من "قزْمٍ" يُطاولُه فلم ينلْهُ ولم تقصر ، ولم يَطُل ِ وكم سعت "إمَّعاتٌ" أن يكون لها ما ثار حولك من لغو ٍ ، ومن جدَل ِ ثبِّتْ جَنانك للبلوى فقد نُصبَتْ لك الكمائنُ من غدر ٍ ، ومن خَتَل ِ محمد السماك يضحك، ونحن نُسرع الخطى، الميل بعد الآخر، متحدثين عن المشائين في باريس، حين تعبق الرائحة بالزهور وتنبسط شوارع المدينة وتتراقص الأضواء، ومع ذلك لا ننسى همومنا ، فنتحدث عن التطرّف والتعصّب والإرهاب: مقابل حرّية التعبير والاعتراف بالآخر، وهو عنوان مؤتمر حضرناه آخر مرّة في اليونسكو. تحية للشاب الثمانيني الذي يسيل من يراعه حبر الفلسفة.
كلمة ألقيت في ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار يوم الجمعة 15 نيسان/ابريل 2016 في قرية الساحة التراثية – بيروت.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
«غوانتانامو» وتسييس العدالة
-
وليد جمعة : كان يشرب من دمه كأنه النبيذ!
-
«وثائق بنما» وتبييض الأموال
-
ثلاثة سيناريوهات محتملة في العراق - حوار مع جريدة الزوراء
-
اللاجئون السوريون وهواجس التوطين
-
الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام
...
-
تمنيت على الحزب الشيوعي إدانة المحتل أو مقاومته أو الدعوة لس
...
-
مشروع التفكيك الجديد
-
جورج جبّور : بين كتابين !
-
إسرائيل عنصرية مقننة
-
تحيّة وداع إلى زها حديد من جامعة أونور
-
تمنيت أن يتّبع الحزب الشيوعي المقاومة المدنية السلمية اللاّع
...
-
عن تفجيرات بروكسل
-
حوار الحضارات أم صدامها؟
-
.. وماذا عن سد الموصل؟
-
الجامعة ومستقبل العمل العربي المشترك
-
الحق في الأمل
-
العراق.. الأزمة تعيد إنتاج نفسها
-
كيف نقرأ لوحة الانتخابات الإيرانية؟
-
اللاجئون واتفاقية شينغن
المزيد.....
-
قناديل: أرِحْ ركابك من وعثاء الترجمة
-
مصر.. إحالة فنانة شهيرة للمحاكمة بسبب طليقها
-
محمد الشوبي.. صوت المسرح في الدراما العربية
-
إيرادات فيلم سيكو سيكو اليومية تتخطى حاجز 2 مليون جنية مصري!
...
-
ملامح من حركة سوق الكتاب في دمشق.. تجمعات أدبية ووفرة في الع
...
-
كيف ألهمت ثقافة السكن الفريدة في كوريا الجنوبية معرضًا فنيا
...
-
شاهد: نظارة تعرض ترجمة فورية أبهرت ضيوف دوليين في حدث هانغتش
...
-
-الملفوظات-.. وثيقة دعوية وتاريخية تستكشف منهجية جماعة التبل
...
-
-أقوى من أي هجوم أو كفاح مسلح-.. ساويرس يعلق على فيلم -لا أر
...
-
-مندوب الليل-... فيلم سعودي يكشف الوجه الخفي للرياض
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|