أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - السيد نصر الدين السيد - هذا ما جناه علينا ارسطو














المزيد.....

هذا ما جناه علينا ارسطو


السيد نصر الدين السيد

الحوار المتمدن-العدد: 5135 - 2016 / 4 / 17 - 21:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أرسطو فيلسوف يوناني عاش في القرن الرابع قبل الميلاد (384-322 ق.م) واسهمت اعماله في تشكيل العقل الغربي. وتأتي في مقدمة هذه الاعمال منظومة "المنطق التقليدي (المنطق الصوري)" التي يُنظر اليها بوصفها الأداة الذهنية الرئيسية التى تعصم الانسان من الخطأ وتهديه إلى الصواب. وفى مركز القلب من هذا المنطق "قانون الثالث المرفوع" الذى ينص، فى صورته اللفظية، على انه "لايخرج الحكم بصحة أمر من الأمور عن إثنتان: فهو إما أن يكون صائبا (مائة في المائة)، أو أن يكون خاطئا (مائة في المائة)". أى أنه القانون الذى لايسمح إلا بإختيار واحد من بين بديلين يستبعد كل منهما الآخر. إنه قانون (إما...أو...) الذى لايسمح بالـ "بين بين" فى الحكم على الأمور والأشياء. وبهذا يصبح المنطق التقليدى منطقا "ثنائى القيم" لاتحتوى فئة قيمه، أو أحكامه على الأشياء، إلا على حكمين (أو قيمتين) فقط هما: إما الصدق المطلق أو الكذب المبين. وهكذا يختزل المنطق الأرسطى ثراء ألوان الواقع المعاش والملموس إلى لونين فقط هما الأبيض والأسود رافضا الإعتراف حتى بوجود الرماديات.

ولا يستقر المنطق وقوانينه على صفحات الكتب منعزلا عن الواقع بل نراه متغلغلا في كافة جوانبه. فهو قد يشكل الأساس لمنتج تكنولوجي مثل الكمبيوتر الذي تعتبر عمارته بمكوناتها الأساسية من دوائر "ثنائية الأوضاع" (*) تجسيدا مادي لقواعد هذا المنطق على وجه العموم ولـ "قانون الثالث المرفوع" على وجه التحديد. واذا كانت تجليات هذا المنطق في مجال التكنولوجيا مفيدة لبنى البشر فان تجلياته في المجال الإنساني كانت كارثية. فـ "قانون الثالث المرفوع" يجعل من ليس معنا هو بالضرورة ضدنا ... وأن من لاتتفق قناعاته مع قناعاتنا هو على خطأ مبين يستحق معه منا "الهداية"، فى أحسن الأحوال، أو "الإزالة"، فى أغلب الأحيان...!. وهكذا إنتفت مساحات التفاهم، وتقلصت أرض الحوار، وأصبح حتى مجرد التعايش السلمى مع الآخر فى خبر كان. ولقد دفعت الإنسانية ثمنا غاليا من دماء أبنائها نتيجة الخضوع لاحكام هذا القانون. ثمن جسدته، على سبيل المثال لا الحصر، الحروب الصليبية التي قام بها الاروبيون من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096-1291)، والحروب الدينية التي عانت منها الأمم الأوربية بصورة متعاقبة لمدة مئة وواحد وثلاثين سنة (1517 - 1648 م). ولعل ما يحدث في هذه المنطقة من صراعات مذهبية هو احدث تجليات "قانون الثالث المرفوع".

إلا أن دوام الحال من المحال ففى عام 1965 ظهرت ورقة علمية لايتجاوز عدد صفحاتها الخمسة عشر صفحة وذات عنوان غير مألوف هو "الفئات الغائمة" Fuzzy Sets لأستاذ الهندسة الكهربية وعلوم الحاسب بجامعة كاليفورنيا- بركلى لطفى زاده. وشكل ماجاء فى هذه الورقة أسس منطق جديد هو "المنطق الغائم" Fuzzy Logic الذي يختلف تماما عن المنطق التقليدى الذى سيطر على فكر الإنسان لما يزيد على الألفى سنة. فهو منطق يرفض القانون الرئيسى الذى قام عليه المنطق التقليدى، قانون الثالث المرفوع, ولقد تمكن برفضه هذا من تجاوز عدم واقعية مقولة الصواب المطلق أو الخطأ المطلق التى إرنكز عليها المنطق التقليدى ومن إفساح الطريق أمام منطق جديد يسمح بإمتزاج الخطأ والصواب فى أحكامنا على الأمور. وربما لم تحدث ورقة علمية منفردة، بإستثناء ورقة أينشتين الشهيرة حول "نظرية النسبية الخاصة" المنشورة سنة 1905، ماأحدثته ورقة زاده من تداعيات على كافة المجالات العلمية والفكرية والتقنية. فمنذ ظهورها نشرت ألاف الأوراق العلمية المعنية بجانب أو آخر1 من الجوانب المتعددة لهذا المفهوم الجديد، وعقدت عشرات المؤتمرات العلمية لمناقشته، وأنشئت الدوريات المتخصصة فى موضوعاته، وتوالى ظهور الإستخدامات التجارية والصناعية لما ولدته هذه الورقة من مفاهيم وأفكار.

وكانت نقطة إنطلاق هذا العمل الفذ الذى قام به لطفى زاده هى وعيه المرهف بالفروق الجسيمة التى تباعد بين "المنطق التقليدى"، الذى أسسه أرسطو، عن "منطق الإنسان". فالإنسان، فى أغلب تعاملاته مع أحوال واقعه، فكرا أو عملا، لايستخدم "لغة الكم"، بأعدادها وبرموزها وصيغها بالغة الدقة وشديدة الوضوح، بل يعتمد أساسا على "لغة الكيف"، بتعبيراتها الفضفاضة وصيغها السلسة التى كثيرا ماتفتقد إلى الدقة وغالبا مايشوبها الغموض. فهو عندما يرغب فى التعبير عن "مقادير" لايستخدم "أعدادا" بل يستخدم "ألفاظا" من قبيل: كثير، قليل، بعض، العديد،...، وهو عندما يريد التعبير عن إحتمال وقوع حدث ما لايقول "إن إحتمال وقوعه هو بنسبة كذا فى المائة"، بل يستخدم تعبيرات من قبيل دوما، ربما، قلما، فى النادر،... وهو عندما يرغب تأكيد أمر ما أو التهوين من شأنه يستخدم ألفاظا وعبارات من قبيل: جدا، إلى حد ما،... فعلى سبيل المثال لو طرح السؤال التالى "هل يعتبر إرتفاع هذا الشيئ فى نظرك طويلا؟" على كلا من أرسطو ولطفى زادة لكان رد أرسطو على الهيئة التالية: {"بالقطع لا"، "بالقطع نعم"}. أما رد زاده فسيكون على الهيئة التالية: {"بالقطع لا"، "ليس تماما"، "بالكاد"، "إلى حد ما"، "بالقطع نعم"}.

وفى النهاية يؤكد لنا "المنطق الغائم" أنه لايوجد صواب مطلق أو خطأ مطلق وأن أحكامنا على الأمور يمتزج الخطأ فيها مع الصواب وأنه لا يوجد إحتكار للصواب ولا تأميم للحقيقة. وبهذا تتأصل ضرورة تقبل الأخر والإنفتاح على مايطرحه من أفكار والتعلم مما إكتسبه من خبرات. واليوم وبعد مرور حوالي 50 سنة على "المنطق الغائم" اما آن الآوان ليثور اهل هذه المنطقة على ارسطو؟


(*) الدوائر "ثنائية الأوضاع" هى دوائر إلكترونية يمكنها فى لحظة معينة إتخاذ وضع واحد فقط من بين وضعين متاحين لها. فالمصباح الكهربائى، على سبيل المثال، له وضعين فقط: مضئ ومطفأ. ويتم، بالإتفاق، على أن يمثل أحد هذه الأوضاع العدد {0} بينما يمثل الوضع الثانى العدد {1}. وهما العددان اللذان يشكلان ابجدية لغة الكمبيوتر.



#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكمبيوتر -بَوَظ الصنعة-
- العلم من جنة اليقين الى دنيا الاحتمالات
- مواطنين لا رعايا
- السياسي والأكاديمي: الحوار المفتَقد والحل المنتَظر
- أعمدة الحكمة السبعة
- الحضارات لا تموت قتلا، وانما تموت انتحارا
- ثقافتنا المعاصرة ووظائفها المُعطَلة
- نحن وزمن -الما بعد-
- الاصالة والمعاصرة: الرنيسانس (*) (2/2)
- الاصالة والمعاصرة: عنقاء الزمان (1/2)
- انتخبني من فضلك
- كليات القمة: طبقية التخصصات واهدار الممكن
- حكاية -ماضي كان- واخوه -بكره حيكون-: النبوءة (3/3)
- فساد الافكار
- حكاية (ماضي كان) واخوه (بكره حيكون): أصل الصراع (2/3)
- حكاية (ماضي كان) واخوه (بكره حيكون): بطاقة تعارف (1/3)
- انطباعات ما بعد الحوار
- السيد نصر الدين السيد - أكاديمي مصري مهتم بالشأن العام- حوار ...
- اهدموا أهراماتكم
- الشيطان يعظ


المزيد.....




- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - السيد نصر الدين السيد - هذا ما جناه علينا ارسطو