أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - ناجح شاهين - المجتمع المدني بين النظرية والممارسة - نموذج: فلسطين















المزيد.....



المجتمع المدني بين النظرية والممارسة - نموذج: فلسطين


ناجح شاهين

الحوار المتمدن-العدد: 379 - 2003 / 1 / 27 - 04:37
المحور: القضية الفلسطينية
    



اولاً: تأسيس نظري
منذ أن اقترح ماركس - أو ربما اخترع - مقولة نمط الإنتاج الآسيوي الذي تستبد فيه الدولة بكل جوانب الحياة ونحن في هذه البلاد نحلم - دون جدوى - باللحظة التي نتحرر فيها من طغيان الدولة. ولأننا نعاني من تضخم في ظاهرة الحظ فقد بزغت نعمة المجتمع المدني الذي يواجه الدولة- أخيراً - لتخلصنا من شر التخلف، والدكتاتورية، وتنقلنا إلى رحابة فضاء التعددية، والديمقراطية، والنهوض الصناعي والحضاري. لكن كيف ذلك ؟
يخبرنا واقع الحال أن هذه البلاد - ربما أكثر من غيرها - قد أدمنت رفع “ الشمسيات ” استجابة للأمطار التي كثيراً ما تسقط في الشمال. ويبدو أن علينا أن نتعامل مع هذه الصرعة الجديدة في انسجام مع هذا التوجه العام إلى تبني المقولات التي تصدرها مطابع الشمال - أو الغرب كما اصطلح على تسمية تلك المنطقة من العالم أيام وجود الاستقطاب الثنائي للعالم - في أثواب أنيقة جديدة أو متجددة وملائمة لكل الأذواق الشرقية منها والغربية.
من الواضح أن مشروع العرب التحرري  النهضوي لم ينجح - لكي لا أقول قد باء بفشل ذريع -. وفي مثل هذا السياق لا يكون غريباً أن يلجأ الناس " للمعجزات " من كل نوع وشكل ومن كل حدب وصوب. وربما يكون لهذا علاقة وثيقة بانتشار وصفات النهضة السحرية على شاكلة المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، والبيئة، والمرأة..الخ.
تتصدر القائمة السالفة الذكر الساحة الأيديولوجية - في عصر انتهاء الأيديولوجيا على ما يزعم أنصار أيديولوجية " ما بعد الحداثة " -. تنفق الأموال من أجل ترويج هذه الأفكار بسخاء عز نظيره، وذلك بالطبع من أجل مساعدة الناس جميعاً - خاصة فقراء الجنوب - على التطور والازدهار. من ذلك  أن جامعة برينستون في الولايات المتحدة نظمت ندوة حول الموضوع (أنظر: وعي المجتمع بذاته، بإشراف عبد الله حمودي، 1998). ولعل من المفيد  لأغراضنا الراهنة أن نلقي نظرة على بعض معالم الندوة التي ضمت نخبة مختارة من " علماء " بلادنا. فذلك ييسر علينا فهم نظرتنا لأنفسنا في عالم ما بعد الحداثة.
يتساءل المشرف حمودي في لفتة - سنكتشف من خلال هذه الورقة أنها " كليشيه " مكررة عن جدوى نقل خطاب مر على اختراعه في اوروبا قرون بأكملها. فلماذا اليوم؟(أنظرص10) من نافلة القول أنه يترك السؤال معلقاً. انه فقط يسجل ملاحظة: أنا أعرف أنني أفعل الشيء الذي يبدو لكم خاطئاً بالضرورة، لكن من حقي أن أفعله لأني واع بالمخاطر فلا خوف علي - مثلما هو حال الأقل حنكة - ولا أحزن.
يكرر الجابري في نفس الندوة التحذير ذاته ( أنظر ص 40) مبيناً أنه لا يجوز استعمال الرؤية الغربية نوعاً جديداً من السلف بالنسبة لنا. غير أن فحص موقف الجابري يكشف للأسف عن مفارقة - لكي لا أقول تناقضاً - فهو( ص43) يلوم الغرب لأنه يترك مصر المأزومة تعاني أزمتها دون أن يفعل  - لمساعدتها - شيئاً يستحق الذكر. هذا الأمر يشي في الواقع بماهية المرجعية العملية والنظرية للجابري. لكن لكي لا نقول الرجل ما لا يقول نتركه يكشف موقفه صراحة وعلى رؤوس الأشهاد. يتساءل: “ مع من يقف الغرب ؟ هل مع القوى الوطنية العصرية التي تريد محاكاة نموذجه الديمقراطي وتناضل من أجل قيام المجتمع المدني على الطريقة الأوروبية ..الخ” ( التشديد من عندنا). هكذا يحلم منظرو البرجوازية الكسيحة في هذه البلاد بالتماهي مع البرجوازية الصناعية الغربية. لكن هيهات، إنه حلم “ الجعان بالعيش ” على حد تعبير المثل الشعبي. إن هذه البرجوازية - لو كان هؤلاء يركزون التفكير قليلاً - لا تستطيع مبدئياً أن تكون متماهية مع البرجوازية الصناعية لاعتبارات بنيوية ليس هنا مجال مناقشتها. والحقيقة أن هذه المسألة قد خضعت لمناقشات مستفيضة أسهم فيها عدد من المفكرين العرب من أمثال سمير أمين ومهدي عامل كل على طريقته ومن مواقع نظرية متمايزة.
لكن قبل أن ننسى أنفسنا وننهمك في مناقشة الاختراعات العربية على صعيد الأيديولوجيا، أظن أن من الأنسب لأغراضنا أن نقوم بمحاولة استجلاء للمفهوم المركزي- فيما نظن - في كل الزوبعة الأيديولوجية " ما بعد الحداثية ". ذلك أننا نخشى أنه بحكم قدرة ثقافة الغالب على الانتشار ( على حد تعبير ابن خلدون ) وكذلك سحر " الموضة " وآخر " الصرعات " فإن البعض ينساق إلى تبني المفاهيم حتى وإن كانت بالنسبة له رطانة شاملة لا تشير إلى مرجعية دلالية أبداً. ولا بد أن رطانة اللغة تمنع الناس - أم أنها تحميهم ؟ - في أحيان كثيرة من تفحص الشيء المحسوس في ثقله ولزوجته. وهذا الأمر ينطبق أكثر ما ينطبق على المصطلحات السائلة التي يكثر اللغط حولها. لذلك لا بد من العودة - ولو قليلاً - إلى البدايات.
تأسس هذا الحقل المعرفي في العصر الحديث على أيدي هيغل وماركس. اعتبر هيغل أن المجتمع المدني هو ميدان النشاط الاقتصادي. ومن الملفت للنظر أن المصطلح الألماني الذي يشير إلى المجتمع المدني هو نفسه المستعمل للدلالة على المجتمع البرجوازي. وربما أن استعمال هيغل للغته على هذا النحو يتجاوز كونه مجرد صدفة. إضافة ماركس المميزة هي أن المجتمع المدني هو فضاء الصراع الطبقي. الدولة عند ماركس لا تقف في مواجهة المجتمع المدني - مثلما هو الحال عند منظري ما بعد الحداثة - وانما هي تعبير عن خصوصيات المجتمع المدني.( أنظر: عبد القادر الزغل، في: ندوة غرامشي وقضايا المجتمع المدني، 1991،ص 151).
يطور غرامشي فكرة ماركس الذي طابق بين المجتمع المدني والبنية التحتية، فيجعله مطابقاً للبنية الفوقية ( أنظر دلال البزري، نفس المرجع ص182). والواقع أن تطوير غرامشي لمفهوم المجتمع المدني ليصبح فضاء الهيمنة الأيديولوجية في مقابل فضاء السيطرة السياسية المرتبط بالدولة( أنظر الزغل نفس المرجع ص151) يلقي أعباء كبيرة على المثقف، وعلى الحزب تحديداً الذي يقوم بدور مثقف جمعي يحارب في فضاء المجتمع المدني ضد هيمنة الأيديولوجيا البرجوازية.
عربياً يستلهم مهدي عامل اطروحات غرامشي ليؤكد أن المعرفة -بوصفها لوناً من ألوان الأيديولوجيا- تشكل ميداناً للصراع الطبقي. وقد لاحظ أن هذا الميدان مهم جداً لدفع الصراع الطبقي باتجاه المستوى المسيطر من مستويات البنية الاجتماعية الذي هو المستوى السياسي.( أنظر تحليل مهدي عامل للبنية الاجتماعية نظرياً في مقدمات نظرية، 1978، وتطبيقاً في أزمة الحضارة أم أزمة البرجوازيات العربية1987). يشبه مهدي عامل غرامشي في نظرته للمجتمع المدني بوصف متراساً يحمي الطبقة الرأسمالية من الانهيار. فهو يمنع الصراع دائماً من الانتقال إلى المستوى السياسي ويبقيه في مستويات قليلة الخطورة على وجود النظام القائم نفسه. إن المجتمع المدني هو الحيز الأنسب للبرجوازية لتمارس فعل ضبط الفقراء والسيطرة عليهم لتكريس - أو تأبيد على حد تعبير مهدي عامل - الوضع القائم. هذا ما يمكن للمرء أن يستخلصه من تحليل مهدي عامل.
خصوصية الرأسمالية التي خفيت على ماركس عندما أكد أن الديمقراطية هي الشكل الأمثل لتطور نظامها لها علاقة وثيقة بالنقاط التي أثرنا منذ قليل. الواقع أن الاستغلال الطبقي في المجتمع الرأسمالي ليس شفافاً، خلافاً لما كان عليه الحال في التشكيلات السابقة مثل العبودية أو الإقطاع.  ويلاحظ الين مكسينزوود أن كون الاستغلال الرأسمالي لا يحتاج إلى قوة - فوق - اقتصادية من نوع المكانة السياسية أو القانونية قد أدى إلى أن يكون النظام الرأسمالي النظام التاريخي الأول الذي غدت فيه المساواة الشكلية والحرية الكلية الخالصة ممكنتين. ( أنظر الين وود 1997ص34).  لا بد أن هذا الأمر واضح بذاته، لأن حرية لا تعيق الاستغلال لا تخيف أحداً. والواقع أن وود يسخر من المجتمع الحر الذي استخدمت فيه السلطة الحرية بالذات - كما فعل ريغان وتاتشر - لتقييد حرية النقابات. والغريب أن ذلك المجتمع لم يجد في ذلك تعارضاً مع ديمقراطيته المزعومة.( نفس المرجع والصفحة).   لا بد أن تحليل  سمير أمين يكمل الدائرة التي بدأ غرامشي في رسمها: إن غياب الشفافية في الاستغلال لا تتحقق بمفردها ولا بد أن يقوم المجتمع المدني بالتعمية اللازمة على الاستغلال الطبقي المكشوف تماماً في الأنظمة السابقة على الرأسمالية( أنظر: سمير أمين، 1988 ص190-200). وإذا كان أمين لا يستخدم مصطلح المجتمع المدني، فإن هذا لا ينفي وصفه لنفس الظاهرة وإن باستخدام عناوين أخرى من نوع الممارسة الثقافية أو الأيديولوجيا ..الخ. ويبدو لنا أن جوهر تحليل سمير أمين يتفق مع غرامشي في أن الدولة تعني جهاز الحكومة السياسي وجهاز الهيمنة الخاص " المجتمع المدني " وهذا يعني أن الجانبين يدخلان طرفاً في تأكيد السيطرة الطبقية. وليس من طريقة لتوحيد المجتمع المدني ومجانسته ووضعه موحداً في مواجهة الدولة. ولا بد أن يشهد فضاء المجتمع المدني صراعاً على الصعيد الأيديولوجي أو على صعيد العامل الثقافي الذي يعلي سمير أمين من شأنه تماماً. خاصة وأنه يرفض الأخذ بالحتمية التاريخية الاقتصادوية أو غيرها. وبدون الخوض في خصوصيات سمير أمين الكثيرة فإنه يلتقي مع غرامشي في أن القمع الذي تمارسه أجهزة الدولة والإقناع الذي تمارسه الأيديولوجيا - في إطار المجتمع المدني - هما وجهان لعملة واحدة. وما وضع المجتمع المدني في مواجهة الدولة إلا طريقة للتستر على الصراع الفعلي للمصالح الطبقية التي تصر أيديولوجيا ما بعد الحداثة على إنكارها، أو على تهميشها على أقل تعديل.
إن ما يسهل عملية إخضاع الجماهير عن طريق المجتمع المدني هو واقعة أن الثقافة الشعبية مفتوحة للهيمنة ( غرامشي وقضايا المجتمع المدني،ص248). وهذا يحيل إلى خطورة مؤسسات المجتمع المدني ودورها المميز في إحكام الطوق على أية معارضة ثورية جدية بعزلها عن الجماهير، وابقائها نخبة طافية على سطح المجتمع سهلة القمع دون أن أقول بالضرورة الإخضاع -وهو ما يحصل في الواقع في مناطق كثيرة من العالم وخاصة في عالمنا العربي _.
لا بد بحسب غرامشي أن نصارع في حقل المجتمع المدني ضد أيديولوجيا النظام التي يقوم عليها خبراء يضفون الشرعية عليه. وهؤلاء الخبراء مثقفون يعملون جنوداً مرتزقة للنظام في حقل السيطرة الأيديولوجية. لكن البرجوازية تعمل كل ما في وسعها لاستثمار وجود المجتمع المدني الذي تخترقه أيديولوجيا - وتهيمن عليه - مما يسمح لها بتجنب أن يتم العمل ضدها من أسفل، أو من وراء ظهرها. فالسماح  " بكل شيء " علناً ييسر التعرف على مكامن الخطر وضربها جهاراً وبشكل " مشروع " وديمقراطي - مثلما لاحظنا في مثال ريغان وتاتشر - وذلك باستعمال وسائل الهيمنة الأيديولوجية التي تبرع فيها وسائط الثقافة الجمعية في العالم الرأسمالي الحديث.
ويبدو أن الرأسمالية قد نجحت بالفعل في توظيف المجتمع المدني في خلق إنسان ممتثل تماماً على حد تعبير مفكري مدرسة فرانكفورت ( أنظر مثلاً : اريك فروم:1979). لقد أدى ذلك إلى " إنتاج " إنسان مخلص لأهداف تتناقض مع مصالحه بالذات. وهذا بطبيعة الحال أجدى ألف مرة من محاربة الناس بالعنف وقمعهم عن طريق أجهزة القسر التي تمتلكها الدولة.
تنتشر بموازاة مفردات مثل حقوق الإنسان والمجتمع المدني ..الخ أفكار عن التعددية والتشظي وغياب الوحدة في المستويات الكبيرة. وهذا يؤدي كما يقول وود إلى إنكار وجود " كلية " اسمها النظام الرأسمالي، وبالتالي إنكار وجود طبقات أو مصالح اجتماعية متضاربة..الخ. انهم يطالبون بالاعتراف بالتنوع والهويات المختلفة للجماعات الكثيرة؛ حقوق للرجال وحقوق للنساء والأقليات ..الخ ويريدون بالتالي القول أن التنوع هو الظاهرة الطبيعية رقم واحد في الوجود. طبعاً هم يتجاهلون الواقعة البسيطة التي تشير إلى أنه إذا كان التنوع في بعض الحقول لا يحتاج إلى استغلال من أي نوع فإن التنوع والتمايز الطبقيين لا يمكن أن يتحققا واقعياً إلا في ظل الاستغلال. انهم ببساطة مثلما يستنتج وود يستخدمون فكرة التنوع والتشظي للتغطية على الاستغلال( أنظر وود المرجع المشار إليه سابقاً 22- 40 ). وهم يغفلون أن تنوعهم المزعوم هو مظهر يخفي وراءه التوحيد الأساسي الشامل للإنسان الممتثل الذي أشرنا اليه من قبل. وهذا الإنسان يتميز بضياعه وسهولة توجيهه واتكائه التام على الاستهلاك ووسائل الإعلام الجمعي. انه إنسان يتميز بذوق فريد واستقلالية تامة تجعله ينظر إلى نفسه باعتباره وحيد زمانه في الوقت الذي يفعل فيه كل ما هو متوقع منه بالضبط.
يذهب قلة من المفكرين العرب إلى تسجيل خطورة الرطانة الجديدة التي استفشت في العالم العربي في السنوات الأخيرة مبينين أن مقولات مثل حقوق الإنسان والمجتمع المدني قد لا تكون أكثر من تغطية على الممارسة التي يتم فيها احتكار الثروة والمعرفة بكل الوسائل البشعة (أنظر: علي حرب،1997،ص177). لكن إلى جانب القلة المشار إليها فإن غالبية الناس تشارك في " مولد " الحريات المدنية الجديد مرددة بشكل تسليمي غريب كل وصفات السحر الغربية إلى درجة أن بعضهم يعيد تفسير التاريخ بالعودة إلى المقولات المشار إليها. وهذا يؤدي إلي خلطات غريبة تقترب من أن تصحر أراضي الجزيرة في السودان سببه غياب المجتمع المدني أو أن سبب انهيار الكتلة الشرقية هو غياب حقوق الإنسان. مثل هذا الكلام طبعاً مسموح - على الأقل من باب حرية الفكر والتعبير التي يتعبدون في معابدها ليل نهار - لكن يلزم أن يتلقى مساندة استدلالية نظرية أو وقائعية. وهي ما لا يحس أصحابنا بأهميتها معتبرين أن ما يقولون بين بذاته self-evident فيصادرون على المطلوب ويكفيهم الله شر القتال.
النص التالي عينة ممثلة فيما نحسب  لمختلف التبجحات التي يدلي بها مرددو شعارات المرحلة. نستميحكم عذراً لطول النص، ولكننا نريد أن نعطي ديب عكاوي الفرصة ليقول كل ما يريده دون أن نشوه " وحدة  " الفكر الذي يتضمنه النص. يقول عكاوي إن “ المجتمع المدني دائرة تواجه الدولة، أي تنظيم علني شرعي للسلطة، التي تجعل تصرفاتها ملزمة على كافة أراضي البلد، السلطة التي تملك جهاز الإكراه لأجل إحقاق إرادتها، في المجتمعات الديمقراطية المفتوحة لا تتدخل الدولة في حياة الناس الخاصة ولا تفرض عليهم ما يجب أن يعملوه ..الخ هذا والمجتمعات الديمقراطية المعاصرة تمتاز بوجود كمية كبيرة من المنظمات والجمعيات أو المؤسسات والمجتمعات والمراكز والصناديق غير الحكومية، التي لا تدخل ضمن البنية الرسمية للدولة، فوفقاً لبعض المعطيات يوجد في النرويج بمعدل لكل 6 مواطنين منظمة غير حكومية، وفي الدولة التوتاليتارية لا يوجد مجتمع مدني. ونظام العلاقات أو الاتصالات مبني على أساس هرمي، والإنسان لا يوجد له أي حماية من عسف السلطة " (ديب عكاوي  ،1997،ص260).
لنقارن النص السابق بتحليل وود إذ يؤكد أن المجتمع الحديث قد “ أقام شكلاً جديداً للسلطة الاجتماعية الذي رحل بمقتضاه العديد من الوظائف الاكراهية التي كانت منتسبة ذات مرة إلى الدولة إلى المجال “ الخاص “، إلى الملكية الخاصة، الاستغلال الطبقي، وضرورات السوق “ .( وود،سبق ذكره، ص35). ليس غريباً أن الأمن نفسه قد تمت خصصته إلى درجة أن الأمريكيين باتوا ينفقون على الأمن أكثر مما تفعل حكومتهم.
يذهب وود أبعد من ذلك ليؤكد أن المجتمع المدني قد “ أعطى الملكية الخاصة وأصحابها سلطة على الناس وعلى حياتهم اليومية [ على عكس ما يذهب اليه عكاوي]، سلطة لا يسأل عنها أحد، ربما تحسده عليها كثير من الدول الاستبدادية القديمة “.( المرجع نفسه،ص36). وذلك بطبيعة الحال يتم عبر آليات الإخضاع التي يقوم بها السوق تلقائياً من خلال ضرورات تنصاع لها مختلف جوانب حياة الإنسان. إن الخطأ الذي يرتكبه هؤلاء الناس على صعيد التحليل هو أنهم يقاطعون الاتساق المنطقي والمرجعية الواقعية على السواء. ومن الناحية الثانية فلو شاء أي منهم لرأى إلى تقارير 1998، و1999 الصادرة عن منظمة العفو الدولية، أو تقرير الحقوق للجميع الصادر عن هذه المنظمة عام1998، وفي كل هذه التقارير معلومات صريحة عن أثر لون الإنسان في تسهيل أو تصعيب تعرضه لعسف السلطة بإطلاق الرصاص عليه أو إعدامه  ( خاصة إذا لم يكن لديه مال كاف لاختيار محام جيد من الذين يقبضون الأجور الكبيرة وهنا بالطبع يتضح البعد الطبقي للمشكلة). إن أموراً من نوع اسم المحامي أو لون المتهم يمكن أن تكون حاسمة في بلاد كالولايات المتحدة في إرسال المرء إلى الكرسي الكهربائي أو إلى الحقنة القاتلة بحسب حظه أو اختياره، لا نعلم على وجه الدقة. وهناك أمثلة كثيرة تزخر بها التقارير المشار إليها ليس هنا مجال سردها.
لكننا مع ذلك سوف نتظاهر بأن ذلك كله ليس صحيحاً. ونتساءل بسذاجة - بالدرجة التي تتلاءم مع سذاجة الطرح المقتبس من عكاوي -، أين تتدخل السلطة في شؤون الناس الخاصة ؟ نحن المواطنين ( أو المقيمين بحسب التصنيف الإسرائيلي ) الذين نعيش في هذه البلاد لا نذكر أن الاحتلال نفسه قد مارس ضغوطاً تتعلق بمواعيد طعامنا أو شرابنا أو طريقة أكلنا أو لبسنا. ربما علينا أن نعترف بأن العكس هو الصحيح. فالجمهور - المجتمع المدني ؟ - في بلادنا هو الذي يمارس قمعاً ضد الأفراد الذين يخرجون على الموروث حتى وان كان ذلك الخروج لا يتنافى مع القانون. وعندما انحسر الاحتلال، الذي يمكن لأنصار المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني أن يعتبروه علمانياً لأنه لا ينتسب إلى عالمنا الشرقي الاستبدادي وانما إلى عالم التقاليد الليبرالية والديمقراطية الغربية التي تحفظ الحيز الفردي حراً مصوناً من كل خدش، فقد اضطررنا إلى الانتقال إلى شرقنا بمجيء السلطة لنكتشف أن الحيز الخاص ما زال يتلقى كل رعاية. بل إن بإمكاننا الزعم دون أن نخشى الوقوع في الخطأ أن السلطة تحمي إلى حد كبير الفرد في حريته الخاصة من نزعة جيرانه “ الحشرية “ في مجتمعنا المشهور بميله إلى تطبيق المبدأ المعروف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن قائلاً سيعترض علينا بأننا محظوظون لوجود منظمات غير حكومية عديدة تشكل نواة لا يستهان بها لمجتمع مدني قوي. وهذا الاعتراض يضطرنا إلى اللجوء إلى بلدان شقيقة وصديقة لا تتوافر فيها ذات الحرية لعمل المنظمات الرادعة للحكومة،وذلك لأن تلك الحكومات تقمع الجميع بمن فيهم المنظمات المسكينة التي يفترض أن تحمي غيرها، هذا إن سمح لأي منظمات لا تنتمي لتيار السلطة أن توجد أصلاً.هنا أيضاً يفاجئنا أن الحيز الشخصي في أمان تام بل ويتلقى أحياناً رعاية مميزة. مثال ذلك سوريا أو إيران الشاه الذي كان أحد مقاتله أنه أصر على “ لبرلة “ لم يكن الجمهور التقليدي المتدين متوافقاً معها. لكن مرة أخرى لو افترضنا جدلاً أن الأمر الواقع لا يؤيدنا وانما يؤيد ما يذهب اليه الدكتور عكاوي فما هي الأسباب التي تجعل الأنظمة التوتاليتارية سيئة السمعة تعشق تنغيص حياة الناس الخاصة ؟ الواقع أن التحليل الذكي الذي اقتبسنا جانباً منه لا يشير إلي ذلك ولو بكلمة واحدة. ونحن بدورنا نعترف أننا فشلنا في اختراع أي سبب يقبله عقل ما زال قابلا للتفكير وقادراً عليه.لكن إذا فكرنا في المسكوت عنه في النص المقتبس ونعني به حقل الصراع الطبقي في مستوييه القومي والعالمي فإننا سنجد أن الأنظمة “ الديمقراطية “ تتفوق على الأنظمة التوتاليتارية في قدرتها على انتهاك حقوق الإنسان، وذلك على الرغم من وجود هذا الكم الهائل من المنظمات غير الحكومية التي لا تفيد في هذه الحالة في حماية الناس من انتهاك حياتهم الخاصة ذاتها، إذا كان الأمر يتعلق بحماية أمن البلاد الذي يعني بدون تزويق لا داعي له أمن سكان الأحياء التي تمثل ما يقل عن عشر سكان الشمال. هنا يمكن لقانون مكافحة الشيوعية ( في أمريكا الخمسينيات ) أو مكافحة الإرهاب الإسلامي ( في أمريكا ما بعد الحرب الباردة ) أن يسمح بالإعدام خارج القانون وزرع أجهزة التجسس في غرف النوم أو الحمامات العامة والخاصة، ناهيكم عن توزيع الأصفاد على العالم كله مشفوعة بالكوكاكولا والمكدونالدز والمارلبورو وطعم الحياة الذهبي الذي لا بد أن يترافق مع هذه المنتجات التي تمثل في حقيقتها الرأسمالية التجسيد الأكمل للحرية وحقوق الإنسان. هنا لا مانع أبدا من ضرب المدن والعزل بالقنابل النووية في اليابان أو قتل البشر بالملايين في فيتنام بسبب جريمة شنيعة ارتكبوها تمثلت في خروجهم على قانون حرية السوق المقدس، وصولاً إلى قتل العراق كله واعادته إلى العصور الحجرية من أجل عيون حقوق الإنسان وليس بريق الذهب الأسود. هكذا تمنع المنظمات الأهلية المجسدة للمجتمع المدني بطش السلطة من الوصول إلى المواطن الأعزل، فهي كما لاحظنا تقف سداً منيعاً بين الدولة والمواطن ومن البديهي بمكان أن ننتظر منها ما تفعل بالضبط.    
أما أعداء الديمقراطية فإنهم يعتدون على حرية الإنسان وحقوقه عندما يحرضون الجائع على الخروج على الناس شاهراً سيفه. وسوف يقوم القانون الليبرالي ذاته باعتقالهم وقتلهم - إذا لزم الأمر - حفاظاً على نوم الأغنياء من أرق الفقراء على حد التعبير الجميل لمحمد يوسف القعيد.
من جانبنا نزعم أن المنظمات الأهلية بكل أصنافها مجرد ترس صغير يأخذ موقعه في آلة الإخضاع الطبقي على المستويين القومي والعالمي، في عالم يملك فيه 358 شخصاً أكثر مما يملك نصف البشر بقليل(أنظر:هانس بيترمان،ص11،1998). ويبدو أن الاستعانة بالتحليل الذي يقدمه سمير أمين على المستوى العالمي هو من الضرورة بمكان لفهم ما يجري في الواقع العربي الذي ينتمي بحسب ذلك التحليل إلى الرأسمالية الطرفية. إن قسمة العالم إلى مركز وأطراف تنطبق بشكل واضح على العالم العربي الذي نمت فيه رأسمالية مشوهة بشكل يخدم الرأسمالية الصناعية التي تمثل المركز بحسب تحليل أمين. غني عن البيان أن نمو الرأسمالية في العالم العربي لم يكن عفوياً أو حراً مثلما هو الحال في المركز بل إن الإمبريالية قد تدخلت في أحيان كثيرة مباشرة لتحديد شكل الاقتصاد المرغوب في بلاد عربية كثيرة مثل مصر التي أرادوها مزرعة للقطن وكذا السودان الذي نصحه صندوق النقد الدولي بزراعة القطن بدل القمح. أما الخليج فمن نافلة القول أنهم يريدونه مجتمعاً يصدر النفط ويستورد أحدث منجزات الجنس والويسكي. انهم يريدونه مجتمعاً لاستهلاك كل ما ينتج الشمال، لا أكثر. لا بد أن الطرف يقاوم كما في تجربة مصر الناصرية، ولكن المركز يعمل ما في وسعه لإقناع أو إجبار الطرف على تكييف نفسه بحسب ما تقتضيه مصالح المركز، ومستلزمات نموه وتمدده حتى وان تم ذلك ضد مصلحة الأطراف أو أدى إلى خروجها النهائي من التاريخ على حد تعبير فوزي منصور.
إن المخرج من هذا المأزق هو بحسب أمين الإغلاق والحماية الشعبية. بمعنى محاولة فك الارتباط بالسوق العالمي والانفصال عنه لمصلحة تحقيق تنمية تعتمد الإمكانيات والاحتياجات الذاتية على السواء.(سمير أمين،1993 أنظر137-159). إن استعمال تحليل أمين يقود إلى اعتبار كلمات السر الليبرالية من نوع حرية التجارة، دعه يعمل،..الخ طريقة مضمونة لتكريس تهميش الاقتصاد الوطني وجعله امتداداً مشوهاً للمركز. لذلك لابد من إغلاق الأسواق والانفصال عن شبكة الرأسمال العالمي التي تكيف الكل في بنية واحدة يكبر فيها الكبير ويختفي الصغير نهائياً. طبعاً الدعوة إلى العزلة على هذه الشاكلة لا تروق لأنصار فكرة تبني النموذج الغربي الذي يمثل كل جمال الإنسانية والرغبة في التعاون وفي سيادة مفاهيم الحرية والعولمة والمجتمع المدني.
ليس غريباً والحال هي الحال أن يلمع نجم مصطلحات المرحلة. فنحن نعيش تبعية شاملة في كافة المستويات للشمال. وثانياً يرتبط ازدهار الأفكار الراهنة بتخلي كثير من دول العالم الثالث عن واجباتها تجاه الجماهير وتحريرها الأسواق - بحسب وصفة صندوق النقد الدولي -  ورفع الدعم عن السلع الأساس. لابد أن مثل هذا التخلي يحتاج إلى تخفيف قبضة السلطة المباشرة بتقليل الدور المباشر لأجهزة القسر التابعة للدولة لتظهر الدولة كما في رأسمالية المركز طرفاً حيادياً لا علاقة له بأرزاق العباد التي تعود إلى جهد الأفراد أنفسهم في منافسة عادلة تقوم الدولة فيها بدور الحكم النزيه. نعرف طبعاً أن هذه التمثيلية في الأطراف بعامة والطرف العربي بخاصة تتعرض بين الفينة والفينة إلى فينة إضافية يتكشف فيها تورط الدولة وأجهزتها في صفقات ورشاوى..الخ لتغض الطرف عن إغراق الأسواق بالبضائع الفاسدة وما أشبه. لكن في كل الأحول فان درجة من التنفيس الإعلامي والتعبير العلني تسلي الناس وتخفف عنهم الملل والضيق. ومن لم يكفه ذلك فإن أجهزة الدولة الساهرة أبداً تقوم بواجب تذكيره بأنها لم تتقاعد نهائياً وأن سيفها الذي تقصر به أعمار الناس ما زال صقيلاً وجاهزاً للقطع فاتعظوا.
في نموذج الأردن ومصر تم تبني حد من “ اللبرلة “ بعد التخلي عن نموذج الستينات في التنمية لمصلحة اقتصاد سوق محرر إلي درجة شبه تامة. ومن نافل القول أن الصناديق والبنوك الدولية قد قامت بدورها في صياغة الشكل الجديد للنظام المصري بعد انفتاح السادات على مصادر السلاح والصناعة والثقافة الغربية..الخ وفي الأردن بعد انهيار العملة واعادة جدولة ديون اقتصاد اعتمد لفترة طويلة على المعونات والتحويلات من الخليج. وليس هنا مجال فحص هذه الأمور ولكننا نشير إليها في السياق لنخلص إلى تشابه ما يحصل في كل مكان في العالم الثالث من حيث أنه يقوم في الأساس على استبدال المجتمع المدني بالخبز. فإذا كانت الأساسيات قد ابتعدت عن متناول فم الجماهير فإن المجتمع المدني وحرية التعبير قد أصبحت بالفعل في متناول كل الأفواه ونخص بالذكر التي لا تعرف من كنه هذه اللغة شيئاً. لا بد أن هذه الطريقة في إسكات الجياع قد أعطت أكلها في كثير من الأماكن. وحيث فشلت في حالات معينة فقد تم إلقاؤها في أقرب مجمع نفايات لمصلحة العودة لنظام دولة العالم الثالث التي يصعب تبين أي خط - ولو بقلم رصاص - يفصلها عن العسكر. ومن لا يصدق إلا بمثال حي فإن لديه حمام دماء ما زال ساخنا في جزائر قافلة الشهداء التي لا تستريح لا لتنهض من جديد ولكن هذه المرة دون أن يستطيع أحد أن يحدد بأية دقة علمية مقولة: لماذا ؟
ثانياً: ملاحظات عامة حول الوضع العربي والفلسطيني
نخشى أن المنظمات غير الحكومية تقع فريسة أدوار اجتماعية سياسية لا تريدها لنفسها أبداً. لذلك فإننا نظن أن من واجبنا قراءة تجارب هذه المنظمات  التي تحدد لنفسها أدواراً وطنية حريصة على عدم الوقوع فريسة الأهداف الإمبريالية القائمة على تكييف الجنوب مع احتياجات الشمال  - ونعني بالطبع استعمال العالم الثالث ككل أداة للشمال الصناعي ليزداد رخاء على حساب مزيد من الإفقار لشعوب الجنوب - الذي نظنه الشكل الأخير للمارسة الرأسمالية في نهبها نصف الكرة الجنوبي. وهذه القراءة تطمع في أن تساهم في جلاء الموقف في النظرية والممارسة بغرض أن نتمكن ويتمكنوا - في المنظمات - من تحديد الاتجاه في هذه الأزمنة الصعبة، العصية على التحديد ورسم الملامح. 
قالت لي طالبتي الصغيرة عندما علمت بما يفعله بوش بأنها سوف ترسل له رسالة تقول له فيها انه كاذب. كم أحبطت الصغيرة عندما وصفت لها بشكل مبسط كيف أن طيبتها وإيمانها بالعدالة والقانون لا مكان له في عالمنا، خاصة في عالم مستر بوش. لكن ألا تلعب المنظمات الرائعة من مثل العفو الدولية الدور نفسه إذ تنمي الوهم بالتغيير عن طريق الرسائل. في حين تحقق الكنيسة التغيير بالحب والدعاء الصالح.
نحن لا نعيد اكتشاف أية قوانين أو نخترعها أصلاً من العدم إذ نقول بأن من ينفق مالاً فإنه يريد من هذا المال مردوداً من نوع أو آخر. الواقع أن كل إنفاق للمال هو شكل من أشكال الاستثمار على الأقل منذ أن سيطر نمط الإنتاج الرأسمالي على كل بقاع العالم. ولسنا نذيع سراً إذ نؤكد أن ما تهدف اليه كافة النشاطات في النظام الرأسمالي هو الربح ولا شيء غير الربح. غير أننا لا نجد ضيراً في أن يربح الناس ما شاء لهم الله أن يربحوا شريطة أن لا يكون ربحهم خسارة لنا سواء على المدى القريب الذي هو أهون الشرين أم على المدى البعيد الذي يمثل شراً أخطر بما لا يقارن برديفه السابق الذكر. 
نرجح بشكل أولي بأن الاهتمام الأساس بمنطقتنا وربما بالعالم الثالث كله إنما ينصب على إعادة تشكيل وعي شرائح المثقفين على أسس جديدة تتلاءم وانفراد الإمبريالية الأمريكية بالعالم وهزيمة حركات التحرر العربية مرحلياً على أقل تعديل. وهذا الأمر يتطلب الإجهاز النهائي على فلول حركة التحرر وخاصة في وجهها اليساري، وذلك من أجل محاولة تأبيد الوفاق الجديد السعيد. لا يخفى علينا أن بالإمكان استخدام هذه الشرائح لضرب القوى الأصولية مثلما استخدمت هذه القوى فيما مضى في ضرب القوى اليسارية. غير أن هذه النقطة هي بطبيعة الحال في حاجة إلى فحص مطول ودقيق. أما من الناحية العامة فنحن نرجح صوابية هذا التحليل ونؤكد من جانبنا على الدور الهام المنوط بالطليعة المثقفة في تفعيل عملية الحراك الاجتماعي. وهو دور تم التقليل من شأنه ربما بسبب تفسيرات معينة لماركس والماركسية تعززت أيام سيطرة موسكو شبه المطلقة على الاتجاهات التحررية في الجنوب. وهذا الأمر أدى إلى انتشار أطروحات تبسيطية غير مدروسة حول دور الطبقة العاملة الثوري الفريد من نوعه، في بلاد يبدو من العبث فيها بمكان التفكير في إمكان أن يحل يوم تصبح فيه تلك الطبقة طبقة رئيسة، لأن مجتمعاتها لا تتجه أبداً باتجاه التصنيع -بل أن أحداً لا يزعم اليوم بوجود طبقة عاملة بالمعنى الكلاسيكي حتى في الشمال المصنع -. ومع ذلك فليس هذا هو مكان مناقشة مثل هذه الأفكار، ولكننا فقط نريد أن نؤكد الأهمية الخاصة الني نظنها والتي نعتقد أن الممول الغربي يتفق معنا فيها بالنسبة لشرائح الإنتلجنسيا في هذه الحقبة من التاريخ.
قد يتساءل البعض: إذا كانت الأموال المبذولة لا تهدف إلى مساعدتنا في حل أزماتنا، فما هو يا ترى الهدف منها، خاصة وأن ملمسها الخارجي يتعلق كله بالتنمية وتطوير العلم والديمقراطية ..الخ؟ من جانبنا نذهب باختصار إلى أن العنوان العريض لهذه الممارسات إنما هو إدارة الأزمة. ويبدو أن هذا المنطلق يستلزم البحث في كيفية مساهمة المنظمات غير الحكومية في تسهيل المهمة على الإمبريالية للقيام بإدارة الأزمة بأقل تكلفة ممكنة. ولكننا طبعاً لن نتمكن من متابعة هذه النقطة هنا؛ إننا نكتفي بالتنبيه عليها معتقدين أن بحثها يحتاج إلى عمل مستقل.
يبدو أننا نواجه المشكلة القديمة الحديثة للاستعمار الذي أصبح الآن يرتدي صبغة محاولة الشمال مساعدة الجنوب على النهوض والتقدم.
تسجل باحثة مصرية( أنظر: سناء المصري،1998) تجربة مصر مع التمويل الغربي الذي انهال عليها منذ الانفتاح الذي ترافق مع السلام الذي أنجزه في حينه الرئيس أنور السادات صاحب العقيدة المشهورة بأن كل أوراق كل الأشياء تقريباً في يد أمريكا. تناقش سناء المصري كيف تتم متابعة المنحة المالية المقدمة للمنظمة المصرية المعنية للتأكد من التزام الطرف المصري بتنفيذ المتفق عليه( ص26). وكيف يستقطب عمل هذه المؤسسات يساريي الأمس الذين ينخرطون بدون استثناء في معمعة تشمل صناعة السلام والتطبيع في خضم نشاطات تشمل مؤسسات إسرائيلية ودولية(ص47). وتبين كيف يتم تصنيع الرأي العام الثقافي " العالم " عن طريق تمويل مؤسسات ذات طابع بحثي مثل مركز ابن خلدون  الذي يرأسه رجل معروف تماماً على خريطة الثقافة العربية  هو سعد الدين إبراهيم. وتلاحظ كيف أن مركزاً بهذه الأهمية يتلقى دعمه من فورد فاونديشين سيئة الصيت- ربما بسبب نشاطها المتنوع الضرر في أمريكا اللاتينية-(ص102). وتسجل مسألة في غاية الأهمية وهي كيف يتم الحديث دائماً عن التنسيق على مستوى الشرق الأوسط - وربما أن مثل هذه الأفكار أصبحت أكثر شعبية بعد ما روجها شمعون بيرس لكننا في كل الأحوال لا نستطيع إطلاق أحكام دون بحث كاف - الأمر الذي لا يخفى طابعه الهادف إلى إدماج إسرائيل في المنطقة التي يختفي اسمها العربي لتصبح نكرة: " الشرق الأوسط ". ومن الأمور التي تشيراليها الباحثة ويجدر ذكرها أن عدداً من مؤسسات التمويل الغربية ليست أهلية بالمعنى الذي يزعمه أصحابها مثل المعهد الديمقراطي الوطني NDI الذي يتبع مباشرة للحزب الديمقراطي. وهذا المعهد إنما يروج أهداف الحزب صراحة إذ أن شعاراته تنص على أنه لا شيء يخدم مصلحة الولايات المتحدة أكثر من نشر القيم والمؤسسات الديمقراطية.
فضلنا تقديم هذا العرض المقتضب للغاية لبعض الأفكار والوقائع من التجربة المصرية لأنهم الثور الأبيض ونحن الثور التالي الذي نسيت - للأسف - اللون الذي يتمتع به.
تبدو لنا مشكلة الناس في هذه البلاد - وربما في الجنوب كله - هي أنهم لم يستفيدوا كثيراً من فشل تجربة حمل المظلة - وهو ما أشرنا اليه في مطلع هذه الدراسة - لتحميهم من الأمطار كلما سقطت في موسكو أو في أماكن أخرى من الشمال الذي يتسيد العالم منذ الانقلاب الرأسمالي الحديث وحتى كتابة هذه السطور. وواقع الحال أننا هنا في فلسطين لم نخترع هذا الأسلوب الفذ في النهوض بواقعنا الاجتماعي والاقتصادي. نحن ببساطة استجبنا بسرعة عز نظيرها لآخر المخترعات التي أنجزت في الشمال فنهض مثقفونا وخاصة من صفوف اليسار المتقاعد وأشبعونا نشرات وأبحاث مما هب ودب بخصوص المجتمع المدني- الذي أصبح بمثابة كلمة السر الجديدة - إضافة إلى  الديمقراطية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك. غني عن البيان أن لا أحد يأمل حقاً الوصول إلى شكل الديمقراطية الغربية التي يستحيل وجودها هنا لأسباب تخص بنية المجتمع الطرفي على حد تعبير سمير أمين. وليس مفاجئا لأحد - في ما أحسب - أن هذه الاختراعات العجيبة قد ولدت مع البيروسترويكا وعممت على نطاق واسع بعد استفراد الجناح الغربي من شمال الكرة بالعالم. وذلك يسمع كل من له أذنان صاغيتان بأن الأمر لم يأت استجابة لأية احتياجات محلية وانما تكيفاً مع احتياجات الشمال ومقتضيات سيطرته على العالم في ظل اختفاء المنافسة السابقة بين المعسكرين.
نحن ندرك طبعاً أن الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي معقد جداً، وندرك أيضاً أننا لا نستطيع في كل الأحوال ومن النظرة الأولى أن نحدد أبعاد عمل المنظمة غير الحكومية. ولذلك فإن علينا في الواقع أن نكون صبورين في معرض تحليلنا لدورها بغرض الوصول إلى المحصلة النهائية لهذا الدور. وهذا ما سنحاول القيام به عبر دراسة أمثلة حية من المجتمع والواقع الفلسطيني الذي وان كان يخضع للمقتضيات العامة لما يجري في ظل العولمة، والحاق الجنوب نهائياً لمقتضيات نمو الشمال، إلا أن هذا بالطبع لا ينفي خصوصية أزمة الواقع الفلسطيني الذي يجعله نموذجياً لنشاط المنظمات من كل نوع وجنس ولون. 
ربما كان من المفيد أن نلاحظ كيف تصدر المنظمات بعضاً من نشراتها لمصلحة الممول الذي يبرز اسمه كأكبر ظاهرة على غلاف النشرة بوصفه الراعي السخي لكل هذه النشاطات الفذة.. لكن أحداً لا يستطيع أن يوجه اللوم لهذه المنظمات فالذي يأخذ أمي هو عمي. لذلك علينا أن " نلاحق العيار حتى باب الدار" لنفحص عن أي دليل براءة يسهم في إخراج مؤسسة فورد وغيرها من المؤسسات المانحة من دائرة الشبهة إلى دائرة البراءة.
كتبت إحدى طالباتي تقول بعد زيارتها للمؤسسة السويدية للإغاثة الفردية:" وجدتها مؤسسة تقوم على مساعدة الشعب الفلسطيني من كل منطقة من مناطق فلسطين. لأنها أيقنت بأن الشعب الفلسطيني مهضوم الحقوق ". هكذا يرسخ في ذهن المواطن " الغلبان " في هذه البلاد أن هناك أصدقاء كرماء أغنياء وأقوياء في الشمال يسهرون على راحته ويحزنهم مصابه. ولا داعي - بالتالي - لليأس أو للشعارات المبالغ فيها حول ضرورة الاعتماد على الذات أو اللجوء إلى الحماية الإغلاقية، وما إلى ذلك من أفكار متطرفة قد تصل في النهاية - لا سمح الله - إلى حد حمل السلاح.
لا بد أن هناك من يظن أن تطور الجنوب هو في مصلحة الشمال، ولا بد أن هناك قلة تصرح بذلك. لكن الحقيقة أن عدد من يجهل حتى اللحظة مصلحة الشمال في تنمية تخلف الجنوب محدود بالفعل. وهؤلاء البشر الساذجون يمكن بسهولة أن تفتض بكارة سذاجتهم وينوروا بأقل جهد يبذل. لكن المشكلة الأعوص إنما تأتي من الذين يقولون انهم يعرفون أهداف المنح الإمبريالية لكنهم اكتشفوا طرقاً تمكنهم من أخذ " التمويل " وتوجيهه لغايات تتعارض مع مصالح الممول بالذات. هؤلاء هم الذين يثيرون السخرية بأطروحتهم والذين نجدهم خطرين بما يكفي بحيث نجد لزاماً علينا أن نوجه سهام مناقشتنا إلى أفكارهم بالذات.
تتلقى هذه المنظمات - فيما يبدو - أموالاً طائلة وتنفق ضمن ما تنفق على دعاية نشطة وعلى نطاق واسع. أخبث ما في هذه الدعاية هو أنها تأتي على شكل خبر بريء أو مقابلة غير موجهة مع مسئول تلك أو هذه من الجمعيات. لدى الجمهور مهما كانت درجة سذاجته حذر طبيعي من الدعاية المباشرة. أما الدعاية في صورة خبر فتبدو وكأنها تقرير نزيه للوقائع. غير أن الفحص المتأني يكشف زيف هذا الوهم. نقرأ في صحيفة القدس(30-1-99) أخباراً عن الملتقى المدني. فنجد عنواناً لافتاً هو التالي " نشر الوعي الديمقراطي من أهم أهداف مؤسسة الملتقى المدني ". يبدو العنوان الذي لا يحيل إلى أية جهة تقريراً وقائعياً أشبه بتقرير واقعة الجاذبية. فالخبر ليس في حاجة إلى مسند اليه لأنه مجرد تسجيل حيادي للواقع. لكن طبعاً عند الدخول إلى لب الخبر سوف نكتشف أن هذا الكلام قاله المدير التنفيذي للمؤسسة. يبلغ عدد طاقم الملتقى 25 موظفاً - وهو عدد كبير كما نلاحظ - وقد وقام بتدريب 6500 شخصاً لمدة تسعة أشهر - مجاناً بطبيعة الحال - إلى ذلك يذهب الخبر إلى أن " جلسات التثقيف المدني حققت أفضل النتائج المتوخاة ". أكتفي بهذا الاقتباس لأقول إنني قد أحسست بالصدمة لضخامة جسم الملتقى والعمل الضخم الذي قام به في سبيل إعادة تثقيف شعبنا على ضوء المتغيرات الجديدة التي تتطلب مواطناً ليبرالياً ومرناً ومؤمناً بالأسلوب الأمريكي بكافة ميزاته ومزاياه التي يصعب حصرها كما نعلم جميعاً. إن كل هذا جميل، ولن نعترض على المبالغة الصريحة بخصوص النتائج الرائعة التي حققت، الأمر الذي يعرف المشتغلون بالثقافة في هذه البلاد أنه لا يتحقق بسهولة - ربما ولا حتى بصعوبة -. ونحن بكل ما أوتينا من صلاحيات لتثقيف الناس ضمن العمل الأكاديمي قلما ننجح. ونعرف أن خريج الجامعة في بلادنا لا يمكنه أن يتبجح بإنجازات من نوع الإنجازات التي تزعمها المؤسسة العتيدة المشار إليها. لكن كما قلنا حتى لو كان هذا صحيحاً، فمن هو يا ترى السخي الذي مول كل هذه الأعداد الكبيرة. إن وكالة الغوث الدولية أو وزارة التربية لا تقوى على القيام بمثل النشاط المنجز من قبل أصحاب الملتقى. علينا أن نعترف بلا شك أننا مندهشون من أهداف الممول - الذي يبدو عاشقاً للعلم والإنسانية بصورة استثنائية - ليقوم بالدفع بمثل هذه الدرجة من السخاء. في لفتة أخرى، يعرض طاقم شؤون المرأة على الأطر السياسية برامج لتقوم بتنفيذها بحيث يكون التمويل من نصيب الطاقم بينما التنفيذ من نصيب المشتغلين سابقاً في السياسة. قالت لي إحدى الفتيات في الخليل من المحسوبات على اليسار الفلسطيني: " أنا أقوم بتغيير المجتمع. وهذا أجدى من العمل في السياسة ". هكذا بسهولة يتم امتصاص حالة التسيس لمصلحة المجتمع المدني والنهوض به. غير أن الفتاة أخبرتني أنها في الواقع تؤسس الوعي الضروري للنهوض السياسي. وبانتظار ذلك فإن السياسة تستطيع الاستراحة قليلاً.  هكذا في هذا المثال يبرز كثير من إنجازات المنظمات غير الحكومية: امتصاص العمل السياسي بامتصاص المناضلين وتحويلهم إلى عمال في هذه المنظمات؛ تنفيس طاقات الشباب وتعويضهم عن الفراغ النفسي - وغيره - الحاصل بعد التسوية. تغذية الناس بأوهام عن نهوض عاجل أو آجل سوف يحل ببركات برامج التطوير الغربية التي تشكل أعمال هذه المنظمات نموذجاً لها.
إن النوايا لا تفيد في الحق شيئاً. وليست الأعمال بالنيات إلا عند الله، أما عند البشر فالمهم هو النتائج التي تترتب عليها. إن جزءاً من العاملين في هذه المؤسسات وحتى " مالكيها " حسن النية إلى حد أو آخر. ولكن آخرين وهم الأكثرية على الأرجح يقولون صراحة إنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف، وأن ما عليك سوى أن تكتب “بروبوزال” proposal  فتنهال عليك النعم من كل حدب وصوب. ربما يستغرب بعض “غائبي الطوشة ” في هذه البلاد من إصرار إعلانات طلب موظف أو موظفة للعمل في “مؤسسة غير حكومية” على توافر مهارة الكتابة - وأحياناً بصراحة كتابة البروبوزال- وخاصة بالإنجليزية التي تحولت إلى اللغة الأولى في أوساط مثقفي هذه البلاد. لكن للأسف إن من يعرف أسرار الكتابة للممول الغربي يمكن أن يفتح منظمة خاصة به بدلاً من العمل لدى الغير. فأن تكون صاحب الملكية هو خير وأنفع ألف مرة من أن تكون أجيراً مهما كان الأجر الذي تتقاضاه مرتفعاً.   
تعاني المنظمات غير الحكومية من مرض عضال لا شفاء منه. ويتمثل ذلك في إصرارها العجيب على إعادة مبادئ الثورتين الفرنسية والأمريكية بلغة رديئة وبأسلوب تجاوزه التاريخ منذ أن اكتشف سان سيمون وماركس في القرن الماضي ارتباط هذه الأفكار بحقبة الثورة الرأسمالية الحديثة. وقد بين كلاهما أن الكلام عن الديمقراطية والمساواة والعدالة وحقوق البشر لم يعد له قيمة إذا لم يرتبط بحق أساس ألا وهو الحق في الحصول على الشروط الإنسانية للعمل؛ بل ربما إزالة أشكال العمل الاستغلالي نهائياً. سوف يخبرنا علماء المنظمات الأهلية أن علينا أن لا نقول كلاماً أيديولوجيا عفا عليه الزمن، في مقابل الكلام العلمي النزيه الممول من أوروبا وأمريكا بغرض تنمية أحلام البشر هنا أو هناك في فلسطين أو نيكاراغوا أو العراق أو أي مكان آخر. 
يبدو من كلام أكثر العاملين في هذا المجال جدية أن تنفيذ المشاريع “التنموية” يصل إلى غايته المنشودة بانتهاء التجربة الممولة، الأمر الذي يعني أنها حتى لو أثبتت إمكانية تطبيق أو ملاءمة للواقع الفلسطيني فإن أحداً في هذه البلاد لا يعتبر جاهزاً  أو راغباً في متابعتها. من جانبهم يلقي بعض أعضاء المنظمات باللائمة على الجهات الرسمية. فدورهم التنموي كمؤسسات " أهلية " انتهى بنفاذ المنحة المالية. ولكن من قال بأن الحال يختلف جوهرياً في الواقع الرسمي. لا ندري حقاً ما الداعي إلى وجود هذا الوهم. فالحقيقة أن المستوى الرسمي هو الآخر يعيش تحت رحمة التمويل القادم من ذات المصادر ولنفس الأهداف حتى لو اختلفت الأسماء أو المناطق أو الجهات. ولذا فإن أكثر ما نرجوه من نتائج لجهود التنمية هو المحبة والمديح التي سوف تنصب على الممول وبلاده وقدراته. في مقابل أن الشر والنقص وأسباب الفشل هي من نصيبنا نحن. أخبرني أحد العاملين في تلك المؤسسات بأن المخطط النظري الذي يضعه لمشروع ما لا يتمكن من رؤية النور بسبب سوء الأداء الفلسطيني -أو العربي لا فرق-  بينما لاحظ أن بعض الأجانب المفترض أن يكونوا الأبعد عن واقعنا واحتياجاته كانوا أقدر على التنفيذ المبدع للأفكار. كم أحس بالرثاء لمقولة الخصوصية الفلسطينية التي تواجهنا كلما طب الكوز في الجرة، حتى لو كان ذاك " الطب " عفوياً، ولم يهدف اليه أحد.
في مختلف القطاعات بما في ذلك قطاعات “ حساسة “ مثل التعليم يتم تنفيذ أية مشاريع - بمباركة الجهاز الرسمي - حتى لو كان أحداً في هذه البلاد لا يعرف عنها شيئاً. إن التمويل هو كلمة السر الأساس بالنسبة لكل هذه الأشياء. مثلاً يعتقد الغربيون أن التعليم يجب أن يزودنا بإنسان قادر على مواجهة الظروف والتكيف معها ..الخ. بدون أن نخوض في مناقشة مع هذا التوجه أو غيره نقول إن هذا الموضوع لا يشكل موضوع الساعة في واقع الخصوصية العربية والعالمثالثية - ولا أنساق إلي مزاعم الخصوصية الفلسطينية المبالغ فيها تماماً -. فموضوع الساعة هو كيف يزودنا التعليم بالثورة العلمية الأولى لنبدأ بعد ذلك - بحول الله - التفكير في الثورات اللاحقة التي لم نعد قادرين على متابعتها. لكن ما علاقة متلقي التمويل بكل هذا الكلام التافه. لقد جاءك مال من باب هواء وليس أقل من أن " تشبرق " نفسك وحبايبك على حد تعبير " اللغة " الفلسطينية في مثل هذه الأحوال.  “ ونحن طبعاً - بحسب زعمهم - لن نخسر شيئاً بتجربة هذه الفكرة أو تلك.” كلا، من الواضح أننا نخسر الكثير. نخسر الجماعات الكاملة من المعارضة الثورية السابقة والحالية واللاحقة التي ستدين منذ اللحظة للممول الذي لا بد من شكره دائماً وتنفيذ إرادته حتى لا ينقطع التمويل. ونخسر  الجهد الذي يبذله أبناء شعبنا والذي وجه في اتجاهات قد لا تكون ضرورة في خدمة أهدافنا القومية والوطنية بعيدة المدى. ونخسر بفعل الأوهام التي تتشكل لدى الناس بأن الأمور تتحسن تدريجياً؛ ولكن على حد تعبير اليوت “ مع بعض الصبر” من عندي أضيف: " الذي لا ينفذ أبداً ".
ثالثاً: قراءة في أدبيات المنظمات " الأهلية " الفلسطينية :
فضلت أن أعطي المنظمات الأهلية الفرصة للتحدث عن نفسها. وسوف أبدأ بالرابطة التي تنسق بين المنظمات وأعني شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية بحسب ما تسمي نفسها. تعرف الشبكة نفسها بأنها: “ تجمع طوعي من منظمات فلسطينية غير حكومية، تعمل في حقول إنسانية واجتماعية وتنموية مختلفة وتجمعها رؤية موحدة تهدف إلى تطوير وتعزيز مفاهيم المجتمع المدني الفلسطيني”( نشرة شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية 1998). جلي للعيان التركيز على تنمية المفاهيم بدلاً من المجتمع؛ وهذا الأمر قد يبدو للوهلة الأولى وكأنه سهو من الكاتب أو غلط غير مقصود..الخ لكننا في واقع الحال نجد أنهم يسقطون على الفكر دوراً أكبر مما يستطيعه. إنهم يعيشون الوهم المتأصل لدى المثقف بأن تغيير بعض الجمل والعبارات التي تسكن الرأس يكفي لإطعام المعدة وطيران الطائرة واستعادة فردوس عدن المفقود. ولذلك فإننا يجب ألا نستغرب أن يكون الجهد الموصوف في التعريف يعني في التطبيق والممارسة إعادة تثقيف شعبنا بآخر منجزات العلم الغربي وصيحاته - فيما بعد انهيار سور برلين - بمصطلحات تتردد كثيراً مع أنها في الواقع مستهلكة وقليلة العدد بالفعل. وهو الأمر الذي يجبر المنظمات المذكورة على أن تكرر بعضها بعضاً في جهدها الجماعي الرائد لجلب الفيزياء والتقنية والسعادة لهذا المجتمع ومن أوسع الأبواب. أعني بالطبع بوابات الدنيا السبع. خاصة وأن عدد عمالقة الشمال الرأسمالي سبعة بالتمام والكمال. لعل بعضاً من أشهر هذه المصطلحات: المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا المرأة التي اكتسبت لغتنا عن طريقها مصطلحاً عتيداً لا مثيل لدنا له وذلك هو “ الجندر” الذي أصبح شهيراً وحاضراً في سوق المنظمات الأهلية إلي درجة أنهم لا يكتبون الكلمة بالحروف اللاتينية باعتبار أنها أشهر من أن تعرف.
تحتوي النشرة المشار إليها على التعريف السابق الذكر وعلى مجموعة من الأهداف الرائعة التي لا يسع المرء أن يختلف معها اللهم إلا إذا كان من هواة الظلام وأعداء النور. لكن المرء يدهش من مضمون بعض الأهداف. مثلاً ما يتضمنه البند الرابع حرفياً: “ العمل على التأثير بالرأي العام وتثقيف الجماهير في حقول التعليم والصحة والاقتصاد..الخ” ودعوني أضيف من عندي السياسة. فالذي يريد التأثير في كل ما هو مذكور يريد السياسية ولا شيء غيرها. لكن إذا كان من حقي أن أقرر بأن البرامج والخطط والمشاريع ..الخ تتم بتمويل ومباركة من المانحين المعروف كثير منهم لدينا، فإن علينا أن نستنتج أنهم يريدون تثقيف - أو ربما إعادة تثقيف - شعبنا على ضوء ما يرغب البنك الدولي ومؤسسة فورد..الخ وأنا أشعر بالأسى لأني مضطر أن أقول صراحة أن هذا التأثير في الرأي العام لا علاقة له من قريب أو بعيد بمصلحة شعبنا وأمتنا حتى لو تقاطعت مصلحته مع مصلحتنا صدفة هنا أو هناك. إنه تثقيف يهدف إلى تكييف هذه البلاد مع الواقع الذي تريد الدوائر الاستعمارية في الشمال أن تمليه علينا. ومن لديه أدلة تدحض هذا الزعم فعليه أن يدلي بها عياناً جهاراً دفاعاً عن مموليه الأغرار. ذلك أن الجميع يعرف تجاربنا السابقة وتجارب شعوب أخرى- خاصة في أمريكا اللاتينية مع مؤسسات مثل فورد والبنك الدولي- المؤلمة في هذا السياق، حيث قام هؤلاء الممولون بفتح الطريق أمام العمل المنظم لنهب تلك البلاد ومن ثم تدميرها سياسياً واقتصادياً. وهو الأمر الذي وصل بأمريكا اللاتينية مثلاً إلى حافة الانقراض الذي يبدو وكأنه المصير المحتم لنا نحن أيضاً من المحيط إلى الخليج.
تصدر الشبكة رسالة إخبارية عن نشاطات أعضائها من المنظمات غير الحكومية. ويبلغ عدد المنظمات الأعضاء حوالي 70 منظمة. ولعل أهم النقاط المشتركة بين هذه المؤسسات هو ثقتها التامة بنفسها. وكذلك رغبتها الأكيدة في الاستقلال المالي والإداري وحرية اتخاذ القرار بشأن جهات التمويل التي تشكل في الواقع بيت القصيد من الكلام عن الاستقلال في القرار وما إلى ذلك. ومن أجل منع أي كان من التدخل فإن هؤلاء يؤكدون : “ إن المنظمات الأهلية الفلسطينية وبحكم تاريخها وخبرتها الطويلة قادرة على تحديد الأولويات والاحتياجات التنموية للمجتمع الفلسطيني”. بهذا التقرير اللفظي الصارم لا بغيره تثبت المنظمات قدرتها على حل ما يعرف في تاريخنا المعاصر بمشكل التقدم أو إشكالية النهضة أو حتى التنمية والاستقلال كما يسميها البعض. هذه المعضلة التي أرهقت عالمنا من محيطه إلى خليجه إن كان على المستوى العملي - فشل التجارب الناصرية وتجارب البعث وتجارب الليبرالية في تونس بورقيبة ..الخ.- أو على المستوى النظري حيث أعيت الحيلة مفكري النهضة من ماركسيين وقوميين وعلمانيين..الخ في تشخيص الداء ووصف الدواء. لقد نجحت المنظمات غير الحكومية في اكتشاف البلسم الشافي للمشاكل الفلسطينية، وما على الاخوة العرب، والزملاء التعسين في العالم الثالث كله سوى الإقتداء بالتجربة الفلسطينية العتيدة التي فكت طلاسم " الرصد " ليفتح كنز الحقيقة الباب على مصراعيه لدخول أبطال المنظمات الفاتحين.
تصر المنظمات على حقها في تكوين رأي سياسي باستقلال عن السلطة ( أنظر الوثائق الصادرة عن شبكة المنظمات الأهلية، 1998ص3) لكن يا ترى هل تستطيع تشكيل رأي باستقلال عن الممول ؟ مثلاً هل يسمح الممول الغربي الغارق حتى أذنيه في الليبرالية واحترام حق الناس في التعبير للمنظمة بالبقاء على قيد الحياة إذا ما تورطت - لا سمح الله - في تشجيع " الإرهاب " أو على الأقل في رفض السلام أو التنديد بالتطبيع أو استعمال لغة " أيديولوجية " عفا عليها الزمن، من نوع دور الإمبريالية الأمريكية - على سبيل المثال لا الحصر- في إجهاض المشاريع النهضوية في العالم العربي أو جهدها الرائع في احتجاز تطور العرب، وابقائهم أسيري اللحظة، أو حتى إعادتهم إلى العصور الحجرية كما حصل مع العراق الذي لا نستطيع الدفاع عنه بحكم الجرائم الكثيرة المنافية للقانون الدولي وحقوق الإنسان والتي اقترفها بدم بارد خلافاً لتقاليد الأسرة الدولية القائمة على المحبة والتعاون ومساعدة القوي الضعيف وإغاثة الملهوف وما إلى ذلك.
دائماً تأتي من ضمن أهداف المنظمات العتيدة وربما من باب رفع العتب - خاصة وأن كثيراً من أعضائها كانوا في صفوف اليسار لفترات طويلة - أو من باب ذر الرماد في العيون هدف العدالة الاجتماعية ومساعدة الفقراء والمحتاجين والنساء - وربما كان جديراً بهم التحدث عن الأرامل -. لكنه طبعاً يأتي بالضبط أشبه بالكلام عن الصدقات التي تقدم للفقراء من أجل نيل رضا الله أو من باب فعل الخير. في الواقع إن المنظمات تتبنى تصريحاً وتلميحاً مواقف سياسية وأيديولوجية واقتصادية لا تمثل -فيما نزعم - وجهة نظر المحرومين الذين يأتون على استحياء في آخر قائمة أهدافها العتيدة.
تتشدد شبكة المنظمات في قبول الأعضاء الجدد. والواقع أنها لا تقبل إلا الأعضاء الذين يمتازون بالشفافية في عدة أمور وعلى رأسها وجود نظام داخلي يبين كيفية صنع القرار داخلها( أو على الأقل ذلك ما تدعيه نفس الوثيقة السابقة ص11) . لكن دراسة واقع حال تلك المنظمات يشير إلى أن شخصاً واحداً في معظم إن لم يكن جميع الأحوال يملك 51% من أسهم القرار ببساطة لأنه يشكل مفتاح التمويل بعلاقاته الحميمة مع الجهات المانحة في الولايات المتحدة وكندا والدول الاسكندنافية وهولندا..الخ. والكلام عن النظام الداخلي كما يعرف تلاميذ المدارس في بلادنا لا يفيد شيئاً . والعالم العربي كله - بل العالم الثالث كله - يكتب أنظمة نخب أول ولا يقوم بتطبيق أي شيء منها. وفرخ البط عوام، وما يحصل في المستوى الوطني الذي يهم الأمة كلها أسهل أن يحصل في مستوى جمعيات لا يعرف المواطن أسماءها، أو ما الذي تريد أن تفعله على وجه الدقة.
تمتلئ نشرات المنظمات عن أخبارها وإنجازاتها التي لا تنتهي: دورات ومحاضرات وندوات ومؤتمرات وأبحاث من كل جنس ولون. وينتج عن ذلك بالطبع أكوام من الأوراق التي لا يقرأها أو يعلم بوجودها أحد.  وفي هذا السياق فإن المرء لا يستطيع إلا أن يرثي للمزاعم التي تتحدث عن دور هذه المنظمات في مقاومة الاحتلال. كأن بلداً في المشرق العربي كله قد وفر الفرصة لعمل هذه المنظمات مثلما فعل الاحتلال. وليس خافياً على أحد أن هذا الازدهار النسبي " للمجتمع المدني الفلسطيني " إنما تم بمباركة من سلطات الاحتلال التي رأت فيه طريقة نموذجية لامتصاص الغليان الجماهيري وتنفيسه في زوبعة لا ضرر منها ما دامت سوف تشكل بديلاً عن انفجار العمل المسلح الذي نعرف كيف تعامل معه الاحتلال وكيف قمعه ببطش لا يعرف الرحمة أو التساهل.
على أية حال، لا تتوقف الوثائق عن الإشادة بإنجازات المنظمات وخبرتها الهائلة في التعامل مع الواقع الفلسطيني. وفي بعض الأحيان يحس المرء بالحاجة إلى البكاء بدل الضحك لهزالة الكلام الذي لا تستطيع حتى أن تضحك منه. إن المرء لا يستطيع إلا أن يرثي لنشاطات تتمثل في تنظيم احتفال - مناصفة مع منظمة أخرى- وكذلك حضور ندوة نظمتها منظمة زميلة وحضور افتتاح معرض. هذه جملة من الأخبار التي اختارتها منظمة معروفة من منظمات حقوق الإنسان ولا داعي لذكر سمها. إننا لا نمارس التجني سهواً أو قصداً لأننا إنما نرصد أعمال هذه المؤسسة كما أرادت توثيقها. إنها أقل من زوبعة في فنجان، وعلينا أن نفكر ملياً في الفوائد والمضار التي يجنيها واقعنا من هذه النشاطات التنموية العجيبة. بعضهم يزعم أن مجرد نشر الفكر الديمقراطي هو مكسب في حد ذاته. ونحن لا ننتقص أبدا من أهمية هذه الفكرة بكامل أبعادها، لكن الوقوع فريسة وهم مفاده أن هذه الوصفة هي البلسم الشافي لكل الأمراض هو أمر مضحك بالفعل. انه ونقولها بدون تردد كبير ترويج للأيديولوجيا الرأسمالية في طبعتها الأخيرة التي استعادت على غفلة من التاريخ جانباً من أمجاد الثورة الفرنسية التي كانت تعيش أياماً جميلة ومشرقة مليئة بالإخلاص الذي يفتقر له الليبراليون الجدد الذين تمتلئ لغتهم بالنفاق والأكاذيب. مثلاً إن كل المصائب التي تقع في العالم الثالث سببها غياب الديمقراطية. وإذا سألتهم كيف يمكن تخطي أزمة مجتمعات أفريقيا السوداء أو على الأقل الجزء الذي يخصنا منها ونعني به السودان فإن الجواب النموذجي هو عن طريق الديمقراطية وتحرير كل شيء - الأمر الذي يشي بطبيعة الحال بحرية التجارة الأعز على قلب الديمقراطية الغربية - . فإذا ذكرتهم بأن النجاحات الصناعية - والاقتصادية بعامة - بعد انتهاء فترة الرأسمالية التنافسية لم تحدث في مكان مفتوح، وانما في دول مارست الإغلاق مثل اليابان في بداياتها والصين الحالية وروسيا التي حققت معدلات نمو أسطورية في عهد الإغلاق فإنه لن يتوانى عن القول بأن ذلك استثناء، وأن القاعدة تبقى مع الحرية وتعميمها على كافة مجالات الحياة. من جانبنا نزعم أن الحرية في جانبها الهام جداً والمتعلق بتحرير الأسواق تقود ضرورة إلى تدمير استقلالية الاقتصاد الوطني وفرصة بنائه على أساس من الاحتياجات ولإمكانات والطاقات الوطنية لمصلحة اقتصاد تبعي معد للتصدير ويؤدي دوره المرسوم بدقة بوصفه ترساً صغيراً في عجلة الرأسمالية العالمية العملاقة التي تطحن كل ما يأتي في متناول أذرعتها الطويلة القوية ليتحول الى أرباح صافية في جيوب الكبار في الشمال،والى دمار نهائي للشعوب في الجنوب.
في العدد التاسع من نشرة شبكة المنظمات ( أيلول 97 ص9)  نقرأ كلاماً مضحكاً عن “ عدم الاكتراث وعدم الجدية التي تجابه بها السلطة التشريعية في البلاد من قبل السلطة التنفيذية الأولى”. وهو أمر يحز في نفسنا مثلما حز في نفس أصحابنا في المنظمات. لكنهم طبعاً لا يأخذون العبرة، ويواصلون دورهم الريادي في صناعة التاريخ الفلسطيني المعاصر. ويقترحون جملة من الإجراءات “ الخطيرة ” للوقوف أمام الظاهرة المقلقة التي أشرنا إليها. نذكر من ذلك الدعوة ( النشرة السابقة، نفس الصفحة) الى إقامة " ورش عمل خاصة بالتطوير الإداري والمالي لمؤسسات الدولة في ضوء تقرير المجلس التشريعي وهيئة الرقابة..الخ" نترك لذكاء القارئ إكمال باقي الخطوات التي ستوقف والى الأبد الاستهتار بالتشريع وتحيلنا في ليلة واحدة الى مواطنين فرنسيين من الطراز الأول. وتزودنا بمساحات كافية للسكن، ورفاه في الأجور وتبني لنا مصانع ميكانيكية وإلكترونية من كل الأجناس، ناهيكم عن المزارع العملاقة التي تقدر مساحة الواحدة منها بملايين  الدونمات حتى لو كانت الأرض الفلسطينية التي في حوزتنا لا تسمح بكل هذه الأحلام.  لكننا نستطيع أن نحلم أحلاماً أكثر تواضعاً من نوع أن نطالب المنظمات غير الحكومية - بحق مبدأ الشفافية الذي يزعمون-  أن تزود الجمهور بمعلومات عامة على أقل تعديل: مثل هوية الممول وبلده وتاريخ مؤسسته في العمل في دعم الشعوب التي تمر أو لا تمر بظروف كظروفنا وما أهداف الممول من الهبات ..الخ وكيف يعمل البنك الدولي في العالم كله أو في بلادنا وما هي مصالحة المتطابقة مع مصالحنا والتي دفعته الى أن " يعذب " نفسه ويأتي من آخر الدنيا ليساعد المنظمات في حل مشكلة التمويل التي تواجهها. أما إذا كنا لا نتحدث عن مصالح ومنافع - وهذا ما نخشاه كثيراً - فلا بد اذاً من الكشف عن المبادئ السامية والأخلاق والقيم الدينية والإنسانية الفائقة التي تحكم كل شبكة الممولين في الشمال وتدفعهم الى مساعدتنا على النمو في كافة المستويات.
 من أهم المؤسسات الأهلية الناشطة في فلسطين الإغاثة الزراعية، وهي مؤسسة مميزة بالفعل. وبسبب حجمها الاستثنائي فليس من السهل - على الرغم من كل الكلام عن الشفافية - أن نعرف على وجه الدقة الإمكانيات التي تتاح لها. من ناحية أخرى لا يمكن تجاهل الأهداف الاجتماعية لمشاريعها. على الأقل بدايات الإغاثة هدفت فيما يبدو الى مساعدة  فئات الفقراء من الفلاحين. لكنها حتماً تغيرت الى حد كبير استجابة للتغيرات التي حدثت على مستوى الكرة الأرضية. وهي تغيرات نزعم أنها ليست جميعاً في اتجاه إيجابي. غير أنها فيما نظن ضرورية من أجل المحافظة على مصادر التمويل القائمة والبحث عن فرص أخرى. هذا الأمر يبدو لنا قادراً على توجيه سياسة أي مؤسسة باتجاهات يرتضيها الممول وتتوافق مع مصالحه حتى لو تعارضت مع مصالح الجهة التي تتلقى التمويل. إن أحداً في حدود ما نعلم لم يرفض حتى اللحظة تمويلاً من أي جهة كانت ومهما تك لأسباب. نحن نثمن وعي الإغاثة الزراعية لهذه المشكلة. تقول الخطة الإستراتيجية الصادرة عن اتحاد جمعيات الإغاثة ( أنظر:الخطة الاستراتيجية،1998،ص46 ) “ إن من نقاط ضعف الإغاثة المهمة أنها تعتمد كثيراً على الممولين وتخضع لهم.” إننا لم نستطع تجنب الانطباع بأننا أمام روح واعية ونقدية ولا تميل الى حل المشاكل بإنكارها. لكننا مع ذلك أحسسنا بأن هذا في حد ذاته قد يتحول الى طريقة للتخلص من تأنيب الضمير وتيسير الرد على النقاد بادعاء امتلاك الوعي بالمخاطر التي ينبه إليها أي خصم محتمل. أما من ناحية فعلية فإن الوعي بوجود المرض لا يغير بمفرده من طبيعة الحال شيئاً. إذ لا بد أن تتلوه الخطوة الأهم ونعني بها اجتراح الحلول واعطاء الأدوية الملائمة.
طبعاً قد يسقط المرء فريسة الوهم أن من لديه وعياً من هذا النوع فإنه على الأقل لن يقع في مشكلة على صعيد الوعي ذاته. الحقيقة هي أن الإغاثة لا تستفيد من اكتشافها الأولي لخطورة التمويل -الذي لا تجرؤ على أي حال على القيام بتحليله-. تخبرنا الخطة الاستراتيجية المشار إليها سابقاً أن أسباب حصول الإغاثة على التمويل هي أسباب من نوع مهنيتها العالية ومنظورها التقدمي في العمل والنتائج الواضحة لعملها مع الفئات المستهدفة..الخ واضح أن عليها الآن أن تخبرنا بالحجة والدليل عن مصالح الممولين الأكيدة في ازدهار المنظورات التقدمية في العالم- وعلى الأخص عالم الجنوب في جزئه العربي الفلسطيني تحديداً - . ليس بوسعنا أن نفهم هذا الأمر بمفردنا ونظن أننا بالفعل في حاجة الى كل مساعدة من أجل تحقيق ذلك.
يؤسفنا أنه على الرغم من الطابع الزراعي الصريح للإغاثة إلا أن ذلك لم ينجها أبداً من إقحام نفسها في  الخطاب الأيديولوجي الرائج في هذه الحقبة بخيره وشره: المجتمع المدني، وحقوق الإنسان( أنظر مثلاً ص 53 أو أية صفحات أخرى) والمرأة وال..جندر. وهذه الكلمة الأخيرة نكتبها هكذا صريحة سافرة بدون علامات تنصيص - كما فعلنا لدى ورودها في مرة سابقة -لأنها أصبحت- وفي لغة الإغاثة تحديداً - علماً في رأسه نار. لم نستطع تجنب الانطباع بأن الطابع التقدمي والمستند الى واقعنا العربي الفلسطيني يتراجع بوضوح لمصلحة كلمة "الجندر" التي تنعي إحدى نشرات الإغاثة على بعض أعضائها أنهم لم يتعرفوا معانيها الجمة والعميقة بعد. ويرد ذلك في نشرة ربعية داخلية خصصت بأكملها لموضوع الجندر الذي يتصدر أولويات الإغاثة سراً وعلناً.ولعل إصدار نشرة تحت هذا العنوان - الجندر - له دلالته في تأثر عمل العلام وسياسة الإغاثة بواقع رغبات وأولويات الممول. ولو كان الأمر فلسطينياً بحتاً لتم التركيز على موضوع مثل الاستيطان وخصص له بضع نشرات. وربما لتم التفكير في عقد الندوات والمحاضرات و" ورش " العمل لمناقشة كيفية حشد الجهد الطوعي لفئات المهمشين التي نذرت لها الإغاثة نفسها من أجل مقاومة ابتلاع الأرض الفلسطينية شبراً فشبراً. لكن هذا بطبيعة الحال أمر يتعلق بالسياسة ويوجع الرأس. ومن الأرجح أن الاهتمامات السياسية( فيما عدا اختيار الديمقراطية والتعددية والعلمانية.. الخ) ليست في مدى اهتمام منظمة غير حكومية تنموية تصب جل اهتمامها على الواقع الاقتصادي الزراعي للجماهير. أما التصريح الذي لا لبس فيه حول الرغبة في أن تؤدي مساهمات الإغاثة ومن يدعمها الى تعزيز الديمقراطية والمحبة والسلام والمجتمع المدني- وربما بشكل ضمني قطع دابر العنف والإرهاب ومن يناصرهما في هذه البلاد- فلا بأس به. إن التمويل يوجه للإغاثة لأنها كل الأشياء الحلوة التي تشاء أن تدعيها ولكنه على وجه الدقة يوجه لها في لحظة القرار “الأممي” المستحسن إسرائيليا بدعم وتمويل استقرار التسوية وخلق شرائح اجتماعية لديها منافع متبادلة مع الواقع السياسي الجديد.
 تغرق لغة الإغاثة في غموض واضح بالنظر الى خضوع معطياتها الأولية للترجمة. في بعض الأحيان يترك المصطلح الإنجليزي بدون مقابل عربي على الإطلاق. ومن الواضح بالنسبة لمهووسي اللغة الإنجليزية في هذه البلاد أن هذا دليل على الوجاهة العلمية. أرغب في إخبار القارئ بأن المصطلح غير القابل للترجمة هو في العادة مصطلح اجتماعي أو إداري..الخ - من مثل الجندر نفسه - وليس من فئة عناصر الكيمياء أو من عائلة فيزياء الكم العسرة الترجمة حتى بين العلماء أنفسهم.
تبدو اللغة أحياناً رطانة غير مفهومة على الإطلاق بالنسبة لأي تحليل له علاقة بالعمل. نحن مثلاً لا نستطيع أن نفهم كيف تعتبر الإغاثة إحدى ميزات واقعنا “ التأثير الكبير للعامل الدولي في فلسطين” .( أنظر:ص48) بإمكاني أن أترجم هذه العبارة على النحو التالي دون أي تعليق “ غياب أي أثر فاعل للشعب الفلسطيني في التأثير في حياته أو التخطيط لمستقبله بالنظر الى أن العامل الخارجي له الأثر الحاسم”. لكن من قال بأن هذه ميزة من أي نوع على الإطلاق؟ إنها الميزة التالية: يتحدد مصيرنا في هذه البلاد أكثر من الاخوة العرب ومن الأصدقاء المعرضين مثلنا في باقي العالم لفرص التخريب النهائي والشامل، يتحدد أكثر بتأثير العامل الدولي. أرغب في فك طلاسم العامل المذكور بالقول إن أنغولا والصومال وكوبا وسوريا وتونس..الخ لا علاقة لها به. ذلك لأن العامل الدولي في حدود ما يعرف أبناء المدرسة الثانوية إنما يتلخص أساساً في الولايات المتحدة، مع إضافة عدد بسيط من أصدقائها الذين يتمتعون بأهمية أقل بكثير من أهمية أميركا بمفردها.
يبرز العامل الدولي بوصفه عنصراً من عناصر القوة الهامة. أما المصيبة التي نواجه -مصيبة المصائب فيما يبدو - فهي غياب سياسة جندر واضحة. وهي الأمر الذي لن تقوم لنا بدونه قائمة مهما بذل أصدقاؤنا في الشمال من جهود لدعمنا علمياً ومالياً ..الخ( نفس المصدر ص49).
الإغاثة واعية - أو على الأقل ملمة- بمعظم عناصر المعضلة ( ولا أقول المصيبة) التي نعيش ونواجه. ولكن إما أنها تخفق في تقدير صعوبات الموقف حق قدرها، أو أنها تتعمد تجاهلها بغرض تسويغ ما تقوم به في عيون الجمهور والذات. إنها مثلاً تعي(ص35): أن “ سوق المنتجات الزراعية ملئ بالمخاطر، ويعتمد بالكامل على المستوردين والوكلاء المرتبطين بالسوق الإسرائيلية، تباع في السوق بضائع محرمة دولياً، منتهية الصلاحية، علامتها التجارية غير واضحة ..الخ” طبعاً هذا عرض حسن لبعض من مشاكلنا في هذه البلاد. ما هو المخرج؟ ها هو مخرج الإغاثة: “ وترى الإغاثة أن عليها العمل على تشجيع القطاع الخاص - التشديد من عندنا- للاستثمار في المجالات المذكورة... وتعمل بشكل مباشر على تنشيط مشاركة النساء في عمليات التسويق..الخ” هل سمعتم قول جرير :
 زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً   أبشر بطول سلامة يا مربع
تظهر الإغاثة وعياً لا بأس به بضرورة الحد من عدم تبعية اقتصادنا للاقتصاد الإسرائيلي وتحاول أن تقوم بتشريح دقيق للتجمعات السكانية الفلسطينية( أنظر ص 29 ) لتحديد الدور الممكن لها بالنسبة للزراعة. سوف نجد هنا طرحاً شكلياً ومنفصلاً عن الواقع، نظرياً وتصورياً فحسب. مثلاً يبدو أن المخيمات ( نفس الصفحة) يمكن أن تؤدي دور تقديم الأيدي العاملة التي تحتاجها الزراعة. ذكرني هذا الكلام بانتقال مئات آلاف من العمال الزراعيين من شتى أنحاء أوروبا الى مناطق مثل فرنسا للمساهمة في قطف العنب أو الزيتون. كأن هذا هو حال زراعة الضفة. لكن لو عدنا الى أمثلة الإغاثة المفضلة أعني قرى مثل حلحول وبيت أمر فإننا نجد أن الناس تعتمد الى حد كبير على الوظيفة والعمل في " إسرائيل " . وإذا حصل واحتاجوا عمالاً مرة في السنة - لسبب من الأسباب -، فإن الكلام في هذا الوضع يدور حول عمال زراعيين خبراء في العمل الزراعي مثل التقليم والغرس والمكافحة. إن سكان المخيمات هم آخر من يحتاجهم القطاع الزراعي. لكن بطبيعة الحال البطالة في اليد العاملة الفلسطينية متفشية في كل مكان الى درجة أن أحداً ليس في حاجة الى خدمات الآخرين. العكس هو الصحيح. الجميع يلهث من أجل فرصة عمل في أي مكان ولدى أي مشغل. إنك ببساطة تستطيع أن تواجه مهندساً زراعياً يعمل في قوات الأمن الوطني ويبحث عن عمل في المنظمات غير الحكومية وعلى رأسها الإغاثة ويسعى جاهداً للحصول على تصريح عمل لإسرائيل للعمل في البناء أو الزراعة أو أي قطاع آخر على الأقل في فترات إجازاته الكثيرة. ترتفع مستويات الأسعار بشكل سريع ومضطرد يجعل من مناطق السلطة واحدة من أكثر بقاع العالم غلاء. في المقابل يتدنى الدخل بشكل مضطرد بالأرقام النسبية دائماً وأحياناً بالأرقام المطلقة.
يبدو أن جوهر التنمية في القطاع الزراعي في الريف ثابت أساساً ولا يتأثر كثيراً بالمتغيرات المتعلقة بوضع السياسة والاقتصاد والبيئة والسوق..الخ هذا الكلام بالطبع يبدو لكم عجيباً بالفعل. لكن نستميحكم عذراً فهو في الوقع كلام استراتيجية الإغاثة(ص27) التي تخبرنا باستحالة التكهن بمستقبل هذه العوامل بسبب الظروف المتغيرة لواقعنا القلق وغير المستقر. لكن لا بأس، فإن “نقاط التدخل والعمل تبقى ضرورية  وقائمة”( نفس الصفحة). دعوني أضيف ما دام التمويل قائماً. أما في غيابه فيبدو أن من البين بذاته انتفاء ضرورة العمل الذي تنفذه كل المنظمات غير الحكومية.
لسنا في الواقع بصدد التشكيك في قدرة الإغاثة على الحصول على التمويل. الواقع أن هذه إحدى نقاط القوة التي لا تمل الإغاثة من تكرارها. العلاقات الطيبة مع الممولين، المصداقية في التعامل مع الممول..الخ. حتى أن الإغاثة عندما تتحدث عن ضرورة الوصول الى مصادر تمويل ذاتية( بغرض تحقيق الاستقلال عن الممول وتدخله في قراراتنا) فإننا نفاجأ ب: على المدى القريب - على سبيل المثال- تقوية الروابط مع الممولين الحاليين. أما على المدى البعيد فيكمن الأمل في “ البحث عن مصادر تمويل عربية من القطاع الخاص العربي” ( ص 22).الواقع أن خلاصة موقف الإغاثة التنموي يجسده إغلاق مصانع مخللات " سلطان " - في بيرزيت؟ - وتعثر مربى أريحا، في مقابل التركيز على ما هو رائج في هذا الزمن قطاع التجارة والسياحة. ربما في هذا الإطار جاء مشروع حديقة " الباباي " - وعذراً لجهلي معنى الاسم - ومشاريع أخرى مشابهة.
سوف نلقي نظرة أسرع على بعض المنظمات غير الحكومية الأقل حضوراً من الإغاثة ليس انحيازاً لمنظمة ضد أخرى ولكن بسبب حجم الإغاثة المميز كما سبق ولاحظنا.
جمعية القانون هي إحدى المؤسسات المعروفة  في هذه البلاد.  والحقيقة  أنها في الأيام الأخيرة تلقت إعلانات  تضامن كثيرة  ( أنظر جريدة القدس  طوال الأسبوع الأول من تموز 99)  بسبب  الهجوم الذي تعرضت له المنظمات غير الحكومية مؤخراً. ليس من السهل أبداً تجاهل أدوار القانون الكثيرة - ولكنني بطبيعة الدراسة لا أستطيع أن أقدم ذات المعلومات التي يستطيع المرء بسهولة أن يحصل عليها من النشرات الكثيرة التي تصدرها القانون أو غيرها من المنظمات غير الحكومية -. في مقابلة أجراها أحد طلبتي مع أحد المسئولين في القانون رفض  الرجل كشف النشاطات المستقبلية خوفاً من أن تسبقهم إليها مؤسسات  أخرى منافسة فهي ليست مؤسسات متعاونة، وانما مؤسسات متصارعة في " سوق " خدمات حقوق الإنسان. ولا أظن القارئ يجهل السبب الكامن وراء سرية المشاريع فكل مشروع طريف يمكن أن يجر تمويلاً من هنا أو هناك.
لم تخف المؤسسة أن تمويلها يأتي من أوروبا، والأهم أنها يمكن أن تقفل أبوابها فيما لو توقف التمويل - لا سمح الله -.  لقد حاولت المؤسسة الحصول على تمويل محلي دون جدوى، ربما بسبب عدم إيمان الناس في هذه البلاد بالقضايا التي تثيرها المؤسسة لكن ذلك لا يمنعها من إبداء التفاؤل لأننا: نقترب من عام 2000. وليس لدي أي تعليق على هذه السببية المدهشة بالفعل.
تتفق المؤسسات التي اتصلنا بها(1) في أن تمويلها غربي. لكن قلة بالفعل التي ترغب في ذكر هوية الممول. ومن هؤلاء مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي التي قدمت قائمة بأسماء الممولين نتركها بلغتها الأصلية:
           1.Norwegian People Aid.
2 Swedish International Development Agency.
3 UNDP.
4 Christian Aid , U.K
5.Canada Fund.
6 Ford Foundation,U.S.A
7 Welfare Association.
ولقد أوضح العاملون في تامر أن أهداف التمويل هي دعم برامج تنموية في فلسطين تتفق وفلسفة المؤسسة.
مؤسسة “ الحق  ” أوضحت أنها تتلقى تمويلها من 12 مؤسسة دولية مهتمة بقضايا الإنسان والعدالة الاجتماعية. تتكرر الأهداف التي تعلنها المؤسسات وتتداخل. مثلاً في حالة الحق يتطابق هدف توطيد مبدأ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان مع نفس النص عند الهيئة المستقلة لحقوق المواطن.
تستلهم “ مانديلا ” فلسفة سقراط في أنقى صورها. وانطلاقاً من الفلسفة المشار إليها، فإن الجهل يرادف الشر والرذيلة بينما المعرفة ترادف الخير والفضيلة، ولذلك فإن الأزمة معرفية أولاً وأخيراً. ذلك ما استخلصناه من تركيز المؤسسة على إعطاء دورات تدريبية - في حقوق الإنسان - لأفراد الأجهزة الأمنية الفلسطينية. لا شك أن أفكار" الجمهورية " قد وجدت أخيراً من يعيد لها كامل الاعتبار.
أشرنا - عند الحديث عن “ الحق ”الى هدف الهيئة المستقلة لحقوق
المواطن والذي - في حالتها - ستعمل على تحقيقه عن طريق مراقبة السلطة الوطنية وتثقيف المواطن بحقوقه..الخ. من حيث التمويل فإنها تأخذ تمويلاً بدون شروط وينسجم مع سياستها العامة ولو كان خلاف ذلك ما قبلته أبداً..الخ.
تشذ مؤسسة الضمير عن حركة السرب بالقول إن تمويلها وطني. وواقع الحال أنها لا تكشف سر ممولها الوطني وتتركه غفلاً من الاسم أو العنوان ولا نعرف ما هو السبب في هذه السرية.
ليس من السهل أبداً تحديد عدد المنظمات الأهلية فأعضاء الشبكة (شبكة المنظمات الأهلية) سبعون. لكن طبعاً هناك أعداد أخرى لا تنتسب للشبكة المذكورة. السلطة في خضم الجدل الذي دار طوال شهر حزيران 99 قدرت عدد المنظمات بألف وقدرت مجموع ما تلقته من أموال في السنوات الخمس الأخيرة ببضع مئات الملايين من الدولارات الأمريكية. في عدد 9-7-99 من صحيفة القدس المقدسية تؤكد زهيرة كمال وهي ناشطة في منظمات المرأة بأن عدد هذه المنظمات يربو على1200 ولا بد أن ذلك أمر غريب بالفعل ويجعل لدينا مجتمعاً مدنياً واسعاً بالفعل. إن هذا يجعل تقديرات السلطة غير مبالغ فيها كثيراً. ليس هنا مجال سرد كل تفاصيل الجدل الغريب الذي وقع بين السلطة والمنظمات وأنصار كل منهما. لكن الأمر لا يخلو أحياناً من بعض الطرافة؛ ذلك أن تنظيمات سياسية انخرطت في النقاش وقامت بدور الوسيط وامتدحت دور المنظمات الأهلية التي يفخر شعبنا بدورها في مقاومة الاحتلال وما الى ذلك.( انظر بيان فدا، جريدة القدس،19-6-99).ولا بد أن إدوارد سعيد على باطل حين يرى دور هذه المؤسسات على ضوء مختلف فيقول: " أود أن أقول إن فئة المهنيين بشكل خاص أي الفئة التي تمد في النخبة الفلسطينية بالضباط والمدرسين والأطباء ..الخ [ قد ] تهادنت عملياً مع الوضع الحالي. وبفضل استعداد ممولين مثل أعضاء الاتحاد الأوروبي ومؤسسة "فورد" وعدد لا يحصى من أمثال هذه المنظمات أمكن تقديم مال وفير لإنشاء عدد كبير من مؤسسات الأبحاث ومراكز الدراسات والمنظمات النسائية..الخ."( جريدة القدس،12-6-99) ويخلص إدوارد سعيد في نفس المقالة الى النتيجة التي لا يستطيع عاقل أن يتجنبها ألا وهي أن المقصود وضع المجتمع الفلسطيني ضمن تيار العولمة على النمط الأمريكي، وذلك أهون الشرور فيما نحسب.
لا بد أن علينا أن نعترف بأننا بخسنا العديد من الناس حقوقهم في التعريف بهم. عذرنا في ذلك أن هذا الجهد المتواضع لن يزيد في شهرة أي من مؤسسات مجتمعنا المدني العتيد. وكل ما أردناه هو رسم صورة تقريبية للواقع بأكبر درجة ممكنة من الدقة. ندرك بطبيعة الحال أن جزءاً مما قلناه قد لا يكون الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه. ولكننا في المقابل لم نتعمد التجني على الحقيقة. ربما لا يسعد المنظمات الأهلية الرؤية التي اعتمدنا أو المقدمات أو حتى النتائج التي خلصنا إليها. لكن من ينشئ مجتمعاً مدنياً لا بد أن يكون جاهزاً لتحل به بعض" الطوائش " من هنا أو هناك. من هذه الطوائش  ما اقتبسناه من مقالة إدوارد سعيد ومنها أيضاً وجهة نظر صديقه نعوم تشومسكي حول جهود منظمات حقوق الإنسان العاملة في فلسطين وأثرها على جزء هام جداً من الرأي العام العالمي ونعني به الأمريكي فليكن هو مسك الختام: “ لقد أهملت على العموم في الولايات المتحدة تقارير التعذيب الغزيرة التي تقدم بها السجناء العرب. ولا يبدي الأمريكيون سوى القليل من الاهتمام بتقارير اللاجئين الفلسطينيين أو معاناة واهتمامات الفلسطينيين عموماً” ( تشومسكي،1983 ، ص 107 ).
انتهى 
المصادر والمراجع
أ. الكتب العربية والأجنبية:
1.أمين، سمير الأمة العربية، مكتبة مدبولي، ط1، القاهرة، 1988.
2. أمين،سمير سيرة ذاتية فكرية، دار الآداب، ط1،      بيروت،1993.
3. بيترمارتين،هانس وشومان،هارالد فخ العولمة، ت عدنان علي، سلسلة عالم المعرفة،ع238،ط1، الكويت، 1998.
4. تشومسكي،نعوم  الثالوث الخطر، ت عبد الهادي عبلة، الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين( مصر)،ط1، القاهرة، 1983  .
5.حرب،علي الفكر والحدث، دار الكنوز الأدبية، ط1، بيروت،1997.
 6. حمودي، عبد الله(مؤلف مشارك) وعي المجتمع بذاته ، ندوات معهد الدراسات الإقليمية للشرق الأوسط ..الخ برينستون، دار توبقال للنشر، ط1، الدر البيضاء،1998.
7. عامل، مهدي أزمة الحضارة أم أزمة البرجوازيات العربية، دار الفارابي، ط5، بيروت، 1987.
8. = =     مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركات التحرر الوطني، دار الفارابي، ط2، بيروت، 1978.
9.عكاوي،ديب دليل حقوق الإنسان، مؤسسة الأسوار،ط1،عكا،1997.
10.غرامشي وقضايا المجتمع المدني، ندوة مركز البحوث العربية، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، ط1، القاهرة، 1991.
11. المصري، سناء تمويل وتطبيع، دار الكاتب، ط2، القدس،1998.
12.مكسينزوود، الين( مؤلف مشارك) المجتمع المدني والصراع الاجتماعي، ت خليل كلفت وآخرون، مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان،ط1، القاهرة ، 1997.
13. Fromm,Eric  To Have or to BE, Abacus, Cox and Wyman Ltd,2nd edition,London 1979.
ب. الصحف والنشرات والمقابلات:
1. جريدة القدس في التواريخ التالية:
12حزيران1999
19 حزيران1999
1-7تموز1999
9تموز1999
2.الخطة الاستراتيجية لاتحاد جمعيات الإغاثة الزراعية،ط2، رام الله 1998.
3.نشرة شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية،ع9، رام الله، أيلول 1997.
4. وثائق شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية،ط2 رام الله 1998
5.تقرير منظمة العفو الدولية 1998 منظمة العفو الدولية عرباي 1999.
6.تقرير منظمة العفو الدولية 1999 منظمة العفو الدولية عرباي1999.
7. تقرير الحقوق للجميع منظمة العفو الدولية عرباي 1998.
8. مقابلات أجراها طلبة كلية العلوم التربوية مع المنظمات التالية:
- تامر للتعليم المجتمعي- رام الله.
- الحق -رام الله.
- الديمقراطية وحقوق العامين - رام الله.
-  الضمير -  القدس.
- القانون - القدس.
- مانديلا لرعاية شؤون المعتقلين - رام الله.
- الهيئة المستقلة لحقوق المواطن - رام الله.



#ناجح_شاهين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إما عالم نظيف أو عالم مسلح
- يدقون طبول الحرب، فنرفع رايات الإقليمية
- هل ينقلب سحر الأنكل سام عليه؟
- حرية الفكر والتعبير
- ليس العرب أمة، إنهم مشروع أمة- 2
- ليس العرب أمة، إنهم مشروع أمة -1
- رحلة العذاب عبر الجسور
- عيد بلا فارس ولا جواد
- فنتازيا الدولة السيادية منزوعة السلاح
- إنه زمن عالمية المقاومة
- هل نتجه نحو البربرية الشاملة؟ قراءة تاريخية للأزمة الكونية ا ...


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - ناجح شاهين - المجتمع المدني بين النظرية والممارسة - نموذج: فلسطين