أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد صالح الطحيني - ألنفي















المزيد.....

ألنفي


محمد صالح الطحيني

الحوار المتمدن-العدد: 5061 - 2016 / 1 / 31 - 17:52
المحور: الادب والفن
    


على محيط النفس تطفو مشاعر الحنين والخوف كومضات تنبثق ثم تتلاشى وسط الضجيج. هناك الوطن خلف البحر وهنا الحنين والغربة. شعور يعتصر قلبي وغصة لا تنتهي. وجه أمي والشمس وأشجار النخيل صور تبعث الدفء في قلبي، ليعود صقيع الخوف والوحدة فتجمد دقاته كلما تصورت خارطة الوطن وبقع سوداء تنتشر فيه هنا وهناك، بقع بحجم أنفاسي، عشت فيها طويلاً حتى باتت تسكنني رعباً وفزعاً، بقع تتصل فيما بينها بأروقة بلا مصابيح، وعند كل منعطف غرفة للتحقيق. هناك يسألونك عن كل شي حتى أحلامك ويتهمون أمك بالعهر.

أقبية تصل العواصم ببعضها بعضاً بدهاليز سرية قد تعفنت من الظلمة، وأنتنت بمؤتمرات تولي العرش الممتد على جسد الوطن.

أيقظني من أحلامي هذه، صوت قرع عصا على بلاط المقهى وهو يقترب مني:

· هل أنت عربي؟ قالها بالعربية، وجلس قربي.

كان شيخاً يناهز الستين، أغرب ما فيه عصاه تلك؛ آثار السنين بادية عليها بشقوق كانت نفسها على وجهه، ولكن بشكل أعرض وأقسى.

تابع حديثه:

· لا بد أنك عربي، فهاتان العينان وهذا السمار البدوي يدلان على أنك عربي وهارب من هناك.

أجبته والفزع يفضحني بصوتي:

· نعم أنا عربي ومن هناك لكني لست هارباً كما تقول.

ضحك ضحكة عالية وقال:

·لا تخف يا بني، فهؤلاء الأشباح الذين يقطنون رأسك لا وجود لهم في هذه المدينة.

غبي هذا الرجل، فهو لا يعرف أنهم في كل مكان، ولا بد أن أحدهم قابع في إحدى جيوبه، وما الذي أدراه ما يدور برأسي؟ لعله واحد منهم؛ فهم يعرفون كل شيء، حتى الأحلام يعرفونها ويحاسبون عليها.

سألته وأنا أتصنع الشجاعة:

· وهل أنت أيضاً عربي؟

أجابني بنظرة حزن محولاً نظره خلف البحر:

· نعم أنا عربي ومن هناك، قاسيت الكثير. يكفيني أني فقدت هناك زوجة وطفلة.

أحزنتني آلامه التي كانت تتجسد بكل نبرة في صوته، بكل تعبير من تعابير وجهه، وهذا ما دفعني لأن أطمئن جانبه وأتابع معه الحديث.

· ولكن كيف عرفت أني هارب من هناك؟

نظر إليّ بحزن ونظر إلى يدي التي كانت تحمل فنجان القهوة وقال:

· آثار وحشيتهم بادية على يديك.

وبحركة عصبية وضعت فنجان القهوة وأخفيت يدي. غصة في الحلق وصور تداخلت في الذاكرة؛ فمهما بلغت شدة الألم ووصلت الأعصاب إلى مستوى تفقد فيه القدرة على التنبيه، ثمة بقعة في الدماغ البشري تستمر بعملها، وتلك كانت مصيبتي؛ أذكر كل شيء: أصواتهم، أشكالهم أراها من خلف عصابتي، أنيابهم تطاولت من كثرة استعمالها وأحيانا كانت تقطر دماً. أين فهد؟ ومتى شاهدته آخر مرة؟ من أصدقاؤك غيره؟ من كان معكم؟ تكلم يا ابن الـــ....... وأفقد جزءاً آخر من يدي.

أعادني إليه بسؤاله:

· ولماذا أخفيت يدك؟ آثارهم هذه وسام لك، كنت أظنهم قد غيّروا أساليبهم وابتكروا أساليب جديدة، ولكنهم على ما يبدو يحنّون لتلك الأساليب، فهي تجعلهم يتلذذون أكثر من استعمالهم لأسلاك الكهرباء وأجهزة الشد، فتلك الطرق تترك خلفها المزيد من الدماء.

نظرت إلى أصابعي وقلت له:

· أنت تقول هذه الآثار بمثابة الوسام لي، وهم يقولون: إنها دليل خيانتي وتآمري على أمن الدولة.

وبعصبية قاطعني:

· كلاب، كلُّ ما يقولونـه كذب. هم أخطر من الطاعون نفسه، هم الخائنون، هم المتآمرون على الإنسانية ذاتها. أنت، بالله قل لي: ماذا فعلت حتى أصابك ما أصابك؟

قلت له، وكأني أبرئ نفسي أمام قاضٍ سيحكم عليَّ بعد قليل:

· والله لم أفعل أي شيء سوى أني أحببتُ وطني وتغنيتُ به في قصائدي.

وضع عكازه على مسند الكرسي، اقترب مني قائلاً:

· أرأيتَ؟ هذه هي الخيانة عندهم. يجب أن تحب مولاهم وتنظم قصائدك لمدح دلائل نبوته، عندها ستكون المقرب لديهم، أما أن تُظهرَ عريهم فـ "لا"؛ لأنَّ عريهم فاحش، إن فعلت هذا أو حتى إن فكرت فيه، فسيمسحونه من ذاكرتك بأية طريقة؛ فأنت مهما عاشرتهم أو رأيت منهم، فإنك لا تعرفهم كما أعرفهم. لذا لا تقنع نفسك بأضاليلهم، لأنّك لو فعلت فقد حكمت على نفسك بالغباء وحققت لهم مبتغاهم. حدثني عنك أكثر؛ يبدو لي أنك قاسيت الكثير مثلي!

· قلت له: أرجوك يا عم، إنك لَتضعُ يدك على جرح حسبتُه قد اندمل.

أخذ بيدي بعد أن تناول عصاه ونهض، ثم قال:

· هلمَّ بنا يا بني، فكثير من الجراح تحتاج لمشرط كي يزيلها، تعال معي إلى مكان أقل ضجيجاً من هذا المقهى. سأدلك على منزلي فأنا أدعوك لتناول الشاي العراقي معي.

ودون أن ينتظر موافقتي سحبني من يدي خارج المقهى وتابعنا المسير بموازاة شاطئ البحر. انتابني مزيج من الخوف والحذر كلما نظرتُ في وجهه، وهو يسير قربي بخطىً وئيدة يزيدُ على وقعِها صوت قرع عصاه على بلاط الرصيف. ولا أعرف ما الذي جعلني أتذكر شيخ الجزيرة في قصة السندباد!

أخيراً، وصلنا إلى منزله. لم يكن بعيداً عن المقهى، منزله بدا غريباً هو الآخر؛ لم أعرف لأي غرض صُمم؛ فهو لم يكن منزلاً بالمعنى الصحيح، كان أشبه بتلك الغرف الصغيرة التي يجعلونها سكناً لحراس المنازل الفخمة، لكنه كان مرتباً من الداخل على الرغم من أثاثه البسيط! جلس على أول كرسي صادفه وأسند رأسه على عصاه وخاطبني بصوت منهك:

· تفضل إنه منزلك على الرغم من تواضعه، فأنـا أعتزُّ به فهو يعرف كل أسراري، إذ طالما حدثت نفسي فيه بصوت عال، وذلك مرض أصابني بسبب الوحدة.

جلستُ قربه سائلاً:

· وما الذي أرغمك على ترك الوطن والعيش وحيداً أواخر أيامك ؟ فأنت بحاجة لأي شخص يؤنس وحدتك ويرعاك.

ودون أن ينظر إليَّ أجابني:

· ليس مثلك من يسألني هذا؛ فأنت تعرف أن هناك أكثر من سبب يرغمك على أن تتخلى عن أهلك، عن جزء منك، عن وطنك! ثمَّ ما أدراك أني بحاجة لمن يرعاني؟ أنا أستطيع أن أرعى قبيلة بأكملها. أُفضّل أن نكمل حديثنا ونحن نشرب الشاي فأنا بحاجة إلى قليل من الدفء.

نهض متوجهاً إلى زاوية الغرفة، بينما تابعت تجوال نظري داخل غرفته. وقفتُ طويلاً أمام صورة لفتاة في مقتبل العمر، عاد إليَّ وهو يدندن أغنية شعبية، لكنه صمت عندما رآني أنظر إلى تلك الصورة وقال:

·هذه ابنتي نور...

مئات من الصور تداعت أمامي تحولت جميعها إلى قطرات من الرصاص المنصهر لتنسكب على قلبي لتزيده حرقة وجوى. ولم أعرف كيف خرجت من عنده وكيف وصلت إلى البحر وألقيتُ بجثتي على رماله.



#محمد_صالح_الطحيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية
- زردشت
- أدب التوراة وفلسفتها
- أهل الكتاب
- موت أورشليم وبعثها
- المتطرفون الأولون عند اليهود
- رب الجنود عند اليهود
- إله ألخطايا
- النبي سليمان
- اليهود – الأرض الموعودة
- آلهة الأشوريين
- آلهة بابل
- الدين عند المصريين القدماء
- نشأت الأديان
- أخلاق الجنس
- الزواج
- الفن
- العلوم
- الآداب
- مهام الدين الخلقية


المزيد.....




- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد صالح الطحيني - ألنفي