|
سائق الحرب الأعمى الذي قاد العراقيين إلى عين العاصفة!
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 4989 - 2015 / 11 / 18 - 13:44
المحور:
الادب والفن
إن ما يُثير الانتباه في رواية "سائق الحرب الأعمى" للشاعر والروائي العراقي أسعد الجبوري هو جنوح مُبدعها إلى فضاءات غرائبية ومُتخيّلة حتى ليصعب على القارئ تصديقها وإن كانت منبثقة من نتوء واقعي مُوخِز. كما أن براعة الجبوري تكمن في إدارة الشخصيات، وتصعيد الأحداث، والوصول بها إلى ذُروة منطقية تحترم القارئ العضوي الذي يبحث في الأقل عن الصدق الفني حتى وإن ظلّ معلّقًا بين الخط الوهمي الفاصل بين الحقيقة والخيال. لا يكمن التحدي في الكتابة الإبداعية حينما يكتب الروائي عن موضوعات مألوفة يعرفها عن كثب فهي مُتاحة للجميع ومعروضة على قارعة الطريق وقد فقدت في الأعم الأغلب بريقها. أما التحدي الأصيل فيكمن في الكتابة عن ثيمات وشخصيات وأشياء لا يعرفها الكاتب، ولم يخض فيها من قبل، الأمر الذي سيوفر له ولقارئه الكثير من عناصر الترقّب والمفاجأة والإدهاش. وهذا ما فعله بالضبط أسعد الجبوري حيث استهل أحداث نصه الروائي من مدينة نيفادا الأميركية لنتعرف من خلال الفاكس الذي بعثته أديث لأهلها على عائلة أميركية ثرية جدًا لكنها مفككة وغريبة الأطوار. فأديث التي درست المثيولوجيا وانغمست في قراءة الأساطير قد وجدت لها زوجًا "إيروتيكيا" يُدعى وليم سوف تبتلعه رمال نيفادا المتحركة، ثم تبني لها قبرًا افتراضيًا في فناء القصر الكبير. الأب غرين رجل غني جدًا يفقد كل ثروته في رمشة عين عبر الإنترنيت حيث تبتلع بورصة الخليج العربي كل ما لديه من ثروات وأموال فيغمى عليه ويُنقل إلى المستشفى لينتهي به المطاف إلى مُقعَد يحتضنه كرسي كهربائي.أما زوجته جوليا فهي متورطة بمراسلة غالبية رجال المدينة والريف باسم مستعار وهو "روش" وقد أجبرت ولدها زولا على كتابة هذه الرسائل بخط يده. فأصبح واجب جوليا هو تحطيم قلوب الرجال وواجب غرين هو تحطيم الأسعار! تنطوي شخصية الابن زولا على نوع من الغموض فقد جعل منه الوالد مهندسًا زراعيًا مختصًا بالحشرات، فيما حولته الأم إلى كاتب لرسائلها الغرامية مستغلة منصبها كمديرة لدائرة البريد في المدينة. أما خادمة المنزل فوجي فسوف تروّض زولا جنسيًا قبل أن يجد طريقة إلى "عاصفة الصحراء" التي حررت الكويت من الغزو العراقي عام 1991. الثيمة المركزية لا شك في أن هذا النص الروائي يزخر بثيمات فرعية كثيرة ومهمة لكن الثيمة المركزية للزواحف المدرّعة هي الأكثر أهمية، بغض النظر عن صحة هذه القصة من عدمها، فالمتلقي لم يرَ هذه الزواحف التي تفرز مادة غريبة تُدّرِع أي جسمٍ تلامسه أو تحتّك به. من هنا فإن الحديث عن هذه الزواحف المدرعة التي لم تُصنّف بعد ينطوي على صدق فني يتقبله القارئ كشيئ أقرب إلى الحقيقة حتى وإن لم يُبرهَن علميا على الرغم من اعتقاد زولا بأن هذه الزواحف الغريبة هي من جنس الضُبّان أو الضِباب التي تنتمي إلى فصيلة العظايا والتي تعيش في الصحراء السعودية. لم يُرِد الجبوري أن يركِّز على الحرب التي كانت خاطفة أصلاً وإنما انصبّ تركيزه على الزواحف الصحراوية التي صوّرها زولا وكتب عنها بحثًا مطولاً نشره في مجلة "فلاش" الأميركية ليصبح أشهر من نارٍ على علم بحيث توجِّه له الحكومة العراقية الدعوة لزيارة العراق للتباحث بشأن الدراسة التي نشرها والوقوف على بعض ما ورد فيها من حقائق وتصورات. لابد من الإشارة إلى بذرة الشك التي زرعها الجبوري حينما قال بأن زولا قد عُين آمرًا لمفرزة الاستطلاع التابعة للكولونيل فوكسل بينما تمّ إهمال الجنديين المسلكيين كلاوس وتريام الأمر الذي يوحي بارتباطه بجهة استخبارية أميركية مهمة ربما تكون قد جندته لهذه المهمة أصلا. وعلى الرغم من الدمار الكبير الذي ألحقته "عاصفة الصحراء" بالعراق إلاّ أن هناك بعض المختبرات في أعماق الأرض لما تزل صالحة. ينفتح الفضاء الروائي لأول مرة على الشخصيات العراقية من بينها الدكتور قيس الذي كُلف بحماية زولا، ثم الدكتور موفق المختص بعلم البيولوجيا الذي سيرتب له اجتماعًا مع عدد من الأطباء البيطريين والبيولوجيين والكيمييائيين والمختصين بعلم السلالات لأن الدولة تريد أن توفر حماية إستراتيجية لهذه الزواحف المدرعة. كما أنها تريد أن تكلفه بجلب أعداد كبيرة من هذه الزواحف وهو الذي تعتبره شقيقته أديث العضو الزائد في العائلة ويمكن بترهُ دون الشعور بالأسف! تأخذ الرواية طابعًا تشويقيًا حينما تدخل المخاوف والكوابيس طرفًا في الثيمة الرئيسة حيث تتناهى إلى سمعه اتهامات خطيرة من بينها "كنت خسيسًا عندما وافقت أن تكون مُجندًا لـ CIA كما سنثبت لك بالحقائق والوقائع الدامغة" (ص)243. تجدر الإشارة إلى أن الجبوري يسلّط الضوء على المواطن العراقي المقموع من دون أن ينسى القامع من جهة، والمعتدي الأميركي من جهة أخرى حيث نقرأ: "لم نعد نعثر على شخص عراقي واحد سليم ومعافى. لقد شوّهت عاصفة الصحراء التربة والعقل والعواطف بالأسلحة الكيمياوية المحرّمة وسواها ولم تنجُ نخلة أو سمكة أو جنين أو حجر أثري من التشوّه الجيني" (ص243) صدرت الأوامر بتلقيح لواء من الجنود العراقيين بالمادة المُستخلصة لتدريع جلودهم لكنهم سرعان ما تحولوا إلى ما يشبه الروبوتات التي لا يمكن التفاهم معها. فاللقاح جعلهم عدوانيين ولا يستطيعون إقامة علاقة مع أي شخص غير ملقح بمن فيهم الدكتاتور نفسه. بذرة الشك تنمو البذرة التي زرعها المؤلف في منتصف الرواية باحتمالية كون زولا منتميًا إلى الـ CIA ونسمع فحواها يتردد على لسان د. موفق الذي تساءل متهمًا زولا: "ألم تكن تلك الزواحف فكرة أميركية؟" (ص267). وحينما يزداد التمرّد بين الجنود المُلقحين يأمر الدكتاتور بإعدامهم جميعًا. لم يكن الرئيس يعرف بأن ابنه قد قام بتلقيح عشرة آلاف من حرّاسه الشخصيين الذين وسّعوا من مساحة التمرد في مناطق أخرى من العاصمة الأمر الذي يدفعهُ للموافقة على أخذ اللقاح والقضاء على المتمردين وهذا يعني مغادرة طبيعة جسمه القديم "ليصبح أشبه بوحش مدرّع في بحيرة التماسيح"(ص 272). وقبل أن يقْدِم على هذه الخطوة يلقح أفراد الجيش، وعناصر الأمن، وأعضاء الحزب، والإعلاميين، والمغنين، كما يشمل التلقيح أفراد حمايته الذين بلغ عددهم 50 ألفًا انطفأت الشهوات في أجسادهم فهاجرت النساء مثل الطيور هجرات جماعية. وبعد عام من التلقيح تظهر تشققات مقززة ومرعبة على أجساد الملحقين ما عدا الدكتاتور الذي تلقح بعد شهرين فامتلأ قلبه رعبا. لم يسلم الدكتاتور من التشوه لكن العلماء اكتشفوا علاجًا بالمصادفة حينما سقطت بصقة أحد الطبيبين المتشاجرين على جلد جندي مصاب فاختفى التشقق مباشرة! هل يمكن تصديق هذه الفكرة؟ وهل أن بكتيريا البصاق قادرة فعلاً على إلحاق الهزيمة بهذا الوباء المروّع؟ وبما أن الأمر كذلك من وجهة نظر أسعد الجبوري فإن الأطباء سوف يدلكون جسد الدكتاتور ببصاق الشعب كل دقيقة وهو جالس على مكتبه الفخم. يتكشف مصير زولا كليًا حينما يحرره المُختطِفون من قيوده ويعلقونه بملاقط حديدية عملاقة على حبل غسيل في كهف مظلم تاركين إياه مع "أفظع أنواع الوحوش ضراوة: الصمت ومجموعة من الزواحف التي أتوا بها من الصحراء!"(ص282) لتنطوي صفحة "سائق الحرب الأعمى" الذي قاد البلاد والعباد إلى الهلاك.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدورة التاسعة لمهرجان لندن للفيلم الكردي
-
المفاجأة والتشويق في ذِئبة الحُب والكُتُب
-
رواية متشظيّة بتسع وحدات قصصية رشيقة
-
الباندا. . . الحيوان الأكثر فتنة وجمالاً على الأرض
-
ضعف السيناريو في فيلم قلوب متحدة لحسن كيراج
-
السخرية السوداء في مياه حازم كمال الدين المتصحِّرة
-
حكايتنا. . . فيلم عن السجون التركية في عهد الجنرالات
-
أدب السجون في تجربة الكاتب ياسين الحاج صالح
-
الدورة التاسعة والخمسون لمهرجان لندن السينمائي 2
-
الدورة 59 لمهرجان لندن السينمائي 1
-
نازك الملائكة وهاجس التجديد
-
كيف روّضت باريس الوحش النازي؟
-
استرجاع ذاكرة الطفولة والمكان في فيلم ما تبقى منكِ لي
-
الجيكولو في مخالب المتعة
-
الروائية العراقية سميرة المانع تترجم صباح الخير يا منتصف الل
...
-
قنبلة المخرج الأميركي رَشمور دينُويَر
-
بانتظار مامو. . . البطلة التي أخرجت 100 طفل من السجون النيبا
...
-
المخرج جوناثان هالبرين وموت عقد الستينات
-
محاكمة الفكرة المستحيلة في ليلة الهدهد
-
ومضات من السيرة الحياتية والشعرية لديلِن توماس في شريط سينما
...
المزيد.....
-
كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا
...
-
إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
-
سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال
...
-
الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
-
من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام
...
-
دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-.
...
-
-سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر
...
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|