أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميشيل حنا الحاج - الموقف السوفياتي المتذبذب بصدد عاصفة الصحراء















المزيد.....



الموقف السوفياتي المتذبذب بصدد عاصفة الصحراء


ميشيل حنا الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 4988 - 2015 / 11 / 17 - 02:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تنبيه
====
هذا ليس مقالا، بل هو الجزء الرابع من الفصل الثالث من كتابي القادم بعنوان (الاستراتيجية في نهاية مطافها)، عندما كان الأميركيون، بذريعة تحرير الكويت، يسعون لتحقيق الشرق الأوسط الجديد كخطوة في مضمار النظام الدولي الجديد المبني على أساس احادية القطب، اعتمادا منهم على ظهور بوادر الضعف على الاتحاد السوفياتي في ظل البيروسترويكا التي نادى بها جورباتشوف، اضافة لأسباب أخرى. وأنا أعتذر مرة اخرى عن الاطالة. فالمنشور ليس مقالا، بل دراسة تحتاج للتوسع والتفصيل.
======================


بطبيعة الحال، لم يعلم أحد بنوايا أو تفسيرات "جلاسبي" في مرحلة وقوع الأزمة، كما لم يحمله أحد محمل الجدّ بعد وقوع الحرب ثم ظهور "جلاسبي" أمام لجنة الكونجرس. فرغم تفسيرها ذاك حول علامات الحدود كسبب للنزاع، إستمرّ الكتّاب والمحللون يوردون عبارتها الشهيرة، ويتجاهلون مضمون تفسيرها لها أو لملابساتها، وكأنّ درجة الإقتناع بتفسيرها ذاك، كانت ضئيلة وربما معدومة.

وعلى أرض الواقع، فإنّ موقف وزارة الخارجية من "جلاسبي"، قد كشف، كنتيجة طبيعية للغموض الذي رافق سلوكها، ثم اختفاءها، وما تلاه من لخبطات وأحيانا تناقضات في أقوالها أمام لجنة الكونجرس... كشف ما كررته أنا أكثر من مرة، بأنّ شيئاً ما يكتنفْه الغموض، (وربما الغموض المتعمد)... قد كمن في ثنايا أقوالها للرئيس العراقي. كما دلّ على أنّ ما عنته حقاً ـفي أقوالها تلك ، كان شيئاً أكبر من مجرد "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية ". فهذا هو ما يفسّر إنزواءها الطويل والذي دام سبعة شهور وثلاثة أسابيع. فإشارة الى "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية "، لاتقتضي إنزواء كهذا. أمّا القول بأنّه "لا موقف لنا من الخلافات [ أو المنازعات ] الحدودية كخلافكم مع الكويت " ، فأمر غامض وقد يقتضي إنزواء كهذا، أبعدها تماما عن دائرة الضوء، وملاحقة رجال الاعلام الذين قد يكونون قادرين على استدراجها لقول ما لم ترغب الادارة الأميركية بقوله أو الكشف عنه.


ولقد كان إنزواؤها بموجب الحظر الذي فرضه "بيكر" بنفسه، إنزواءً وحظراً جدّياً، روعي بمنتهى الدقّة، لدرجة أنّ السناتور "أوينز" كان عاجزاً حتى عن الإتّصال بها هاتفياً كما ورد سابقا، وأنّ رغبات الكونجرس المتكرّرة في مثولها أمام لجانه، قد تمّ تجاهلها، فلم تجر الإستجابة اليها إلاّ بعد إنتهاء الأزمة وإنتهاء الحرب، أي بعد سبعة شهور وثلاثة أسابيع على عودتها الى واشنطن.

وقد إعترفت "جلاسبي" فيما بعد، بأنّ تعليمات " الإختفاء" أو الإنزواء، قد جاءت من وزير الخارجية نفسه. ونسبت "جلاسبي" أسبابها الى رغبة الإدارة بوجوب أن "تعلم قواتنا [ المسلّحة ] بأنّ الأمّة بكاملها تقف وراءهم. فهذا لم يكن الوقت المناسب للكلام حول أي شيء غير الهدف الذي كان أمامنا [أي الحرب ] " . ولم توضّح لما كان "كلامها" سيؤثّر في معنويات "قواتنا المسلحة" إذا كانت أقوالها أمام الرئيس العراقي لم تتضمن شيئاً سيئاً أو مشبوهاً تخجل منه.

ولكنّ أمراً آخر قد عزّز الإعتقاد في وجود بعض الغموض، وهو ذاك السعي الجدّي لإخفاء حقيقة مضمون الحوار، ورفض وزارة الخارجية الإفراج عن مضمون التعليمات التي بعثت بها ""لإبريل جلاسبي" في شهر تموز، أو الإفراج عن نصّ البرقية التي بعثت بها "جلاسبي" الى وزارة الخارجية في 25 تموز، متضمّنة قراءتها الشخصية لمجريات حوارها مع الرئيس العراقي. فوزارة الخارجية الأميركية، لم تفرج عن برقية "جلاسبي" لغايات إطلاع الرأي العام عليها، رغم القضية التي رفعت أمام المحكمة الفدرالية مطالبة بذلك. وهي لم تـكتـفِ بحجب السفيرة عن لجنة الكونجرس لمدّة سبعة شهور، بل حاولت أيضاً أن تحول دون إطّلاع اللجنة على مضمون تلك البرقية ولو على أسس السرّية التامّة، أي على أساس ألاّ يطّلع عليها إلاّ أعضاء اللجنة أنفسهم. .

فقد سألها السيناتور ستيفان سولارز (STEPHEN SOLARZ) : "هل تعارضين الآن في تسليم البرقية ]التي تضمنت تعليمات وزارة الخارجية لها عشية لقائها الشهير بصدام[ الى لجنة العلاقات الخارجية على أساس السريّة، إن كانت [السريّة] ضرورية، بحيث نستطيع الإطّلاع عليها...رفضت "جلاسبي" ذلك قائلة: " نعم سيدي. أنا أعترض لسبب أعتبره موجباً ... فخلال خمسة وعشرين عاماً من العمل الدبلوماسي، أنا لم أعلم شخصياً بحالة قامت فيها أيّة دولة، مهما كانت الإغراءات، بإصدار نصّ [ حوار ] كهذا .... عندما نبدأ بإصدار مذكّرات حول حوارات مع رؤساء الدول، أنا أعتقد بأنّها ستفسد سرّية إجراء هام جداً" . وردّ عليها السناتور "سولارز" قائلاً بأنّ "هذه اللجنة غالباً ما سُلِّمت برقيات تتضمّن مباحثات بين سفراء وزعماء أجانب، بما فيهم رؤساء الدول ... من الصعوبة أن نصف تسليم هذه البرقية الى اللجنة، بأنّها سابقة جديدة" .

ولقد طالب فعلاً "لي هاميلتون" - رئيس اللجنة ، بتسليم تلك البرقية والبرقيات الأخرى التي بعثت بها السفارة الأميركية في بغداد منذ عام 1989 . وعندما إطّلع بعض أعضاء الكونجرس على تلك البرقية المرسلة الى واشنطن، والتي تضّمنت تقرير "جلاسبي" الخاص حول مجريات حوارها مع " صدام "، ذكر أولئك السناتورات أنّ جلاسبي قد ضلّلتهم في شهادتها .

وقال السناتور آلن كرانستون (ALAN CRANSTON ) -ـ نائب كاليفورنيا، متّهماً: " لقد تعمّدت إبريل جلاسبي تضليل الكونجرس حول دورها في مأساة الخليج (الفارسي) " . كما أنّ السناتور "كليربورن بل" ( CLAIRBORNE PELL )، قد بعث برسالة غاضبة في 12 تموز1991 ، الى وزير الخارجية "مطالباً بتفسير لعدم التناسق بين شهادة جلاسبي ونصّ البرقية " .

ويقول كتاب "عاصفة الصحراء ـ الدروس التي تعلمناها " (DESERT STORM) الذي وضعه أساتـذة في مركـز الأبـحـاث الإستراتيجية الدولـيـة هم "مايكل مازار (M. MAZAAR) ، دون شنـايـدر (D. SNIDER) ، وجيمس بلاكـويـل (J. BLACKWELL JR) ( الذي عمل أيضاً كمحلّل عسكري لشبكة "سي أن أن" (CNN)،" أنّ مجموعة من برقيات وزارة الخارجية [الأميركية ] السريّة، قد نُشرت بعد عدة شهور من شهادتها [جلاسبي]، وبـيّـنت أنّها قد فعلت الشيء القليل لتعبّر عن جدّية الولايات المتحدة بخصوص تهديدات العراق للكويت. فالبرقيات التي أُرسلت من جلاسبي بعد لقائها صدام، تبيّن أنها قد كرّرت التعبير لصدام عن رغبة الإدارة الأميركية في علاقة أفضل، وعارضت الدخول في مواجهة مع الزعيم العراقي " . وقالت "جلاسبي" في إحدى البرقيات: "أعتقد أنّ أفضل نصيحة [أقولها]، هي تخفيف النقد العلني للعراق، الى أن نرى كيف ستتطوّر المفاوضات" .

ويبدو أنّ برقيات " جلاسبي" الى وزارة الخارجية التي أفرج عنها بناء على طلب أعضاء لجنة الكونجرس، لم يطّلع عليها إلاّ أولئك الأعضاء. وقد جرت المطالبة قضائياً بالإفراج الكامل عن مضمون برقية "جلاسبي" للخارجية الأميركية، بحيث يتسنّى للعامة الإطّلاع عليها أيضاً. لكنّ المحكمة الفدرالية، رفضت إصدار الأمر بذلك. ويقول "رامزي كلارك": "عندما قامت محكمة إتحادية، في نيسان 1991 بناء على إصرار الحكومة، برفض إصدار الأمر الى وزارة الخارجية [الأميركية[ للإفراج عن مذكّرة أبريل جلاسبي المؤرخة في 25 تموز 1990 ، حول إجتماعها بصدام حسين مباشرة قبل غزو العراق للكويت ـ ... لم تصدر صرخة عن الصحافة [الأميركية (تـتّهم الإدارة ) بالتغطية وتطالب بالمذكرة " .

ولكنّ البرقيات التي أفرج عنها من أجل إطلاع لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس، كانت فقط البرقيات المرسلة من "جلاسبي" الى وزارة الخارجية. أمّا برقية وزارة الخارجية الأميركية المرسلة الى "جلاسبي"، متضمّنة التعليمات التي تصرّفت "جلاسبي" بموجبها، فلم يفرج عنها قط.. فلا أحد يعلم نوعية التعليمات الحقيقية التي أعطيت لها من قبل وزير الخارجية الأميركية، أو من قبل من قام مقامه بإرسالها.

فما هو مضمون تلك التعليمات التي إضطرّت "بيكر" الى التـنصّل من إصدارها، أو توقيعها، أو مجرّد العلم بها. ولمَ رفضت الخارجية الأميركية الإفراج عنها؟ ترى ماذا تخفي تلك البرقية. وهل كانت التعليمات " لجلاسبي" تقضي بالرضاء الصريح من قبل الولايات المتحدة بدخول العراق الى الكويت، أم كانت تتضمّن شيئاً آخر.
فرغم الجدل الطويل، لم يحسم أحد ذاك الجدل حول ما إذا كانت الخارجية الأميركية عن طريق سفيرتها ، قد سعت عمداً أم نتيجة خطأ، الى خلق إنطباع كهذا لدى العراقيين .

**********

ولكنّ شهادة أخرى أمام لجنة الكونجرس - سابقة على شهادة "جلاسبي" أمام اللجنة المذكورة ، وقد أدلى بها هذه المرّة "جون كيلي" مساعد وزير الخارجية ، رجّحت إحتمال كون أقوال جلاسبي امام الرئيس العراقي، قبل مثول "كيلي" أمام لجنة الكونجرس بأيام، كانت مقصودة ومتعمدة السعي لترك ذاك الإنطباع لدى العراقـيين. ذلك أن شهادة "جون كيلي" قد عززت ذاك الانطباع دون أن تحاول نفيه ، ولو في مسعى لاستدراك وتصحيح الانطباع الخاطىء الذي تركته "جلاسبي" لدى صدام. وكما أثارت شهادة "جلاسبي" اللاحقة، ردود فعل غاضبة لدى عدد من السناتورات ، فإنّ شهادة ""كيلي" قد أثارت من قبلها ردود فعل مشابهة من قبل النائب "لي هاميلتون" وأعضاء لجنته .

ففي الواحد والثلاثين من تموز 1990 ، وبعد لقاء "جلاسبي" بالرئيس العراقي بستّة أيام فقط، وقبل أقلّ من أربع وعشرين ساعة على الإجتياح العراقي للكويت، وعندما كانت أنباء الحشود العراقية على حدود الكويت قد بلغت القاصي والداني، أدلى "جون كيلي" بشهادته الشهيرة تلك أمام لجنة الكونجرس .

فقد تحدّث عندئذٍ أمام اللجنة المذكورة، مجيباً على أسئلة أعضاء اللجنة. وكان النائب "لي هاميلتون" قد سأله: " قرأت في الصحافة قولاً لوزير الدفاع ريتشارد تشيني، يصرّح فيه أنّ الولايات المتحدة ملزمة بالدفاع عن الكويت إذا هوجمت. هل هذا ماقيل فعلاً ؟ هل يستطيع كيلي توضيح هذا الأمر" . فرد عليه "كيلي" قائلا: "لست مطّلعاً على هذا التصريح الذي تشير إليه. ولكنّي واثق من موقف الولايات المتحدة في هذه القضية. ليست لدينا معاهدة دفاع مع دول الخليج. هذا واضح " . وقد قال ذلك رغم أن هذا الوضوح لم يكن واضحا بما فيه الكفاية لوزير الدفاع "ديك تشيني" الذي صرح - كما قال "لي هاملتون" - بأن أميركا ملزمة بالدفاع عن الكويت، مما قد يفيد بوجود اتفاقية دفاعية سرية بين الكويت والولايات المتحدة. فهي اتفاقية سرية لم يعلن عنها، لأنه لو أعلن عنها وعلم العراق بوجودها، لربما فكر الرئيس صدام مليا قبل الاقدام على غزو الكويت. فهل تلك كانت اتفاقية جديدة عقدها للتو سرا "ديك تشيني" صاحب مخطط الشرق الأوسط الجديد... مع الكويت، (ولم يكن قد أبلغ بها بعد وزارة الحارجية الأميركية بدليل أن نائب وزير الخارجية "جون كيلي" لم يعلم بها بعد) كفصل أول من فصول سيناريو الاعداد الأميركي - التشيني... لاستدراج العراق للكويت؟

ولكنّ النائب هاميلتون، بعد حوار قصير مع " كيلي"، عاد ليسأله السؤال المحدّد: "ومع ذلك، إذا نشأ وضع كهذا [أي هجوم عراقي على الكويت]، فهل من الصحيح القول بأنّنا لانملك
معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة".
وردّ " كيلي" قائلاً :" هذا صحيح تماماً " . ثم أوضح "بأنّنا تاريخياً، لم نأخذ موقفاً من نزاعات حدودية " .

وعلّق الكاتبان "سالنجر ولوران" اللذان أوردا جزءاً من محضر الحوار في لجنة الكونجرس، فقالا بأنّ " شهادة "جون كيلي" كانت تذاع عبر الخدمة العالمية لإذاعة "بي بي سي" (BBC) التي تسمع في بغداد. ففي ساعة حرجة، بينما كان السلم والحرب يتأرجحان في الميزان، أرسل كيلي إلى صدام حسين إشارة يمكن قراءتها كضمانة أو تعهّد بأنّ الولايات لن تتدخّل " ، وقد أرسلها ضمن شهادة رسمية وعلنية، يرجّح أن تكون قد تمت بعد آداء القسم .

ويضيف "سالنجر ولوران" في كتابهما، تعليقاً آخر على أقوال "كيلي" المذاعة، قائلين : "في تاريخ الدبلوماسية الأميركية الحديث، هناك مثال آخر على الحسابات الخاطئة. هذا المثل هو بيان وزير الخارجية الأميركي دين اتشيسون أمام الكونجرس عام 1950، الذي قال فيه أنّ جنوب كوريا، ليست ضمن مناطق الحماية الأميركية. ذلك أنّ كوريا الشمالية، قد غزت كوريا الجنوبية بعد ذلك بفترة قصيرة " . فما أشبه اليوم بالبارحة على صعيد أساليب الاسترايجية الأميركية الغامضة.

ولكنّ الملاحظات على " شهادة كيلى"، لا يجوز أن تتوقّف عند ذاك الحد. فأمور كثيرة تشّد الإنتباه حولها :
1) كان " كيلي " يتحدّث بثـقة شديدة لا تترك مجالاً للشك في مدى ثقته في أقواله تلك . فهو يستخدم عبارات مؤكّدة بحزم مثل قوله "أنا واثق " ... " هذا واضح "... " هذا صحيح تماماً. لا معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة " . فلما أدخلت اذن بعد ذلك، وبشكل أكثر ضراوة من ادخالها في الحرب ضد كوريا قبل أربعة عقود؟

2) لم يكن " كيلي" يخاطب صحفيين في مؤتمر صحفي، كي يقال بأنّه من الممكن أن يحمّل أقواله عبارات تمويهية، او معانٍ لم يقصدها. بل كان يخاطب أعضاء من الكونجرس. ومن هنا، توجّب إفتراض الصدق فيما يقوله .

3) وهو لم يكن يخاطب أعضاء من الكونجرس، ضمن محاضرة عامة، أو في جلسة سمر، أو جلسة دردشة سياسية غير رسمية. فقد كان يخاطبهم أثناء إدلائه بشهادة رسمية، والأرجح بعد أداء القسم، مما يعزّز ضرورة إفتراض الصدق في أقواله..
ومن هنا، بدا من الطبيعي أن يقننع سامعوه، بمافيهم العراقيون، بأنّه " لايوجد معاهدات أو إلتزامات أمنية مع دول الخليج" ، وبأنّه إذا دخل العراق الى الكويت، فإن الولايات المتحدة "ليست مضطرةٍ الى إرسال قواتها الى هناك"، لأنّه "لاتوجد معاهدات أو إلتزامات"، وبأنّ الولايات المتحدة تاريخياً، "لم تأخذ موقفاً من نزاع حدود " .

ولقد قنع بذلك النائب "لي هاميلتن" ، رئيس لجنة الكونجرس الذي فوجىء بعد ذلك بأنّ الإدارة الأميركية قد أرسلت فـعلاً (قوات) الى الخليج، وبأنّها كانت معنيّة بالنزاع الحدودي. وتذكر مجلّة التايم في عددها الصادررفي الأول من تشرين أول 1990 ، بأنّ "لي هاميلتون" ، عندما إلتقى "بجون كيلي" في أوائل أيلول 1990، قد خاطبه مذكّراً: " لقد تركت [لدينا] الإنطباع بأنّ سياسة الولايات المتحدة كانت عدم الذهاب الى مساعدة الكويت " .

وكان "لي هاميلتون" بإنتقاده ذاك، هو أوّل رجالات الكونجرس الذين يبدون دهشتهم ، أنّ لم يكن إمتعاضهم من مضمون شهادات رجال الإدارة المضـلّلة أمام لجانهم. وقد إعترض بعده - كما سبق وذكرنا ، وبلهجة أكثر عنفاً، كل من "كليبورن بل" و" آلن كرانستون"، فضلاً عن سناتورات آخرين، منتقدين عدم الدقّة في شهادة "أبريل جلاسبي" .

ولكنّ تصريحات "لي هاميلتون" في أيلول 1990 ـ، إذا كانت هي تعليقاته الأولى المنتقدة لشهادة "جون كيلي"، فإنّها لم تكن تصريحاته الأخيرة. فهو قد تعرّض مرة أخرى لذات الموضوع في شهر آذار 1991 ــ أثناء إدلاء "جلاسبي" بشهادتها أمام لجنته .

فقد ذكّر بتصريحات "لمارجريت توتوايلر" ـفي 24 تموز 1990 ، نافية لوجود معاهدات دفاعية مع الكويت. وعـلّق النائب الأميركي ـ رئيس اللجنةـ.. قائلاً : " أنّ هذا السجّل، ليس سجلاً للوضوح الخالي من الغموض بالنسبة للموقف الأميركي. إنّه سجلّ أربكني شخصياً، وأربك اللجنة، وأربك جزءاً هاماً من صحافة واشنطن ، وقد لا أكون مغالياً إذا فكرت بأنّه ربما أربك صدام حسين أيضاً. فهو ليس سجلاًّ للوضوح، وللدقّة، وللبيانات غير الغامضة حول الموقف الأميركي في الخليج " .

وإعترف دبلوماسي أميركي بارز، مركزه في الشرق الأوسط لمجلّة نيوزويك (عددها الصادر في الأول من نيسان 1991) بالقول: "لو كنت جالساً حيث كان [صـدام] يجلس، وتلقيت كلّ هذه الإشارات التي تلقاها من واشنطن ومن جهات أخرى، فإنّه كان من المحتمل أن أقامر أنا أيضاً على غزو الكويت " .

ويقول "ريتشارد بايل" (Rithard Pyle) في كتابه، أنّ "الأسئلة تظلّ بدون حلول، حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ، من خلال سفيرتها ، قد شجّعت صدام بعفوية على إجتياح الكويت، بالتلميح أنّها لن تتدخّل" .

ويكرّر المضمون ذاته الأمير خالد بن سلطان في كتابه "محارب في الصحراء "، عندما يقول: " سواء عمداً أو لا [ أي خطأ ]، فإنّ هذه الإشارات الدبلوماسية الخاطئة، لابدّ أنّ تكون بدون شك ، قد شجّعت صدام على القيام بتحرّكه " العسكري، أي القيام بعملية الغزو.

والواقع أنّه قد يكون من المستغرب جدّاً أن تتوقع الإدارة الأميركية أن تترك أقوال توتوايلر" في 24 تموز، ثم أقوال "كيلي" في31 تموز، وبينهما أقوال "جلاسبي" في 25 تموز، إنطباعاً مختلفاً لدى الرئيس العراقي، طالما أنّ ذاك كان هو الإنطباع الذي تركته لدى الصحافة الأميركية، بل لدى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي الضالعة بالشؤون السياسية، بل ولدى رئيس اللّجنة نفسه الذي إعتاد الإستماع الى عشرات الشهادات، وكوّن الخبرة الكافية لتمييز الصادق فيها من الأقل صدقاً أو دقّة.

ومن هنا بات من الممكن القول، أنّ عبارات أولئك الديبلوماسيين الأميركيين الثلاثة، قد شكّلت حقاً "لصدام حسين" ضوءاً أخضر حقيقياً يتعذّر الشك في مضمونه. فقد يخطىء أحد أولئك السياسيين في صياغة عباراته، لكن هل من الممكن أن يخطىء ثلاثة من السياسيين الأميركيين المحترفين في التعبير عما يريدون قوله، أو في الرسالة.. او الرسائل، التي يريدون ارسالها للرئيس صدام..بل للعالم كله؟ وهي الرسائل التي تتالت سريعا كمشاهد مترابطة في سيناريو واحد، وخلال فترة زمنية قصيرة هي الرابع والعشرين من تموز (توتوايلر)، والواحد والثلاثين من تموز (جون كيلي).. وبينهما (جلاسبي) في 25 تموز... فقد كانت مجتمعة، ضوءاً أخضر له من الوهج والوضوح ما يكفي وأكثر، مما يجعل من المتعذّر أن تكون الإدراة الأميركية جاهلة بالآثار التي قد يفرزها ذاك الضوء الأخضر الذي رسمه للعراق ذاك السيناريو )التموزي( المدروس بتوقيتاته المتتالية والمترابطة ترابطا تاما وواضحا.

فإذا كان العراق قد وُضع خطأ أو عمداً تحت إنطباع كالإنطباع الذي خرج به النائب "لي هاميلتون " وآخرون، فقد بات من الطبيعي بعد ذلك ـ أنّ يقدّر العراق بأنّ تلك هي فرصته التي قد لاتعوض لتصفية حساباته مع أمراء الكويت الذين ، حسب إعتقاده ، قد قاتل إيران لثماني سنوات دفاعاً عنهم ؛ وبأنّ تلك هي أيضاً فرصته التاريخية لوضع مطالبه التاريخية في الكويت على المـحك؛ فإما أن يخرج منها بكامل الكويت، أو يخرج منها ـ في أدنى الإحتمالات ـ بتسوية إقليمية تمنحه منفذاً على البحر عبر جزيرتي "وربا وبوبيان"، فضلاً عن تسويات حدودية ومالية ونفطية مرضية .

ويعزز وجود التواطؤ والتخطيط لتنفيذ تلك الحرب على العراق، بل والسعي لضمان نجاحها، أن المملكة السعودية قد دفعت للاتحاد السوفياتي مبلغ ثلاثة مليارات دولار عشية الحرب، في رشوة غريبة من السعودية، وسلوك أغرب من الاتحاد السوفياتي الذي تقبلها ... مقابل وعد بامتناع الاتحاد السوفياتي (الذي كان آنئذ تحت قيادة جورباتشوف - صاحب نظرية "البيروسترويكا" التي شكلت لبنة في تدمير وتفكيك الاتحاد السوفياتي) ...عن تقديم العون العسكري أو السياسي للعراق خلال مرحلة الحرب. فهذا ما اعترف به "فكتور غراشينكو" - رئيس البنك المركزي في الاتحاد السوفياتي آنئذ، والذي قال في برنامج بعنوان "رحلة في الذاكرة" بثته قبل شهور قناة "روسيا اليوم". اذ قال في سياق البرنامج المذكور، بأنه قد سافر الى الرياض قبل الحرب، على رأس وفد سوفياتي، لتسلم المبلغ الذي وعدت به المملكة السعودية .. الاتحاد السوفياتي. وقد تسلم فعلا مليارا ونصف المليار نقدا، على أن يدفع النصف الثاني من المبلغ على أساس تسديد أثمان متطلبات سوفياتية لمعدات ذات علاقة باستخراج النفط. ويبدو أن التأخير المتعمد في تسديد النصف الثاني من المبلغ، كان لضمان تتنفيذ الاتحاد السوفياتي لوعده بعدم تقديم العون السياسي والعسكري للعراق خلال تلك الحرب.

وكان الرئيس بوش قد حاول اقناع "جورباتشوف" لدى الالتقاء به (كما ورد على لسان السفير الروسي الكسندر كالوبينك في حلقة من حلقات رحلة في الذاكرة)، بأن برسل قوات سوفياتية لتشارك الأميركيين وقوات التحالف، بعملية تحرير الكويت. لكن "جورباتشوف" رفض ذلك، في وقت قام فيه وزير الخارجية السوفياتي "شيفرناذه" بتقديم الدعم السياسي للموقف الأميركي في تعامله مع قضية غزو الكويت. وكان مرد ذلك وجود نوع من الحساسية بين "شيفرنادزه" والرئيس صدام نتيجة معاملة الرئيس العراقي لشفرنادزه بنوع من الازدراء والاستخفاف لدى زيارته لبغداد.

ويعزز دور الاتحاد السوفياتي السلبي في تلك الحرب، ما قاله أيضا "فلاديمير جيرنوفسكي" - زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي - المعروف بصداقته للرئيس الراحل صدام حسين... في لقاء آخر ضمن برنامج "رحلة في الذاكرة" الذي بثته منذ أكثر من عام قناة "روسيا اليوم" . اذ قال بأن الحكومة السوفياتية، وعندما كانت عاصفة الصحراء على أشدها، قد ارسلت الى بغداد، السياسي السوفياتي المخضرم "بريماكوف" في مهمة سياسية.

وأنا أذكر جيدا زيارة "يفغني بريماكوف" لبغداد التي وصلها بعد منتصف ليل الحادي عشر من شباط 1991. وقد أقام يومئذ في فندق الرشيد في الجناح 204 -206 المكون من ثلاث غرف. وكنت قد انتظرته برفقة المصور "خضير مجيد" على أمل وصوله مبكرا كما كان متوقعا. لكنه لأسباب مجهولة، تأخر وصوله برا الى بغداد الى ما بعد منتصف الليل. ولذا أسميت التقرير الذي أعد في تلك الليلة ب "زائر منتف الليل".

وكانت مهمة بريماكوف - زائر منتصف الليل - التي لم نعلم مضمونها يومئذ، تسعى كما قال بريجنسكي، الى اقناع صدام حسين بالاستقالة والتخلي عن قيادة البلاد، مقابل وعد بأن تتوقف الحرب فورا ضد العراق. ويقول "جيرنوفسكي" أن الرئيس العراقي قد انفجر في وجه "بريماكوف" قائلا بغضب: "أنتم تطلبون مني الآن التنحي...لماذا شجعتموني من قبل على حل مشكلتي مع الكويت بالأسلوب العسكري". ويؤكد جيرنوفسكي معلقا، بأن السوفيات قد شجعوا صدام على الدخول الى الكويت، كما تفيد معلوماته (التي ربما سمعها من صدام حسين الذي التقاه مرارا) بأن الولايات المتحدة أيضا قد قالت له: "أدخل"، مما يفيد أن الدخول العراقي الى الكويت، كما يستفاد من اقوال جيرنوفسكي، كان شركا مبيتا، ليس لصدام حسين وحده، بل للعراق وللعراقيين أيضا، كخطوة نحو شيء أكبر. وكان الشيء الأكبر، كما تبين تدريجيا، هو أن عاصفة الصحراء لم تكن قط لمجرد تحرير الكويت، بل أرادت أن تشكل اللبنة أو الخطوة الأولى نحو تشكيل الشرق الأوسط الجديد.

كل ما في الأمر، أن المخططين الأميركيين كعادتهم، قد ارتكبوا خطأ فادحا في حساباتهم، كما ورد في فصل سابق، لدى رسم استراتيجيتهم عام 1991، لايجاد الظروف الملائمة لخوض حرب مباشرة ضد العراق. وتمثل ذاك الخطأ الذي بات جوهريا، باهمال العامل الايراني، حيث تدخلت ايران في الحرب ساعية لاسقاط النظام العراقي، ولكن ليس تنفيذا للحسابات الأميركية، بل تحقيقا لمصالح ايران، التي وصل رجالها من حرس الثورة الايرانية المؤازرين بالمتمردين من بعض الشيعة العراقيين، الى منطقة تبعد أقل من مائة كيلومتر عن بغداد، (كما قال فكتور غراشينكو) سعيا منهم لاسقاط نظام صدام حسين، واحلال نظام موال لايران في موقعه.

ويضيف "فيكتور غراشنكو" مدير البنك المركزي السوفياتي خلال اللقاء الذي أجري معه في برنامج "رحلة في الذاكرة" السابق ذكره، أن الولايات المتحدة هي التي شجعت شيعة العراق على التمرد على الرئيس العراقي، ليشكلوا جبهة أخرى تقاتله في الداخل العراقي، عندما كانت قوات "عاصفة الصحراء" لا تزال تقاتله في الداخل الكويتي. الا أن حرس الثورة الايرانية سرعان ما تدخلوا الى جانب شيعة العراق، وسعوا لتحويل مجريات الحرب لمصلحة ايران، خلافا لما خططت له الولايات المتحدة.

فالولايات المتحدة عندئذ، ونتيجة ملاحظتها ما ارتكبته من خطأ في حساباتها، قد اضطرت لايقاف الحرب فجأة وبدون مقدمات، في الثامن والعشرين من شباط)، أي في اليوم الخامس والأربعين للشروع بالحرب، وهو ما سمي بالوقف العاصف لعاصفة الصحراء. وجاء ذلك خلافا لرؤية وزير الدفاع "ديك تشيني" الذي أراد استمرارها حتى الوصول الى بغداد، ونصيحة الجنرال شوارزكوف بمواصلة القتال لثمان وأربعين ساعة أخرى وازاء فشلهما في اقناع الرئيس "بوش الأب" و "كولين باول" - رئيس هيئة الأركان، بوجهة نظرهما في المضي قدما بالحرب حتى الوصول الى العاصمة العراقية، فقد سكت "ديك تشيني" على مضض، بل واضطر للسكوت طويلا نتيجة صفقة الديبلوماسية السرية التي عقدها الرئيس بوش الأب مع صدام حسين بوساطة سوفياتية تولاها "بوسفاليوك" السفير السوفياتي آنئ في بغداد، وتكونت الاتفاقية من ثلاثة بنود رئيسية هي:

1) وقف القتال فورا، واطلاق سراح الأسرى العراقيين فورا، مع السماح لصدام باستخدام طائرات الهليكوبتر في الجنوب العراقي الخاضع لحظر جوي تم تخفيفه نسبيا، بل واطلاق يد الاتحاد السوفياتي بتجديد السلاح العراقي الذي دمرته عاصفة الصحراء. وقد تم ذلك عبر جسر جوي من موسكو الى مطار المثنى في بغداد استمر ثلاثة أيام، ابتداء من الثامن من آذار وانتهاء بالعاشر منه. وقد سمعت بنفسي دوي الطائرات الروسية التي كونت الجسر الجوي، عندما كانت تحلق فوق فندق الرشيد في طريقها الى مطار المثنى القريب من الفندق حيث كنت أقيم طوال مرحلة الحرب وبعدها.
2) يستخدم العراق السلاح الجديد لمطاردة حرس الثورة الايراني وأنصارهم من الشيعة العراقيين، الى ما وراء الحدود العراقية الايرانية،
3) وخوفا من أن يغدر الأميركيون بالعراقيين، فيستأنفوا القتال ضد العراق بعد اكتمال مهمته في طرد الايرانيين وأنصارهم الى ما وراء الحدود، فقد اشترط الرئيس صدام الحصول على تعهد أميركي، شبيه بتعهدهم لكوبا عام 1962، بعدم التعرض لنظامه، أو السعي للتآمر عليه أو قلبه. وبالفعل قدم "بوش الأب" ذاك التعهد كما يبدو، ونتيجة ذلك بقي الرئيس صدام في كرسي الرئاسة حتى عام 2003، عندما نفذ "ديك تشيني" المرحلة الثانية من مخططه المدعوم من مجموعة الثمانية التي شكلت ما سمي بتكتل المحافظين الجدد...وهي المرحلة الثانية لتشكيل الشرق الأوسط الجديد، الذي فشلت حرب "عاصفة الصحراء" في تحقيقه.

ويعترف الرئيس "بوش الأب" - كما سبق وذكرت - في مذكراته التي صدرت حديثا، بأن "ديك تشيني"، في عهد رئاسة ابنه، قد شكل مع "دونالد رامسفيلد" وزير الدفاع،وباقي الأعضاء في مجموعة المحافظين الجدد، مجلس أمن قومي خاص به (كما وصفه الرئيس بوش) في البيت الأبيض، غير مجلس الأمن القومي الأميركي الرسمي... وهذا المجلس غير المعلن عنه رسميا، قد خطط لغزو العراق، ساعيا لاستكمال مخططه لايجاد شرق أوسط جديد، يفكك دول المنطقة الى دويلات صغيرة يمكن السيطرة عليها بسهولة، وقيادتها لما فيه مصالح الولايات المتحدة ومصلحة اسرائيل.

**********************
ملاحظة لا بد منها
===========
أنا أعلم بأن ربع قرن من الزمان قد مضى على تنفيذ "عاصفة الصحراء"، وقد نسيها الكثيرون، وربما لن يفيد الخوض مجددا في موضوعها خصوصا وأن عددا كبيرا من الكتاب قد ناقشوها سابقا وقتلوها بحثا ودراسة. الا أنه في اعتقادي أنها لم تناقش قط سابقا، وبشكل جدي ومتعمق، من منطلق أنها لم تكن حربا لتحرير الكويت التي كان يمكن تحريرها وانهاء عملية غزوها بوسائل سلمية وانسحاب عراقي يرضى به كل الأطراف. الا أن امكانية انهاء الأزمة سلميا، قد وضعت العراقيل في طريقها، مما يكشف بأن انهاء الغزو العراقي للكويت، لم يكن هو المبتغى من عاصفة الصحراء. فالمطلوب كان تدمير العراق وقواته العسكرية التي كانت تشكل الى جانب القوة العسكرية السورية، عائقا في طريق تشكيل الشرق الأوسط الجديد، وخطرا قد يحول دون بقاء اسرائيل.

ورغم أن ربع قرن قد مضى على تلك الحرب، وهو زمن كاف يأذن، كما جرى العرف الدولي، بـأن تكشف الادارة الأميركية الرسمية ما خفي من أسرارها، ومع ذلك لم تفعل بعد. فلم يكن هناك كشف واماطة لثام عن تلك الأسرار، بل ولم يكن هناك اعتراف واضح بوجود أسرار دفينة، باستثناء ما كشفه الرئيس بوش الأب في مذكراته الصادرة حديثا جدا (نهايات 2015) ، عن قيام تشيني ومجموعته من عصابة المحافظين الجدد، بتشكيل مجلس أمن قومي خاص بهم داخل البيت الأبيض، وهو المجلس الذي شجع "بوش الابن" على غزو العراق مستندا الى ذرائع واهية ثبت فيما بعد عدم صحتها، بل واعترف مؤخرا "توني بلير" - رئيس وزراء بريطانيا السابق، بعدم صحتها، وبأنه ارتكب خطأ في الانجراف وراءها. كما كشف الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" في حوار أجري معه ونشر مؤخرا في كتاب، عن أوهام وجود شياطين "هاجوج وماجوج" في بابل العراقية في رأس "بوش الابن" ،المضلل من "تشيني" ومجلس أمنه القومي الآخر والسري، ورغبته بالذهاب الى العراق لمقاتلتهم... أي مقاتلة أولئك الجن والشياطين.

وقبل المضي قدما في ايراد الحجج والبراهين على أن عاصفة الصحراء لم تكن حربا لتحرير الكويت، بل كانت حربا تسعى لوضع اللبنة الأولى في مخطط الشرق الأوسط الجديد، أود أن اوضح بأنني لست في معرض الدفاع عن الرئيس صدام حسين الذي لا يكن الكثيرون الود له. فأنا في معرض هذه العجالة من مناقشة الأسباب الحقيقية للحرب، والتي تشكل مرافعة، بل دفاعا حقوقيا وقانونيا أمام محكمة الراي العام الدولي، انما أدافع عن حق الشعب العراقي الذي قتل منه الآلاف، بل الملايين، سواء في حرب 1991 أو غزو 2003، مما يجعله صاحب حق قانوني بالمطالبة بالتعويضات، باعتباره الضحية لا الجلاد. بل وله الحق بالمطالبة باسترداد كل التعويضات التي اقطتعت من عائداته النفطية خلال الأعوام 1991 الى عام 2000، باعتبارها لم تكن تعويضات قانونية وعادلة، بل اقتطعت نتيجة ابتزاز أميركي لشعب العراق، بذريعة أن رئيسه كان جلادا وكان معتديا وغازيا لدولة أخرى.

وسوف أورد في نهاية الكتاب قائمة مطولة بعناوين الكتب التي استقيت منها الكثير من المعلومات والأسانيد، والتي كان بعضها القليل باللغة العرية، لكن أكثرها كتب باللغة الانجليزية، وضعها كتاب وباحثون مرموقون. كما استندت فيها الى أعداد من مجلتي التايم والنيوزويك وصحف أميركية اخرى، اضافة الى محاضر جلسات النقاش أمام لجان الكونجرس الأميركي، والى الكتب التي تضمنت مذكرات جيمس بيكر، شوارزكوف، كولين باول، الأمير خالد .. وكتب أخرى كثيرة (كذلك الى العديد من الفيديوهات والمقابلات الصحفية والتليفزيونية). وقد أمضيت سنوات في قراءتها (ومشاهدتها) والتمعن في دراسة مضمونها. وهذا يفسر أسباب صياغتي، واعادة صياغتي لهذا الكتاب مرارا .. والأسباب التي استدعت مواظبتي على تدقيقه وتمحيص مضمونه مرارا ، وعلى مدى أكثر من عشرين عاما من الزمان.

ميشيل حنا الحاج
عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية THINK TANK
عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن
كاتب في صفحات الحوار المتمدن - ص. مواضيع وأبحاث سياسية
عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية
عضو في رابطة الكتاب الأردنيين - الصفحة الرسمية
عضو في مجموعة شام بوك
عضو في مجموعة مشاهير مصر
عضو في مجموعات أخرى عديدة.


























.


تنبيه
====
هذا ليس مقالا، بل هو الجزء الرابع من الفصل الثالث من كتابي القادم بعنوان (الاستراتيجية في نهاية مطافها)، عندما كان الأميركيون، بذريعة تحرير الكويت، يسعون لتحقيق الشرق الأوسط الجديد كخطوة في مضمار النظام الدولي الجديد المبني على أساس احادية القطب، اعتمادا منهم على ظهور بوادر الضعف على الاتحاد السوفياتي في ظل البيروسترويكا التي نادى بها جورباتشوف، اضافة لأسباب أخرى. وأنا أعتذر مرة اخرى عن الاطالة. فالمنشور ليس مقالا، بل دراسة تحتاج للتوسع والتفصيل.
======================


بطبيعة الحال، لم يعلم أحد بنوايا أو تفسيرات "جلاسبي" في مرحلة وقوع الأزمة، كما لم يحمله أحد محمل الجدّ بعد وقوع الحرب ثم ظهور "جلاسبي" أمام لجنة الكونجرس. فرغم تفسيرها ذاك حول علامات الحدود كسبب للنزاع، إستمرّ الكتّاب والمحللون يوردون عبارتها الشهيرة، ويتجاهلون مضمون تفسيرها لها أو لملابساتها، وكأنّ درجة الإقتناع بتفسيرها ذاك، كانت ضئيلة وربما معدومة.

وعلى أرض الواقع، فإنّ موقف وزارة الخارجية من "جلاسبي"، قد كشف، كنتيجة طبيعية للغموض الذي رافق سلوكها، ثم اختفاءها، وما تلاه من لخبطات وأحيانا تناقضات في أقوالها أمام لجنة الكونجرس... كشف ما كررته أنا أكثر من مرة، بأنّ شيئاً ما يكتنفْه الغموض، (وربما الغموض المتعمد)... قد كمن في ثنايا أقوالها للرئيس العراقي. كما دلّ على أنّ ما عنته حقاً ـفي أقوالها تلك ، كان شيئاً أكبر من مجرد "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية ". فهذا هو ما يفسّر إنزواءها الطويل والذي دام سبعة شهور وثلاثة أسابيع. فإشارة الى "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية "، لاتقتضي إنزواء كهذا. أمّا القول بأنّه "لا موقف لنا من الخلافات [ أو المنازعات ] الحدودية كخلافكم مع الكويت " ، فأمر غامض وقد يقتضي إنزواء كهذا، أبعدها تماما عن دائرة الضوء، وملاحقة رجال الاعلام الذين قد يكونون قادرين على استدراجها لقول ما لم ترغب الادارة الأميركية بقوله أو الكشف عنه.


ولقد كان إنزواؤها بموجب الحظر الذي فرضه "بيكر" بنفسه، إنزواءً وحظراً جدّياً، روعي بمنتهى الدقّة، لدرجة أنّ السناتور "أوينز" كان عاجزاً حتى عن الإتّصال بها هاتفياً كما ورد سابقا، وأنّ رغبات الكونجرس المتكرّرة في مثولها أمام لجانه، قد تمّ تجاهلها، فلم تجر الإستجابة اليها إلاّ بعد إنتهاء الأزمة وإنتهاء الحرب، أي بعد سبعة شهور وثلاثة أسابيع على عودتها الى واشنطن.

وقد إعترفت "جلاسبي" فيما بعد، بأنّ تعليمات " الإختفاء" أو الإنزواء، قد جاءت من وزير الخارجية نفسه. ونسبت "جلاسبي" أسبابها الى رغبة الإدارة بوجوب أن "تعلم قواتنا [ المسلّحة ] بأنّ الأمّة بكاملها تقف وراءهم. فهذا لم يكن الوقت المناسب للكلام حول أي شيء غير الهدف الذي كان أمامنا [أي الحرب ] " . ولم توضّح لما كان "كلامها" سيؤثّر في معنويات "قواتنا المسلحة" إذا كانت أقوالها أمام الرئيس العراقي لم تتضمن شيئاً سيئاً أو مشبوهاً تخجل منه.

ولكنّ أمراً آخر قد عزّز الإعتقاد في وجود بعض الغموض، وهو ذاك السعي الجدّي لإخفاء حقيقة مضمون الحوار، ورفض وزارة الخارجية الإفراج عن مضمون التعليمات التي بعثت بها ""لإبريل جلاسبي" في شهر تموز، أو الإفراج عن نصّ البرقية التي بعثت بها "جلاسبي" الى وزارة الخارجية في 25 تموز، متضمّنة قراءتها الشخصية لمجريات حوارها مع الرئيس العراقي. فوزارة الخارجية الأميركية، لم تفرج عن برقية "جلاسبي" لغايات إطلاع الرأي العام عليها، رغم القضية التي رفعت أمام المحكمة الفدرالية مطالبة بذلك. وهي لم تـكتـفِ بحجب السفيرة عن لجنة الكونجرس لمدّة سبعة شهور، بل حاولت أيضاً أن تحول دون إطّلاع اللجنة على مضمون تلك البرقية ولو على أسس السرّية التامّة، أي على أساس ألاّ يطّلع عليها إلاّ أعضاء اللجنة أنفسهم. .

فقد سألها السيناتور ستيفان سولارز (STEPHEN SOLARZ) : "هل تعارضين الآن في تسليم البرقية ]التي تضمنت تعليمات وزارة الخارجية لها عشية لقائها الشهير بصدام[ الى لجنة العلاقات الخارجية على أساس السريّة، إن كانت [السريّة] ضرورية، بحيث نستطيع الإطّلاع عليها...رفضت "جلاسبي" ذلك قائلة: " نعم سيدي. أنا أعترض لسبب أعتبره موجباً ... فخلال خمسة وعشرين عاماً من العمل الدبلوماسي، أنا لم أعلم شخصياً بحالة قامت فيها أيّة دولة، مهما كانت الإغراءات، بإصدار نصّ [ حوار ] كهذا .... عندما نبدأ بإصدار مذكّرات حول حوارات مع رؤساء الدول، أنا أعتقد بأنّها ستفسد سرّية إجراء هام جداً" . وردّ عليها السناتور "سولارز" قائلاً بأنّ "هذه اللجنة غالباً ما سُلِّمت برقيات تتضمّن مباحثات بين سفراء وزعماء أجانب، بما فيهم رؤساء الدول ... من الصعوبة أن نصف تسليم هذه البرقية الى اللجنة، بأنّها سابقة جديدة" .

ولقد طالب فعلاً "لي هاميلتون" - رئيس اللجنة ، بتسليم تلك البرقية والبرقيات الأخرى التي بعثت بها السفارة الأميركية في بغداد منذ عام 1989 . وعندما إطّلع بعض أعضاء الكونجرس على تلك البرقية المرسلة الى واشنطن، والتي تضّمنت تقرير "جلاسبي" الخاص حول مجريات حوارها مع " صدام "، ذكر أولئك السناتورات أنّ جلاسبي قد ضلّلتهم في شهادتها .

وقال السناتور آلن كرانستون (ALAN CRANSTON ) -ـ نائب كاليفورنيا، متّهماً: " لقد تعمّدت إبريل جلاسبي تضليل الكونجرس حول دورها في مأساة الخليج (الفارسي) " . كما أنّ السناتور "كليربورن بل" ( CLAIRBORNE PELL )، قد بعث برسالة غاضبة في 12 تموز1991 ، الى وزير الخارجية "مطالباً بتفسير لعدم التناسق بين شهادة جلاسبي ونصّ البرقية " .

ويقول كتاب "عاصفة الصحراء ـ الدروس التي تعلمناها " (DESERT STORM) الذي وضعه أساتـذة في مركـز الأبـحـاث الإستراتيجية الدولـيـة هم "مايكل مازار (M. MAZAAR) ، دون شنـايـدر (D. SNIDER) ، وجيمس بلاكـويـل (J. BLACKWELL JR) ( الذي عمل أيضاً كمحلّل عسكري لشبكة "سي أن أن" (CNN)،" أنّ مجموعة من برقيات وزارة الخارجية [الأميركية ] السريّة، قد نُشرت بعد عدة شهور من شهادتها [جلاسبي]، وبـيّـنت أنّها قد فعلت الشيء القليل لتعبّر عن جدّية الولايات المتحدة بخصوص تهديدات العراق للكويت. فالبرقيات التي أُرسلت من جلاسبي بعد لقائها صدام، تبيّن أنها قد كرّرت التعبير لصدام عن رغبة الإدارة الأميركية في علاقة أفضل، وعارضت الدخول في مواجهة مع الزعيم العراقي " . وقالت "جلاسبي" في إحدى البرقيات: "أعتقد أنّ أفضل نصيحة [أقولها]، هي تخفيف النقد العلني للعراق، الى أن نرى كيف ستتطوّر المفاوضات" .

ويبدو أنّ برقيات " جلاسبي" الى وزارة الخارجية التي أفرج عنها بناء على طلب أعضاء لجنة الكونجرس، لم يطّلع عليها إلاّ أولئك الأعضاء. وقد جرت المطالبة قضائياً بالإفراج الكامل عن مضمون برقية "جلاسبي" للخارجية الأميركية، بحيث يتسنّى للعامة الإطّلاع عليها أيضاً. لكنّ المحكمة الفدرالية، رفضت إصدار الأمر بذلك. ويقول "رامزي كلارك": "عندما قامت محكمة إتحادية، في نيسان 1991 بناء على إصرار الحكومة، برفض إصدار الأمر الى وزارة الخارجية [الأميركية[ للإفراج عن مذكّرة أبريل جلاسبي المؤرخة في 25 تموز 1990 ، حول إجتماعها بصدام حسين مباشرة قبل غزو العراق للكويت ـ ... لم تصدر صرخة عن الصحافة [الأميركية (تـتّهم الإدارة ) بالتغطية وتطالب بالمذكرة " .

ولكنّ البرقيات التي أفرج عنها من أجل إطلاع لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس، كانت فقط البرقيات المرسلة من "جلاسبي" الى وزارة الخارجية. أمّا برقية وزارة الخارجية الأميركية المرسلة الى "جلاسبي"، متضمّنة التعليمات التي تصرّفت "جلاسبي" بموجبها، فلم يفرج عنها قط.. فلا أحد يعلم نوعية التعليمات الحقيقية التي أعطيت لها من قبل وزير الخارجية الأميركية، أو من قبل من قام مقامه بإرسالها.

فما هو مضمون تلك التعليمات التي إضطرّت "بيكر" الى التـنصّل من إصدارها، أو توقيعها، أو مجرّد العلم بها. ولمَ رفضت الخارجية الأميركية الإفراج عنها؟ ترى ماذا تخفي تلك البرقية. وهل كانت التعليمات " لجلاسبي" تقضي بالرضاء الصريح من قبل الولايات المتحدة بدخول العراق الى الكويت، أم كانت تتضمّن شيئاً آخر.
فرغم الجدل الطويل، لم يحسم أحد ذاك الجدل حول ما إذا كانت الخارجية الأميركية عن طريق سفيرتها ، قد سعت عمداً أم نتيجة خطأ، الى خلق إنطباع كهذا لدى العراقيين .

**********

ولكنّ شهادة أخرى أمام لجنة الكونجرس - سابقة على شهادة "جلاسبي" أمام اللجنة المذكورة ، وقد أدلى بها هذه المرّة "جون كيلي" مساعد وزير الخارجية ، رجّحت إحتمال كون أقوال جلاسبي امام الرئيس العراقي، قبل مثول "كيلي" أمام لجنة الكونجرس بأيام، كانت مقصودة ومتعمدة السعي لترك ذاك الإنطباع لدى العراقـيين. ذلك أن شهادة "جون كيلي" قد عززت ذاك الانطباع دون أن تحاول نفيه ، ولو في مسعى لاستدراك وتصحيح الانطباع الخاطىء الذي تركته "جلاسبي" لدى صدام. وكما أثارت شهادة "جلاسبي" اللاحقة، ردود فعل غاضبة لدى عدد من السناتورات ، فإنّ شهادة ""كيلي" قد أثارت من قبلها ردود فعل مشابهة من قبل النائب "لي هاميلتون" وأعضاء لجنته .

ففي الواحد والثلاثين من تموز 1990 ، وبعد لقاء "جلاسبي" بالرئيس العراقي بستّة أيام فقط، وقبل أقلّ من أربع وعشرين ساعة على الإجتياح العراقي للكويت، وعندما كانت أنباء الحشود العراقية على حدود الكويت قد بلغت القاصي والداني، أدلى "جون كيلي" بشهادته الشهيرة تلك أمام لجنة الكونجرس .

فقد تحدّث عندئذٍ أمام اللجنة المذكورة، مجيباً على أسئلة أعضاء اللجنة. وكان النائب "لي هاميلتون" قد سأله: " قرأت في الصحافة قولاً لوزير الدفاع ريتشارد تشيني، يصرّح فيه أنّ الولايات المتحدة ملزمة بالدفاع عن الكويت إذا هوجمت. هل هذا ماقيل فعلاً ؟ هل يستطيع كيلي توضيح هذا الأمر" . فرد عليه "كيلي" قائلا: "لست مطّلعاً على هذا التصريح الذي تشير إليه. ولكنّي واثق من موقف الولايات المتحدة في هذه القضية. ليست لدينا معاهدة دفاع مع دول الخليج. هذا واضح " . وقد قال ذلك رغم أن هذا الوضوح لم يكن واضحا بما فيه الكفاية لوزير الدفاع "ديك تشيني" الذي صرح - كما قال "لي هاملتون" - بأن أميركا ملزمة بالدفاع عن الكويت، مما قد يفيد بوجود اتفاقية دفاعية سرية بين الكويت والولايات المتحدة. فهي اتفاقية سرية لم يعلن عنها، لأنه لو أعلن عنها وعلم العراق بوجودها، لربما فكر الرئيس صدام مليا قبل الاقدام على غزو الكويت. فهل تلك كانت اتفاقية جديدة عقدها للتو سرا "ديك تشيني" صاحب مخطط الشرق الأوسط الجديد... مع الكويت، (ولم يكن قد أبلغ بها بعد وزارة الحارجية الأميركية بدليل أن نائب وزير الخارجية "جون كيلي" لم يعلم بها بعد) كفصل أول من فصول سيناريو الاعداد الأميركي - التشيني... لاستدراج العراق للكويت؟

ولكنّ النائب هاميلتون، بعد حوار قصير مع " كيلي"، عاد ليسأله السؤال المحدّد: "ومع ذلك، إذا نشأ وضع كهذا [أي هجوم عراقي على الكويت]، فهل من الصحيح القول بأنّنا لانملك
معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة".
وردّ " كيلي" قائلاً :" هذا صحيح تماماً " . ثم أوضح "بأنّنا تاريخياً، لم نأخذ موقفاً من نزاعات حدودية " .

وعلّق الكاتبان "سالنجر ولوران" اللذان أوردا جزءاً من محضر الحوار في لجنة الكونجرس، فقالا بأنّ " شهادة "جون كيلي" كانت تذاع عبر الخدمة العالمية لإذاعة "بي بي سي" (BBC) التي تسمع في بغداد. ففي ساعة حرجة، بينما كان السلم والحرب يتأرجحان في الميزان، أرسل كيلي إلى صدام حسين إشارة يمكن قراءتها كضمانة أو تعهّد بأنّ الولايات لن تتدخّل " ، وقد أرسلها ضمن شهادة رسمية وعلنية، يرجّح أن تكون قد تمت بعد آداء القسم .

ويضيف "سالنجر ولوران" في كتابهما، تعليقاً آخر على أقوال "كيلي" المذاعة، قائلين : "في تاريخ الدبلوماسية الأميركية الحديث، هناك مثال آخر على الحسابات الخاطئة. هذا المثل هو بيان وزير الخارجية الأميركي دين اتشيسون أمام الكونجرس عام 1950، الذي قال فيه أنّ جنوب كوريا، ليست ضمن مناطق الحماية الأميركية. ذلك أنّ كوريا الشمالية، قد غزت كوريا الجنوبية بعد ذلك بفترة قصيرة " . فما أشبه اليوم بالبارحة على صعيد أساليب الاسترايجية الأميركية الغامضة.

ولكنّ الملاحظات على " شهادة كيلى"، لا يجوز أن تتوقّف عند ذاك الحد. فأمور كثيرة تشّد الإنتباه حولها :
1) كان " كيلي " يتحدّث بثـقة شديدة لا تترك مجالاً للشك في مدى ثقته في أقواله تلك . فهو يستخدم عبارات مؤكّدة بحزم مثل قوله "أنا واثق " ... " هذا واضح "... " هذا صحيح تماماً. لا معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة " . فلما أدخلت اذن بعد ذلك، وبشكل أكثر ضراوة من ادخالها في الحرب ضد كوريا قبل أربعة عقود؟

2) لم يكن " كيلي" يخاطب صحفيين في مؤتمر صحفي، كي يقال بأنّه من الممكن أن يحمّل أقواله عبارات تمويهية، او معانٍ لم يقصدها. بل كان يخاطب أعضاء من الكونجرس. ومن هنا، توجّب إفتراض الصدق فيما يقوله .

3) وهو لم يكن يخاطب أعضاء من الكونجرس، ضمن محاضرة عامة، أو في جلسة سمر، أو جلسة دردشة سياسية غير رسمية. فقد كان يخاطبهم أثناء إدلائه بشهادة رسمية، والأرجح بعد أداء القسم، مما يعزّز ضرورة إفتراض الصدق في أقواله..
ومن هنا، بدا من الطبيعي أن يقننع سامعوه، بمافيهم العراقيون، بأنّه " لايوجد معاهدات أو إلتزامات أمنية مع دول الخليج" ، وبأنّه إذا دخل العراق الى الكويت، فإن الولايات المتحدة "ليست مضطرةٍ الى إرسال قواتها الى هناك"، لأنّه "لاتوجد معاهدات أو إلتزامات"، وبأنّ الولايات المتحدة تاريخياً، "لم تأخذ موقفاً من نزاع حدود " .

ولقد قنع بذلك النائب "لي هاميلتن" ، رئيس لجنة الكونجرس الذي فوجىء بعد ذلك بأنّ الإدارة الأميركية قد أرسلت فـعلاً (قوات) الى الخليج، وبأنّها كانت معنيّة بالنزاع الحدودي. وتذكر مجلّة التايم في عددها الصادررفي الأول من تشرين أول 1990 ، بأنّ "لي هاميلتون" ، عندما إلتقى "بجون كيلي" في أوائل أيلول 1990، قد خاطبه مذكّراً: " لقد تركت [لدينا] الإنطباع بأنّ سياسة الولايات المتحدة كانت عدم الذهاب الى مساعدة الكويت " .

وكان "لي هاميلتون" بإنتقاده ذاك، هو أوّل رجالات الكونجرس الذين يبدون دهشتهم ، أنّ لم يكن إمتعاضهم من مضمون شهادات رجال الإدارة المضـلّلة أمام لجانهم. وقد إعترض بعده - كما سبق وذكرنا ، وبلهجة أكثر عنفاً، كل من "كليبورن بل" و" آلن كرانستون"، فضلاً عن سناتورات آخرين، منتقدين عدم الدقّة في شهادة "أبريل جلاسبي" .

ولكنّ تصريحات "لي هاميلتون" في أيلول 1990 ـ، إذا كانت هي تعليقاته الأولى المنتقدة لشهادة "جون كيلي"، فإنّها لم تكن تصريحاته الأخيرة. فهو قد تعرّض مرة أخرى لذات الموضوع في شهر آذار 1991 ــ أثناء إدلاء "جلاسبي" بشهادتها أمام لجنته .

فقد ذكّر بتصريحات "لمارجريت توتوايلر" ـفي 24 تموز 1990 ، نافية لوجود معاهدات دفاعية مع الكويت. وعـلّق النائب الأميركي ـ رئيس اللجنةـ.. قائلاً : " أنّ هذا السجّل، ليس سجلاً للوضوح الخالي من الغموض بالنسبة للموقف الأميركي. إنّه سجلّ أربكني شخصياً، وأربك اللجنة، وأربك جزءاً هاماً من صحافة واشنطن ، وقد لا أكون مغالياً إذا فكرت بأنّه ربما أربك صدام حسين أيضاً. فهو ليس سجلاًّ للوضوح، وللدقّة، وللبيانات غير الغامضة حول الموقف الأميركي في الخليج " .

وإعترف دبلوماسي أميركي بارز، مركزه في الشرق الأوسط لمجلّة نيوزويك (عددها الصادر في الأول من نيسان 1991) بالقول: "لو كنت جالساً حيث كان [صـدام] يجلس، وتلقيت كلّ هذه الإشارات التي تلقاها من واشنطن ومن جهات أخرى، فإنّه كان من المحتمل أن أقامر أنا أيضاً على غزو الكويت " .

ويقول "ريتشارد بايل" (Rithard Pyle) في كتابه، أنّ "الأسئلة تظلّ بدون حلول، حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ، من خلال سفيرتها ، قد شجّعت صدام بعفوية على إجتياح الكويت، بالتلميح أنّها لن تتدخّل" .

ويكرّر المضمون ذاته الأمير خالد بن سلطان في كتابه "محارب في الصحراء "، عندما يقول: " سواء عمداً أو لا [ أي خطأ ]، فإنّ هذه الإشارات الدبلوماسية الخاطئة، لابدّ أنّ تكون بدون شك ، قد شجّعت صدام على القيام بتحرّكه " العسكري، أي القيام بعملية الغزو.

والواقع أنّه قد يكون من المستغرب جدّاً أن تتوقع الإدارة الأميركية أن تترك أقوال توتوايلر" في 24 تموز، ثم أقوال "كيلي" في31 تموز، وبينهما أقوال "جلاسبي" في 25 تموز، إنطباعاً مختلفاً لدى الرئيس العراقي، طالما أنّ ذاك كان هو الإنطباع الذي تركته لدى الصحافة الأميركية، بل لدى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي الضالعة بالشؤون السياسية، بل ولدى رئيس اللّجنة نفسه الذي إعتاد الإستماع الى عشرات الشهادات، وكوّن الخبرة الكافية لتمييز الصادق فيها من الأقل صدقاً أو دقّة.

ومن هنا بات من الممكن القول، أنّ عبارات أولئك الديبلوماسيين الأميركيين الثلاثة، قد شكّلت حقاً "لصدام حسين" ضوءاً أخضر حقيقياً يتعذّر الشك في مضمونه. فقد يخطىء أحد أولئك السياسيين في صياغة عباراته، لكن هل من الممكن أن يخطىء ثلاثة من السياسيين الأميركيين المحترفين في التعبير عما يريدون قوله، أو في الرسالة.. او الرسائل، التي يريدون ارسالها للرئيس صدام..بل للعالم كله؟ وهي الرسائل التي تتالت سريعا كمشاهد مترابطة في سيناريو واحد، وخلال فترة زمنية قصيرة هي الرابع والعشرين من تموز (توتوايلر)، والواحد والثلاثين من تموز (جون كيلي).. وبينهما (جلاسبي) في 25 تموز... فقد كانت مجتمعة، ضوءاً أخضر له من الوهج والوضوح ما يكفي وأكثر، مما يجعل من المتعذّر أن تكون الإدراة الأميركية جاهلة بالآثار التي قد يفرزها ذاك الضوء الأخضر الذي رسمه للعراق ذاك السيناريو )التموزي( المدروس بتوقيتاته المتتالية والمترابطة ترابطا تاما وواضحا.

فإذا كان العراق قد وُضع خطأ أو عمداً تحت إنطباع كالإنطباع الذي خرج به النائب "لي هاميلتون " وآخرون، فقد بات من الطبيعي بعد ذلك ـ أنّ يقدّر العراق بأنّ تلك هي فرصته التي قد لاتعوض لتصفية حساباته مع أمراء الكويت الذين ، حسب إعتقاده ، قد قاتل إيران لثماني سنوات دفاعاً عنهم ؛ وبأنّ تلك هي أيضاً فرصته التاريخية لوضع مطالبه التاريخية في الكويت على المـحك؛ فإما أن يخرج منها بكامل الكويت، أو يخرج منها ـ في أدنى الإحتمالات ـ بتسوية إقليمية تمنحه منفذاً على البحر عبر جزيرتي "وربا وبوبيان"، فضلاً عن تسويات حدودية ومالية ونفطية مرضية .

ويعزز وجود التواطؤ والتخطيط لتنفيذ تلك الحرب على العراق، بل والسعي لضمان نجاحها، أن المملكة السعودية قد دفعت للاتحاد السوفياتي مبلغ ثلاثة مليارات دولار عشية الحرب، في رشوة غريبة من السعودية، وسلوك أغرب من الاتحاد السوفياتي الذي تقبلها ... مقابل وعد بامتناع الاتحاد السوفياتي (الذي كان آنئذ تحت قيادة جورباتشوف - صاحب نظرية "البيروسترويكا" التي شكلت لبنة في تدمير وتفكيك الاتحاد السوفياتي) ...عن تقديم العون العسكري أو السياسي للعراق خلال مرحلة الحرب. فهذا ما اعترف به "فكتور غراشينكو" - رئيس البنك المركزي في الاتحاد السوفياتي آنئذ، والذي قال في برنامج بعنوان "رحلة في الذاكرة" بثته قبل شهور قناة "روسيا اليوم". اذ قال في سياق البرنامج المذكور، بأنه قد سافر الى الرياض قبل الحرب، على رأس وفد سوفياتي، لتسلم المبلغ الذي وعدت به المملكة السعودية .. الاتحاد السوفياتي. وقد تسلم فعلا مليارا ونصف المليار نقدا، على أن يدفع النصف الثاني من المبلغ على أساس تسديد أثمان متطلبات سوفياتية لمعدات ذات علاقة باستخراج النفط. ويبدو أن التأخير المتعمد في تسديد النصف الثاني من المبلغ، كان لضمان تتنفيذ الاتحاد السوفياتي لوعده بعدم تقديم العون السياسي والعسكري للعراق خلال تلك الحرب.

وكان الرئيس بوش قد حاول اقناع "جورباتشوف" لدى الالتقاء به (كما ورد على لسان السفير الروسي الكسندر كالوبينك في حلقة من حلقات رحلة في الذاكرة)، بأن برسل قوات سوفياتية لتشارك الأميركيين وقوات التحالف، بعملية تحرير الكويت. لكن "جورباتشوف" رفض ذلك، في وقت قام فيه وزير الخارجية السوفياتي "شيفرناذه" بتقديم الدعم السياسي للموقف الأميركي في تعامله مع قضية غزو الكويت. وكان مرد ذلك وجود نوع من الحساسية بين "شيفرنادزه" والرئيس صدام نتيجة معاملة الرئيس العراقي لشفرنادزه بنوع من الازدراء والاستخفاف لدى زيارته لبغداد.

ويعزز دور الاتحاد السوفياتي السلبي في تلك الحرب، ما قاله أيضا "فلاديمير جيرنوفسكي" - زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي - المعروف بصداقته للرئيس الراحل صدام حسين... في لقاء آخر ضمن برنامج "رحلة في الذاكرة" الذي بثته منذ أكثر من عام قناة "روسيا اليوم" . اذ قال بأن الحكومة السوفياتية، وعندما كانت عاصفة الصحراء على أشدها، قد ارسلت الى بغداد، السياسي السوفياتي المخضرم "بريماكوف" في مهمة سياسية.

وأنا أذكر جيدا زيارة "يفغني بريماكوف" لبغداد التي وصلها بعد منتصف ليل الحادي عشر من شباط 1991. وقد أقام يومئذ في فندق الرشيد في الجناح 204 -206 المكون من ثلاث غرف. وكنت قد انتظرته برفقة المصور "خضير مجيد" على أمل وصوله مبكرا كما كان متوقعا. لكنه لأسباب مجهولة، تأخر وصوله برا الى بغداد الى ما بعد منتصف الليل. ولذا أسميت التقرير الذي أعد في تلك الليلة ب "زائر منتف الليل".

وكانت مهمة بريماكوف - زائر منتصف الليل - التي لم نعلم مضمونها يومئذ، تسعى كما قال بريجنسكي، الى اقناع صدام حسين بالاستقالة والتخلي عن قيادة البلاد، مقابل وعد بأن تتوقف الحرب فورا ضد العراق. ويقول "جيرنوفسكي" أن الرئيس العراقي قد انفجر في وجه "بريماكوف" قائلا بغضب: "أنتم تطلبون مني الآن التنحي...لماذا شجعتموني من قبل على حل مشكلتي مع الكويت بالأسلوب العسكري". ويؤكد جيرنوفسكي معلقا، بأن السوفيات قد شجعوا صدام على الدخول الى الكويت، كما تفيد معلوماته (التي ربما سمعها من صدام حسين الذي التقاه مرارا) بأن الولايات المتحدة أيضا قد قالت له: "أدخل"، مما يفيد أن الدخول العراقي الى الكويت، كما يستفاد من اقوال جيرنوفسكي، كان شركا مبيتا، ليس لصدام حسين وحده، بل للعراق وللعراقيين أيضا، كخطوة نحو شيء أكبر. وكان الشيء الأكبر، كما تبين تدريجيا، هو أن عاصفة الصحراء لم تكن قط لمجرد تحرير الكويت، بل أرادت أن تشكل اللبنة أو الخطوة الأولى نحو تشكيل الشرق الأوسط الجديد.

كل ما في الأمر، أن المخططين الأميركيين كعادتهم، قد ارتكبوا خطأ فادحا في حساباتهم، كما ورد في فصل سابق، لدى رسم استراتيجيتهم عام 1991، لايجاد الظروف الملائمة لخوض حرب مباشرة ضد العراق. وتمثل ذاك الخطأ الذي بات جوهريا، باهمال العامل الايراني، حيث تدخلت ايران في الحرب ساعية لاسقاط النظام العراقي، ولكن ليس تنفيذا للحسابات الأميركية، بل تحقيقا لمصالح ايران، التي وصل رجالها من حرس الثورة الايرانية المؤازرين بالمتمردين من بعض الشيعة العراقيين، الى منطقة تبعد أقل من مائة كيلومتر عن بغداد، (كما قال فكتور غراشينكو) سعيا منهم لاسقاط نظام صدام حسين، واحلال نظام موال لايران في موقعه.

ويضيف "فيكتور غراشنكو" مدير البنك المركزي السوفياتي خلال اللقاء الذي أجري معه في برنامج "رحلة في الذاكرة" السابق ذكره، أن الولايات المتحدة هي التي شجعت شيعة العراق على التمرد على الرئيس العراقي، ليشكلوا جبهة أخرى تقاتله في الداخل العراقي، عندما كانت قوات "عاصفة الصحراء" لا تزال تقاتله في الداخل الكويتي. الا أن حرس الثورة الايرانية سرعان ما تدخلوا الى جانب شيعة العراق، وسعوا لتحويل مجريات الحرب لمصلحة ايران، خلافا لما خططت له الولايات المتحدة.

فالولايات المتحدة عندئذ، ونتيجة ملاحظتها ما ارتكبته من خطأ في حساباتها، قد اضطرت لايقاف الحرب فجأة وبدون مقدمات، في الثامن والعشرين من شباط)، أي في اليوم الخامس والأربعين للشروع بالحرب، وهو ما سمي بالوقف العاصف لعاصفة الصحراء. وجاء ذلك خلافا لرؤية وزير الدفاع "ديك تشيني" الذي أراد استمرارها حتى الوصول الى بغداد، ونصيحة الجنرال شوارزكوف بمواصلة القتال لثمان وأربعين ساعة أخرى وازاء فشلهما في اقناع الرئيس "بوش الأب" و "كولين باول" - رئيس هيئة الأركان، بوجهة نظرهما في المضي قدما بالحرب حتى الوصول الى العاصمة العراقية، فقد سكت "ديك تشيني" على مضض، بل واضطر للسكوت طويلا نتيجة صفقة الديبلوماسية السرية التي عقدها الرئيس بوش الأب مع صدام حسين بوساطة سوفياتية تولاها "بوسفاليوك" السفير السوفياتي آنئ في بغداد، وتكونت الاتفاقية من ثلاثة بنود رئيسية هي:

1) وقف القتال فورا، واطلاق سراح الأسرى العراقيين فورا، مع السماح لصدام باستخدام طائرات الهليكوبتر في الجنوب العراقي الخاضع لحظر جوي تم تخفيفه نسبيا، بل واطلاق يد الاتحاد السوفياتي بتجديد السلاح العراقي الذي دمرته عاصفة الصحراء. وقد تم ذلك عبر جسر جوي من موسكو الى مطار المثنى في بغداد استمر ثلاثة أيام، ابتداء من الثامن من آذار وانتهاء بالعاشر منه. وقد سمعت بنفسي دوي الطائرات الروسية التي كونت الجسر الجوي، عندما كانت تحلق فوق فندق الرشيد في طريقها الى مطار المثنى القريب من الفندق حيث كنت أقيم طوال مرحلة الحرب وبعدها.
2) يستخدم العراق السلاح الجديد لمطاردة حرس الثورة الايراني وأنصارهم من الشيعة العراقيين، الى ما وراء الحدود العراقية الايرانية،
3) وخوفا من أن يغدر الأميركيون بالعراقيين، فيستأنفوا القتال ضد العراق بعد اكتمال مهمته في طرد الايرانيين وأنصارهم الى ما وراء الحدود، فقد اشترط الرئيس صدام الحصول على تعهد أميركي، شبيه بتعهدهم لكوبا عام 1962، بعدم التعرض لنظامه، أو السعي للتآمر عليه أو قلبه. وبالفعل قدم "بوش الأب" ذاك التعهد كما يبدو، ونتيجة ذلك بقي الرئيس صدام في كرسي الرئاسة حتى عام 2003، عندما نفذ "ديك تشيني" المرحلة الثانية من مخططه المدعوم من مجموعة الثمانية التي شكلت ما سمي بتكتل المحافظين الجدد...وهي المرحلة الثانية لتشكيل الشرق الأوسط الجديد، الذي فشلت حرب "عاصفة الصحراء" في تحقيقه.

ويعترف الرئيس "بوش الأب" - كما سبق وذكرت - في مذكراته التي صدرت حديثا، بأن "ديك تشيني"، في عهد رئاسة ابنه، قد شكل مع "دونالد رامسفيلد" وزير الدفاع،وباقي الأعضاء في مجموعة المحافظين الجدد، مجلس أمن قومي خاص به (كما وصفه الرئيس بوش) في البيت الأبيض، غير مجلس الأمن القومي الأميركي الرسمي... وهذا المجلس غير المعلن عنه رسميا، قد خطط لغزو العراق، ساعيا لاستكمال مخططه لايجاد شرق أوسط جديد، يفكك دول المنطقة الى دويلات صغيرة يمكن السيطرة عليها بسهولة، وقيادتها لما فيه مصالح الولايات المتحدة ومصلحة اسرائيل.

**********************
ملاحظة لا بد منها
===========
أنا أعلم بأن ربع قرن من الزمان قد مضى على تنفيذ "عاصفة الصحراء"، وقد نسيها الكثيرون، وربما لن يفيد الخوض مجددا في موضوعها خصوصا وأن عددا كبيرا من الكتاب قد ناقشوها سابقا وقتلوها بحثا ودراسة. الا أنه في اعتقادي أنها لم تناقش قط سابقا، وبشكل جدي ومتعمق، من منطلق أنها لم تكن حربا لتحرير الكويت التي كان يمكن تحريرها وانهاء عملية غزوها بوسائل سلمية وانسحاب عراقي يرضى به كل الأطراف. الا أن امكانية انهاء الأزمة سلميا، قد وضعت العراقيل في طريقها، مما يكشف بأن انهاء الغزو العراقي للكويت، لم يكن هو المبتغى من عاصفة الصحراء. فالمطلوب كان تدمير العراق وقواته العسكرية التي كانت تشكل الى جانب القوة العسكرية السورية، عائقا في طريق تشكيل الشرق الأوسط الجديد، وخطرا قد يحول دون بقاء اسرائيل.

ورغم أن ربع قرن قد مضى على تلك الحرب، وهو زمن كاف يأذن، كما جرى العرف الدولي، بـأن تكشف الادارة الأميركية الرسمية ما خفي من أسرارها، ومع ذلك لم تفعل بعد. فلم يكن هناك كشف واماطة لثام عن تلك الأسرار، بل ولم يكن هناك اعتراف واضح بوجود أسرار دفينة، باستثناء ما كشفه الرئيس بوش الأب في مذكراته الصادرة حديثا جدا (نهايات 2015) ، عن قيام تشيني ومجموعته من عصابة المحافظين الجدد، بتشكيل مجلس أمن قومي خاص بهم داخل البيت الأبيض، وهو المجلس الذي شجع "بوش الابن" على غزو العراق مستندا الى ذرائع واهية ثبت فيما بعد عدم صحتها، بل واعترف مؤخرا "توني بلير" - رئيس وزراء بريطانيا السابق، بعدم صحتها، وبأنه ارتكب خطأ في الانجراف وراءها. كما كشف الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" في حوار أجري معه ونشر مؤخرا في كتاب، عن أوهام وجود شياطين "هاجوج وماجوج" في بابل العراقية في رأس "بوش الابن" ،المضلل من "تشيني" ومجلس أمنه القومي الآخر والسري، ورغبته بالذهاب الى العراق لمقاتلتهم... أي مقاتلة أولئك الجن والشياطين.

وقبل المضي قدما في ايراد الحجج والبراهين على أن عاصفة الصحراء لم تكن حربا لتحرير الكويت، بل كانت حربا تسعى لوضع اللبنة الأولى في مخطط الشرق الأوسط الجديد، أود أن اوضح بأنني لست في معرض الدفاع عن الرئيس صدام حسين الذي لا يكن الكثيرون الود له. فأنا في معرض هذه العجالة من مناقشة الأسباب الحقيقية للحرب، والتي تشكل مرافعة، بل دفاعا حقوقيا وقانونيا أمام محكمة الراي العام الدولي، انما أدافع عن حق الشعب العراقي الذي قتل منه الآلاف، بل الملايين، سواء في حرب 1991 أو غزو 2003، مما يجعله صاحب حق قانوني بالمطالبة بالتعويضات، باعتباره الضحية لا الجلاد. بل وله الحق بالمطالبة باسترداد كل التعويضات التي اقطتعت من عائداته النفطية خلال الأعوام 1991 الى عام 2000، باعتبارها لم تكن تعويضات قانونية وعادلة، بل اقتطعت نتيجة ابتزاز أميركي لشعب العراق، بذريعة أن رئيسه كان جلادا وكان معتديا وغازيا لدولة أخرى.

وسوف أورد في نهاية الكتاب قائمة مطولة بعناوين الكتب التي استقيت منها الكثير من المعلومات والأسانيد، والتي كان بعضها القليل باللغة العرية، لكن أكثرها كتب باللغة الانجليزية، وضعها كتاب وباحثون مرموقون. كما استندت فيها الى أعداد من مجلتي التايم والنيوزويك وصحف أميركية اخرى، اضافة الى محاضر جلسات النقاش أمام لجان الكونجرس الأميركي، والى الكتب التي تضمنت مذكرات جيمس بيكر، شوارزكوف، كولين باول، الأمير خالد .. وكتب أخرى كثيرة (كذلك الى العديد من الفيديوهات والمقابلات الصحفية والتليفزيونية). وقد أمضيت سنوات في قراءتها (ومشاهدتها) والتمعن في دراسة مضمونها. وهذا يفسر أسباب صياغتي، واعادة صياغتي لهذا الكتاب مرارا .. والأسباب التي استدعت مواظبتي على تدقيقه وتمحيص مضمونه مرارا ، وعلى مدى أكثر من عشرين عاما من الزمان.

ميشيل حنا الحاج
عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية THINK TANK
عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن
كاتب في صفحات الحوار المتمدن - ص. مواضيع وأبحاث سياسية
عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية
عضو في رابطة الكتاب الأردنيين - الصفحة الرسمية
عضو في مجموعة شام بوك
عضو في مجموعة مشاهير مصر
عضو في مجموعات أخرى عديدة.


























.


تنبيه
====
هذا ليس مقالا، بل هو الجزء الرابع من الفصل الثالث من كتابي القادم بعنوان (الاستراتيجية في نهاية مطافها)، عندما كان الأميركيون، بذريعة تحرير الكويت، يسعون لتحقيق الشرق الأوسط الجديد كخطوة في مضمار النظام الدولي الجديد المبني على أساس احادية القطب، اعتمادا منهم على ظهور بوادر الضعف على الاتحاد السوفياتي في ظل البيروسترويكا التي نادى بها جورباتشوف، اضافة لأسباب أخرى. وأنا أعتذر مرة اخرى عن الاطالة. فالمنشور ليس مقالا، بل دراسة تحتاج للتوسع والتفصيل.
======================


بطبيعة الحال، لم يعلم أحد بنوايا أو تفسيرات "جلاسبي" في مرحلة وقوع الأزمة، كما لم يحمله أحد محمل الجدّ بعد وقوع الحرب ثم ظهور "جلاسبي" أمام لجنة الكونجرس. فرغم تفسيرها ذاك حول علامات الحدود كسبب للنزاع، إستمرّ الكتّاب والمحللون يوردون عبارتها الشهيرة، ويتجاهلون مضمون تفسيرها لها أو لملابساتها، وكأنّ درجة الإقتناع بتفسيرها ذاك، كانت ضئيلة وربما معدومة.

وعلى أرض الواقع، فإنّ موقف وزارة الخارجية من "جلاسبي"، قد كشف، كنتيجة طبيعية للغموض الذي رافق سلوكها، ثم اختفاءها، وما تلاه من لخبطات وأحيانا تناقضات في أقوالها أمام لجنة الكونجرس... كشف ما كررته أنا أكثر من مرة، بأنّ شيئاً ما يكتنفْه الغموض، (وربما الغموض المتعمد)... قد كمن في ثنايا أقوالها للرئيس العراقي. كما دلّ على أنّ ما عنته حقاً ـفي أقوالها تلك ، كان شيئاً أكبر من مجرد "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية ". فهذا هو ما يفسّر إنزواءها الطويل والذي دام سبعة شهور وثلاثة أسابيع. فإشارة الى "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية "، لاتقتضي إنزواء كهذا. أمّا القول بأنّه "لا موقف لنا من الخلافات [ أو المنازعات ] الحدودية كخلافكم مع الكويت " ، فأمر غامض وقد يقتضي إنزواء كهذا، أبعدها تماما عن دائرة الضوء، وملاحقة رجال الاعلام الذين قد يكونون قادرين على استدراجها لقول ما لم ترغب الادارة الأميركية بقوله أو الكشف عنه.


ولقد كان إنزواؤها بموجب الحظر الذي فرضه "بيكر" بنفسه، إنزواءً وحظراً جدّياً، روعي بمنتهى الدقّة، لدرجة أنّ السناتور "أوينز" كان عاجزاً حتى عن الإتّصال بها هاتفياً كما ورد سابقا، وأنّ رغبات الكونجرس المتكرّرة في مثولها أمام لجانه، قد تمّ تجاهلها، فلم تجر الإستجابة اليها إلاّ بعد إنتهاء الأزمة وإنتهاء الحرب، أي بعد سبعة شهور وثلاثة أسابيع على عودتها الى واشنطن.

وقد إعترفت "جلاسبي" فيما بعد، بأنّ تعليمات " الإختفاء" أو الإنزواء، قد جاءت من وزير الخارجية نفسه. ونسبت "جلاسبي" أسبابها الى رغبة الإدارة بوجوب أن "تعلم قواتنا [ المسلّحة ] بأنّ الأمّة بكاملها تقف وراءهم. فهذا لم يكن الوقت المناسب للكلام حول أي شيء غير الهدف الذي كان أمامنا [أي الحرب ] " . ولم توضّح لما كان "كلامها" سيؤثّر في معنويات "قواتنا المسلحة" إذا كانت أقوالها أمام الرئيس العراقي لم تتضمن شيئاً سيئاً أو مشبوهاً تخجل منه.

ولكنّ أمراً آخر قد عزّز الإعتقاد في وجود بعض الغموض، وهو ذاك السعي الجدّي لإخفاء حقيقة مضمون الحوار، ورفض وزارة الخارجية الإفراج عن مضمون التعليمات التي بعثت بها ""لإبريل جلاسبي" في شهر تموز، أو الإفراج عن نصّ البرقية التي بعثت بها "جلاسبي" الى وزارة الخارجية في 25 تموز، متضمّنة قراءتها الشخصية لمجريات حوارها مع الرئيس العراقي. فوزارة الخارجية الأميركية، لم تفرج عن برقية "جلاسبي" لغايات إطلاع الرأي العام عليها، رغم القضية التي رفعت أمام المحكمة الفدرالية مطالبة بذلك. وهي لم تـكتـفِ بحجب السفيرة عن لجنة الكونجرس لمدّة سبعة شهور، بل حاولت أيضاً أن تحول دون إطّلاع اللجنة على مضمون تلك البرقية ولو على أسس السرّية التامّة، أي على أساس ألاّ يطّلع عليها إلاّ أعضاء اللجنة أنفسهم. .

فقد سألها السيناتور ستيفان سولارز (STEPHEN SOLARZ) : "هل تعارضين الآن في تسليم البرقية ]التي تضمنت تعليمات وزارة الخارجية لها عشية لقائها الشهير بصدام[ الى لجنة العلاقات الخارجية على أساس السريّة، إن كانت [السريّة] ضرورية، بحيث نستطيع الإطّلاع عليها...رفضت "جلاسبي" ذلك قائلة: " نعم سيدي. أنا أعترض لسبب أعتبره موجباً ... فخلال خمسة وعشرين عاماً من العمل الدبلوماسي، أنا لم أعلم شخصياً بحالة قامت فيها أيّة دولة، مهما كانت الإغراءات، بإصدار نصّ [ حوار ] كهذا .... عندما نبدأ بإصدار مذكّرات حول حوارات مع رؤساء الدول، أنا أعتقد بأنّها ستفسد سرّية إجراء هام جداً" . وردّ عليها السناتور "سولارز" قائلاً بأنّ "هذه اللجنة غالباً ما سُلِّمت برقيات تتضمّن مباحثات بين سفراء وزعماء أجانب، بما فيهم رؤساء الدول ... من الصعوبة أن نصف تسليم هذه البرقية الى اللجنة، بأنّها سابقة جديدة" .

ولقد طالب فعلاً "لي هاميلتون" - رئيس اللجنة ، بتسليم تلك البرقية والبرقيات الأخرى التي بعثت بها السفارة الأميركية في بغداد منذ عام 1989 . وعندما إطّلع بعض أعضاء الكونجرس على تلك البرقية المرسلة الى واشنطن، والتي تضّمنت تقرير "جلاسبي" الخاص حول مجريات حوارها مع " صدام "، ذكر أولئك السناتورات أنّ جلاسبي قد ضلّلتهم في شهادتها .

وقال السناتور آلن كرانستون (ALAN CRANSTON ) -ـ نائب كاليفورنيا، متّهماً: " لقد تعمّدت إبريل جلاسبي تضليل الكونجرس حول دورها في مأساة الخليج (الفارسي) " . كما أنّ السناتور "كليربورن بل" ( CLAIRBORNE PELL )، قد بعث برسالة غاضبة في 12 تموز1991 ، الى وزير الخارجية "مطالباً بتفسير لعدم التناسق بين شهادة جلاسبي ونصّ البرقية " .

ويقول كتاب "عاصفة الصحراء ـ الدروس التي تعلمناها " (DESERT STORM) الذي وضعه أساتـذة في مركـز الأبـحـاث الإستراتيجية الدولـيـة هم "مايكل مازار (M. MAZAAR) ، دون شنـايـدر (D. SNIDER) ، وجيمس بلاكـويـل (J. BLACKWELL JR) ( الذي عمل أيضاً كمحلّل عسكري لشبكة "سي أن أن" (CNN)،" أنّ مجموعة من برقيات وزارة الخارجية [الأميركية ] السريّة، قد نُشرت بعد عدة شهور من شهادتها [جلاسبي]، وبـيّـنت أنّها قد فعلت الشيء القليل لتعبّر عن جدّية الولايات المتحدة بخصوص تهديدات العراق للكويت. فالبرقيات التي أُرسلت من جلاسبي بعد لقائها صدام، تبيّن أنها قد كرّرت التعبير لصدام عن رغبة الإدارة الأميركية في علاقة أفضل، وعارضت الدخول في مواجهة مع الزعيم العراقي " . وقالت "جلاسبي" في إحدى البرقيات: "أعتقد أنّ أفضل نصيحة [أقولها]، هي تخفيف النقد العلني للعراق، الى أن نرى كيف ستتطوّر المفاوضات" .

ويبدو أنّ برقيات " جلاسبي" الى وزارة الخارجية التي أفرج عنها بناء على طلب أعضاء لجنة الكونجرس، لم يطّلع عليها إلاّ أولئك الأعضاء. وقد جرت المطالبة قضائياً بالإفراج الكامل عن مضمون برقية "جلاسبي" للخارجية الأميركية، بحيث يتسنّى للعامة الإطّلاع عليها أيضاً. لكنّ المحكمة الفدرالية، رفضت إصدار الأمر بذلك. ويقول "رامزي كلارك": "عندما قامت محكمة إتحادية، في نيسان 1991 بناء على إصرار الحكومة، برفض إصدار الأمر الى وزارة الخارجية [الأميركية[ للإفراج عن مذكّرة أبريل جلاسبي المؤرخة في 25 تموز 1990 ، حول إجتماعها بصدام حسين مباشرة قبل غزو العراق للكويت ـ ... لم تصدر صرخة عن الصحافة [الأميركية (تـتّهم الإدارة ) بالتغطية وتطالب بالمذكرة " .

ولكنّ البرقيات التي أفرج عنها من أجل إطلاع لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس، كانت فقط البرقيات المرسلة من "جلاسبي" الى وزارة الخارجية. أمّا برقية وزارة الخارجية الأميركية المرسلة الى "جلاسبي"، متضمّنة التعليمات التي تصرّفت "جلاسبي" بموجبها، فلم يفرج عنها قط.. فلا أحد يعلم نوعية التعليمات الحقيقية التي أعطيت لها من قبل وزير الخارجية الأميركية، أو من قبل من قام مقامه بإرسالها.

فما هو مضمون تلك التعليمات التي إضطرّت "بيكر" الى التـنصّل من إصدارها، أو توقيعها، أو مجرّد العلم بها. ولمَ رفضت الخارجية الأميركية الإفراج عنها؟ ترى ماذا تخفي تلك البرقية. وهل كانت التعليمات " لجلاسبي" تقضي بالرضاء الصريح من قبل الولايات المتحدة بدخول العراق الى الكويت، أم كانت تتضمّن شيئاً آخر.
فرغم الجدل الطويل، لم يحسم أحد ذاك الجدل حول ما إذا كانت الخارجية الأميركية عن طريق سفيرتها ، قد سعت عمداً أم نتيجة خطأ، الى خلق إنطباع كهذا لدى العراقيين .

**********

ولكنّ شهادة أخرى أمام لجنة الكونجرس - سابقة على شهادة "جلاسبي" أمام اللجنة المذكورة ، وقد أدلى بها هذه المرّة "جون كيلي" مساعد وزير الخارجية ، رجّحت إحتمال كون أقوال جلاسبي امام الرئيس العراقي، قبل مثول "كيلي" أمام لجنة الكونجرس بأيام، كانت مقصودة ومتعمدة السعي لترك ذاك الإنطباع لدى العراقـيين. ذلك أن شهادة "جون كيلي" قد عززت ذاك الانطباع دون أن تحاول نفيه ، ولو في مسعى لاستدراك وتصحيح الانطباع الخاطىء الذي تركته "جلاسبي" لدى صدام. وكما أثارت شهادة "جلاسبي" اللاحقة، ردود فعل غاضبة لدى عدد من السناتورات ، فإنّ شهادة ""كيلي" قد أثارت من قبلها ردود فعل مشابهة من قبل النائب "لي هاميلتون" وأعضاء لجنته .

ففي الواحد والثلاثين من تموز 1990 ، وبعد لقاء "جلاسبي" بالرئيس العراقي بستّة أيام فقط، وقبل أقلّ من أربع وعشرين ساعة على الإجتياح العراقي للكويت، وعندما كانت أنباء الحشود العراقية على حدود الكويت قد بلغت القاصي والداني، أدلى "جون كيلي" بشهادته الشهيرة تلك أمام لجنة الكونجرس .

فقد تحدّث عندئذٍ أمام اللجنة المذكورة، مجيباً على أسئلة أعضاء اللجنة. وكان النائب "لي هاميلتون" قد سأله: " قرأت في الصحافة قولاً لوزير الدفاع ريتشارد تشيني، يصرّح فيه أنّ الولايات المتحدة ملزمة بالدفاع عن الكويت إذا هوجمت. هل هذا ماقيل فعلاً ؟ هل يستطيع كيلي توضيح هذا الأمر" . فرد عليه "كيلي" قائلا: "لست مطّلعاً على هذا التصريح الذي تشير إليه. ولكنّي واثق من موقف الولايات المتحدة في هذه القضية. ليست لدينا معاهدة دفاع مع دول الخليج. هذا واضح " . وقد قال ذلك رغم أن هذا الوضوح لم يكن واضحا بما فيه الكفاية لوزير الدفاع "ديك تشيني" الذي صرح - كما قال "لي هاملتون" - بأن أميركا ملزمة بالدفاع عن الكويت، مما قد يفيد بوجود اتفاقية دفاعية سرية بين الكويت والولايات المتحدة. فهي اتفاقية سرية لم يعلن عنها، لأنه لو أعلن عنها وعلم العراق بوجودها، لربما فكر الرئيس صدام مليا قبل الاقدام على غزو الكويت. فهل تلك كانت اتفاقية جديدة عقدها للتو سرا "ديك تشيني" صاحب مخطط الشرق الأوسط الجديد... مع الكويت، (ولم يكن قد أبلغ بها بعد وزارة الحارجية الأميركية بدليل أن نائب وزير الخارجية "جون كيلي" لم يعلم بها بعد) كفصل أول من فصول سيناريو الاعداد الأميركي - التشيني... لاستدراج العراق للكويت؟

ولكنّ النائب هاميلتون، بعد حوار قصير مع " كيلي"، عاد ليسأله السؤال المحدّد: "ومع ذلك، إذا نشأ وضع كهذا [أي هجوم عراقي على الكويت]، فهل من الصحيح القول بأنّنا لانملك
معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة".
وردّ " كيلي" قائلاً :" هذا صحيح تماماً " . ثم أوضح "بأنّنا تاريخياً، لم نأخذ موقفاً من نزاعات حدودية " .

وعلّق الكاتبان "سالنجر ولوران" اللذان أوردا جزءاً من محضر الحوار في لجنة الكونجرس، فقالا بأنّ " شهادة "جون كيلي" كانت تذاع عبر الخدمة العالمية لإذاعة "بي بي سي" (BBC) التي تسمع في بغداد. ففي ساعة حرجة، بينما كان السلم والحرب يتأرجحان في الميزان، أرسل كيلي إلى صدام حسين إشارة يمكن قراءتها كضمانة أو تعهّد بأنّ الولايات لن تتدخّل " ، وقد أرسلها ضمن شهادة رسمية وعلنية، يرجّح أن تكون قد تمت بعد آداء القسم .

ويضيف "سالنجر ولوران" في كتابهما، تعليقاً آخر على أقوال "كيلي" المذاعة، قائلين : "في تاريخ الدبلوماسية الأميركية الحديث، هناك مثال آخر على الحسابات الخاطئة. هذا المثل هو بيان وزير الخارجية الأميركي دين اتشيسون أمام الكونجرس عام 1950، الذي قال فيه أنّ جنوب كوريا، ليست ضمن مناطق الحماية الأميركية. ذلك أنّ كوريا الشمالية، قد غزت كوريا الجنوبية بعد ذلك بفترة قصيرة " . فما أشبه اليوم بالبارحة على صعيد أساليب الاسترايجية الأميركية الغامضة.

ولكنّ الملاحظات على " شهادة كيلى"، لا يجوز أن تتوقّف عند ذاك الحد. فأمور كثيرة تشّد الإنتباه حولها :
1) كان " كيلي " يتحدّث بثـقة شديدة لا تترك مجالاً للشك في مدى ثقته في أقواله تلك . فهو يستخدم عبارات مؤكّدة بحزم مثل قوله "أنا واثق " ... " هذا واضح "... " هذا صحيح تماماً. لا معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة " . فلما أدخلت اذن بعد ذلك، وبشكل أكثر ضراوة من ادخالها في الحرب ضد كوريا قبل أربعة عقود؟

2) لم يكن " كيلي" يخاطب صحفيين في مؤتمر صحفي، كي يقال بأنّه من الممكن أن يحمّل أقواله عبارات تمويهية، او معانٍ لم يقصدها. بل كان يخاطب أعضاء من الكونجرس. ومن هنا، توجّب إفتراض الصدق فيما يقوله .

3) وهو لم يكن يخاطب أعضاء من الكونجرس، ضمن محاضرة عامة، أو في جلسة سمر، أو جلسة دردشة سياسية غير رسمية. فقد كان يخاطبهم أثناء إدلائه بشهادة رسمية، والأرجح بعد أداء القسم، مما يعزّز ضرورة إفتراض الصدق في أقواله..
ومن هنا، بدا من الطبيعي أن يقننع سامعوه، بمافيهم العراقيون، بأنّه " لايوجد معاهدات أو إلتزامات أمنية مع دول الخليج" ، وبأنّه إذا دخل العراق الى الكويت، فإن الولايات المتحدة "ليست مضطرةٍ الى إرسال قواتها الى هناك"، لأنّه "لاتوجد معاهدات أو إلتزامات"، وبأنّ الولايات المتحدة تاريخياً، "لم تأخذ موقفاً من نزاع حدود " .

ولقد قنع بذلك النائب "لي هاميلتن" ، رئيس لجنة الكونجرس الذي فوجىء بعد ذلك بأنّ الإدارة الأميركية قد أرسلت فـعلاً (قوات) الى الخليج، وبأنّها كانت معنيّة بالنزاع الحدودي. وتذكر مجلّة التايم في عددها الصادررفي الأول من تشرين أول 1990 ، بأنّ "لي هاميلتون" ، عندما إلتقى "بجون كيلي" في أوائل أيلول 1990، قد خاطبه مذكّراً: " لقد تركت [لدينا] الإنطباع بأنّ سياسة الولايات المتحدة كانت عدم الذهاب الى مساعدة الكويت " .

وكان "لي هاميلتون" بإنتقاده ذاك، هو أوّل رجالات الكونجرس الذين يبدون دهشتهم ، أنّ لم يكن إمتعاضهم من مضمون شهادات رجال الإدارة المضـلّلة أمام لجانهم. وقد إعترض بعده - كما سبق وذكرنا ، وبلهجة أكثر عنفاً، كل من "كليبورن بل" و" آلن كرانستون"، فضلاً عن سناتورات آخرين، منتقدين عدم الدقّة في شهادة "أبريل جلاسبي" .

ولكنّ تصريحات "لي هاميلتون" في أيلول 1990 ـ، إذا كانت هي تعليقاته الأولى المنتقدة لشهادة "جون كيلي"، فإنّها لم تكن تصريحاته الأخيرة. فهو قد تعرّض مرة أخرى لذات الموضوع في شهر آذار 1991 ــ أثناء إدلاء "جلاسبي" بشهادتها أمام لجنته .

فقد ذكّر بتصريحات "لمارجريت توتوايلر" ـفي 24 تموز 1990 ، نافية لوجود معاهدات دفاعية مع الكويت. وعـلّق النائب الأميركي ـ رئيس اللجنةـ.. قائلاً : " أنّ هذا السجّل، ليس سجلاً للوضوح الخالي من الغموض بالنسبة للموقف الأميركي. إنّه سجلّ أربكني شخصياً، وأربك اللجنة، وأربك جزءاً هاماً من صحافة واشنطن ، وقد لا أكون مغالياً إذا فكرت بأنّه ربما أربك صدام حسين أيضاً. فهو ليس سجلاًّ للوضوح، وللدقّة، وللبيانات غير الغامضة حول الموقف الأميركي في الخليج " .

وإعترف دبلوماسي أميركي بارز، مركزه في الشرق الأوسط لمجلّة نيوزويك (عددها الصادر في الأول من نيسان 1991) بالقول: "لو كنت جالساً حيث كان [صـدام] يجلس، وتلقيت كلّ هذه الإشارات التي تلقاها من واشنطن ومن جهات أخرى، فإنّه كان من المحتمل أن أقامر أنا أيضاً على غزو الكويت " .

ويقول "ريتشارد بايل" (Rithard Pyle) في كتابه، أنّ "الأسئلة تظلّ بدون حلول، حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ، من خلال سفيرتها ، قد شجّعت صدام بعفوية على إجتياح الكويت، بالتلميح أنّها لن تتدخّل" .

ويكرّر المضمون ذاته الأمير خالد بن سلطان في كتابه "محارب في الصحراء "، عندما يقول: " سواء عمداً أو لا [ أي خطأ ]، فإنّ هذه الإشارات الدبلوماسية الخاطئة، لابدّ أنّ تكون بدون شك ، قد شجّعت صدام على القيام بتحرّكه " العسكري، أي القيام بعملية الغزو.

والواقع أنّه قد يكون من المستغرب جدّاً أن تتوقع الإدارة الأميركية أن تترك أقوال توتوايلر" في 24 تموز، ثم أقوال "كيلي" في31 تموز، وبينهما أقوال "جلاسبي" في 25 تموز، إنطباعاً مختلفاً لدى الرئيس العراقي، طالما أنّ ذاك كان هو الإنطباع الذي تركته لدى الصحافة الأميركية، بل لدى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي الضالعة بالشؤون السياسية، بل ولدى رئيس اللّجنة نفسه الذي إعتاد الإستماع الى عشرات الشهادات، وكوّن الخبرة الكافية لتمييز الصادق فيها من الأقل صدقاً أو دقّة.

ومن هنا بات من الممكن القول، أنّ عبارات أولئك الديبلوماسيين الأميركيين الثلاثة، قد شكّلت حقاً "لصدام حسين" ضوءاً أخضر حقيقياً يتعذّر الشك في مضمونه. فقد يخطىء أحد أولئك السياسيين في صياغة عباراته، لكن هل من الممكن أن يخطىء ثلاثة من السياسيين الأميركيين المحترفين في التعبير عما يريدون قوله، أو في الرسالة.. او الرسائل، التي يريدون ارسالها للرئيس صدام..بل للعالم كله؟ وهي الرسائل التي تتالت سريعا كمشاهد مترابطة في سيناريو واحد، وخلال فترة زمنية قصيرة هي الرابع والعشرين من تموز (توتوايلر)، والواحد والثلاثين من تموز (جون كيلي).. وبينهما (جلاسبي) في 25 تموز... فقد كانت مجتمعة، ضوءاً أخضر له من الوهج والوضوح ما يكفي وأكثر، مما يجعل من المتعذّر أن تكون الإدراة الأميركية جاهلة بالآثار التي قد يفرزها ذاك الضوء الأخضر الذي رسمه للعراق ذاك السيناريو )التموزي( المدروس بتوقيتاته المتتالية والمترابطة ترابطا تاما وواضحا.

فإذا كان العراق قد وُضع خطأ أو عمداً تحت إنطباع كالإنطباع الذي خرج به النائب "لي هاميلتون " وآخرون، فقد بات من الطبيعي بعد ذلك ـ أنّ يقدّر العراق بأنّ تلك هي فرصته التي قد لاتعوض لتصفية حساباته مع أمراء الكويت الذين ، حسب إعتقاده ، قد قاتل إيران لثماني سنوات دفاعاً عنهم ؛ وبأنّ تلك هي أيضاً فرصته التاريخية لوضع مطالبه التاريخية في الكويت على المـحك؛ فإما أن يخرج منها بكامل الكويت، أو يخرج منها ـ في أدنى الإحتمالات ـ بتسوية إقليمية تمنحه منفذاً على البحر عبر جزيرتي "وربا وبوبيان"، فضلاً عن تسويات حدودية ومالية ونفطية مرضية .

ويعزز وجود التواطؤ والتخطيط لتنفيذ تلك الحرب على العراق، بل والسعي لضمان نجاحها، أن المملكة السعودية قد دفعت للاتحاد السوفياتي مبلغ ثلاثة مليارات دولار عشية الحرب، في رشوة غريبة من السعودية، وسلوك أغرب من الاتحاد السوفياتي الذي تقبلها ... مقابل وعد بامتناع الاتحاد السوفياتي (الذي كان آنئذ تحت قيادة جورباتشوف - صاحب نظرية "البيروسترويكا" التي شكلت لبنة في تدمير وتفكيك الاتحاد السوفياتي) ...عن تقديم العون العسكري أو السياسي للعراق خلال مرحلة الحرب. فهذا ما اعترف به "فكتور غراشينكو" - رئيس البنك المركزي في الاتحاد السوفياتي آنئذ، والذي قال في برنامج بعنوان "رحلة في الذاكرة" بثته قبل شهور قناة "روسيا اليوم". اذ قال في سياق البرنامج المذكور، بأنه قد سافر الى الرياض قبل الحرب، على رأس وفد سوفياتي، لتسلم المبلغ الذي وعدت به المملكة السعودية .. الاتحاد السوفياتي. وقد تسلم فعلا مليارا ونصف المليار نقدا، على أن يدفع النصف الثاني من المبلغ على أساس تسديد أثمان متطلبات سوفياتية لمعدات ذات علاقة باستخراج النفط. ويبدو أن التأخير المتعمد في تسديد النصف الثاني من المبلغ، كان لضمان تتنفيذ الاتحاد السوفياتي لوعده بعدم تقديم العون السياسي والعسكري للعراق خلال تلك الحرب.

وكان الرئيس بوش قد حاول اقناع "جورباتشوف" لدى الالتقاء به (كما ورد على لسان السفير الروسي الكسندر كالوبينك في حلقة من حلقات رحلة في الذاكرة)، بأن برسل قوات سوفياتية لتشارك الأميركيين وقوات التحالف، بعملية تحرير الكويت. لكن "جورباتشوف" رفض ذلك، في وقت قام فيه وزير الخارجية السوفياتي "شيفرناذه" بتقديم الدعم السياسي للموقف الأميركي في تعامله مع قضية غزو الكويت. وكان مرد ذلك وجود نوع من الحساسية بين "شيفرنادزه" والرئيس صدام نتيجة معاملة الرئيس العراقي لشفرنادزه بنوع من الازدراء والاستخفاف لدى زيارته لبغداد.

ويعزز دور الاتحاد السوفياتي السلبي في تلك الحرب، ما قاله أيضا "فلاديمير جيرنوفسكي" - زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي - المعروف بصداقته للرئيس الراحل صدام حسين... في لقاء آخر ضمن برنامج "رحلة في الذاكرة" الذي بثته منذ أكثر من عام قناة "روسيا اليوم" . اذ قال بأن الحكومة السوفياتية، وعندما كانت عاصفة الصحراء على أشدها، قد ارسلت الى بغداد، السياسي السوفياتي المخضرم "بريماكوف" في مهمة سياسية.

وأنا أذكر جيدا زيارة "يفغني بريماكوف" لبغداد التي وصلها بعد منتصف ليل الحادي عشر من شباط 1991. وقد أقام يومئذ في فندق الرشيد في الجناح 204 -206 المكون من ثلاث غرف. وكنت قد انتظرته برفقة المصور "خضير مجيد" على أمل وصوله مبكرا كما كان متوقعا. لكنه لأسباب مجهولة، تأخر وصوله برا الى بغداد الى ما بعد منتصف الليل. ولذا أسميت التقرير الذي أعد في تلك الليلة ب "زائر منتف الليل".

وكانت مهمة بريماكوف - زائر منتصف الليل - التي لم نعلم مضمونها يومئذ، تسعى كما قال بريجنسكي، الى اقناع صدام حسين بالاستقالة والتخلي عن قيادة البلاد، مقابل وعد بأن تتوقف الحرب فورا ضد العراق. ويقول "جيرنوفسكي" أن الرئيس العراقي قد انفجر في وجه "بريماكوف" قائلا بغضب: "أنتم تطلبون مني الآن التنحي...لماذا شجعتموني من قبل على حل مشكلتي مع الكويت بالأسلوب العسكري". ويؤكد جيرنوفسكي معلقا، بأن السوفيات قد شجعوا صدام على الدخول الى الكويت، كما تفيد معلوماته (التي ربما سمعها من صدام حسين الذي التقاه مرارا) بأن الولايات المتحدة أيضا قد قالت له: "أدخل"، مما يفيد أن الدخول العراقي الى الكويت، كما يستفاد من اقوال جيرنوفسكي، كان شركا مبيتا، ليس لصدام حسين وحده، بل للعراق وللعراقيين أيضا، كخطوة نحو شيء أكبر. وكان الشيء الأكبر، كما تبين تدريجيا، هو أن عاصفة الصحراء لم تكن قط لمجرد تحرير الكويت، بل أرادت أن تشكل اللبنة أو الخطوة الأولى نحو تشكيل الشرق الأوسط الجديد.

كل ما في الأمر، أن المخططين الأميركيين كعادتهم، قد ارتكبوا خطأ فادحا في حساباتهم، كما ورد في فصل سابق، لدى رسم استراتيجيتهم عام 1991، لايجاد الظروف الملائمة لخوض حرب مباشرة ضد العراق. وتمثل ذاك الخطأ الذي بات جوهريا، باهمال العامل الايراني، حيث تدخلت ايران في الحرب ساعية لاسقاط النظام العراقي، ولكن ليس تنفيذا للحسابات الأميركية، بل تحقيقا لمصالح ايران، التي وصل رجالها من حرس الثورة الايرانية المؤازرين بالمتمردين من بعض الشيعة العراقيين، الى منطقة تبعد أقل من مائة كيلومتر عن بغداد، (كما قال فكتور غراشينكو) سعيا منهم لاسقاط نظام صدام حسين، واحلال نظام موال لايران في موقعه.

ويضيف "فيكتور غراشنكو" مدير البنك المركزي السوفياتي خلال اللقاء الذي أجري معه في برنامج "رحلة في الذاكرة" السابق ذكره، أن الولايات المتحدة هي التي شجعت شيعة العراق على التمرد على الرئيس العراقي، ليشكلوا جبهة أخرى تقاتله في الداخل العراقي، عندما كانت قوات "عاصفة الصحراء" لا تزال تقاتله في الداخل الكويتي. الا أن حرس الثورة الايرانية سرعان ما تدخلوا الى جانب شيعة العراق، وسعوا لتحويل مجريات الحرب لمصلحة ايران، خلافا لما خططت له الولايات المتحدة.

فالولايات المتحدة عندئذ، ونتيجة ملاحظتها ما ارتكبته من خطأ في حساباتها، قد اضطرت لايقاف الحرب فجأة وبدون مقدمات، في الثامن والعشرين من شباط)، أي في اليوم الخامس والأربعين للشروع بالحرب، وهو ما سمي بالوقف العاصف لعاصفة الصحراء. وجاء ذلك خلافا لرؤية وزير الدفاع "ديك تشيني" الذي أراد استمرارها حتى الوصول الى بغداد، ونصيحة الجنرال شوارزكوف بمواصلة القتال لثمان وأربعين ساعة أخرى وازاء فشلهما في اقناع الرئيس "بوش الأب" و "كولين باول" - رئيس هيئة الأركان، بوجهة نظرهما في المضي قدما بالحرب حتى الوصول الى العاصمة العراقية، فقد سكت "ديك تشيني" على مضض، بل واضطر للسكوت طويلا نتيجة صفقة الديبلوماسية السرية التي عقدها الرئيس بوش الأب مع صدام حسين بوساطة سوفياتية تولاها "بوسفاليوك" السفير السوفياتي آنئ في بغداد، وتكونت الاتفاقية من ثلاثة بنود رئيسية هي:

1) وقف القتال فورا، واطلاق سراح الأسرى العراقيين فورا، مع السماح لصدام باستخدام طائرات الهليكوبتر في الجنوب العراقي الخاضع لحظر جوي تم تخفيفه نسبيا، بل واطلاق يد الاتحاد السوفياتي بتجديد السلاح العراقي الذي دمرته عاصفة الصحراء. وقد تم ذلك عبر جسر جوي من موسكو الى مطار المثنى في بغداد استمر ثلاثة أيام، ابتداء من الثامن من آذار وانتهاء بالعاشر منه. وقد سمعت بنفسي دوي الطائرات الروسية التي كونت الجسر الجوي، عندما كانت تحلق فوق فندق الرشيد في طريقها الى مطار المثنى القريب من الفندق حيث كنت أقيم طوال مرحلة الحرب وبعدها.
2) يستخدم العراق السلاح الجديد لمطاردة حرس الثورة الايراني وأنصارهم من الشيعة العراقيين، الى ما وراء الحدود العراقية الايرانية،
3) وخوفا من أن يغدر الأميركيون بالعراقيين، فيستأنفوا القتال ضد العراق بعد اكتمال مهمته في طرد الايرانيين وأنصارهم الى ما وراء الحدود، فقد اشترط الرئيس صدام الحصول على تعهد أميركي، شبيه بتعهدهم لكوبا عام 1962، بعدم التعرض لنظامه، أو السعي للتآمر عليه أو قلبه. وبالفعل قدم "بوش الأب" ذاك التعهد كما يبدو، ونتيجة ذلك بقي الرئيس صدام في كرسي الرئاسة حتى عام 2003، عندما نفذ "ديك تشيني" المرحلة الثانية من مخططه المدعوم من مجموعة الثمانية التي شكلت ما سمي بتكتل المحافظين الجدد...وهي المرحلة الثانية لتشكيل الشرق الأوسط الجديد، الذي فشلت حرب "عاصفة الصحراء" في تحقيقه.

ويعترف الرئيس "بوش الأب" - كما سبق وذكرت - في مذكراته التي صدرت حديثا، بأن "ديك تشيني"، في عهد رئاسة ابنه، قد شكل مع "دونالد رامسفيلد" وزير الدفاع،وباقي الأعضاء في مجموعة المحافظين الجدد، مجلس أمن قومي خاص به (كما وصفه الرئيس بوش) في البيت الأبيض، غير مجلس الأمن القومي الأميركي الرسمي... وهذا المجلس غير المعلن عنه رسميا، قد خطط لغزو العراق، ساعيا لاستكمال مخططه لايجاد شرق أوسط جديد، يفكك دول المنطقة الى دويلات صغيرة يمكن السيطرة عليها بسهولة، وقيادتها لما فيه مصالح الولايات المتحدة ومصلحة اسرائيل.

**********************
ملاحظة لا بد منها
===========
أنا أعلم بأن ربع قرن من الزمان قد مضى على تنفيذ "عاصفة الصحراء"، وقد نسيها الكثيرون، وربما لن يفيد الخوض مجددا في موضوعها خصوصا وأن عددا كبيرا من الكتاب قد ناقشوها سابقا وقتلوها بحثا ودراسة. الا أنه في اعتقادي أنها لم تناقش قط سابقا، وبشكل جدي ومتعمق، من منطلق أنها لم تكن حربا لتحرير الكويت التي كان يمكن تحريرها وانهاء عملية غزوها بوسائل سلمية وانسحاب عراقي يرضى به كل الأطراف. الا أن امكانية انهاء الأزمة سلميا، قد وضعت العراقيل في طريقها، مما يكشف بأن انهاء الغزو العراقي للكويت، لم يكن هو المبتغى من عاصفة الصحراء. فالمطلوب كان تدمير العراق وقواته العسكرية التي كانت تشكل الى جانب القوة العسكرية السورية، عائقا في طريق تشكيل الشرق الأوسط الجديد، وخطرا قد يحول دون بقاء اسرائيل.

ورغم أن ربع قرن قد مضى على تلك الحرب، وهو زمن كاف يأذن، كما جرى العرف الدولي، بـأن تكشف الادارة الأميركية الرسمية ما خفي من أسرارها، ومع ذلك لم تفعل بعد. فلم يكن هناك كشف واماطة لثام عن تلك الأسرار، بل ولم يكن هناك اعتراف واضح بوجود أسرار دفينة، باستثناء ما كشفه الرئيس بوش الأب في مذكراته الصادرة حديثا جدا (نهايات 2015) ، عن قيام تشيني ومجموعته من عصابة المحافظين الجدد، بتشكيل مجلس أمن قومي خاص بهم داخل البيت الأبيض، وهو المجلس الذي شجع "بوش الابن" على غزو العراق مستندا الى ذرائع واهية ثبت فيما بعد عدم صحتها، بل واعترف مؤخرا "توني بلير" - رئيس وزراء بريطانيا السابق، بعدم صحتها، وبأنه ارتكب خطأ في الانجراف وراءها. كما كشف الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" في حوار أجري معه ونشر مؤخرا في كتاب، عن أوهام وجود شياطين "هاجوج وماجوج" في بابل العراقية في رأس "بوش الابن" ،المضلل من "تشيني" ومجلس أمنه القومي الآخر والسري، ورغبته بالذهاب الى العراق لمقاتلتهم... أي مقاتلة أولئك الجن والشياطين.

وقبل المضي قدما في ايراد الحجج والبراهين على أن عاصفة الصحراء لم تكن حربا لتحرير الكويت، بل كانت حربا تسعى لوضع اللبنة الأولى في مخطط الشرق الأوسط الجديد، أود أن اوضح بأنني لست في معرض الدفاع عن الرئيس صدام حسين الذي لا يكن الكثيرون الود له. فأنا في معرض هذه العجالة من مناقشة الأسباب الحقيقية للحرب، والتي تشكل مرافعة، بل دفاعا حقوقيا وقانونيا أمام محكمة الراي العام الدولي، انما أدافع عن حق الشعب العراقي الذي قتل منه الآلاف، بل الملايين، سواء في حرب 1991 أو غزو 2003، مما يجعله صاحب حق قانوني بالمطالبة بالتعويضات، باعتباره الضحية لا الجلاد. بل وله الحق بالمطالبة باسترداد كل التعويضات التي اقطتعت من عائداته النفطية خلال الأعوام 1991 الى عام 2000، باعتبارها لم تكن تعويضات قانونية وعادلة، بل اقتطعت نتيجة ابتزاز أميركي لشعب العراق، بذريعة أن رئيسه كان جلادا وكان معتديا وغازيا لدولة أخرى.

وسوف أورد في نهاية الكتاب قائمة مطولة بعناوين الكتب التي استقيت منها الكثير من المعلومات والأسانيد، والتي كان بعضها القليل باللغة العرية، لكن أكثرها كتب باللغة الانجليزية، وضعها كتاب وباحثون مرموقون. كما استندت فيها الى أعداد من مجلتي التايم والنيوزويك وصحف أميركية اخرى، اضافة الى محاضر جلسات النقاش أمام لجان الكونجرس الأميركي، والى الكتب التي تضمنت مذكرات جيمس بيكر، شوارزكوف، كولين باول، الأمير خالد .. وكتب أخرى كثيرة (كذلك الى العديد من الفيديوهات والمقابلات الصحفية والتليفزيونية). وقد أمضيت سنوات في قراءتها (ومشاهدتها) والتمعن في دراسة مضمونها. وهذا يفسر أسباب صياغتي، واعادة صياغتي لهذا الكتاب مرارا .. والأسباب التي استدعت مواظبتي على تدقيقه وتمحيص مضمونه مرارا ، وعلى مدى أكثر من عشرين عاما من الزمان.

ميشيل حنا الحاج
عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية THINK TANK
عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن
كاتب في صفحات الحوار المتمدن - ص. مواضيع وأبحاث سياسية
عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية
عضو في رابطة الكتاب الأردنيين - الصفحة الرسمية
عضو في مجموعة شام بوك
عضو في مجموعة مشاهير مصر
عضو في مجموعات أخرى عديدة.


























تنبيه
====
هذا ليس مقالا، بل هو الجزء الرابع من الفصل الثالث من كتابي القادم بعنوان (الاستراتيجية في نهاية مطافها)، عندما كان الأميركيون، بذريعة تحرير الكويت، يسعون لتحقيق الشرق الأوسط الجديد كخطوة في مضمار النظام الدولي الجديد المبني على أساس احادية القطب، اعتمادا منهم على ظهور بوادر الضعف على الاتحاد السوفياتي في ظل البيروسترويكا التي نادى بها جورباتشوف، اضافة لأسباب أخرى. وأنا أعتذر مرة اخرى عن الاطالة. فالمنشور ليس مقالا، بل دراسة تحتاج للتوسع والتفصيل.
======================


بطبيعة الحال، لم يعلم أحد بنوايا أو تفسيرات "جلاسبي" في مرحلة وقوع الأزمة، كما لم يحمله أحد محمل الجدّ بعد وقوع الحرب ثم ظهور "جلاسبي" أمام لجنة الكونجرس. فرغم تفسيرها ذاك حول علامات الحدود كسبب للنزاع، إستمرّ الكتّاب والمحللون يوردون عبارتها الشهيرة، ويتجاهلون مضمون تفسيرها لها أو لملابساتها، وكأنّ درجة الإقتناع بتفسيرها ذاك، كانت ضئيلة وربما معدومة.

وعلى أرض الواقع، فإنّ موقف وزارة الخارجية من "جلاسبي"، قد كشف، كنتيجة طبيعية للغموض الذي رافق سلوكها، ثم اختفاءها، وما تلاه من لخبطات وأحيانا تناقضات في أقوالها أمام لجنة الكونجرس... كشف ما كررته أنا أكثر من مرة، بأنّ شيئاً ما يكتنفْه الغموض، (وربما الغموض المتعمد)... قد كمن في ثنايا أقوالها للرئيس العراقي. كما دلّ على أنّ ما عنته حقاً ـفي أقوالها تلك ، كان شيئاً أكبر من مجرد "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية ". فهذا هو ما يفسّر إنزواءها الطويل والذي دام سبعة شهور وثلاثة أسابيع. فإشارة الى "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية "، لاتقتضي إنزواء كهذا. أمّا القول بأنّه "لا موقف لنا من الخلافات [ أو المنازعات ] الحدودية كخلافكم مع الكويت " ، فأمر غامض وقد يقتضي إنزواء كهذا، أبعدها تماما عن دائرة الضوء، وملاحقة رجال الاعلام الذين قد يكونون قادرين على استدراجها لقول ما لم ترغب الادارة الأميركية بقوله أو الكشف عنه.


ولقد كان إنزواؤها بموجب الحظر الذي فرضه "بيكر" بنفسه، إنزواءً وحظراً جدّياً، روعي بمنتهى الدقّة، لدرجة أنّ السناتور "أوينز" كان عاجزاً حتى عن الإتّصال بها هاتفياً كما ورد سابقا، وأنّ رغبات الكونجرس المتكرّرة في مثولها أمام لجانه، قد تمّ تجاهلها، فلم تجر الإستجابة اليها إلاّ بعد إنتهاء الأزمة وإنتهاء الحرب، أي بعد سبعة شهور وثلاثة أسابيع على عودتها الى واشنطن.

وقد إعترفت "جلاسبي" فيما بعد، بأنّ تعليمات " الإختفاء" أو الإنزواء، قد جاءت من وزير الخارجية نفسه. ونسبت "جلاسبي" أسبابها الى رغبة الإدارة بوجوب أن "تعلم قواتنا [ المسلّحة ] بأنّ الأمّة بكاملها تقف وراءهم. فهذا لم يكن الوقت المناسب للكلام حول أي شيء غير الهدف الذي كان أمامنا [أي الحرب ] " . ولم توضّح لما كان "كلامها" سيؤثّر في معنويات "قواتنا المسلحة" إذا كانت أقوالها أمام الرئيس العراقي لم تتضمن شيئاً سيئاً أو مشبوهاً تخجل منه.

ولكنّ أمراً آخر قد عزّز الإعتقاد في وجود بعض الغموض، وهو ذاك السعي الجدّي لإخفاء حقيقة مضمون الحوار، ورفض وزارة الخارجية الإفراج عن مضمون التعليمات التي بعثت بها ""لإبريل جلاسبي" في شهر تموز، أو الإفراج عن نصّ البرقية التي بعثت بها "جلاسبي" الى وزارة الخارجية في 25 تموز، متضمّنة قراءتها الشخصية لمجريات حوارها مع الرئيس العراقي. فوزارة الخارجية الأميركية، لم تفرج عن برقية "جلاسبي" لغايات إطلاع الرأي العام عليها، رغم القضية التي رفعت أمام المحكمة الفدرالية مطالبة بذلك. وهي لم تـكتـفِ بحجب السفيرة عن لجنة الكونجرس لمدّة سبعة شهور، بل حاولت أيضاً أن تحول دون إطّلاع اللجنة على مضمون تلك البرقية ولو على أسس السرّية التامّة، أي على أساس ألاّ يطّلع عليها إلاّ أعضاء اللجنة أنفسهم. .

فقد سألها السيناتور ستيفان سولارز (STEPHEN SOLARZ) : "هل تعارضين الآن في تسليم البرقية ]التي تضمنت تعليمات وزارة الخارجية لها عشية لقائها الشهير بصدام[ الى لجنة العلاقات الخارجية على أساس السريّة، إن كانت [السريّة] ضرورية، بحيث نستطيع الإطّلاع عليها...رفضت "جلاسبي" ذلك قائلة: " نعم سيدي. أنا أعترض لسبب أعتبره موجباً ... فخلال خمسة وعشرين عاماً من العمل الدبلوماسي، أنا لم أعلم شخصياً بحالة قامت فيها أيّة دولة، مهما كانت الإغراءات، بإصدار نصّ [ حوار ] كهذا .... عندما نبدأ بإصدار مذكّرات حول حوارات مع رؤساء الدول، أنا أعتقد بأنّها ستفسد سرّية إجراء هام جداً" . وردّ عليها السناتور "سولارز" قائلاً بأنّ "هذه اللجنة غالباً ما سُلِّمت برقيات تتضمّن مباحثات بين سفراء وزعماء أجانب، بما فيهم رؤساء الدول ... من الصعوبة أن نصف تسليم هذه البرقية الى اللجنة، بأنّها سابقة جديدة" .

ولقد طالب فعلاً "لي هاميلتون" - رئيس اللجنة ، بتسليم تلك البرقية والبرقيات الأخرى التي بعثت بها السفارة الأميركية في بغداد منذ عام 1989 . وعندما إطّلع بعض أعضاء الكونجرس على تلك البرقية المرسلة الى واشنطن، والتي تضّمنت تقرير "جلاسبي" الخاص حول مجريات حوارها مع " صدام "، ذكر أولئك السناتورات أنّ جلاسبي قد ضلّلتهم في شهادتها .

وقال السناتور آلن كرانستون (ALAN CRANSTON ) -ـ نائب كاليفورنيا، متّهماً: " لقد تعمّدت إبريل جلاسبي تضليل الكونجرس حول دورها في مأساة الخليج (الفارسي) " . كما أنّ السناتور "كليربورن بل" ( CLAIRBORNE PELL )، قد بعث برسالة غاضبة في 12 تموز1991 ، الى وزير الخارجية "مطالباً بتفسير لعدم التناسق بين شهادة جلاسبي ونصّ البرقية " .

ويقول كتاب "عاصفة الصحراء ـ الدروس التي تعلمناها " (DESERT STORM) الذي وضعه أساتـذة في مركـز الأبـحـاث الإستراتيجية الدولـيـة هم "مايكل مازار (M. MAZAAR) ، دون شنـايـدر (D. SNIDER) ، وجيمس بلاكـويـل (J. BLACKWELL JR) ( الذي عمل أيضاً كمحلّل عسكري لشبكة "سي أن أن" (CNN)،" أنّ مجموعة من برقيات وزارة الخارجية [الأميركية ] السريّة، قد نُشرت بعد عدة شهور من شهادتها [جلاسبي]، وبـيّـنت أنّها قد فعلت الشيء القليل لتعبّر عن جدّية الولايات المتحدة بخصوص تهديدات العراق للكويت. فالبرقيات التي أُرسلت من جلاسبي بعد لقائها صدام، تبيّن أنها قد كرّرت التعبير لصدام عن رغبة الإدارة الأميركية في علاقة أفضل، وعارضت الدخول في مواجهة مع الزعيم العراقي " . وقالت "جلاسبي" في إحدى البرقيات: "أعتقد أنّ أفضل نصيحة [أقولها]، هي تخفيف النقد العلني للعراق، الى أن نرى كيف ستتطوّر المفاوضات" .

ويبدو أنّ برقيات " جلاسبي" الى وزارة الخارجية التي أفرج عنها بناء على طلب أعضاء لجنة الكونجرس، لم يطّلع عليها إلاّ أولئك الأعضاء. وقد جرت المطالبة قضائياً بالإفراج الكامل عن مضمون برقية "جلاسبي" للخارجية الأميركية، بحيث يتسنّى للعامة الإطّلاع عليها أيضاً. لكنّ المحكمة الفدرالية، رفضت إصدار الأمر بذلك. ويقول "رامزي كلارك": "عندما قامت محكمة إتحادية، في نيسان 1991 بناء على إصرار الحكومة، برفض إصدار الأمر الى وزارة الخارجية [الأميركية[ للإفراج عن مذكّرة أبريل جلاسبي المؤرخة في 25 تموز 1990 ، حول إجتماعها بصدام حسين مباشرة قبل غزو العراق للكويت ـ ... لم تصدر صرخة عن الصحافة [الأميركية (تـتّهم الإدارة ) بالتغطية وتطالب بالمذكرة " .

ولكنّ البرقيات التي أفرج عنها من أجل إطلاع لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس، كانت فقط البرقيات المرسلة من "جلاسبي" الى وزارة الخارجية. أمّا برقية وزارة الخارجية الأميركية المرسلة الى "جلاسبي"، متضمّنة التعليمات التي تصرّفت "جلاسبي" بموجبها، فلم يفرج عنها قط.. فلا أحد يعلم نوعية التعليمات الحقيقية التي أعطيت لها من قبل وزير الخارجية الأميركية، أو من قبل من قام مقامه بإرسالها.

فما هو مضمون تلك التعليمات التي إضطرّت "بيكر" الى التـنصّل من إصدارها، أو توقيعها، أو مجرّد العلم بها. ولمَ رفضت الخارجية الأميركية الإفراج عنها؟ ترى ماذا تخفي تلك البرقية. وهل كانت التعليمات " لجلاسبي" تقضي بالرضاء الصريح من قبل الولايات المتحدة بدخول العراق الى الكويت، أم كانت تتضمّن شيئاً آخر.
فرغم الجدل الطويل، لم يحسم أحد ذاك الجدل حول ما إذا كانت الخارجية الأميركية عن طريق سفيرتها ، قد سعت عمداً أم نتيجة خطأ، الى خلق إنطباع كهذا لدى العراقيين .

**********

ولكنّ شهادة أخرى أمام لجنة الكونجرس - سابقة على شهادة "جلاسبي" أمام اللجنة المذكورة ، وقد أدلى بها هذه المرّة "جون كيلي" مساعد وزير الخارجية ، رجّحت إحتمال كون أقوال جلاسبي امام الرئيس العراقي، قبل مثول "كيلي" أمام لجنة الكونجرس بأيام، كانت مقصودة ومتعمدة السعي لترك ذاك الإنطباع لدى العراقـيين. ذلك أن شهادة "جون كيلي" قد عززت ذاك الانطباع دون أن تحاول نفيه ، ولو في مسعى لاستدراك وتصحيح الانطباع الخاطىء الذي تركته "جلاسبي" لدى صدام. وكما أثارت شهادة "جلاسبي" اللاحقة، ردود فعل غاضبة لدى عدد من السناتورات ، فإنّ شهادة ""كيلي" قد أثارت من قبلها ردود فعل مشابهة من قبل النائب "لي هاميلتون" وأعضاء لجنته .

ففي الواحد والثلاثين من تموز 1990 ، وبعد لقاء "جلاسبي" بالرئيس العراقي بستّة أيام فقط، وقبل أقلّ من أربع وعشرين ساعة على الإجتياح العراقي للكويت، وعندما كانت أنباء الحشود العراقية على حدود الكويت قد بلغت القاصي والداني، أدلى "جون كيلي" بشهادته الشهيرة تلك أمام لجنة الكونجرس .

فقد تحدّث عندئذٍ أمام اللجنة المذكورة، مجيباً على أسئلة أعضاء اللجنة. وكان النائب "لي هاميلتون" قد سأله: " قرأت في الصحافة قولاً لوزير الدفاع ريتشارد تشيني، يصرّح فيه أنّ الولايات المتحدة ملزمة بالدفاع عن الكويت إذا هوجمت. هل هذا ماقيل فعلاً ؟ هل يستطيع كيلي توضيح هذا الأمر" . فرد عليه "كيلي" قائلا: "لست مطّلعاً على هذا التصريح الذي تشير إليه. ولكنّي واثق من موقف الولايات المتحدة في هذه القضية. ليست لدينا معاهدة دفاع مع دول الخليج. هذا واضح " . وقد قال ذلك رغم أن هذا الوضوح لم يكن واضحا بما فيه الكفاية لوزير الدفاع "ديك تشيني" الذي صرح - كما قال "لي هاملتون" - بأن أميركا ملزمة بالدفاع عن الكويت، مما قد يفيد بوجود اتفاقية دفاعية سرية بين الكويت والولايات المتحدة. فهي اتفاقية سرية لم يعلن عنها، لأنه لو أعلن عنها وعلم العراق بوجودها، لربما فكر الرئيس صدام مليا قبل الاقدام على غزو الكويت. فهل تلك كانت اتفاقية جديدة عقدها للتو سرا "ديك تشيني" صاحب مخطط الشرق الأوسط الجديد... مع الكويت، (ولم يكن قد أبلغ بها بعد وزارة الحارجية الأميركية بدليل أن نائب وزير الخارجية "جون كيلي" لم يعلم بها بعد) كفصل أول من فصول سيناريو الاعداد الأميركي - التشيني... لاستدراج العراق للكويت؟

ولكنّ النائب هاميلتون، بعد حوار قصير مع " كيلي"، عاد ليسأله السؤال المحدّد: "ومع ذلك، إذا نشأ وضع كهذا [أي هجوم عراقي على الكويت]، فهل من الصحيح القول بأنّنا لانملك
معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة".
وردّ " كيلي" قائلاً :" هذا صحيح تماماً " . ثم أوضح "بأنّنا تاريخياً، لم نأخذ موقفاً من نزاعات حدودية " .

وعلّق الكاتبان "سالنجر ولوران" اللذان أوردا جزءاً من محضر الحوار في لجنة الكونجرس، فقالا بأنّ " شهادة "جون كيلي" كانت تذاع عبر الخدمة العالمية لإذاعة "بي بي سي" (BBC) التي تسمع في بغداد. ففي ساعة حرجة، بينما كان السلم والحرب يتأرجحان في الميزان، أرسل كيلي إلى صدام حسين إشارة يمكن قراءتها كضمانة أو تعهّد بأنّ الولايات لن تتدخّل " ، وقد أرسلها ضمن شهادة رسمية وعلنية، يرجّح أن تكون قد تمت بعد آداء القسم .

ويضيف "سالنجر ولوران" في كتابهما، تعليقاً آخر على أقوال "كيلي" المذاعة، قائلين : "في تاريخ الدبلوماسية الأميركية الحديث، هناك مثال آخر على الحسابات الخاطئة. هذا المثل هو بيان وزير الخارجية الأميركي دين اتشيسون أمام الكونجرس عام 1950، الذي قال فيه أنّ جنوب كوريا، ليست ضمن مناطق الحماية الأميركية. ذلك أنّ كوريا الشمالية، قد غزت كوريا الجنوبية بعد ذلك بفترة قصيرة " . فما أشبه اليوم بالبارحة على صعيد أساليب الاسترايجية الأميركية الغامضة.

ولكنّ الملاحظات على " شهادة كيلى"، لا يجوز أن تتوقّف عند ذاك الحد. فأمور كثيرة تشّد الإنتباه حولها :
1) كان " كيلي " يتحدّث بثـقة شديدة لا تترك مجالاً للشك في مدى ثقته في أقواله تلك . فهو يستخدم عبارات مؤكّدة بحزم مثل قوله "أنا واثق " ... " هذا واضح "... " هذا صحيح تماماً. لا معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة " . فلما أدخلت اذن بعد ذلك، وبشكل أكثر ضراوة من ادخالها في الحرب ضد كوريا قبل أربعة عقود؟

2) لم يكن " كيلي" يخاطب صحفيين في مؤتمر صحفي، كي يقال بأنّه من الممكن أن يحمّل أقواله عبارات تمويهية، او معانٍ لم يقصدها. بل كان يخاطب أعضاء من الكونجرس. ومن هنا، توجّب إفتراض الصدق فيما يقوله .

3) وهو لم يكن يخاطب أعضاء من الكونجرس، ضمن محاضرة عامة، أو في جلسة سمر، أو جلسة دردشة سياسية غير رسمية. فقد كان يخاطبهم أثناء إدلائه بشهادة رسمية، والأرجح بعد أداء القسم، مما يعزّز ضرورة إفتراض الصدق في أقواله..
ومن هنا، بدا من الطبيعي أن يقننع سامعوه، بمافيهم العراقيون، بأنّه " لايوجد معاهدات أو إلتزامات أمنية مع دول الخليج" ، وبأنّه إذا دخل العراق الى الكويت، فإن الولايات المتحدة "ليست مضطرةٍ الى إرسال قواتها الى هناك"، لأنّه "لاتوجد معاهدات أو إلتزامات"، وبأنّ الولايات المتحدة تاريخياً، "لم تأخذ موقفاً من نزاع حدود " .

ولقد قنع بذلك النائب "لي هاميلتن" ، رئيس لجنة الكونجرس الذي فوجىء بعد ذلك بأنّ الإدارة الأميركية قد أرسلت فـعلاً (قوات) الى الخليج، وبأنّها كانت معنيّة بالنزاع الحدودي. وتذكر مجلّة التايم في عددها الصادررفي الأول من تشرين أول 1990 ، بأنّ "لي هاميلتون" ، عندما إلتقى "بجون كيلي" في أوائل أيلول 1990، قد خاطبه مذكّراً: " لقد تركت [لدينا] الإنطباع بأنّ سياسة الولايات المتحدة كانت عدم الذهاب الى مساعدة الكويت " .

وكان "لي هاميلتون" بإنتقاده ذاك، هو أوّل رجالات الكونجرس الذين يبدون دهشتهم ، أنّ لم يكن إمتعاضهم من مضمون شهادات رجال الإدارة المضـلّلة أمام لجانهم. وقد إعترض بعده - كما سبق وذكرنا ، وبلهجة أكثر عنفاً، كل من "كليبورن بل" و" آلن كرانستون"، فضلاً عن سناتورات آخرين، منتقدين عدم الدقّة في شهادة "أبريل جلاسبي" .

ولكنّ تصريحات "لي هاميلتون" في أيلول 1990 ـ، إذا كانت هي تعليقاته الأولى المنتقدة لشهادة "جون كيلي"، فإنّها لم تكن تصريحاته الأخيرة. فهو قد تعرّض مرة أخرى لذات الموضوع في شهر آذار 1991 ــ أثناء إدلاء "جلاسبي" بشهادتها أمام لجنته .

فقد ذكّر بتصريحات "لمارجريت توتوايلر" ـفي 24 تموز 1990 ، نافية لوجود معاهدات دفاعية مع الكويت. وعـلّق النائب الأميركي ـ رئيس اللجنةـ.. قائلاً : " أنّ هذا السجّل، ليس سجلاً للوضوح الخالي من الغموض بالنسبة للموقف الأميركي. إنّه سجلّ أربكني شخصياً، وأربك اللجنة، وأربك جزءاً هاماً من صحافة واشنطن ، وقد لا أكون مغالياً إذا فكرت بأنّه ربما أربك صدام حسين أيضاً. فهو ليس سجلاًّ للوضوح، وللدقّة، وللبيانات غير الغامضة حول الموقف الأميركي في الخليج " .

وإعترف دبلوماسي أميركي بارز، مركزه في الشرق الأوسط لمجلّة نيوزويك (عددها الصادر في الأول من نيسان 1991) بالقول: "لو كنت جالساً حيث كان [صـدام] يجلس، وتلقيت كلّ هذه الإشارات التي تلقاها من واشنطن ومن جهات أخرى، فإنّه كان من المحتمل أن أقامر أنا أيضاً على غزو الكويت " .

ويقول "ريتشارد بايل" (Rithard Pyle) في كتابه، أنّ "الأسئلة تظلّ بدون حلول، حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ، من خلال سفيرتها ، قد شجّعت صدام بعفوية على إجتياح الكويت، بالتلميح أنّها لن تتدخّل" .

ويكرّر المضمون ذاته الأمير خالد بن سلطان في كتابه "محارب في الصحراء "، عندما يقول: " سواء عمداً أو لا [ أي خطأ ]، فإنّ هذه الإشارات الدبلوماسية الخاطئة، لابدّ أنّ تكون بدون شك ، قد شجّعت صدام على القيام بتحرّكه " العسكري، أي القيام بعملية الغزو.

والواقع أنّه قد يكون من المستغرب جدّاً أن تتوقع الإدارة الأميركية أن تترك أقوال توتوايلر" في 24 تموز، ثم أقوال "كيلي" في31 تموز، وبينهما أقوال "جلاسبي" في 25 تموز، إنطباعاً مختلفاً لدى الرئيس العراقي، طالما أنّ ذاك كان هو الإنطباع الذي تركته لدى الصحافة الأميركية، بل لدى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي الضالعة بالشؤون السياسية، بل ولدى رئيس اللّجنة نفسه الذي إعتاد الإستماع الى عشرات الشهادات، وكوّن الخبرة الكافية لتمييز الصادق فيها من الأقل صدقاً أو دقّة.

ومن هنا بات من الممكن القول، أنّ عبارات أولئك الديبلوماسيين الأميركيين الثلاثة، قد شكّلت حقاً "لصدام حسين" ضوءاً أخضر حقيقياً يتعذّر الشك في مضمونه. فقد يخطىء أحد أولئك السياسيين في صياغة عباراته، لكن هل من الممكن أن يخطىء ثلاثة من السياسيين الأميركيين المحترفين في التعبير عما يريدون قوله، أو في الرسالة.. او الرسائل، التي يريدون ارسالها للرئيس صدام..بل للعالم كله؟ وهي الرسائل التي تتالت سريعا كمشاهد مترابطة في سيناريو واحد، وخلال فترة زمنية قصيرة هي الرابع والعشرين من تموز (توتوايلر)، والواحد والثلاثين من تموز (جون كيلي).. وبينهما (جلاسبي) في 25 تموز... فقد كانت مجتمعة، ضوءاً أخضر له من الوهج والوضوح ما يكفي وأكثر، مما يجعل من المتعذّر أن تكون الإدراة الأميركية جاهلة بالآثار التي قد يفرزها ذاك الضوء الأخضر الذي رسمه للعراق ذاك السيناريو )التموزي( المدروس بتوقيتاته المتتالية والمترابطة ترابطا تاما وواضحا.

فإذا كان العراق قد وُضع خطأ أو عمداً تحت إنطباع كالإنطباع الذي خرج به النائب "لي هاميلتون " وآخرون، فقد بات من الطبيعي بعد ذلك ـ أنّ يقدّر العراق بأنّ تلك هي فرصته التي قد لاتعوض لتصفية حساباته مع أمراء الكويت الذين ، حسب إعتقاده ، قد قاتل إيران لثماني سنوات دفاعاً عنهم ؛ وبأنّ تلك هي أيضاً فرصته التاريخية لوضع مطالبه التاريخية في الكويت على المـحك؛ فإما أن يخرج منها بكامل الكويت، أو يخرج منها ـ في أدنى الإحتمالات ـ بتسوية إقليمية تمنحه منفذاً على البحر عبر جزيرتي "وربا وبوبيان"، فضلاً عن تسويات حدودية ومالية ونفطية مرضية .

ويعزز وجود التواطؤ والتخطيط لتنفيذ تلك الحرب على العراق، بل والسعي لضمان نجاحها، أن المملكة السعودية قد دفعت للاتحاد السوفياتي مبلغ ثلاثة مليارات دولار عشية الحرب، في رشوة غريبة من السعودية، وسلوك أغرب من الاتحاد السوفياتي الذي تقبلها ... مقابل وعد بامتناع الاتحاد السوفياتي (الذي كان آنئذ تحت قيادة جورباتشوف - صاحب نظرية "البيروسترويكا" التي شكلت لبنة في تدمير وتفكيك الاتحاد السوفياتي) ...عن تقديم العون العسكري أو السياسي للعراق خلال مرحلة الحرب. فهذا ما اعترف به "فكتور غراشينكو" - رئيس البنك المركزي في الاتحاد السوفياتي آنئذ، والذي قال في برنامج بعنوان "رحلة في الذاكرة" بثته قبل شهور قناة "روسيا اليوم". اذ قال في سياق البرنامج المذكور، بأنه قد سافر الى الرياض قبل الحرب، على رأس وفد سوفياتي، لتسلم المبلغ الذي وعدت به المملكة السعودية .. الاتحاد السوفياتي. وقد تسلم فعلا مليارا ونصف المليار نقدا، على أن يدفع النصف الثاني من المبلغ على أساس تسديد أثمان متطلبات سوفياتية لمعدات ذات علاقة باستخراج النفط. ويبدو أن التأخير المتعمد في تسديد النصف الثاني من المبلغ، كان لضمان تتنفيذ الاتحاد السوفياتي لوعده بعدم تقديم العون السياسي والعسكري للعراق خلال تلك الحرب.

وكان الرئيس بوش قد حاول اقناع "جورباتشوف" لدى الالتقاء به (كما ورد على لسان السفير الروسي الكسندر كالوبينك في حلقة من حلقات رحلة في الذاكرة)، بأن برسل قوات سوفياتية لتشارك الأميركيين وقوات التحالف، بعملية تحرير الكويت. لكن "جورباتشوف" رفض ذلك، في وقت قام فيه وزير الخارجية السوفياتي "شيفرناذه" بتقديم الدعم السياسي للموقف الأميركي في تعامله مع قضية غزو الكويت. وكان مرد ذلك وجود نوع من الحساسية بين "شيفرنادزه" والرئيس صدام نتيجة معاملة الرئيس العراقي لشفرنادزه بنوع من الازدراء والاستخفاف لدى زيارته لبغداد.

ويعزز دور الاتحاد السوفياتي السلبي في تلك الحرب، ما قاله أيضا "فلاديمير جيرنوفسكي" - زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي - المعروف بصداقته للرئيس الراحل صدام حسين... في لقاء آخر ضمن برنامج "رحلة في الذاكرة" الذي بثته منذ أكثر من عام قناة "روسيا اليوم" . اذ قال بأن الحكومة السوفياتية، وعندما كانت عاصفة الصحراء على أشدها، قد ارسلت الى بغداد، السياسي السوفياتي المخضرم "بريماكوف" في مهمة سياسية.

وأنا أذكر جيدا زيارة "يفغني بريماكوف" لبغداد التي وصلها بعد منتصف ليل الحادي عشر من شباط 1991. وقد أقام يومئذ في فندق الرشيد في الجناح 204 -206 المكون من ثلاث غرف. وكنت قد انتظرته برفقة المصور "خضير مجيد" على أمل وصوله مبكرا كما كان متوقعا. لكنه لأسباب مجهولة، تأخر وصوله برا الى بغداد الى ما بعد منتصف الليل. ولذا أسميت التقرير الذي أعد في تلك الليلة ب "زائر منتف الليل".

وكانت مهمة بريماكوف - زائر منتصف الليل - التي لم نعلم مضمونها يومئذ، تسعى كما قال بريجنسكي، الى اقناع صدام حسين بالاستقالة والتخلي عن قيادة البلاد، مقابل وعد بأن تتوقف الحرب فورا ضد العراق. ويقول "جيرنوفسكي" أن الرئيس العراقي قد انفجر في وجه "بريماكوف" قائلا بغضب: "أنتم تطلبون مني الآن التنحي...لماذا شجعتموني من قبل على حل مشكلتي مع الكويت بالأسلوب العسكري". ويؤكد جيرنوفسكي معلقا، بأن السوفيات قد شجعوا صدام على الدخول الى الكويت، كما تفيد معلوماته (التي ربما سمعها من صدام حسين الذي التقاه مرارا) بأن الولايات المتحدة أيضا قد قالت له: "أدخل"، مما يفيد أن الدخول العراقي الى الكويت، كما يستفاد من اقوال جيرنوفسكي، كان شركا مبيتا، ليس لصدام حسين وحده، بل للعراق وللعراقيين أيضا، كخطوة نحو شيء أكبر. وكان الشيء الأكبر، كما تبين تدريجيا، هو أن عاصفة الصحراء لم تكن قط لمجرد تحرير الكويت، بل أرادت أن تشكل اللبنة أو الخطوة الأولى نحو تشكيل الشرق الأوسط الجديد.

كل ما في الأمر، أن المخططين الأميركيين كعادتهم، قد ارتكبوا خطأ فادحا في حساباتهم، كما ورد في فصل سابق، لدى رسم استراتيجيتهم عام 1991، لايجاد الظروف الملائمة لخوض حرب مباشرة ضد العراق. وتمثل ذاك الخطأ الذي بات جوهريا، باهمال العامل الايراني، حيث تدخلت ايران في الحرب ساعية لاسقاط النظام العراقي، ولكن ليس تنفيذا للحسابات الأميركية، بل تحقيقا لمصالح ايران، التي وصل رجالها من حرس الثورة الايرانية المؤازرين بالمتمردين من بعض الشيعة العراقيين، الى منطقة تبعد أقل من مائة كيلومتر عن بغداد، (كما قال فكتور غراشينكو) سعيا منهم لاسقاط نظام صدام حسين، واحلال نظام موال لايران في موقعه.

ويضيف "فيكتور غراشنكو" مدير البنك المركزي السوفياتي خلال اللقاء الذي أجري معه في برنامج "رحلة في الذاكرة" السابق ذكره، أن الولايات المتحدة هي التي شجعت شيعة العراق على التمرد على الرئيس العراقي، ليشكلوا جبهة أخرى تقاتله في الداخل العراقي، عندما كانت قوات "عاصفة الصحراء" لا تزال تقاتله في الداخل الكويتي. الا أن حرس الثورة الايرانية سرعان ما تدخلوا الى جانب شيعة العراق، وسعوا لتحويل مجريات الحرب لمصلحة ايران، خلافا لما خططت له الولايات المتحدة.

فالولايات المتحدة عندئذ، ونتيجة ملاحظتها ما ارتكبته من خطأ في حساباتها، قد اضطرت لايقاف الحرب فجأة وبدون مقدمات، في الثامن والعشرين من شباط)، أي في اليوم الخامس والأربعين للشروع بالحرب، وهو ما سمي بالوقف العاصف لعاصفة الصحراء. وجاء ذلك خلافا لرؤية وزير الدفاع "ديك تشيني" الذي أراد استمرارها حتى الوصول الى بغداد، ونصيحة الجنرال شوارزكوف بمواصلة القتال لثمان وأربعين ساعة أخرى وازاء فشلهما في اقناع الرئيس "بوش الأب" و "كولين باول" - رئيس هيئة الأركان، بوجهة نظرهما في المضي قدما بالحرب حتى الوصول الى العاصمة العراقية، فقد سكت "ديك تشيني" على مضض، بل واضطر للسكوت طويلا نتيجة صفقة الديبلوماسية السرية التي عقدها الرئيس بوش الأب مع صدام حسين بوساطة سوفياتية تولاها "بوسفاليوك" السفير السوفياتي آنئ في بغداد، وتكونت الاتفاقية من ثلاثة بنود رئيسية هي:

1) وقف القتال فورا، واطلاق سراح الأسرى العراقيين فورا، مع السماح لصدام باستخدام طائرات الهليكوبتر في الجنوب العراقي الخاضع لحظر جوي تم تخفيفه نسبيا، بل واطلاق يد الاتحاد السوفياتي بتجديد السلاح العراقي الذي دمرته عاصفة الصحراء. وقد تم ذلك عبر جسر جوي من موسكو الى مطار المثنى في بغداد استمر ثلاثة أيام، ابتداء من الثامن من آذار وانتهاء بالعاشر منه. وقد سمعت بنفسي دوي الطائرات الروسية التي كونت الجسر الجوي، عندما كانت تحلق فوق فندق الرشيد في طريقها الى مطار المثنى القريب من الفندق حيث كنت أقيم طوال مرحلة الحرب وبعدها.
2) يستخدم العراق السلاح الجديد لمطاردة حرس الثورة الايراني وأنصارهم من الشيعة العراقيين، الى ما وراء الحدود العراقية الايرانية،
3) وخوفا من أن يغدر الأميركيون بالعراقيين، فيستأنفوا القتال ضد العراق بعد اكتمال مهمته في طرد الايرانيين وأنصارهم الى ما وراء الحدود، فقد اشترط الرئيس صدام الحصول على تعهد أميركي، شبيه بتعهدهم لكوبا عام 1962، بعدم التعرض لنظامه، أو السعي للتآمر عليه أو قلبه. وبالفعل قدم "بوش الأب" ذاك التعهد كما يبدو، ونتيجة ذلك بقي الرئيس صدام في كرسي الرئاسة حتى عام 2003، عندما نفذ "ديك تشيني" المرحلة الثانية من مخططه المدعوم من مجموعة الثمانية التي شكلت ما سمي بتكتل المحافظين الجدد...وهي المرحلة الثانية لتشكيل الشرق الأوسط الجديد، الذي فشلت حرب "عاصفة الصحراء" في تحقيقه.

ويعترف الرئيس "بوش الأب" - كما سبق وذكرت - في مذكراته التي صدرت حديثا، بأن "ديك تشيني"، في عهد رئاسة ابنه، قد شكل مع "دونالد رامسفيلد" وزير الدفاع،وباقي الأعضاء في مجموعة المحافظين الجدد، مجلس أمن قومي خاص به (كما وصفه الرئيس بوش) في البيت الأبيض، غير مجلس الأمن القومي الأميركي الرسمي... وهذا المجلس غير المعلن عنه رسميا، قد خطط لغزو العراق، ساعيا لاستكمال مخططه لايجاد شرق أوسط جديد، يفكك دول المنطقة الى دويلات صغيرة يمكن السيطرة عليها بسهولة، وقيادتها لما فيه مصالح الولايات المتحدة ومصلحة اسرائيل.

**********************
ملاحظة لا بد منها
===========
أنا أعلم بأن ربع قرن من الزمان قد مضى على تنفيذ "عاصفة الصحراء"، وقد نسيها الكثيرون، وربما لن يفيد الخوض مجددا في موضوعها خصوصا وأن عددا كبيرا من الكتاب قد ناقشوها سابقا وقتلوها بحثا ودراسة. الا أنه في اعتقادي أنها لم تناقش قط سابقا، وبشكل جدي ومتعمق، من منطلق أنها لم تكن حربا لتحرير الكويت التي كان يمكن تحريرها وانهاء عملية غزوها بوسائل سلمية وانسحاب عراقي يرضى به كل الأطراف. الا أن امكانية انهاء الأزمة سلميا، قد وضعت العراقيل في طريقها، مما يكشف بأن انهاء الغزو العراقي للكويت، لم يكن هو المبتغى من عاصفة الصحراء. فالمطلوب كان تدمير العراق وقواته العسكرية التي كانت تشكل الى جانب القوة العسكرية السورية، عائقا في طريق تشكيل الشرق الأوسط الجديد، وخطرا قد يحول دون بقاء اسرائيل.

ورغم أن ربع قرن قد مضى على تلك الحرب، وهو زمن كاف يأذن، كما جرى العرف الدولي، بـأن تكشف الادارة الأميركية الرسمية ما خفي من أسرارها، ومع ذلك لم تفعل بعد. فلم يكن هناك كشف واماطة لثام عن تلك الأسرار، بل ولم يكن هناك اعتراف واضح بوجود أسرار دفينة، باستثناء ما كشفه الرئيس بوش الأب في مذكراته الصادرة حديثا جدا (نهايات 2015) ، عن قيام تشيني ومجموعته من عصابة المحافظين الجدد، بتشكيل مجلس أمن قومي خاص بهم داخل البيت الأبيض، وهو المجلس الذي شجع "بوش الابن" على غزو العراق مستندا الى ذرائع واهية ثبت فيما بعد عدم صحتها، بل واعترف مؤخرا "توني بلير" - رئيس وزراء بريطانيا السابق، بعدم صحتها، وبأنه ارتكب خطأ في الانجراف وراءها. كما كشف الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" في حوار أجري معه ونشر مؤخرا في كتاب، عن أوهام وجود شياطين "هاجوج وماجوج" في بابل العراقية في رأس "بوش الابن" ،المضلل من "تشيني" ومجلس أمنه القومي الآخر والسري، ورغبته بالذهاب الى العراق لمقاتلتهم... أي مقاتلة أولئك الجن والشياطين.

وقبل المضي قدما في ايراد الحجج والبراهين على أن عاصفة الصحراء لم تكن حربا لتحرير الكويت، بل كانت حربا تسعى لوضع اللبنة الأولى في مخطط الشرق الأوسط الجديد، أود أن اوضح بأنني لست في معرض الدفاع عن الرئيس صدام حسين الذي لا يكن الكثيرون الود له. فأنا في معرض هذه العجالة من مناقشة الأسباب الحقيقية للحرب، والتي تشكل مرافعة، بل دفاعا حقوقيا وقانونيا أمام محكمة الراي العام الدولي، انما أدافع عن حق الشعب العراقي الذي قتل منه الآلاف، بل الملايين، سواء في حرب 1991 أو غزو 2003، مما يجعله صاحب حق قانوني بالمطالبة بالتعويضات، باعتباره الضحية لا الجلاد. بل وله الحق بالمطالبة باسترداد كل التعويضات التي اقطتعت من عائداته النفطية خلال الأعوام 1991 الى عام 2000، باعتبارها لم تكن تعويضات قانونية وعادلة، بل اقتطعت نتيجة ابتزاز أميركي لشعب العراق، بذريعة أن رئيسه كان جلادا وكان معتديا وغازيا لدولة أخرى.

وسوف أورد في نهاية الكتاب قائمة مطولة بعناوين الكتب التي استقيت منها الكثير من المعلومات والأسانيد، والتي كان بعضها القليل باللغة العرية، لكن أكثرها كتب باللغة الانجليزية، وضعها كتاب وباحثون مرموقون. كما استندت فيها الى أعداد من مجلتي التايم والنيوزويك وصحف أميركية اخرى، اضافة الى محاضر جلسات النقاش أمام لجان الكونجرس الأميركي، والى الكتب التي تضمنت مذكرات جيمس بيكر، شوارزكوف، كولين باول، الأمير خالد .. وكتب أخرى كثيرة (كذلك الى العديد من الفيديوهات والمقابلات الصحفية والتليفزيونية). وقد أمضيت سنوات في قراءتها (ومشاهدتها) والتمعن في دراسة مضمونها. وهذا يفسر أسباب صياغتي، واعادة صياغتي لهذا الكتاب مرارا .. والأسباب التي استدعت مواظبتي على تدقيقه وتمحيص مضمونه مرارا ، وعلى مدى أكثر من عشرين عاما من الزمان.

ميشيل حنا الحاج
عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية THINK TANK
عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن
كاتب في صفحات الحوار المتمدن - ص. مواضيع وأبحاث سياسية
عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية
عضو في رابطة الكتاب الأردنيين - الصفحة الرسمية
عضو في مجموعة شام بوك
عضو في مجموعة مشاهير مصر
عضو في مجموعات أخرى عديدة.


























تنبيه
====
هذا ليس مقالا، بل هو الجزء الرابع من الفصل الثالث من كتابي القادم بعنوان (الاستراتيجية في نهاية مطافها)، عندما كان الأميركيون، بذريعة تحرير الكويت، يسعون لتحقيق الشرق الأوسط الجديد كخطوة في مضمار النظام الدولي الجديد المبني على أساس احادية القطب، اعتمادا منهم على ظهور بوادر الضعف على الاتحاد السوفياتي في ظل البيروسترويكا التي نادى بها جورباتشوف، اضافة لأسباب أخرى. وأنا أعتذر مرة اخرى عن الاطالة. فالمنشور ليس مقالا، بل دراسة تحتاج للتوسع والتفصيل.
======================


بطبيعة الحال، لم يعلم أحد بنوايا أو تفسيرات "جلاسبي" في مرحلة وقوع الأزمة، كما لم يحمله أحد محمل الجدّ بعد وقوع الحرب ثم ظهور "جلاسبي" أمام لجنة الكونجرس. فرغم تفسيرها ذاك حول علامات الحدود كسبب للنزاع، إستمرّ الكتّاب والمحللون يوردون عبارتها الشهيرة، ويتجاهلون مضمون تفسيرها لها أو لملابساتها، وكأنّ درجة الإقتناع بتفسيرها ذاك، كانت ضئيلة وربما معدومة.

وعلى أرض الواقع، فإنّ موقف وزارة الخارجية من "جلاسبي"، قد كشف، كنتيجة طبيعية للغموض الذي رافق سلوكها، ثم اختفاءها، وما تلاه من لخبطات وأحيانا تناقضات في أقوالها أمام لجنة الكونجرس... كشف ما كررته أنا أكثر من مرة، بأنّ شيئاً ما يكتنفْه الغموض، (وربما الغموض المتعمد)... قد كمن في ثنايا أقوالها للرئيس العراقي. كما دلّ على أنّ ما عنته حقاً ـفي أقوالها تلك ، كان شيئاً أكبر من مجرد "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية ". فهذا هو ما يفسّر إنزواءها الطويل والذي دام سبعة شهور وثلاثة أسابيع. فإشارة الى "لجنة الحدود" و"العلامات الحدودية "، لاتقتضي إنزواء كهذا. أمّا القول بأنّه "لا موقف لنا من الخلافات [ أو المنازعات ] الحدودية كخلافكم مع الكويت " ، فأمر غامض وقد يقتضي إنزواء كهذا، أبعدها تماما عن دائرة الضوء، وملاحقة رجال الاعلام الذين قد يكونون قادرين على استدراجها لقول ما لم ترغب الادارة الأميركية بقوله أو الكشف عنه.


ولقد كان إنزواؤها بموجب الحظر الذي فرضه "بيكر" بنفسه، إنزواءً وحظراً جدّياً، روعي بمنتهى الدقّة، لدرجة أنّ السناتور "أوينز" كان عاجزاً حتى عن الإتّصال بها هاتفياً كما ورد سابقا، وأنّ رغبات الكونجرس المتكرّرة في مثولها أمام لجانه، قد تمّ تجاهلها، فلم تجر الإستجابة اليها إلاّ بعد إنتهاء الأزمة وإنتهاء الحرب، أي بعد سبعة شهور وثلاثة أسابيع على عودتها الى واشنطن.

وقد إعترفت "جلاسبي" فيما بعد، بأنّ تعليمات " الإختفاء" أو الإنزواء، قد جاءت من وزير الخارجية نفسه. ونسبت "جلاسبي" أسبابها الى رغبة الإدارة بوجوب أن "تعلم قواتنا [ المسلّحة ] بأنّ الأمّة بكاملها تقف وراءهم. فهذا لم يكن الوقت المناسب للكلام حول أي شيء غير الهدف الذي كان أمامنا [أي الحرب ] " . ولم توضّح لما كان "كلامها" سيؤثّر في معنويات "قواتنا المسلحة" إذا كانت أقوالها أمام الرئيس العراقي لم تتضمن شيئاً سيئاً أو مشبوهاً تخجل منه.

ولكنّ أمراً آخر قد عزّز الإعتقاد في وجود بعض الغموض، وهو ذاك السعي الجدّي لإخفاء حقيقة مضمون الحوار، ورفض وزارة الخارجية الإفراج عن مضمون التعليمات التي بعثت بها ""لإبريل جلاسبي" في شهر تموز، أو الإفراج عن نصّ البرقية التي بعثت بها "جلاسبي" الى وزارة الخارجية في 25 تموز، متضمّنة قراءتها الشخصية لمجريات حوارها مع الرئيس العراقي. فوزارة الخارجية الأميركية، لم تفرج عن برقية "جلاسبي" لغايات إطلاع الرأي العام عليها، رغم القضية التي رفعت أمام المحكمة الفدرالية مطالبة بذلك. وهي لم تـكتـفِ بحجب السفيرة عن لجنة الكونجرس لمدّة سبعة شهور، بل حاولت أيضاً أن تحول دون إطّلاع اللجنة على مضمون تلك البرقية ولو على أسس السرّية التامّة، أي على أساس ألاّ يطّلع عليها إلاّ أعضاء اللجنة أنفسهم. .

فقد سألها السيناتور ستيفان سولارز (STEPHEN SOLARZ) : "هل تعارضين الآن في تسليم البرقية ]التي تضمنت تعليمات وزارة الخارجية لها عشية لقائها الشهير بصدام[ الى لجنة العلاقات الخارجية على أساس السريّة، إن كانت [السريّة] ضرورية، بحيث نستطيع الإطّلاع عليها...رفضت "جلاسبي" ذلك قائلة: " نعم سيدي. أنا أعترض لسبب أعتبره موجباً ... فخلال خمسة وعشرين عاماً من العمل الدبلوماسي، أنا لم أعلم شخصياً بحالة قامت فيها أيّة دولة، مهما كانت الإغراءات، بإصدار نصّ [ حوار ] كهذا .... عندما نبدأ بإصدار مذكّرات حول حوارات مع رؤساء الدول، أنا أعتقد بأنّها ستفسد سرّية إجراء هام جداً" . وردّ عليها السناتور "سولارز" قائلاً بأنّ "هذه اللجنة غالباً ما سُلِّمت برقيات تتضمّن مباحثات بين سفراء وزعماء أجانب، بما فيهم رؤساء الدول ... من الصعوبة أن نصف تسليم هذه البرقية الى اللجنة، بأنّها سابقة جديدة" .

ولقد طالب فعلاً "لي هاميلتون" - رئيس اللجنة ، بتسليم تلك البرقية والبرقيات الأخرى التي بعثت بها السفارة الأميركية في بغداد منذ عام 1989 . وعندما إطّلع بعض أعضاء الكونجرس على تلك البرقية المرسلة الى واشنطن، والتي تضّمنت تقرير "جلاسبي" الخاص حول مجريات حوارها مع " صدام "، ذكر أولئك السناتورات أنّ جلاسبي قد ضلّلتهم في شهادتها .

وقال السناتور آلن كرانستون (ALAN CRANSTON ) -ـ نائب كاليفورنيا، متّهماً: " لقد تعمّدت إبريل جلاسبي تضليل الكونجرس حول دورها في مأساة الخليج (الفارسي) " . كما أنّ السناتور "كليربورن بل" ( CLAIRBORNE PELL )، قد بعث برسالة غاضبة في 12 تموز1991 ، الى وزير الخارجية "مطالباً بتفسير لعدم التناسق بين شهادة جلاسبي ونصّ البرقية " .

ويقول كتاب "عاصفة الصحراء ـ الدروس التي تعلمناها " (DESERT STORM) الذي وضعه أساتـذة في مركـز الأبـحـاث الإستراتيجية الدولـيـة هم "مايكل مازار (M. MAZAAR) ، دون شنـايـدر (D. SNIDER) ، وجيمس بلاكـويـل (J. BLACKWELL JR) ( الذي عمل أيضاً كمحلّل عسكري لشبكة "سي أن أن" (CNN)،" أنّ مجموعة من برقيات وزارة الخارجية [الأميركية ] السريّة، قد نُشرت بعد عدة شهور من شهادتها [جلاسبي]، وبـيّـنت أنّها قد فعلت الشيء القليل لتعبّر عن جدّية الولايات المتحدة بخصوص تهديدات العراق للكويت. فالبرقيات التي أُرسلت من جلاسبي بعد لقائها صدام، تبيّن أنها قد كرّرت التعبير لصدام عن رغبة الإدارة الأميركية في علاقة أفضل، وعارضت الدخول في مواجهة مع الزعيم العراقي " . وقالت "جلاسبي" في إحدى البرقيات: "أعتقد أنّ أفضل نصيحة [أقولها]، هي تخفيف النقد العلني للعراق، الى أن نرى كيف ستتطوّر المفاوضات" .

ويبدو أنّ برقيات " جلاسبي" الى وزارة الخارجية التي أفرج عنها بناء على طلب أعضاء لجنة الكونجرس، لم يطّلع عليها إلاّ أولئك الأعضاء. وقد جرت المطالبة قضائياً بالإفراج الكامل عن مضمون برقية "جلاسبي" للخارجية الأميركية، بحيث يتسنّى للعامة الإطّلاع عليها أيضاً. لكنّ المحكمة الفدرالية، رفضت إصدار الأمر بذلك. ويقول "رامزي كلارك": "عندما قامت محكمة إتحادية، في نيسان 1991 بناء على إصرار الحكومة، برفض إصدار الأمر الى وزارة الخارجية [الأميركية[ للإفراج عن مذكّرة أبريل جلاسبي المؤرخة في 25 تموز 1990 ، حول إجتماعها بصدام حسين مباشرة قبل غزو العراق للكويت ـ ... لم تصدر صرخة عن الصحافة [الأميركية (تـتّهم الإدارة ) بالتغطية وتطالب بالمذكرة " .

ولكنّ البرقيات التي أفرج عنها من أجل إطلاع لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس، كانت فقط البرقيات المرسلة من "جلاسبي" الى وزارة الخارجية. أمّا برقية وزارة الخارجية الأميركية المرسلة الى "جلاسبي"، متضمّنة التعليمات التي تصرّفت "جلاسبي" بموجبها، فلم يفرج عنها قط.. فلا أحد يعلم نوعية التعليمات الحقيقية التي أعطيت لها من قبل وزير الخارجية الأميركية، أو من قبل من قام مقامه بإرسالها.

فما هو مضمون تلك التعليمات التي إضطرّت "بيكر" الى التـنصّل من إصدارها، أو توقيعها، أو مجرّد العلم بها. ولمَ رفضت الخارجية الأميركية الإفراج عنها؟ ترى ماذا تخفي تلك البرقية. وهل كانت التعليمات " لجلاسبي" تقضي بالرضاء الصريح من قبل الولايات المتحدة بدخول العراق الى الكويت، أم كانت تتضمّن شيئاً آخر.
فرغم الجدل الطويل، لم يحسم أحد ذاك الجدل حول ما إذا كانت الخارجية الأميركية عن طريق سفيرتها ، قد سعت عمداً أم نتيجة خطأ، الى خلق إنطباع كهذا لدى العراقيين .

**********

ولكنّ شهادة أخرى أمام لجنة الكونجرس - سابقة على شهادة "جلاسبي" أمام اللجنة المذكورة ، وقد أدلى بها هذه المرّة "جون كيلي" مساعد وزير الخارجية ، رجّحت إحتمال كون أقوال جلاسبي امام الرئيس العراقي، قبل مثول "كيلي" أمام لجنة الكونجرس بأيام، كانت مقصودة ومتعمدة السعي لترك ذاك الإنطباع لدى العراقـيين. ذلك أن شهادة "جون كيلي" قد عززت ذاك الانطباع دون أن تحاول نفيه ، ولو في مسعى لاستدراك وتصحيح الانطباع الخاطىء الذي تركته "جلاسبي" لدى صدام. وكما أثارت شهادة "جلاسبي" اللاحقة، ردود فعل غاضبة لدى عدد من السناتورات ، فإنّ شهادة ""كيلي" قد أثارت من قبلها ردود فعل مشابهة من قبل النائب "لي هاميلتون" وأعضاء لجنته .

ففي الواحد والثلاثين من تموز 1990 ، وبعد لقاء "جلاسبي" بالرئيس العراقي بستّة أيام فقط، وقبل أقلّ من أربع وعشرين ساعة على الإجتياح العراقي للكويت، وعندما كانت أنباء الحشود العراقية على حدود الكويت قد بلغت القاصي والداني، أدلى "جون كيلي" بشهادته الشهيرة تلك أمام لجنة الكونجرس .

فقد تحدّث عندئذٍ أمام اللجنة المذكورة، مجيباً على أسئلة أعضاء اللجنة. وكان النائب "لي هاميلتون" قد سأله: " قرأت في الصحافة قولاً لوزير الدفاع ريتشارد تشيني، يصرّح فيه أنّ الولايات المتحدة ملزمة بالدفاع عن الكويت إذا هوجمت. هل هذا ماقيل فعلاً ؟ هل يستطيع كيلي توضيح هذا الأمر" . فرد عليه "كيلي" قائلا: "لست مطّلعاً على هذا التصريح الذي تشير إليه. ولكنّي واثق من موقف الولايات المتحدة في هذه القضية. ليست لدينا معاهدة دفاع مع دول الخليج. هذا واضح " . وقد قال ذلك رغم أن هذا الوضوح لم يكن واضحا بما فيه الكفاية لوزير الدفاع "ديك تشيني" الذي صرح - كما قال "لي هاملتون" - بأن أميركا ملزمة بالدفاع عن الكويت، مما قد يفيد بوجود اتفاقية دفاعية سرية بين الكويت والولايات المتحدة. فهي اتفاقية سرية لم يعلن عنها، لأنه لو أعلن عنها وعلم العراق بوجودها، لربما فكر الرئيس صدام مليا قبل الاقدام على غزو الكويت. فهل تلك كانت اتفاقية جديدة عقدها للتو سرا "ديك تشيني" صاحب مخطط الشرق الأوسط الجديد... مع الكويت، (ولم يكن قد أبلغ بها بعد وزارة الحارجية الأميركية بدليل أن نائب وزير الخارجية "جون كيلي" لم يعلم بها بعد) كفصل أول من فصول سيناريو الاعداد الأميركي - التشيني... لاستدراج العراق للكويت؟

ولكنّ النائب هاميلتون، بعد حوار قصير مع " كيلي"، عاد ليسأله السؤال المحدّد: "ومع ذلك، إذا نشأ وضع كهذا [أي هجوم عراقي على الكويت]، فهل من الصحيح القول بأنّنا لانملك
معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة".
وردّ " كيلي" قائلاً :" هذا صحيح تماماً " . ثم أوضح "بأنّنا تاريخياً، لم نأخذ موقفاً من نزاعات حدودية " .

وعلّق الكاتبان "سالنجر ولوران" اللذان أوردا جزءاً من محضر الحوار في لجنة الكونجرس، فقالا بأنّ " شهادة "جون كيلي" كانت تذاع عبر الخدمة العالمية لإذاعة "بي بي سي" (BBC) التي تسمع في بغداد. ففي ساعة حرجة، بينما كان السلم والحرب يتأرجحان في الميزان، أرسل كيلي إلى صدام حسين إشارة يمكن قراءتها كضمانة أو تعهّد بأنّ الولايات لن تتدخّل " ، وقد أرسلها ضمن شهادة رسمية وعلنية، يرجّح أن تكون قد تمت بعد آداء القسم .

ويضيف "سالنجر ولوران" في كتابهما، تعليقاً آخر على أقوال "كيلي" المذاعة، قائلين : "في تاريخ الدبلوماسية الأميركية الحديث، هناك مثال آخر على الحسابات الخاطئة. هذا المثل هو بيان وزير الخارجية الأميركي دين اتشيسون أمام الكونجرس عام 1950، الذي قال فيه أنّ جنوب كوريا، ليست ضمن مناطق الحماية الأميركية. ذلك أنّ كوريا الشمالية، قد غزت كوريا الجنوبية بعد ذلك بفترة قصيرة " . فما أشبه اليوم بالبارحة على صعيد أساليب الاسترايجية الأميركية الغامضة.

ولكنّ الملاحظات على " شهادة كيلى"، لا يجوز أن تتوقّف عند ذاك الحد. فأمور كثيرة تشّد الإنتباه حولها :
1) كان " كيلي " يتحدّث بثـقة شديدة لا تترك مجالاً للشك في مدى ثقته في أقواله تلك . فهو يستخدم عبارات مؤكّدة بحزم مثل قوله "أنا واثق " ... " هذا واضح "... " هذا صحيح تماماً. لا معاهدة أو إلتزاماً يجبرنا على إدخال القوات الأميركية في المعركة " . فلما أدخلت اذن بعد ذلك، وبشكل أكثر ضراوة من ادخالها في الحرب ضد كوريا قبل أربعة عقود؟

2) لم يكن " كيلي" يخاطب صحفيين في مؤتمر صحفي، كي يقال بأنّه من الممكن أن يحمّل أقواله عبارات تمويهية، او معانٍ لم يقصدها. بل كان يخاطب أعضاء من الكونجرس. ومن هنا، توجّب إفتراض الصدق فيما يقوله .

3) وهو لم يكن يخاطب أعضاء من الكونجرس، ضمن محاضرة عامة، أو في جلسة سمر، أو جلسة دردشة سياسية غير رسمية. فقد كان يخاطبهم أثناء إدلائه بشهادة رسمية، والأرجح بعد أداء القسم، مما يعزّز ضرورة إفتراض الصدق في أقواله..
ومن هنا، بدا من الطبيعي أن يقننع سامعوه، بمافيهم العراقيون، بأنّه " لايوجد معاهدات أو إلتزامات أمنية مع دول الخليج" ، وبأنّه إذا دخل العراق الى الكويت، فإن الولايات المتحدة "ليست مضطرةٍ الى إرسال قواتها الى هناك"، لأنّه "لاتوجد معاهدات أو إلتزامات"، وبأنّ الولايات المتحدة تاريخياً، "لم تأخذ موقفاً من نزاع حدود " .

ولقد قنع بذلك النائب "لي هاميلتن" ، رئيس لجنة الكونجرس الذي فوجىء بعد ذلك بأنّ الإدارة الأميركية قد أرسلت فـعلاً (قوات) الى الخليج، وبأنّها كانت معنيّة بالنزاع الحدودي. وتذكر مجلّة التايم في عددها الصادررفي الأول من تشرين أول 1990 ، بأنّ "لي هاميلتون" ، عندما إلتقى "بجون كيلي" في أوائل أيلول 1990، قد خاطبه مذكّراً: " لقد تركت [لدينا] الإنطباع بأنّ سياسة الولايات المتحدة كانت عدم الذهاب الى مساعدة الكويت " .

وكان "لي هاميلتون" بإنتقاده ذاك، هو أوّل رجالات الكونجرس الذين يبدون دهشتهم ، أنّ لم يكن إمتعاضهم من مضمون شهادات رجال الإدارة المضـلّلة أمام لجانهم. وقد إعترض بعده - كما سبق وذكرنا ، وبلهجة أكثر عنفاً، كل من "كليبورن بل" و" آلن كرانستون"، فضلاً عن سناتورات آخرين، منتقدين عدم الدقّة في شهادة "أبريل جلاسبي" .

ولكنّ تصريحات "لي هاميلتون" في أيلول 1990 ـ، إذا كانت هي تعليقاته الأولى المنتقدة لشهادة "جون كيلي"، فإنّها لم تكن تصريحاته الأخيرة. فهو قد تعرّض مرة أخرى لذات الموضوع في شهر آذار 1991 ــ أثناء إدلاء "جلاسبي" بشهادتها أمام لجنته .

فقد ذكّر بتصريحات "لمارجريت توتوايلر" ـفي 24 تموز 1990 ، نافية لوجود معاهدات دفاعية مع الكويت. وعـلّق النائب الأميركي ـ رئيس اللجنةـ.. قائلاً : " أنّ هذا السجّل، ليس سجلاً للوضوح الخالي من الغموض بالنسبة للموقف الأميركي. إنّه سجلّ أربكني شخصياً، وأربك اللجنة، وأربك جزءاً هاماً من صحافة واشنطن ، وقد لا أكون مغالياً إذا فكرت بأنّه ربما أربك صدام حسين أيضاً. فهو ليس سجلاًّ للوضوح، وللدقّة، وللبيانات غير الغامضة حول الموقف الأميركي في الخليج " .

وإعترف دبلوماسي أميركي بارز، مركزه في الشرق الأوسط لمجلّة نيوزويك (عددها الصادر في الأول من نيسان 1991) بالقول: "لو كنت جالساً حيث كان [صـدام] يجلس، وتلقيت كلّ هذه الإشارات التي تلقاها من واشنطن ومن جهات أخرى، فإنّه كان من المحتمل أن أقامر أنا أيضاً على غزو الكويت " .

ويقول "ريتشارد بايل" (Rithard Pyle) في كتابه، أنّ "الأسئلة تظلّ بدون حلول، حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ، من خلال سفيرتها ، قد شجّعت صدام بعفوية على إجتياح الكويت، بالتلميح أنّها لن تتدخّل" .

ويكرّر المضمون ذاته الأمير خالد بن سلطان في كتابه "محارب في الصحراء "، عندما يقول: " سواء عمداً أو لا [ أي خطأ ]، فإنّ هذه الإشارات الدبلوماسية الخاطئة، لابدّ أنّ تكون بدون شك ، قد شجّعت صدام على القيام بتحرّكه " العسكري، أي القيام بعملية الغزو.

والواقع أنّه قد يكون من المستغرب جدّاً أن تتوقع الإدارة الأميركية أن تترك أقوال توتوايلر" في 24 تموز، ثم أقوال "كيلي" في31 تموز، وبينهما أقوال "جلاسبي" في 25 تموز، إنطباعاً مختلفاً لدى الرئيس العراقي، طالما أنّ ذاك كان هو الإنطباع الذي تركته لدى الصحافة الأميركية، بل لدى لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي الضالعة بالشؤون السياسية، بل ولدى رئيس اللّجنة نفسه الذي إعتاد الإستماع الى عشرات الشهادات، وكوّن الخبرة الكافية لتمييز الصادق فيها من الأقل صدقاً أو دقّة.

ومن هنا بات من الممكن القول، أنّ عبارات أولئك الديبلوماسيين الأميركيين الثلاثة، قد شكّلت حقاً "لصدام حسين" ضوءاً أخضر حقيقياً يتعذّر الشك في مضمونه. فقد يخطىء أحد أولئك السياسيين في صياغة عباراته، لكن هل من الممكن أن يخطىء ثلاثة من السياسيين الأميركيين المحترفين في التعبير عما يريدون قوله، أو في الرسالة.. او الرسائل، التي يريدون ارسالها للرئيس صدام..بل للعالم كله؟ وهي الرسائل التي تتالت سريعا كمشاهد مترابطة في سيناريو واحد، وخلال فترة زمنية قصيرة هي الرابع والعشرين من تموز (توتوايلر)، والواحد والثلاثين من تموز (جون كيلي).. وبينهما (جلاسبي) في 25 تموز... فقد كانت مجتمعة، ضوءاً أخضر له من الوهج والوضوح ما يكفي وأكثر، مما يجعل من المتعذّر أن تكون الإدراة الأميركية جاهلة بالآثار التي قد يفرزها ذاك الضوء الأخضر الذي رسمه للعراق ذاك السيناريو )التموزي( المدروس بتوقيتاته المتتالية والمترابطة ترابطا تاما وواضحا.

فإذا كان العراق قد وُضع خطأ أو عمداً تحت إنطباع كالإنطباع الذي خرج به النائب "لي هاميلتون " وآخرون، فقد بات من الطبيعي بعد ذلك ـ أنّ يقدّر العراق بأنّ تلك هي فرصته التي قد لاتعوض لتصفية حساباته مع أمراء الكويت الذين ، حسب إعتقاده ، قد قاتل إيران لثماني سنوات دفاعاً عنهم ؛ وبأنّ تلك هي أيضاً فرصته التاريخية لوضع مطالبه التاريخية في الكويت على المـحك؛ فإما أن يخرج منها بكامل الكويت، أو يخرج منها ـ في أدنى الإحتمالات ـ بتسوية إقليمية تمنحه منفذاً على البحر عبر جزيرتي "وربا وبوبيان"، فضلاً عن تسويات حدودية ومالية ونفطية مرضية .

ويعزز وجود التواطؤ والتخطيط لتنفيذ تلك الحرب على العراق، بل والسعي لضمان نجاحها، أن المملكة السعودية قد دفعت للاتحاد السوفياتي مبلغ ثلاثة مليارات دولار عشية الحرب، في رشوة غريبة من السعودية، وسلوك أغرب من الاتحاد السوفياتي الذي تقبلها ... مقابل وعد بامتناع الاتحاد السوفياتي (الذي كان آنئذ تحت قيادة جورباتشوف - صاحب نظرية "البيروسترويكا" التي شكلت لبنة في تدمير وتفكيك الاتحاد السوفياتي) ...عن تقديم العون العسكري أو السياسي للعراق خلال مرحلة الحرب. فهذا ما اعترف به "فكتور غراشينكو" - رئيس البنك المركزي في الاتحاد السوفياتي آنئذ، والذي قال في برنامج بعنوان "رحلة في الذاكرة" بثته قبل شهور قناة "روسيا اليوم". اذ قال في سياق البرنامج المذكور، بأنه قد سافر الى الرياض قبل الحرب، على رأس وفد سوفياتي، لتسلم المبلغ الذي وعدت به المملكة السعودية .. الاتحاد السوفياتي. وقد تسلم فعلا مليارا ونصف المليار نقدا، على أن يدفع النصف الثاني من المبلغ على أساس تسديد أثمان متطلبات سوفياتية لمعدات ذات علاقة باستخراج النفط. ويبدو أن التأخير المتعمد في تسديد النصف الثاني من المبلغ، كان لضمان تتنفيذ الاتحاد السوفياتي لوعده بعدم تقديم العون السياسي والعسكري للعراق خلال تلك الحرب.

وكان الرئيس بوش قد حاول اقناع "جورباتشوف" لدى الالتقاء به (كما ورد على لسان السفير الروسي الكسندر كالوبينك في حلقة من حلقات رحلة في الذاكرة)، بأن برسل قوات سوفياتية لتشارك الأميركيين وقوات التحالف، بعملية تحرير الكويت. لكن "جورباتشوف" رفض ذلك، في وقت قام فيه وزير الخارجية السوفياتي "شيفرناذه" بتقديم الدعم السياسي للموقف الأميركي في تعامله مع قضية غزو الكويت. وكان مرد ذلك وجود نوع من الحساسية بين "شيفرنادزه" والرئيس صدام نتيجة معاملة الرئيس العراقي لشفرنادزه بنوع من الازدراء والاستخفاف لدى زيارته لبغداد.

ويعزز دور الاتحاد السوفياتي السلبي في تلك الحرب، ما قاله أيضا "فلاديمير جيرنوفسكي" - زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي - المعروف بصداقته للرئيس الراحل صدام حسين... في لقاء آخر ضمن برنامج "رحلة في الذاكرة" الذي بثته منذ أكثر من عام قناة "روسيا اليوم" . اذ قال بأن الحكومة السوفياتية، وعندما كانت عاصفة الصحراء على أشدها، قد ارسلت الى بغداد، السياسي السوفياتي المخضرم "بريماكوف" في مهمة سياسية.

وأنا أذكر جيدا زيارة "يفغني بريماكوف" لبغداد التي وصلها بعد منتصف ليل الحادي عشر من شباط 1991. وقد أقام يومئذ في فندق الرشيد في الجناح 204 -206 المكون من ثلاث غرف. وكنت قد انتظرته برفقة المصور "خضير مجيد" على أمل وصوله مبكرا كما كان متوقعا. لكنه لأسباب مجهولة، تأخر وصوله برا الى بغداد الى ما بعد منتصف الليل. ولذا أسميت التقرير الذي أعد في تلك الليلة ب "زائر منتف الليل".

وكانت مهمة بريماكوف - زائر منتصف الليل - التي لم نعلم مضمونها يومئذ، تسعى كما قال بريجنسكي، الى اقناع صدام حسين بالاستقالة والتخلي عن قيادة البلاد، مقابل وعد بأن تتوقف الحرب فورا ضد العراق. ويقول "جيرنوفسكي" أن الرئيس العراقي قد انفجر في وجه "بريماكوف" قائلا بغضب: "أنتم تطلبون مني الآن التنحي...لماذا شجعتموني من قبل على حل مشكلتي مع الكويت بالأسلوب العسكري". ويؤكد جيرنوفسكي معلقا، بأن السوفيات قد شجعوا صدام على الدخول الى الكويت، كما تفيد معلوماته (التي ربما سمعها من صدام حسين الذي التقاه مرارا) بأن الولايات المتحدة أيضا قد قالت له: "أدخل"، مما يفيد أن الدخول العراقي الى الكويت، كما يستفاد من اقوال جيرنوفسكي، كان شركا مبيتا، ليس لصدام حسين وحده، بل للعراق وللعراقيين أيضا، كخطوة نحو شيء أكبر. وكان الشيء الأكبر، كما تبين تدريجيا، هو أن عاصفة الصحراء لم تكن قط لمجرد تحرير الكويت، بل أرادت أن تشكل اللبنة أو الخطوة الأولى نحو تشكيل الشرق الأوسط الجديد.

كل ما في الأمر، أن المخططين الأميركيين كعادتهم، قد ارتكبوا خطأ فادحا في حساباتهم، كما ورد في فصل سابق، لدى رسم استراتيجيتهم عام 1991، لايجاد الظروف الملائمة لخوض حرب مباشرة ضد العراق. وتمثل ذاك الخطأ الذي بات جوهريا، باهمال العامل الايراني، حيث تدخلت ايران في الحرب ساعية لاسقاط النظام العراقي، ولكن ليس تنفيذا للحسابات الأميركية، بل تحقيقا لمصالح ايران، التي وصل رجالها من حرس الثورة الايرانية المؤازرين بالمتمردين من بعض الشيعة العراقيين، الى منطقة تبعد أقل من مائة كيلومتر عن بغداد، (كما قال فكتور غراشينكو) سعيا منهم لاسقاط نظام صدام حسين، واحلال نظام موال لايران في موقعه.

ويضيف "فيكتور غراشنكو" مدير البنك المركزي السوفياتي خلال اللقاء الذي أجري معه في برنامج "رحلة في الذاكرة" السابق ذكره، أن الولايات المتحدة هي التي شجعت شيعة العراق على التمرد على الرئيس العراقي، ليشكلوا جبهة أخرى تقاتله في الداخل العراقي، عندما كانت قوات "عاصفة الصحراء" لا تزال تقاتله في الداخل الكويتي. الا أن حرس الثورة الايرانية سرعان ما تدخلوا الى جانب شيعة العراق، وسعوا لتحويل مجريات الحرب لمصلحة ايران، خلافا لما خططت له الولايات المتحدة.

فالولايات المتحدة عندئذ، ونتيجة ملاحظتها ما ارتكبته من خطأ في حساباتها، قد اضطرت لايقاف الحرب فجأة وبدون مقدمات، في الثامن والعشرين من شباط)، أي في اليوم الخامس والأربعين للشروع بالحرب، وهو ما سمي بالوقف العاصف لعاصفة الصحراء. وجاء ذلك خلافا لرؤية وزير الدفاع "ديك تشيني" الذي أراد استمرارها حتى الوصول الى بغداد، ونصيحة الجنرال شوارزكوف بمواصلة القتال لثمان وأربعين ساعة أخرى وازاء فشلهما في اقناع الرئيس "بوش الأب" و "كولين باول" - رئيس هيئة الأركان، بوجهة نظرهما في المضي قدما بالحرب حتى الوصول الى العاصمة العراقية، فقد سكت "ديك تشيني" على مضض، بل واضطر للسكوت طويلا نتيجة صفقة الديبلوماسية السرية التي عقدها الرئيس بوش الأب مع صدام حسين بوساطة سوفياتية تولاها "بوسفاليوك" السفير السوفياتي آنئ في بغداد، وتكونت الاتفاقية من ثلاثة بنود رئيسية هي:

1) وقف القتال فورا، واطلاق سراح الأسرى العراقيين فورا، مع السماح لصدام باستخدام طائرات الهليكوبتر في الجنوب العراقي الخاضع لحظر جوي تم تخفيفه نسبيا، بل واطلاق يد الاتحاد السوفياتي بتجديد السلاح العراقي الذي دمرته عاصفة الصحراء. وقد تم ذلك عبر جسر جوي من موسكو الى مطار المثنى في بغداد استمر ثلاثة أيام، ابتداء من الثامن من آذار وانتهاء بالعاشر منه. وقد سمعت بنفسي دوي الطائرات الروسية التي كونت الجسر الجوي، عندما كانت تحلق فوق فندق الرشيد في طريقها الى مطار المثنى القريب من الفندق حيث كنت أقيم طوال مرحلة الحرب وبعدها.
2) يستخدم العراق السلاح الجديد لمطاردة حرس الثورة الايراني وأنصارهم من الشيعة العراقيين، الى ما وراء الحدود العراقية الايرانية،
3) وخوفا من أن يغدر الأميركيون بالعراقيين، فيستأنفوا القتال ضد العراق بعد اكتمال مهمته في طرد الايرانيين وأنصارهم الى ما وراء الحدود، فقد اشترط الرئيس صدام الحصول على تعهد أميركي، شبيه بتعهدهم لكوبا عام 1962، بعدم التعرض لنظامه، أو السعي للتآمر عليه أو قلبه. وبالفعل قدم "بوش الأب" ذاك التعهد كما يبدو، ونتيجة ذلك بقي الرئيس صدام في كرسي الرئاسة حتى عام 2003، عندما نفذ "ديك تشيني" المرحلة الثانية من مخططه المدعوم من مجموعة الثمانية التي شكلت ما سمي بتكتل المحافظين الجدد...وهي المرحلة الثانية لتشكيل الشرق الأوسط الجديد، الذي فشلت حرب "عاصفة الصحراء" في تحقيقه.

ويعترف الرئيس "بوش الأب" - كما سبق وذكرت - في مذكراته التي صدرت حديثا، بأن "ديك تشيني"، في عهد رئاسة ابنه، قد شكل مع "دونالد رامسفيلد" وزير الدفاع،وباقي الأعضاء في مجموعة المحافظين الجدد، مجلس أمن قومي خاص به (كما وصفه الرئيس بوش) في البيت الأبيض، غير مجلس الأمن القومي الأميركي الرسمي... وهذا المجلس غير المعلن عنه رسميا، قد خطط لغزو العراق، ساعيا لاستكمال مخططه لايجاد شرق أوسط جديد، يفكك دول المنطقة الى دويلات صغيرة يمكن السيطرة عليها بسهولة، وقيادتها لما فيه مصالح الولايات المتحدة ومصلحة اسرائيل.

**********************
ملاحظة لا بد منها
===========
أنا أعلم بأن ربع قرن من الزمان قد مضى على تنفيذ "عاصفة الصحراء"، وقد نسيها الكثيرون، وربما لن يفيد الخوض مجددا في موضوعها خصوصا وأن عددا كبيرا من الكتاب قد ناقشوها سابقا وقتلوها بحثا ودراسة. الا أنه في اعتقادي أنها لم تناقش قط سابقا، وبشكل جدي ومتعمق، من منطلق أنها لم تكن حربا لتحرير الكويت التي كان يمكن تحريرها وانهاء عملية غزوها بوسائل سلمية وانسحاب عراقي يرضى به كل الأطراف. الا أن امكانية انهاء الأزمة سلميا، قد وضعت العراقيل في طريقها، مما يكشف بأن انهاء الغزو العراقي للكويت، لم يكن هو المبتغى من عاصفة الصحراء. فالمطلوب كان تدمير العراق وقواته العسكرية التي كانت تشكل الى جانب القوة العسكرية السورية، عائقا في طريق تشكيل الشرق الأوسط الجديد، وخطرا قد يحول دون بقاء اسرائيل.

ورغم أن ربع قرن قد مضى على تلك الحرب، وهو زمن كاف يأذن، كما جرى العرف الدولي، بـأن تكشف الادارة الأميركية الرسمية ما خفي من أسرارها، ومع ذلك لم تفعل بعد. فلم يكن هناك كشف واماطة لثام عن تلك الأسرار، بل ولم يكن هناك اعتراف واضح بوجود أسرار دفينة، باستثناء ما كشفه الرئيس بوش الأب في مذكراته الصادرة حديثا جدا (نهايات 2015) ، عن قيام تشيني ومجموعته من عصابة المحافظين الجدد، بتشكيل مجلس أمن قومي خاص بهم داخل البيت الأبيض، وهو المجلس الذي شجع "بوش الابن" على غزو العراق مستندا الى ذرائع واهية ثبت فيما بعد عدم صحتها، بل واعترف مؤخرا "توني بلير" - رئيس وزراء بريطانيا السابق، بعدم صحتها، وبأنه ارتكب خطأ في الانجراف وراءها. كما كشف الرئيس الفرنسي "جاك شيراك" في حوار أجري معه ونشر مؤخرا في كتاب، عن أوهام وجود شياطين "هاجوج وماجوج" في بابل العراقية في رأس "بوش الابن" ،المضلل من "تشيني" ومجلس أمنه القومي الآخر والسري، ورغبته بالذهاب الى العراق لمقاتلتهم... أي مقاتلة أولئك الجن والشياطين.

وقبل المضي قدما في ايراد الحجج والبراهين على أن عاصفة الصحراء لم تكن حربا لتحرير الكويت، بل كانت حربا تسعى لوضع اللبنة الأولى في مخطط الشرق الأوسط الجديد، أود أن اوضح بأنني لست في معرض الدفاع عن الرئيس صدام حسين الذي لا يكن الكثيرون الود له. فأنا في معرض هذه العجالة من مناقشة الأسباب الحقيقية للحرب، والتي تشكل مرافعة، بل دفاعا حقوقيا وقانونيا أمام محكمة الراي العام الدولي، انما أدافع عن حق الشعب العراقي الذي قتل منه الآلاف، بل الملايين، سواء في حرب 1991 أو غزو 2003، مما يجعله صاحب حق قانوني بالمطالبة بالتعويضات، باعتباره الضحية لا الجلاد. بل وله الحق بالمطالبة باسترداد كل التعويضات التي اقطتعت من عائداته النفطية خلال الأعوام 1991 الى عام 2000، باعتبارها لم تكن تعويضات قانونية وعادلة، بل اقتطعت نتيجة ابتزاز أميركي لشعب العراق، بذريعة أن رئيسه كان جلادا وكان معتديا وغازيا لدولة أخرى.

وسوف أورد في نهاية الكتاب قائمة مطولة بعناوين الكتب التي استقيت منها الكثير من المعلومات والأسانيد، والتي كان بعضها القليل باللغة العرية، لكن أكثرها كتب باللغة الانجليزية، وضعها كتاب وباحثون مرموقون. كما استندت فيها الى أعداد من مجلتي التايم والنيوزويك وصحف أميركية اخرى، اضافة الى محاضر جلسات النقاش أمام لجان الكونجرس الأميركي، والى الكتب التي تضمنت مذكرات جيمس بيكر، شوارزكوف، كولين باول، الأمير خالد .. وكتب أخرى كثيرة (كذلك الى العديد من الفيديوهات والمقابلات الصحفية والتليفزيونية). وقد أمضيت سنوات في قراءتها (ومشاهدتها) والتمعن في دراسة مضمونها. وهذا يفسر أسباب صياغتي، واعادة صياغتي لهذا الكتاب مرارا .. والأسباب التي استدعت مواظبتي على تدقيقه وتمحيص مضمونه مرارا ، وعلى مدى أكثر من عشرين عاما من الزمان.

ميشيل حنا الحاج
عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية THINK TANK
عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن
كاتب في صفحات الحوار المتمدن - ص. مواضيع وأبحاث سياسية
عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية
عضو في رابطة الكتاب الأردنيين - الصفحة الرسمية
عضو في مجموعة شام بوك
عضو في مجموعة مشاهير مصر
عضو في مجموعات أخرى عديدة.



#ميشيل_حنا_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل تؤثر تفجيرات باريس ايجابيا على مؤتمري فينا وقمة العشرين؟
- اختفاء السفيرة جلاسبي، والتخبط في تبرير أسباب اختفائها
- غموض في أقوال السفيرة -جلاسبي- لصدام، والتناقضات في تفسيرها ...
- هل كانت عاصفة الصحراء لتحرير الكويت أم لأسباب أخرى؟
- غموض وراء القرار الروسي بوقف رحلات طائراته المدنية الى مصر
- الأخطاء الاستراتيجية الأميركية والكوارث التي تسببت بها
- مدخل إلى مفهوم الاستراتيجية في نهاية مطافها 2 *
- مدخل إلى مفهوم الاستراتيجية في نهاية مطافها - 1 *
- هل تعطل الحرب بالوكالة على الأرض السورية، منجزات مؤتمر فيينا ...
- متى يبق نتانياهو البحصة التي في فمه ويعلن عن مطالبه الحقيقية ...
- هل تخلى صانع الحلم العربي عن الحلم العربي وتوجه نحو الحلم ال ...
- تحذير للمسافرين بالطائرة عبر الأجواء الاسرائيلية: استخدموا ا ...
- مفاجأة المشاركة الأردنية لروسيا في مكافحة الارهاب، قد لا تكو ...
- هل تمنع سلطات اسرائيل الطائرات ألأجنبية من استخدام مراحيضها ...
- نحو انتفاضة فلسطينية على الطراز الجزائري
- هل سقط مخطط اسرائيل باستخدام الربيع العربي لانهاء الحلم الفل ...
- هل أقام في البيت الأبيض يوما ما، رئيس كنيرون.. قيصر روما الذ ...
- جولة في البرجين، وتمثال الحرية، وسور البيت الأبيض، ثم جراند ...
- متى يلتقي القطبان ليقررا كيفية حل النزاعات الدولية قبل انقضا ...
- في الذكرى الرابعة عشرة لهجمات 11 ايلول 2001، يبقى الغموض حول ...


المزيد.....




- هل كان بحوزة الرجل الذي دخل إلى قنصلية إيران في فرنسا متفجرا ...
- إسرائيل تعلن دخول 276 شاحنة مساعدات إلى غزة الجمعة
- شاهد اللحظات الأولى بعد دخول رجل يحمل قنبلة الى قنصلية إيران ...
- قراصنة -أنونيموس- يعلنون اختراقهم قاعدة بيانات للجيش الإسرائ ...
- كيف أدّت حادثة طعن أسقف في كنيسة أشورية في سيدني إلى تصاعد ا ...
- هل يزعم الغرب أن الصين تنتج فائضا عن حاجتها بينما يشكو عماله ...
- الأزمة الإيرانية لا يجب أن تنسينا كارثة غزة – الغارديان
- مقتل 8 أشخاص وإصابة آخرين إثر هجوم صاروخي على منطقة دنيبرو ب ...
- مشاهد رائعة لثوران بركان في إيسلندا على خلفية ظاهرة الشفق ال ...
- روسيا تتوعد بالرد في حال مصادرة الغرب لأصولها المجمدة


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميشيل حنا الحاج - الموقف السوفياتي المتذبذب بصدد عاصفة الصحراء