أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد السخيري - الحب في زمن التسليع*















المزيد.....

الحب في زمن التسليع*


عبد المجيد السخيري

الحوار المتمدن-العدد: 4975 - 2015 / 11 / 4 - 00:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في عصر التسليع المعمم، حيث كل شيئ بات يقاس بمردوده المادي ونفعه وما يدره من أرباح ومكاسب، لم يعد للقيم المتعالية والمتسامية على الربح والنفع من قيمة. فالسلعة أصبحت قيمة القيم، هذا إذا جاز لنا أن نتحدث بعد اليوم عن وجود ما للقيم بالمعنى الأخلاقي أوالرمزي. العالم صار منزوعا رمزيا كما قال عنه روبير-داني لوفور في كتابه "اختزال العقول"، مع حلول عصر الرأسمالية الشاملة. والفرد الذي يجد نفسه غارقا في عالم مجرد بمثابة كابوس سرنمة بلا نهاية كما يقول باديو، هو عالم المجتمع الذي تحكمه السلعة ويديره السوق، لا يجد ملاذه سوى في التشبث بالهويات اللغوية والدينية والوطنية والعائلية والإقليمية القادمة من عمق الأزمنة. إنه عالم الانطواء الدفاعي ونقيض عالم اللقاءات حيث يولد ويشب الحب، يؤكد باديو. ومن ثم فإن الدفاع عن الحب هو شكل من أشكال مقاومة التسليع الذي يطاول المشاعر والأجساد، والارتياب من الاختلاف وعبادة الهوية.
ما الذي تبقى للحب في هذا الزمن المستغرق في عبادة السلعة وتقديس السوق؟ هل يوجد حب غير محفوف بمخاطر كما يعد بذلك المجتمع المعاصر أفراده حينما يجري الحديث عن "صفر خطر" في الحب على غرار خرافة "صفر قتيل" في الحرب، وتروج لذلك مواقع غرامية بادعاء القدرة على تقليص المخاطر وعدم ترك الحب عرضة لأهوال الصدفة؟ هل يستقيم الحب بدون وجود خطر ومغامرة؟
في كتاب"مديح الحب"، يجالس الصحافي الفرنسي نيكولا ترونغ، الفيلسوف الفرنسي اليساري اللامع آلان باديو، في موضوع عزيز على العامة كما على الخاصة، حيث يسائل بشغف وصرامة تصورات الحب في الزمن الحديث، ويلاحق انجرافاته في الزمن المعاصر، ويتعقّب تحولات العشق إلى مادة استهلاكية بوقوعه تحت تأثير الوسيط الإلكتروني (الإنترنيت)، وهو التحول الذي يعمل تحت طائل نوع من "الدمقرطة" المبتذلة والتتفيهية لأشكال وصيغ من التداول داخل غرف الدردشة والمواقع الغرامية والبورنوغرافية . وهذا يمثل في حد ذاته تحديا جديدا للفلسفة في العصر الليبرالي العولمي، ما يدعو الفيلسوف إلى استنفار قواه العقلية وشحذ الأدوات والتصرف كعالم محترس ويقظ ، وتعبئة وتنشيط خياله عندما يتعلق الأمر بعاشق للشعر، والتحفُّز والاستعداد للمخاطرة بجسده وموقعه ورفع التحفظ حينما يحين الدور عليه كمناضل سياسي. إنما على الفيلسوف ألا يخطئ الموعد مع الطوارئ العنيفة والمخلخلة للحب وينعزل بالفكر عنها. فلن يكون جديرا بصفته "الفلسفية" إذا لم ينغمس في التفكير في الحب وينطلق إلى إعادة ابتكاره كلما تحسّس المخاطر التي تتهدده، خاصة من نوع ما نعيشه اليوم من إقحام للحب في ممارسات تجارية، وكما يحدث في مواقع التواصل الغرامي على الشبكة العنكبوتية. ألم يقل أفلاطون بأن "من لم يبدأ بالحب لن يعرف أبدا ما هي الفلسفة"؟
لقد تنبه باديو للحملة الدعائية التي قام بها موقع "ميتيك" لما يزعم أنه تدريب غرامي يحمي العشاق من الوقوع في الحب ومطباته، وحيث تغزو شعارات فجة مخيلة المبحرين من قبيل "أُحصل على الحب بدون صدفة"؛ "يمكننا أن نكون مغرمين من دون أن نقع في الحب"؛ أو"يمكنك أن تكون مغرما تماما دون معاناة" وغيرها. باديو مقتنع أن الحب هنا مهدد فعلا بنوع من الرؤية التأمينية واليمينية التي تنعقد حول الحب بعقد "صفر خطر"، نظير الدعاية الغريبة لحرب "صفر قتيل". وقد تعقّّب المقالب التي ينصبها هذا النوع من الحملات الإعلانية بمواقع مماثلة، وعرّى ما تضمره هذه الأخيرة من تصورات أمنية وبوليسية للحب، وما تُمرّره من قيم تجارية تتخفّى في الممارسات الوقائية المحاكية لممارسة شركات التأمين في مجال حوادث السير. فليس بحب ما لا ينطوي على مخاطر، يقول باديو، ومن ثمّ لا معنى للتدخل من أجل الوقاية من أخطار تنطوي عليها كل مغامرة غرامية. فإذا كانت هناك من حجة لمثل هذا التدخل فهي بالتأكيد ضد الانزلاقات الليبرالية، وتلك هي مهمة الفيلسوف أساسا. من هنا الحاجة لإعادة ابتكار المغامرة والمخاطرة في الحب لمواجهة الأطروحة التأمينية-البوليسية. لكن باديو مقتنع كذلك أن وضعية الحب على اليسار ليست بأحسن حال منها على اليمين؛ فتجده مضللا في صورة أفاتار نزعة الاستمتاع الجنسي؛ بحيث لا يرى الليبرالي والمتحرر في الحب سوى مخاطرة غير مجدية.
ثلاث تصورات تتجاذب قضية الحب:
- رومانطيقي يرتكز على نشوة اللقاء ويلح على "فورة وشطح اللحظة"؛
- ميركنتيلي تجسّده المواقع الغرامية الإلكترونية حيث الحب لا يعدو مجرد تعاقد بين اثنين يعلنان عن حب مشترك دون التخلي عن مصالحهما الخاصة؛
- تصور ريبي شكي يرى الحب مجرد وهم.
والحال أن أيا من هذه التصورات لا يجسد المعنى الحقيقي للحب. في مواجهتها يطرح باديو تصورا يجعل من الحب تجربة للعالم انطلاقا من الاختلاف وليس انطلاقا من الذات. فالحب يبدأ من عملية فصل، ومن إثنين كما يقول. ولقاء هذه الثنائية هو حدث بالمعنى الذي لا يتوقع فيه الفردان هذا اللقاء ومجيء الغيرية. من اللقاء يحدث البناء الذي هو بمعنى ما حياة ليس فقط ثنائية، وإنما حياة من خلال اثنين ومن وجهة نظر إثنين.
اللقاء هو ما يحدث صدفة ودفعة واحدة في الوجود من دون تخمين ولا حساب، وهو بداية مغامرة محتملة لا يمكننا أن نضع مخاطراتها ضمن عقد مزعوم للتأمين. وكل محاولة لتفادي الخطر هو إلغاء للقاء نفسه من الأساس، أي أن تلغي إمكانية أن يدخل أحد حياتك، وإن هذا لهو ما يميز اللقاء عن الطيش. ما يأتي بعد اللقاء يكون بناءا لأنه لا يعود متوقفا على الصدفة طالما هناك حاجة لاتخاذ قرارات وإجراءات.
الحب بناء وتشكيل للحقيقة؛ وهذه الأخيرة تتجسد في إمكانية دائمة لمشاهدة ميلاد العالم من خلال ما يمثله مثلا ميلاد طفل على أساس علاقة حب صادق. الحب فجر اثنين يتجدد باستمرار، إنه "إجراء حقيقة" مبلور على الأرض، وبناء صبور "للحقيقة على الإثنين؛ حقيقة الاختلاف كما هو"؛
و"هو دائما إمكانية أن نشهد على ميلاد العالم". ولانبثاق هذه الحقيقة يشترط المرور بتجربة الاختلاف، إذ أن الحب في أصله انشطار واختلاف بين شخصين، رغم أنه يبقى دائما متصلا بما يسمى الارتباط أو العلاقة واللقاء. واللقاء هو الحدث، على أن الحب يبقى قضية ديمومة وبناء متواصل. فهو مغامرة عنيدة تتغلب على الحواجز والصعوبات. ومسألة الديمومة هي ما يعني الفيلسوف بالدرجة الأولى؛ بحيث على الحب أن يبتكر شكلا آخرا للديمومة في الحياة. ويؤكد باديو هنا على فكرة أن الحب مسلسل تتجلى من خلاله الحقيقة بين شخصين، رغم أن الحب الحقيقي يهم البشرية جمعاء. إننا نحب الحب، يقول القديس أغوستينوس، لأننا نحب الحقيقة.
ينتصر باديو للحب الذي تثمره لقاءات الصدفة المحفوفة بالمخاطر والشكوك وغياب المراقبة، ويرفض ما تكرسه الإيديولوجيا الوقائية والأمنية من اعتبار الحب مجرد تنويعة من تنويعات الاستمتاع، أونشاط ثانوي وأقل أهمية في حياة الفرد. فهو يرى أن النزعة التأمينية لهذه الإيديولوجيا الحديثة تدعو إلى الاستمتاع من دون الارتباط بالآخر، وباستهلاكه بكل آمان وبدون مخاطر، بينما يدعو هو إلى عكس ذلك تماما: إلى "إعادة ابتكار المخاطرة والمغامرة ضد الأمان والرفاهية".

*- مقتطف من نص طويل نشر بمجلة "نزوى"، العدد 81، 2015، عمان.



#عبد_المجيد_السخيري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بوجميع: إيقونة غيوانية من زمن الرصاص
- تمثيلية النساء بالهيئات والمؤسسات المنتخبة المحلية والوطنية: ...
- نموذج للقانون الأساسي والنظام الداخلي للنادي الحقوقي(الجزء ا ...
- تأسيس وهيكلة نوادي حقوق الانسان والتربية على المواطنة: الجزء ...
- تأسيس وتنشيط النوادي التربوية لحقوق الانسان والتربية على الم ...
- السلوك الانتخابي والحملة الانتخابية في ضوء المرجعية الدستوري ...
- دورة تكوينية تقييمية في أفق الانتخابات الجماعية والجهوية(تقر ...
- المغرب: تجدّد الجدل حول الفن والأخلاق
- تطور النظام الانتخابي بالمغرب، الميثاق الجماعي ومقاربة النوع
- راهن العمل النقابي وآفاقه-حالة المغرب
- المشاركة السياسية للنساء والسلوك الانتخابي بالمغرب في ظل الم ...
- الحملة الانتخابية: مفاهيم، أنماط واتجاهات
- الحقوق السياسية للنساء: المرجعية الدولية لحقوق الانسان والقو ...
- نوافذ: الصين والماركسية، فلسطين والثورات في العالم العربي .. ...
- الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين واليسار الجديد بالمغرب
- المثقف المسلح
- ببير بورديو : المثقف، منطق العلم والالتزام السياسي
- افتتاحاية -نوافذ- : لا للشعبوية لا للصبيانية*
- خوان رومان : التجربة الاستثنائية والكتابة المستحيلة
- الثورة المضادة*


المزيد.....




- ميغان ماركل تنشر فيديو -نادرا- لطفليها بمناسبة عيد الأب
- مصدر لـCNN: إيران تبلغ الوسطاء أنها لن تتفاوض مع أمريكا لحين ...
- منصة مصرية لإدارة الأمراض المزمنة والسمنة
- لماذا يستخدم الكثير من الأطفال السجائر الإلكترونية، وما مدى ...
- إسرائيل تستشيط غضبًا بعد إغلاق أربعة أجنحة تابعة لها في معرض ...
- إيران تهدد بالانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية وسط التصعيد م ...
- مفوض أممي يحث على إنهاء الأزمة الإنسانية في غزة
- اكتشاف دور للسكر في حماية الدماغ من الشيخوخة
- طبيب يفند خرافات شائعة عن ورم البروستاتا الحميد
- ما الذي يسبب العدوانية غير المنضبطة؟


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد المجيد السخيري - الحب في زمن التسليع*