|
دوائر ميليس
صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1358 - 2005 / 10 / 25 - 10:15
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
نقلت اليومية البريطانية "دايلي تلغراف" هذا التصريح البليغ الذي أدلى به المناضل السوري الأبرز رياض الترك (قرابة 20 سنة من الإعتقال في عهد حافظ وبشار الأسد)، تعليقاً على تقرير المحقق الدولي ديتليف ميليس: "الآن في وسع العالم بأسره أن يرى جرائم هذا النظام. ولكن ينبغي أن يعرفوا أنّ الشعب السوري عانى من الجرائم بحقّ الإنسانية ما يملأ 20 تقرير ميليس"! وليس من عادة هذا الرجل الكبير، الذي استحقّ بالفعل صفة "نلسون مانديلا سورية"، أن يبالغ أو يستزيد أو يجنح إلى بلاغة مفرطة، سيّما حين يتصل الأمر بطبائع الاستبداد. وبالفعل، إذا كان اغتيال الحريري و22 من المواطنين اللبنانيين قد استدعى هذا التقرير، على ما فيه أو ما يكتنفه من ثغرات ونواقص وإشارات استفهام وتعجب، فكم من تقرير تحتاج أربعة عقود ونيف من أنماط الإستبداد العاري التي عاشها الشعب السوري منذ 1963 حين تولى حزب البعث السلطة، ثمّ بصفة خاصة منذ 1970 حين انقلب حافظ الأسد على رفاقه واطلق تلك الصيغة البربرية من استبداد عارٍ مفتوح، منفلت من كلّ عقال، بلا حدود أو وازع، ودون رقيب أو حسيب؟ كم من التقارير، وليس التقرير الواحد، تحتاج مجزرة حماة، 1982، التي سقط فيها قرابة 20 ألف قتيل بريء؟ وكم من المحققين ينبغي أن يجنّد العالم لإنصاف ذكرى، وذاكرة، أبرياء آخرين من ضحايا مجازر تدمر، وجسر الشغور، وأريحا، ودير الزور، وكفر نبل، والمشارقة، وسرمدا... خلال سنوات إراقة الدماء ذاتها؟ وأيّ تقرير سوف يفلح في كشف الأستار عن مجزرة القامشلي الأخيرة، حيث خرّ الأبرياء من المواطنين الأكراد صرعى رصاص السلطة، في ملعب كرة قدم؟ بل أيّ ديتليف ميليس يمكن أن يخترق أستار هذا النظام الأمني، الذي يجمع بين تثاقل الديناصور وخفّة رجل المافيا ودموية السفاح، حين يكون عدد السجون في مدينتَي دمشق وحلب وحدهما 30 سجناً، وأقبية المخابرات في العاصمة السورية وحدها تتسع للتحقيق مع أكثر من ألف شخص في وقت واحد، بما يعنيه ذلك من توفير طواقم التحقيق، ومعدّات التعذيب، والوثائق، والتقارير، والمستلزمات اللوجستية الأخرى (تقرير منظمة Middle East Watch)؟ وكيف سيفلح أيّ ديتليف ميليس، ألمعي شاطر ذكيّ أريب، في الإحاطة بأجهزة أمنية يزيد عددها عن 16جهازاً مختلفاً، وتتشعّب ميادين اختصاصاتها، وتتداخل صلاحياتها وتفويضاتها على نحو عنكبوتي عشوائي، وتتضخّم أعداد العاملين فيها ولصالحها (بين 250 إلى 300 ألف عنصر)، الأمر الذي يضع رقيباً أمنياً على كلّ 60 مواطناً سورياً؟ وكم ميليس يحتاج "العالم الحرّ" لكي يدرك مغزى تصريح رياض الترك، عن بلد عريق جميل أصيل اسمه سورية، حكمه نظام دكتاتوري شمولي استبدادي طيلة أكثر من أربعة عقود، ثمّ مُسخت جمهوريته (التي يعود تأسيسها إلى عقود طويلة خلت، قبل سلطة حزب البعث) إلى طراز سفاحيّ من الحكم هو "الجمهورية الوراثية"، قبل أن يضع الورثة المغامرون البلد على هاوية التفكك الداخلي واستدراج الغزو الخارجي؟ وفي مستوى آخر، أيّ تحقيق يمكن أن يتناول السؤال الحارق الراهن: ما الذي يتبقى من حكاية انتحار اللواء غازي كنعان، وزير الداخلية السوري، الآن وقد أوضح تقرير ميليس ـ ودون أدنى هامش للريبة ـ أنّ "حاكم لبنان السابق" لم يكن في قفص الإتهام الظنّي بجريمة اغتيال رفيق الحريري، كما هي حال السادة آصف شوكت وبهجت سليمان ورستم غزالي؟ والآن، بعد أن ذاب الثلج وبان المرج عن الأكثر جدارة بالإنتحار ثأراً للكرامة الشخصية، هل كان التقرير الذي بثته محطة "نيو. تي. في." كافياً لكي يضع رجل مثل غازي كنعان حدّاً حياته، على ذلك النحو العنيف العجيب المريب الذي لم يكفل له حتى قماشة عَلَم سوري تلفّ نعشه؟ وأمّا السؤال الآخر الأخير الذي لا يقلّ أهمية، ويجوز طرحه مثلما يتوجّب اعتماده كتتمة منطقية للأسئلة السالفة، فهو التالي: هل كان أحد، في "العالم الحرّ" بصفة خاصة، في واشنطن وباريس ولندن، قد اكترث بما جرى في مدينة حماة، شباط (فبراير) 1982؟ بل هل كان لأحد أن يكترث أصلاً، والنظام آنذاك على وفاق كافٍ مع أطراف ذلك "العالم الحرّ"، وثمة من الخدمات الكثيرة التي يوفرها ما يبرّر "التطنيش" التام عن جرائمه، لكي لا نتحدّث عن تبييض صفحته بين حين وآخر، كلما تيسّر؟ وهذه الأيام بالذات، كيف استقام أنّ فرنسا استقبلت رئيس الاستخبارات السورية اللواء آصف شوكت، وتباحثت معه، رغم أنّ الأجهزة الفرنسية المعنيّة كانت على علم تامّ بمحتوى تقرير ميليس، وكانت تعرف طبيعة الإتهامات التي تحوم حول شوكت بالذات، ليس في دائرة الأقاويل والإشاعات وحدها، بل في نصّ تقرير المحقق الدولي نفسه؟ لهذا فإنّ تصريح رياض الترك ليس شكوى إلى أولي الأمر في "العالم الحرّ"، بل هو شكوى عليهم وإدانة لصمتهم الطويل على جرائم أنظمة الإستبداد العربية جمعاء، إذْ ليس بعيداً ذلك الزمن الذي شهد تستّر واشنطن على الطغاة، واحتضان أنظمة الطغيان. نعرف مواقف البيت الأبيض، أياً كان شاغله، من الحقوق السياسية والإنسانية والدستورية للشعوب العربية، ولهذا يقلقنا ذلك "القلق" الذي قيل إنه أصاب جورج بوش بعد قراءة تقرير ميليس. أليس مرجحاً أن يفضي قلق سيّد العالم إلى وضع الشعب السوري على سنديان العقوبات الإقتصادية، الواقع أصلاً تحت مطرقة الإستبداد؟ وهل علينا، نحن السوريين، وليس البتة على نظام بشار الأسد وآصف شوكت والشركاء، ستدور دوائر ميليس في نهاية المطاف؟
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإخوان المسلمون و-إعلان دمشق-: الأساطير والحقائق
-
نوبل آداب... كردية؟
-
تغييب أو غياب غازي كنعان: مَن سيستأجر السفينة الغارقة؟
-
أيّ نزار قباني يسلسلون؟
-
برنارد لويس وتركيا الأوروبية: كأننا لم نحرّر فيينا من العثما
...
-
مفاجآت ال 100
-
استفتاء الجزائر: المصالحة الوطنية أم تبييض الجنرالات؟
-
فرد هاليداي والأشغال المتعددة لخبراء الشرق الأوسط
-
افتقاد إدوارد سعيد
-
أمريكا في القمم الكونية: تصنيع المزيد من الإرهاب في السفوح
-
لهيب ما قبل 11/9
-
فوكوياما عشية 11/9: ثمة ما يدعو للندم في كلّ شيء
-
التهريج الملحمي
-
خطاب الرئاسة السورية، حيث المفاضلة رَجْعٌ بعيد متماثل
-
محمود درويش والتفعيلة المنثورة
-
بات روبرتسون ومرآة تنظير اليمين الأمريكي المعاصر
-
-محروسة- جمال حمدان
-
العراق المعاصر حسب كيسنجر: غنيمة الذئاب أم الأفلاطونيين؟
-
صمويل بيكيت بلا حدود
-
نتنياهو أمام الباب الدوّار: مَن الخارج؟ مَن الداخل؟
المزيد.....
-
نبيلة عبيد تعلن من الرياض عن عودتها للدراما في مسلسل سعودي
-
-نتعب لأجل بكرة وربنا هيحاسبنا-.. السيسي يتحدث عن أهمية الإن
...
-
-هرب من الحرب ليموت في الحرب-، من هو الأستاذ الجامعي اليمني
...
-
بعد تفجيرات البيجر- إيران تحظر اللاسلكي في الرحلات الجوية
-
-اليونيفيل-: إصابة جندي بإطلاق نار بسبب نشاط عسكري في الجوا
...
-
الكويت.. ضبط مواطنَين أحدهما ضابط و4 آسيويين متورطين بترويج
...
-
إيران تبلغ واشنطن ودول الشرق الأوسط بأنها سترد على أي هجوم إ
...
-
غزة.. المجازر تتواصل بمدارس القطاع
-
تركيا تجلي رعاياها وجرحى من لبنان
-
تي 72.. صمام أمان للقوات الروسية بدونباس
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|