احمد مصارع
الحوار المتمدن-العدد: 1350 - 2005 / 10 / 17 - 11:48
المحور:
الادب والفن
كان شعار الأستاذ سعيد معقولا للغاية , إذ يجب على الإنسان أن يبحث عن الحياة الأفضل , فحسب رأيه فالإنسان وهو كائن راق , لا يمكنه أن يتكيف إلى مالا نهاية مع ظروف الفقر والشقاء , ولذا يتوجب عليه أن يتملص من جاذبية البؤس العام التي تقبض على مجتمعنا بإحكام , والتسلل نحو وضع هنيء .
حين غادرت القاهرة متخرجا من جامعة عين شمس ومن كلية العلوم , قسم الرياضيات , فقد تركته يكافح من اجل التخرج في السنة الأخيرة , فقد كان مضطرا للجمع بين الدراسة والعمل ,لأنه المعيل الوحيد لأمه الأرملة شبه المقعدة من آثار مرض الروماتيزم , لقد كان المرحوم والده والذي توفي ولم يتجاوز العقد الخامس عمرا , غريب الأطوار , استحكم به الحزن واليأس , إلى الدرجة التي استطاع من خلالها التحكم بيوم موته ,وبالفعل , فقد أعلن هكذا بدون مقدمات بأنه سيموت خلال أسبوع , ولذلك فقد خصص مكانه في مقبرة العائلة, ولما انتهى من إعداد مستلزمات موته , فقد اسلم روحه في نهاية الأسبوع , سعيدا , فما العلاقة بين اسم الأستاذ سعيد ولده الوحيد ؟!. و حيث كان الأب نفسه وحيدا .
لم يكن من السهل نسيان ما حدث , ولكن حلول ساعة الافتراق , أعادت من جديد موسيقى الآلات النفخية البدائية , التي تزأر بلحن موسيقى حزين تتعطل فيه الحواس
من رهبته , وليجبرنا وقتما يشاء لتجريد سلاح النسيان , بل ويحتاج لتحريكه إلى قوة أوديسيوس لقتل أعداء الإنسانية برعاية ألاهية , وما أن نوشك على النسيان , حتى تتردد , في تكرار مرير , تحكي قصة أن نلتقي , ولكن بشرط أن نفترق.
قال سعيد محاولا التشبث بتلابيب الزمن الهارب :
- لا تنسى لقد وعتني بزيارة طويلة بعد أن تستقر ؟.
- لم تعد سعيد, الذي اعرفه , لم تعد كما كنت حالما بحياة أفضل !.
- نعم يا صديقي , هذه حقيقة .
- أين لفاحتك السوداء ؟
- لفاحة سوداء وفي الصيف يا رجل ؟
- هل تستطيع العيش بدون حجاب , ألم تقل لي أنك بدون اللفاحة السوداء التي تغطي نصف وجهك تشعر بالعري ؟ !.
- أتساءل يا صديقي إن كان الطوارق وهم أجدادي في العصور الغابرة , كانوا يتلثمون صيفا وشتاء ؟ !.
- نعم يا صديقي هذا صحيح , وسيظلون كذلك , هناك احتمالان يا صديقي ..
لم أكمل حين علق ساخرا : كأني بدأت العمل فور التخرج , ما هذا النشاط ؟!.
فهللت فرحا من سخريته .
- هل تعلم يا صديقي , كم كنت خائفا من فقدانك لروح السخرية ؟!.
الاحتمال الأول فلسفي ارادوي , فهم يتحجبون ليكونون مجرد رموز , من غير المهم معرفة تفاصيلها , فالرمز أبقى وأكثر خلودا , والثاني لأن الصحراء لم تخضر بعد , ولكي لا يجف المرء في الصحراء القاحلة ويبقى مخضرا , فلابد أن يتحجب ,وكل تلك الظروف مازالت قائمة ولم يتغير شيء .
قال سعيد مباهيا : إذن , أجدادي هم الذين اكتشفوا الزراعة الدفيئة , والبيوت البلاستيكية ؟
قلت لسعيد : هل تعلم يا سعيد ؟ لقد وعتك أن نلتقي , ولكن حدسي يقول لي بأننا سنلتقي أثناء العمل , طويلا , وفي بلد واحد ؟!.
فقال متهكما : قل لي هل أنت آشوري أم فرعوني ؟
فأجبته بنفس الأسلوب : أفريقيا هي هواي .. أفريقيا هي دواي ..
سنوات قليلة انقضت , كأيام معدودات , وكان لقاءنا بالجزائر , وفي نفس مكان العمل , بل وفي مسكن مجاور , ولم يكن وحيدا هذه المرة , فقد جاء بصحبة عائلته الصغيرة , وهو يشع حيوية , متفائلا بتحقيق حياة أفضل , ولكن لفاحته السوداء التي لم تعد تخفي نصف وجهه , أصبحت مسبلة بشكل متميز وأنيق .
- لم تطاردني يا سعيد ؟
- وراءك والزمن طويل , حتى لو غيرت العنوان .
- أي ريح طيبة أرسلتك إلينا ؟
- لقد جئت هاربا من هباب العمل , هل يعقل أن يعمل الإنسان من الصباح وحتى آخر الليل !. يسمونه عمل إضافي !.
دفعة تدخل , وتخرج أخرى , بحيث يحس الإنسان أن العمل هو آخر الدنيا , ونهاية العالم !. شيء غير معقول !..
- والآن , ما لذي تنوي فعله ؟
- كل عطلة عمل سأسافر فيها .., سوف أ لف حول العالم ..لا ابن بطوطة ولاما جيلان , ولاغيره ..
كانت سفرته الأولى نحو أسبانيا ,وحين عاد منها مسرورا , يحدثني عن جمال البلاد ورقيها , كلما التقينا , حتى أطلب منه الكف عن المبالغة في تصويرها , وحين قلت له : غدا إذا سافرت إلى ألمانيا , فماذا ستبقي لها في الوصف ؟ ! . فلم يقتنع , حين قال : عندما أسافر إلى ألمانيا فلكل حادث حديث .
كنا نجلس في المقهى على رصيف الشارع بجوار حديقة حين هبت عجاجة قوية , وقصفتنا بكمية معتبرة من الغبار , حتى لقد مضمضت فمي بالماء لأن الرمل صار ينطحن فوق أضراسي , بينما راح سعيد , يفرك عيونه من حرقة , ثم شرع يغسل نظارته الطبية .
ضحك قبل أن يعلق ساخرا :
- لقد نسيت أن أخبرك عن أهم جزء من سفرتي إلى أسبانيا .
قلت كفى يا سعيد , لم يبق شيء جميل الاوضعته في أسبانيا , لم يعد لديك ما يثير .
- إلا هذه المرة , واسمعني حتى الأخير , عندما كنت في مدريد , أثارني جمال حديقة , فقررت التجول فيها , لا يخفى عليك قولنا الماء والخضراء والوجه الحسن , ولكنني هذه المرة أضيف ما رأيته , وسمعته , أي الصوت الحسن , تخيل فرقة سيمفونية تعزف منفردة , والجميع يستمتع على البعد , بدون أي حشد حولها , وكأن الفرقة جزء من تماثيل الحديقة أو طيورها , ولم يقترب منها سوى مشجعين اثنين , أنا وجحش , كان الجحش يرعى مسرورا من العشب النقي كالسجاد , بل ويحرك ذيله مسرورا , من حين وآخر , وأنا مندهش فاغر فمي من هذا التواصل الوجداني والهارموني , لفرقة كأنها تعزف للسماء , وأعضاء الفرقة في ملابسهم الخاصة , وكأنهم من عالم آخر .
وصرخ بي مفتعلا الغضب : ألا تسألني يا أخي وماذا بعد ؟
فرددت عليه ببرود تام- : لقد أمرتني بالصمت , وأن لا أقاطعك , أم تراك همت مع الفرقة السيمفونية .
صاح بصوت تمثيلي - لا أنا لم احسد أحدا في حياتي , ولكني حسدت الجحش على المكان الذي يعيش فيه .
ضحكت حقا , وسألته وماذا بعد ؟
أجاب :- لقد تمنيت نفسي جحشا في أسبانيا .
ولكي يقطع الطريق علي قال , وسنرى ألمانيا التي تتحدث عنها بدون بلاغة , في العطلة القادمة .
فقلت له مستفزا - سنرى ماذا ستتمنى المرة القادمة ؟
قال واثقا - سوف أعجبك .
في العطلة الثانية , سافر حقا إلى ألنمسا, وهو يسأل بإلحاح , إن كنت أقبل شهادته عنها كما لو كانت محل ألمانيا , فأبديت موافقتي وحين عاد بعد شهر , كان قد تغير فيه شيء ما , ويهمني اكتشافه , فقد كان يركز حديثه هذه المرة عن الهجرة , لأنه سألني :مار أيك بالهجرة إلى أمريكا ؟
علقت خائفا - هكذا دفعة واحدة ؟!. مازال أمامك زيارة بريطانيا و...
قال باقتضاب - الاختصار مفيد وستكون سنتي الثالثة هذه حاسمة , سأهاجر إلى غير رجعة , وحين استقر هناك ستلحقني مرغما هذه المرة , وبدون نقاش ,
مفهوم ؟. وراح يهدد ويتوعد .
كنا في حانة , نشرب خمرا( معسكريا) , وهو خمر شهير مصنوع في مدينة معسكر الجزائرية , ومن أجود أنواع العنب , وقد سمينا الحانة (العاشق ) , لأن احد مرتاديها الدائمين على الكاونتر , والذي نصادفه في كل مرة , كان كهلا وأنيقا , فيه طول ونحافة , يشرب كثيرا , ولكنه محترم , ولا يخرج عن طوره , وبه حساسية وجدانية عالية , ولكي يصنع الجو الذي يبحث عنه , فهو يقوم باستمرار بتقديم ضيافة على حسابه , من أجل ماذا ؟ . من أجل أن لا نحتج على أغنية( الراي ) التي يؤديها الشاب حسني , بعد أن أدخل عليها موسيقى الجاز , لتمتزج التكنولوجيا الطازجة مع النفس القديمة المعتقة .
-( كاع النسا , اللي خلقهم ربي , مايجوش كيما انتي ..)
ودوما يسألني سعيد :- ترجم لو سمحت .
للمرة الأخيرة أترجم لك من العربي إلى العربية , كل النساء اللواتي خلقهن الله , لسن كما أنت ..
ويسال ببرود تام - لماذا ؟ , وحين أقول له تعال لنسأله .
يرد بنفس الطريقة - لا داع لذلك .
دخل إلى الحانة أحد المعوقين , سلم بأدب تام , وجلس على كرسي طاولة مجاورة, وفجأة انتفض سعيد منتشيا , وهو يقول - لقد تذكرت , فلا تقاطعني أبدا , لأنني سأحدثك عن أظرف موقف مر بي في النمسا.
قلت ساخرا - في أسبانيا تمنيت نفسك جحشا , وفي النمسا .. من يعلم ؟ فضولي هو في معرفة ماذا بعد الجحش ؟!.
- أثناء تجوالي في العاصمة ( فيينا ), وفي أكثر من ساحة , رأيت عددا من الأكشاك الزجاجية , على أسواق صغيرة , معروضة للإيجار , وأجورها معقولة للغاية , ولأنها تقع في أماكن جمهرة وازدحام , فمن المتوقع أن يكون مربحة جدا , وقلت في نفسي هذا أسرع طريق لمن يريد البحث عن الثروة .
دعيت إلى سهرة في بيت أحد أقاربي من جنسية نمساوية , وحين تعرفت إلى ضيفه , كان التعارف سارا للغاية , تخيل , زميل مهنتنا , أستاذ رياضيات , لقد كانت الجمل القليلة التي حفظتها عن الألمانية غير كافية للتفاهم المشترك , وكان قريبي مترجما يحب الإيجاز , ويكتفي بالخلاصة فقط , كان يهمني أن أعرف مشاكل ومشاغل أستاذ رياضيات من نفس مهنتنا , وكان قريب يلح بالرد :
انه يقول لك , لا توجد مشاكل , لماذا تلح عليه بالسؤال ؟!.
خطر ببالي أن أغير الطريقة , فرجوت قريبي أن يترجم له حرفيا ما يدور ببالي , فوعدني بذلك , وكان سؤالي على النحو التالي : اسأله كم راتبك الشهري , فأجاب , فوجدته يستطيع استئجار أربع محلات مما رايته من أكشاك زجاجية , مكتبة دخان , محل زهور , تحفيات , ساندويتش على السريع , مشروبات ساخنة وباردة , فلماذا لا يستأجر أحدها ليربح الكثير ؟!.
عندما أتم قريبي ترجمة نصيحتي المفصلة , فوجئت به يضحك بهستيريا عجيبة , انه لم يضحك أبدا , لم يتعود على ذلك , ولذا فانه لا يعرف حتى كيف يضحك !.
قلت ساخرا منه , لماذا لاتقول انك أنت الذي لا يعرف كيف يسأل ؟
كان يضحك بعصبية , ومن حين لآخر يقول :- كم هذا لطيف , لطيف للغاية ..
ولم يستقر , و يبدأ بالكلام الجاد , وكان قريبي قد أحس بأهمية ما أقوله من كلام ساخر , ولذلك راح يلتزم بالترجمة الحرفية , وحين تحدث الأستاذ قائلا : لو اعتبرنا ما تقوله مسالة طريفة فإليك البرهان , في الراتب الذي أتقاضاه شهريا امتيازات كثيرة ,تبدأ من المسكن والسيارة وبدل العطلة الأسبوعية , والقيافة , والمأكل والمشرب , والكتب , والأدوات .., فيما يشبه التأمين الشامل , وكل ذلك بهدف التفرغ للتعليم , لتكوين الطلبة تكوينا علميا يخدم الأمة النمساوية , ويحقق طموحاتها بحياة أفضل وأرقى , بينما تخلق الحكومة أعمالا حرة في تلك الأكشاك التي رأيتها , للمتسربين من المدرسة بسبب الفشل التعليمي , وبشكل خاص للمعوقين , لتحريك حوافز الربح المادي عندهم , والاستفادة من طاقاتهم البشرية , فهل يرضيك يا زميلي أن أنافس هؤلاء الناس على فرصهم في الحياة الأفضل ؟ !. المفروض شيء والمطلوب شيء آخر من خارج نص المسألة .
وتدخلت لئلا يصرخ بي قائلا : بالله عليك يا سعيد , قل لي بما ذا عقب قريبك النمساوي ؟.
قال كمن يشعر بالخيبة : تخيل أنه قال , لي مندهشا , يا سعيد هل تعلم ؟ لقد مضى على وجودي بالنمسا عشرون عاما , وللمرة الأولى أفهم مثل هذه الظاهرة ؟!.
ضحكت , فراح يصطنع الغضب قائلا : أنت تضحك علي , فقلت :لا أبدا , لقد أضحكني قريبك !.
سال : كيف ذلك ؟
قلت : لأنه كان هو الآخر يفكر بنفس طريقتك , ولاعذر له في ذلك .
فضحك , بل صار يضحك من حين لآخر, وليورطني في حمى الضحك.
قال: لقد قال لي معجبا بكل جدية واحترام , أنت شخص غير عادي , فمن أين تأتي بهذه الأفكار الجهنمية ؟!.
وحتى لانزعج الآخرين في حانة العاشق , خرجنا نحاول التماسك , لنكمل الضحك في الهواء الطلق , لأن الضحك سيطول ويطول ولا ندري متى ستتوقف هذه الانفعالات ؟.
حين سألته عن حكاية الهجرة , أجاب بكل يسر : لن أكون هناك أستاذا , بل سأكون مهنيا , وهي هجرة مزدوجة من التدريس , ومن حياة البؤس والشقاء .
قلت: أجنبي معوق ؟!. , رد : لايهم , بل لم لاتقول مثقف وطني ؟
#احمد_مصارع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟