وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 4868 - 2015 / 7 / 16 - 10:43
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تسلم د . نصر حامد ابو زيد دعوة للتدريس كاستاذ زائر في قسم اللغة العربية بجامعة اوساكا للغات الاجنبية في اليابان .استمر في عمله في اليابان مدة تزيد على اربعة اعوام من مارس 1985 حتى يوليو 1989 .
للنظام الياباني للتعليم العالي سياسة خاصة بضرورة ان يوجد في اقسام اللغات الاجنبية لكل لغة استاذ واحد على الاقل تكون اللغة التي يقوم بتدريسها هي لغته الام .وقد تقلد د. نصر حامد ابو زيد هذا المنصب .
كان عدد الطلاب الذين يقوم بتدريسهم لايزيد عن الثلاثين طالبا , وليس مائة طالب , كما في مصر .كان الطلبة اليابانيون مجدين في دراستهم وعملهم .اليابانيون قادرون على التعبير عن مختلف المشاعر . تجول في المعابد اليابانية . عاش في احد المعابد مايزيد على ثلاثة اسابيع . وفروا له غرفة ورحبوا به كمشارك في طقوسهم .
رافقه طالب مصري لغرض الترجمة .في اليوم الاخير زاره راهب المعبد وقال له :(لقد كنت هادئا في وجودك بيننا . اود لو ادعوك لتناول العشاء معنا . لابد انك تفتقد اللحم . هناك مطعم للمشويات ليس بعيداعن هنا , ستكون ضيفي) .
لقد استمتع ابو زيد بتذوق هذا اللحم . بالاضافة الى ديانات الشنتو والبوذية في اليابان , هنالك وجود مسيحي منذ القرن السابع عشر .تخرج احد اصدقاء نصر من اليابانيين من جامعة القاهرة. انه :
(موشين اوجاسوارا ). لقد احب اوجا سوارا الطعام المصري .خصوصا الملوخية .
كان متحدثا بارعا بالعربية . قامت والدة ابو زيد برعاية الصديق الياباني لانه كان مبتعدا عن والدته لمدة سبع سنوات .اخبرته والدة ابو زيد ( موشين يجب ان تاكل ). لقد اصبح موشين من افراد عائلة نصر حامد ابو زيد . عند زيارته لليابان بحث نصر حامد ابو زيد عنه ووجده . قضى اسبوعا معه بقريته القريبة من طوكيو .
يقول نصر حامد ابو زيد ( كان اكثر ماشدني هو الحب والاحترام الذي تعرضت لهما في منزل هذا الرجل المتواضع ) .
في القطارات لاحظ ابو زيد ان الرجال لايقدمون مقاعدهم للسيدات , بل العكس لو كان رجل وزوجته يسافران معا في قطارمزدحم , فالرجل هوالذي سيجلس والمراة تظل واقفة .
تمحورت دراسات د .نصر حامد ابو زيد في الولايات المتحدة الامريكية حول علم الهرمنيوطيقا ( 1978-1980), وهو علم تاويل النص .
في اليابان ادرك ابو زيد ان التجربة الدينية اليابانية لاترتكز حول نص معين , بل حول التجربة الشخصية .الدين يعبر عن نفسه من خلال تاويل النص الفردي المنعكس على تصرفات صاحبه .
ليس هنالك عقيدة دينية بالمعنى المتعارف عليه .يرتبك الكثيرون حين يسالون يابانيا ( ماهو دينك ؟ ) , ليجيب بعد تردد ( ليس عندي دين ) . فيتوهم الشخص السائل ان الياباني لايؤمن بشيء وهذا غير صحيح . هم يؤمنون بعدة اشياء ,لكن حياتهم العملية لاتعتمد على نص محدد .
لايعاني الياباني من الصراع بين التقليد والحداثة بنفس الطريقة التي يعاني منها الشخص الذي يتبع دينا له نصا مقدسا . في المناطق الشعبية يصعب وجود كرسي للجلوس عليه عند عائلة يابانية . بينما في داخل الجامعة هنالك عالم آخر . احدث وسائل التكنولوجيا .
يقول ابو زيد ان المشكلات التي نواجهها مع الاسلام المتعلقة بمعنى النص المقدس لايمكن ان تنطبق على التقاليد الدينية التي لاتعتمد على نص .لو ان الله تحدث بصورة حرفية ,يصبح كل حرف من النص دلالة الهية . الحرفية تصر على معنى واضح وثابت للنص , وهو مايصر عليه الاصوليون .
غياب النصوص الحاكمة لايعني غياب الاصولية . على سبيل المثال , الاشتراكية كنظام سياسي يمكن ان يحمل طابعا اصوليا , فهي ترتكز على نص ماركس , الاشتراكية هي ايديولوجية مرتكزة حول نص . اختلف الناس فقط حول كيفية تاويل ماقاله ماركس ,ماذا كان يعني حقا ؟
( اللحظة التي تنشيء فيها عقيدة من اي نص , انت في خطر ) .
سلطة النص ليست مطلقة و لكنه يكتسبها من خلال من يهبونه هذه الاهمية .لقد تشرب د . نصر حامد ابو زيد من الثقافة اليابانية وتعلم اكل الطعام الياباني .الطعام الياباني بالنسبة للمصري امر مقرف . المصريون معتادون على اللحم مثل الكباب .
اما الطعام الياباني فلا رائحة له كالطعام المصري .اليابانيون يحبون الرائحة الرقيقة لطعامهم .بالتدريج تعلم ابو زيد ان يقدر الجانب الجمالي للطعام الياباني ,وبدا في تقليدهم في طريقة اكلهم . بالاضافة الى توزيع الالوان في الطعام يوضح معنى جماليا.
مع الوقت تعلم ان يتذوق الطعام بعينيه وليس فقط بلسانه .
انه تكريم واحترام ان يقدم للضيف وجبة طعام من السمك النيء في اليابان .السمك النيء لابد ان يكون طازجا . فوجوده بالثلاجة لمدة تزيد على الساعة يجعل منه غير مقبول ومستساغ للتقديم . وحين يقدم المضيف هذا السمك ,الوجبة نفسها تكون كاحتفالية .
هنالك موسيقى تحيط بالمكان . والالوان لابد ان تكون متناسقة . حين يتجاوز الشراب عندهم قليلا يبداون بالغناء ثم يبكون .حين وصل نصر حامد ابو زيد للمطار في طريق عودته الى مصر , كان في توديعه وكما يقول بالنص :
(ان كل طلبة القسم و مائة طالب درست لهم على مدى اربعة سنوات , كانوا في انتظاري بالمطار مستعدين لتوديعي بشكل يبدو ملكيا . وقفوا في صفين امام مساحة البوابات التي اقدم بها جواز سفري للموظفين اليابانيين .. ولدواعي سروري صنع الطلاب قلبا كبيرا من ورق ووقع كل طالب منهم عليه وكتب جملة بالعربية .مازلت احتفظ بهذا القلب في مصر , كما غنوا لي اغنية وداع يابانية وانا مازلت في منطقة البوابات .
كان لابد ان اقف و كل شخص بدا انه وقف بالمطار و كان شعوري انني ارحل عن بلدي , لقد اعطيت الكثير للطلبة اليابانيين , لكنني اخذت منهم الكثير . لاحقا ,قابلت بعضا من طلابي في المانيا واماكن الخرى بالعالم .
كانوا ياتون لي ويقولون :
(انت لاتتذكرني , لكنني كنت تلميذك حين كنت تدرس باليابان ) . ختاما يقول د . نصر حامد ابو زيد :
( كان قلبي يدق على وشك الانفجار ) .
في الختام : الفرق شاسع بين ثقافة اليابان وثقافتنا الاصولية والنقلية .
المجد كل المجد والذكر الطيب للدكتور نصر حامد ابو زيد و والخزي والعار للاصوليين الذين اضطهدوه .
لتكن ذكرى وفاته الغامضة مناسبة لاعلان تضامننا مع كل المعتقلين السياسيين وضحايا حرية الراي والضمير .
لتفتح الجامعات ابوابها امام رياح التغيير ..
لننتصر للبحث العلمي وللمناهج النقدية .
لنعمل على تجفيف منابع التكفير والارهاب..
وكل منابع الاصولية بمختلف تلاوينها .
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟