أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ديفيد ج. كوج - مشكلة الهوية في السودان الجنوبية والطريق الي المستقبل















المزيد.....



مشكلة الهوية في السودان الجنوبية والطريق الي المستقبل


ديفيد ج. كوج

الحوار المتمدن-العدد: 4817 - 2015 / 5 / 25 - 16:55
المحور: المجتمع المدني
    


ان السودان الجنوبية تبدو للعيان خاصة من الخارج علي انه مزيج واحد من الكثير من المجموعات السكانية (القبائل) المتجانسة والمتداخلة او باختصار يمكن ان يطلق عليها لفظ الامة بالمعني الضيق للكلمة.
ولكن الواقع والحقيقة الموضوعية عكس ذلك , والسبب ليس في الإختلاف وحدها وإنما في الفهم الخاظئ لهذا الإختلاف , وكذلك الإستخدام السئ لمفهوم القبيلة لكافة ابناء الوطن دون استثناء. فبدلا من ان يتم العمل علي بناء وطن يسع الجميع ؛ عمل العديد من الساسة بمساعدة بعض المتعلمين – من ذوي النفوس الضعيفة عن قصد او عن غير قصد - علي الترويج لأفكار تقسّم الشعب اكثر مما توحدهم.
وهذه تعود الي حقب بعيدة خلت او قل غابرة . مع الوضع في الإعتبار انه لم يتح لنا الظروف فرصة حقيقية للعيش معا , منذ الإستقلال (إستقلال السودان) سوي بعد اتفاقية اديس ابابا واستمرت زهاء عقد كامل . ونزعم انه لم يتاح لنا فرصة حقيقية للعيش معا لأننا لا نكاد نجد ادلة تفيد باننا عشنا معا كجنوبيين في دولة واحدة مثلا قبل دخول المستعمر للسودان اي ما قبل القرن التاسع عشر . كل ما نجده لا تزيد عن مجموعات قبلية اقامت ما سمتها بالممالك مثل مملكة فشودة – وإن لم تكن مملكة بالمعني الحرفي للكلمة - وغيرها .
وبعد ان دخل المستعمر للسودان فعل ما شاء اي اخذ ما اراده من ولكنه بالتاكيد لم يترك السودان كما كان من قبل حيث ضم الجنوب الي السودان بعد ان تقرر ذلك في مؤتمر جوبا عام 1947م . مع ان ذلك لم يكن كافيا لأن معظم الممثلين للجنوب كانوا من السلاطين ولم ينالوا اي قسط من التعليم حيث كان القليل منهم فقط من المتعلمين . بينما كان الشماليين كلهم متعلمين وحملة شهادات الدكتوراه . لقد لم يجد الشنقيطي اي صعوبة من اقناع السلاطين بضرورة وحدة الشمال والجنوب في دولة واحدة هي السودان ؛ كما وعد المتشككين من المتعلمين بالمناصب , لذا نري ان قرار الوحدة لم تتم بطريقة جيدة او عن طريق قناعة الممثلين بأهمية الوحدة .
علي كل تقرر ضم الجنوب للسودان بدلا عن يوغندا او كينيا كما كان الإنجليز يريدون. ولكن تم ذلك مع فارق كبير لان قانون المناطق المقفولة 1922م (سليمان , 2000 : 164) التي تمنع دخول اي شمالي للجنوب الا بإذن من القائمين علي الأمر في الجنوب , اثرت هذه القوانين علي الجنوب والشمال معا . خاصة الإختلاف في اللغة والدين والخلفية الثقافية.
فالأولي تدين بالمسيحية وبعض المعتقدات المحلية وتستخدم الإنجليزية كلغة رسمية مع اللغات المحلية وكذلك ثقافتها ثقافة افريقية. اما الثانية فلغتها الرسمية هي العربية ودينها الإسلام وكذلك ثقافتها مزيج من الثقافة المحلية والعربية الإسلامية.
ولكن هذه لم تكن هي العائق ام التحدي وانما كيف فُهِم وفُسِرهذه الإختلافات كانت هي المشكلة . فقد اعتقد الجنوبيين بعد الإستقلال ان الشماليين (الذين يطلق عليهم في الجنوب عرب) قد حلوا محل الإنجليز , فهم لم يكونوا سوي قوي كولونيالية جديدة حلت محل القديمة وهذا ما اتضح فيما بعد . ولا ننسي ان المستعمر لم يعمل علي تطوير الجنوب وتحديثها , ولذلك نجد اصبحت الجنوب متخلفة عن الشمال في كل النواحي تقريباً. ويظهر ذلك جليا عندما اخلي المُستعمِر 800 وظيفة عام 1953م للسودانيين . وعندما اتي دور توزيع هذه الحقائب وسودنتها تلقي الجنوب اربعة مقاعد فقط وهذا كان ظلما بعينه وإهانة للجنوب (سليمان 2000 : 166). لذا كان الجنوبي ينظر للشمالي المسلم علي انه مستعمر جديد بينما ينظر الشمالي الي الجنوبي المسيحي والوثني علي انه شخص ضعيف معرفيا وثقافيا لذلك لابد من ضمه للإسلام وتعليمه اللغة العربية .
كان ذلك كافيا لإشعال تمرد توريت في اغسطس/آب 1955م وسرعان ما إنضم العديد من الجنوبيين لهذا التمرد (وتعرف بأنيانيا 1) الذي كان ينادي بالإنفصال عن السودان . ولكن المؤسف في الأمر هو ان التجار الشماليين الذين كانوا يعملون في الجنوب (توريت بالتحديد) قد قُتلوا بدعوي انهم عربوهذا كان تطهيراً عرقيا ً بطبيعة الحال . ثم اخذت الصراع طابعاً آخر عندما نجح إنقلاب الجنرال عبود وسيطرته علي السلطة , ثم عمل علي توجيه او تغيير السودان الي ان يبقي ذات توجه عربي إسلامي – وهذا بطبيعة الحال لم يكن مقبولا عند الجنوبيين مع انه مقبول لدي الكثير من ابناء الشمال – لذلك استمر هذا التوجه مع رفض ومقاومة الشرق والغرب الي ان إنفصل الجنوب عن الشمال في يوليو/تموز 2011م .
ولكن الإنحراف الحقيقي عن المسار وتغير شكل الصراع في السودان كلها ولا سيما في الجنوب كانت بداياتها مع نميري حين عمل علي تفتيت الجنوب وقسّمها الي ثلاثة اقاليم لا ضرورة اليها وهي بحرالغزال واعالي النيل والإستوائية , حتي يسهل السيطرة علي هذه الأقاليم وبالتالي يسيطر علي الجنوب. وكذلك الغي اتفاقية اديس ابابا واعلن الشريعة الإسلامية (شعراوي , 2004 : 278). او ما يُعرف بقوانين سبتمبر/أيلول.
وادي ذلك طبعا الي تفجر الحرب مرة اخري في السودان بين الشمال (إن مصطلح الشمال نستخدمها مجازاً ولكنها في الحقيقة تشمل الشرق والغرب) والجنوب حين تمرد العقيد د. جون قرنق (الذي كان في زيارة) في بور عام 1983م . وللمفارقة فقد تبني قرنق مفاهيم جديدة عكس ما كانت عند السابقين في حركة انيانيا التي كانت تدعو الي فصل الجنوب عن الشمال وكانت وقتذاك بقيادة جوزيف لاقو. اما الحركة الشعبية بجناحيها السياسي والعسكري فقد تبنت وحدة السودان . اي الحرب ضد الحكومة في الخرطوم من اجل الوحدة ؛ ولكن وحدة بأسس جديدة. وعن ذلك يقول قرنق انه لا يمكن ان نكون قد حملنا السلاح ودخلنا الأحراش , في عام 1983م , لنأتي بوحدة تضطهدنا , فهذا ليس طبيعياً , ولم يكن ممكنا ان نفعل ذلك (كمير , : 72). وقد شرح قرنق ذلك ان الوحدة الذي يحاربون من اجلها تقوم علي الواقع التاريخي والواقع المعاصر , وقد عاد في ذلك الي تاريخ السودان القديم ليدعم بها موقفه من الواقع التاريخي اما الثاني فاستقاه من الواقع المعاش ليخرج منه بالواقع المعاصر . ويضيف قرنق مرةاخري قائلا يجب ان اعترف بأنني لا افخر بالوحدة التي خبرناها في الماضي وهذا هو السبب الذي دفعنا للتمرد ضدها , اذن , نحن بحاجة الي وحدة جديدة , وحدة تشملنا كلنا بغض النظر عن العرق , القبيلة , او الدين (كمير , : 78).
مع ان رؤية قرنق للسودان الجديد يوتوبي ؛ إلا ان الحركة الشعبية واجهت مشكلة وهي ان الجبهة الإسلامية نجحت في عمل إنقلاب عسكري – الإنقلاب الثالث في تاريخ السودان - وتسلم السطلة في الخرطوم عام 1989م , هذا الإنقلاب المشؤوم عمل علي دخول لاعب آخر كان يعمل خلف الكواليس لفترة طويلة الي الساحة السياسية السودانية بل وتسلمه لمقاليد الحكم مثَل تحديٍ كبير للثورة القادمة من الجنوب . وقد اتخذت الحرب ابعادا اخري خاصة بعد إعلان نظام الإنقاذ في الخرطوم للجهاد عام 1991م ضد المتمردين في الجنوب الذين اسموهم بالخوارج (نجور) ووصل البعض الي حد وصفهم باعداء الله والإسلام , لذا من واجب اي مسلم سوداني ان يحارب ويجاهد في الجنوب . وتلقت الحكومة دعماً مالياً ولوجستياً من دول إسلامية عدة منها عراق صدام وإيران الشيعية والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية منبع الإسلام , وظهر في الافق ما سُميت آنذاك بالمشروع الحضاري . التي كانت تهدف إلي إستيعاب الجنوب دينياً ولا سيما ثقافياً ايضا . لذلك نجد ان منظمة الدعوة الإسلامية قد بنت مدارس عدة في الجنوب تعمل بالنهج الإسلامي والتوجه العربي . بالإضافة الي ان الحكومة ظلت تقول انها تخوض الحرب في الجنوب دفاعا عن العروبة والإسلام في السودان . وان المتمردين ليسوا سوي عملاء الدول الغربية واسرائيل وهم اعداء البلاد والمتربصين بالإسلام وما إليها من شعارات واهية , ولكنها كانت تؤتي ثمارها في إلهاب مشاعر المواطنين وإقدامهم للدفاع عن القيم التي قيل انها مهددة من قبل الخوارج اي المتمردين . وبدلاً من ان ينظر حكومة الجبهة الإسلامية الي مطالب المتمردين التي كانت عن العدالة الإجتماعية وتحقيق المساواة بين كافة السودانيين وغيرها من المطالب بجدية إلا انها اتت بتفسيرها الاحادي التي ذكرناها آنفا .
كل هذه العوامل الزائفة غيّرت تاريخ السودان ومستقبلها تماماً , وبينما كانت حكومة الجبهة منهمكة في تعبئة الرأي العام ضد المتمردين وكسب تأييدهم ؛ فقد إنشق بعض القادة وهم يُعرفوا بمجموعة الناصر إنشقو من الحركة الشعبية عام 1991م (كمير , : 72). وما تبع ذلك من مجازر كان طابعها سياسي عسكري ولكنها اُلبِست ثوباً قبّـلـياً, وكان اسباب الإختلاف شخصية بين القياديين في الحركة اكثر مما هو حول الرؤي وانا اسميه إختلاف الدكاترة (بإستثناء كونق الذي كان تابعاً في رأيي) اي الراحل د.جـون قـرنـق و د.لام اكـول و د.ريـاكـ مـشـار النائب الحالي لرئيس الجمهورية ولكن المنشقين إدعوا انهم لا يريدون ان يحاربوا من اجل الوحدة بل يريدون فصل الـجـنـوب عن الـشـمـال والمفارقة هو انهم وقعوا اتفاقية مع نظام الخرطوم (إتفاقية فشودة للسلام وإتفاقية الخرطوم للسلام)وعملوا جنباً الي جنب مع حكومة الإنقاذ الفاشية في سحق حركة التمرد في الجنوب . مع ان ما خلفته هذه الإنشقاق من مرارات ما زالت تلوح في الأفق حتي اليوم بين بعض ابناء الوطن .
ولكن ما لا افهمه هو كيف امكن الإنفصاليين ان يوقعوا إتفاقية مع الحكومة بينما ظل الوحدويون في الأحراش؟ وكذلك غرض كـربـيـنو الذي كان لا يثبت مع المتمردين ومع الحكومة ايضاً .
مراحل تكون الهوية في السودان الجنوبية :
ان الهوية كما يقول د. فرانسيس دينق هو الطريقة التي يصف او يعرف بها الافراد والمجموعات ذواتهم او تعريف تعريف الاخرين لهم استنادا علي العرق , الاثنية , الدين , اللغة او الثقافة (دينق , 1999 , 9). إذن ان الهوية لا يتعدي مجرد تصور – وهل يجب ان يكون غير ذلك – ولا يختلف إثنان علي ان العالم كلها نتيجة لتصوراتنا , وعلي ضوء هذا التصور نتصرف حيال العالم وبعضنا البعض .
فالهوية او التفكير الهُووي يجعل الناس خاضعين لأشخاص آخرين اي ان افكارهم هي آراء اشخاص آخرين , حياتهم محاكاة , وعواطفهم اقتباسات (صن , 2008 : 11). ان الناس يتأثرون بآراء الذين يعتبرون انهم يشتركون معهم معا في هوية واحدة دون الإلتفات الي اشياء اخري بديهية ومنطقية وحتي اخلاقية . ولدينا امثلة كثيرة في تاريخنا الإنساني المعاصر اقربها الي الأذهان هو ما حدث في رواندا في تسعينيات القرن العشرين . فالروانديين تناسوا في تلك الفترة انهم اولا بشر وافارقة وروانديين , وغيرها من الإنتماءات الكثيرة التي يمكن ان ينتسبوا إليها ولكنهم حصروا انفسهم في دوائر ضيقة هي القبيلة فقد كان يعني لكل طرف , كونك توتسي فهذا يعني ان الهوتو اشرار ويجب ان يموتوا لأنك ان لم تفعل فحتما سيقتلونك والعكس صحيح بالنسبة للهوتو ايضا .
ويمكن ان نقول ان مراحل تكون الهوية في السودان الجنوبية مرت بمراحل عدة تعود الي القرن التاسع عشر تقريبا خاصة مع دخول تجار الرقيق الي الجنوب إبان الحكم التركي المصري الممتدة من 1821م – 1885م , لذا عمل بعض القبائل وزعماءها علي مقاومة هؤلاء التجار حتي لا يسترقوا اي ان لا يؤخذوا الي اماكن بعيدة لكي يباعوا كعبيد . وكان اشهر تجار الرقيق في تلك الحقبة هو الزبير رحمة منصور (المشهور بالزبير باشا) الذي نصب حاكما علي بحر الغزال عام 1873م بعدما فشل الاتراك في النيل منه.
ان فظائع تجار الرقيق نمي شعور الجنوبيين بالشك والريبة تجاه الغرباء عامة ولكنه قربهم من بعضهم بعض الشئ لأنهم رأوا ضرورة مقاومة الشر فتمسكوا بالقبيلة اكثر لانها كانت تحميهم وتشعرهم بأنهم جماعة واحدة , وهذا الشك والخوف من الغرباء عاني منه الكولونياليون الإنجليز في بداية الأمر وكذلك المبشرين ولكنهم في النهاية إستطاعوا من إقناع المواطنين بأنهم عكس من سلفوهم .
ثم تلا ذلك حرب السبعة عشر عاما اي من 1955م الي 1972م . وكان ذلك ضد الأنظمة الحاكمة في الشمال التي تبنت مفاهيم و ايدولوجيات معينة متابينة . فمثلا عبود تبني العروبة لذلك اخذ الحرب الذي كان يقوده ابناء الجنوب للإستقلال بإقليمهم , اخذ الحرب طابعا عرقي اي الحرب بين العرب والأفارقة (وهذه طبعا كانت تصورات خاطئة بين الطرفين) ومع ذلك لم تتغير مطالب الجنوبيين بالإنفصال. ومن هنا بدأ مفهوم الافريقانية في التبلور وسط المواطنين الجنوبيين ولا سيما وسط الانتلجنسيا الجنوبية ايضا مع استحضار مآسي تجار الرقيق في زمن حكم الإتراك والمهدية ايضا, الي ان وقع لاقـو ونميري اتفاقية اديس ابابا . وتمتع الجنوب بالحكم الإقليمي الذاتي .
ولكن لم ننعم بسلام إجتماعي حين عادت العصبية القبلية التي كانت تميز مجتمعنا الجنوبي قبل الكولونيالية وبعدها . وكأننا نوافق إبن خلدون الرأي حين قال ان الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل ان تستحكم فيها دولة وذلك لإختلاف الآراء .فالآراء في الإقليم الجنوبي التي كانت بحاجة الي التنمية اكثر من اي شئ اخر لم تتفق , لأن العصبية القبلية كانت بالمرصاد خاصة في هذه الفترة التي سمحت لنا الظروف السياسية والعسكرية للبلاد ؛ لنا بالعيش معا ولكننا لم نستفد منها . وظهر مشاكل في الأفق – من ابناء الإستوائية - تقول ان قبيلة الدينكا قد سيطرت علي كل شئ في الجنوب بقيادة ابـل الـيـر, وفي الإنتخابات فاز لاقـو علي الـيـر وتسلم مقاليد السلطة.
ربما ان الإختلافات في المواقف السياسية التي تمت تعزيتها بقصد او دون قصد الي القبلية والقبيلة معا , ربما هي ما جعلت نميري الإنتهازي يتشجع ويتخذ قرار تقسيم الجنوب الي ثلاثة اقاليم حتي يسهل السيطرة عليها في المستقبل خاصة في تأجيج الصراعات القبلية بين الجنوبيين لأن المجتمع مازال تقليدي وكل من افراده لديه عصبية وولاء لقبيلته اكثر من اي شئ اخر. واحداث مدينة واو في ثمانينيات بين الفراتيت والدينكا تؤكد ذلك .
ان هذه الفترة كانت كفيلة بان يعمل كل ابناء الوطن علي تنمية إقليمهم ولكنها كشفت لنا كيف ان ضيق الأفق ما زالت مسيطرة وان الإنتماءات المركبة وليست البسيطة هي السائدة الي ان قامت الحركة الشعبية لتحرير السودان من طيغان الأنظمة الشمولية والدكتاتورية والفاشية في الخرطوم .والعمل علي تحقيق العدالة الإجتماعية والسلام في ربوع السودان.
فأخذت تلبورمفهوم الهوية الجنوبية طابعا اخر وهي سودنة المفاهيم الجنوبية حول السودان بدلا عن الـجنـوبـة او التـجنـوَب التي كانت سائدة قبل الـحـركة الـشـعـبـيـة والجيش الشعبي لتحرير الـسـودان علي الرغم من بعض المفاهيم التي طرحتها الـحركـة حول الـسـودان غير سليمة نظريا او فلسفيا اي مفاهيم عفت عليها الزمان مثل الدولة القومية وكذلك مفاهيم غامضة مثل كلمة الجديد في مشروع الـسـودان الـجـديـد .
ولكن الـحـركـة وجدت صعوبة اولا في إقناع اتباعها حول ضرورة النضال من اجل الـسـودان وليس من اجل الـجـنـوبـ فقط , وإزدادت الامور سوءً عندما انشقت مجموعة الناصر من الحركة . فاضطرت القيادة الحركية علي تضمين إمكانية الانفصال في برنامجها ولكن جانبا (حق تقرير المصير) . وذلك يظهر جلياً حين طلب الراحل جون قرنق من الكل الحرب وعندما يصلوا الي ما يعتبروه حدود الجنوب فعليهم ان يتوقفوا هناك حتي يكونوا حرس الحدود وسيواصل الوحدويون النضال حتي يحرروا الـسـودان كلها.
لكن المشكلة كانت تتمثل في سيطرة الجبهة الإسلامية علي السلطة في الخرطوم وإعلانهم للجهاد ضد المتمردين في الجنوب وتبنيهم للمشروع الحضاري بل وعملوا علي اعلاء شان العروبة في الـسـودان . فاصبح الصراع الدائر حول العدالة والمساواة والموارد اصبح حرب الهوية اي العرب المسلمين في الشمال ضد الافارقة المسيحيين والوثنيين في الجنوب . وقد نشر كتب حول هذا الموضوع تصور ان ما يدور في السودان هو صراع عرقي . والمثال علي ذلك هو د. فرانسيس (مدينق) دينق في كتابه صراع الرؤي نزاع الهويات في السودان وكذلك د.محمد سليمان في كتابه السودان حروب الموارد والهوية . لقد خُيل للكثيرين ان الصراع في السودان هي حرب الهوية . وفي رأي كاتب هذه السطور ان هذا التصور ظاهريا تبدو صحيح ولكن حقيقة الامر لم تكن كذلك بل ان مثل هذه التصورات زائفة حتي ولو تبني نظام الخرطوم ذلك .
مثّل إعلان الجهاد ضد الجنوب تحدي كبير للجنوبيين خاصة وان هذا دخل مع نظام الإنقاذ القمعي , وتدفق المجاهدين في الجنوب خاصة المتعطشين الي الدماء بحجة انهم يقومون بواجبهم الديني كما ان الإستشهاد في الحرب يعني دخول الجنة والإستمتاع بالحوريات في الجنة التي تجري من تحتها الأنهار , وهذا كله لا يمكن ان يحصل الا إذا جاهدت في الجنوب اي ان ثمن دخول الجنة هو بقتل الآخرين.
وحرض الحكومة كذلك القبائل الواقعة في الحدود بين الشمال والجنوب والتي تدعي زورا بالقبائل العربية . وكونت الحكومة مليشيات كانت تسمي بالمراحيل , يأتون الي الجنوب ويلحقون الأذي بالمواطنين العزل والأبرياء وكانوا في الكثير من الأحايين يقولون الله اكبر الله اكبر واحيانا اخري لا إله إلا الله !
وهذا طبعا ما حدا بالكاتب المصري حلمي شعراوي الي ان يقول , بأنه أول مرة يري فيها النخبة الحاكمة (في الشمال) ترفع راية الجهاد في تاريخ العروبة . اول مرة نري فيها قيام الحكم المركزي بالجهاد داخل بلاده (شعراوي , 2004 : 278).
لا ادري كيف يمكن لشخص له ضمير ويؤمن بالله ان يقتل الآخرين باسم الله او ينعتهم بالعبيد؟ المهم في الأمر هو ان الحرب اصبحت اشرس من الماضي وتشرد الكثيرين وعرفوا ان العرب والمسلمين هم الذين يقتلونهم .
فهذا العامل الأخير اثر في الكثير من الجنوبيين وكذلك في فهمهم وتحليلهم للصراع الدائر , لذا عملوا علي مواجهة المركز في الخرطوم بنفس الشعار التي يرفعها , فنموا الشعور بالأفريقانية لمواجهة المد العربي الإسلامي تجاه الجنوب ومع ان القيادة العليا ترفع شعارات الـسـودان الـجـديـد إلا ان معظم جلالات الجيش الشعبي كانت تتحدث عن الحرب ضد العرب .
ومنذ ذلك الوقت نمي كراهية الجنوبيين اكثر من اي وقت مضي لكل ما هو شمالي ويعتبرون ان كل شمالي عربي وبالتالي هو شرير مع بعض الإستثناءات. واستمرت الأمور بين الطرفين تقريباً حتي تم توقيع إتفاقية السلام الشامل عام 2005م والتي افضت في 2011م الي إنفصال الجنوب عن الشمال .
قبل الإستقلال واجهت الجنوب مشاكل عديدة وهي في جلها قبلية و اخلاقية مثل الفساد , وهذا كله بسبب التصورات الخاطئة للعالم وكيفية العيش معا .
لا يمكن ان يحصر مفهوم الهوية في قالب ضيق احادية الجانب , لأن ذلك يؤدي في نهاية المطاف إلي عنف غير مبرر البتة .
لذلك نقول ليس التاريخ والنشأة هما الوسيلة الوحيدة لرؤية انفسنا والجماعات التي ننتمي اليها , فهناك مجموعة هائلة وغير متناهية من التصنيفات التي ننتمي اليها في الوقت نفسه (صن , 2008 : 34). فبإمكاني ان اكون , في وقت واحد افريقياً , ومواطن سوداني جنوبي , وأحد سكان فرنسا , وباحث إجتماعي , ومشتغلا بالفلسفة ومشجع كرة القدم, ومتحدثا بالسواحيلية , ومسيحي , ورجل , ونباتي وغيرها من التصنيفات التي يمكن ان انتمي اليها ويمكن ان ينتمي اليها اي احد , فالإنتماءات لا يمكن حصرها لأنها لا نهائية . فلماذا نختار انتماء قبلي فقط ونتصرف حيال العالم وفقا لتلك التصور القبلي ؟
مشكلة التفكير او بالأحري التصور الهُووي هو انها تقابل بين الذات والموضوع بينما مفهوم اللاهوية تقابل بين الذات والذات وهذا يساعد من توسع آفاقنا الإنسانية .
الطريق إلي المستقبل :
لقد هدفت في العرض السابق لتاريخ السودان كي اوضح كيف تبلورت مفهوم الهوية في الجنوب بالتحديد , وتأثرها بالعوامل الخارجية منها كما ذكرنا سابقا مثل الحكم التركي المصري وفترة الكولونيالية او ما يعرف بالحكم الثنائي , ثم الأنظمة الحاكمة في الخرطوم وكذلك عجزنا عن العيش معا بطريقة حضارية ومقبولة .
اعلم ان البعض قد يختلفون معي فيما ذهبت اليه ؛ ولكني لا اهدف إلي الإتفاق في الرأي مع احد , بقدر ما اهدف الي توصيل ما اعتقد انها الحقيقة للناس . مع الوضع في الإعتبار ان الحقيقة نسبية وليست مطلقة , كما انها ليست هي كل ما يطابق الواقع بقدر ماهي الإتفاق في التصور.
لذلك ستكون فكرة الطريق الي المستقبل تكفيكية في توجها (الهدف) ونفعية في بعضها (النتيجة) مع الإستصحاب للبراجماتية في عملية التحليل والتركيب , مع الإعتماد علي بعض الدراسات العلمية الحديثة والفلسفية دون اي ترانسدنتالية علي الواقع.
ان الطريق الي المستقبل لا يعني تقديم نظرية كاملة وشاملة يجب العمل وفقها لكي تحدث ما نرمي اليها , بقدر ما هي محاولة نظرية لتحليل بعض المفاهيم السائدة في المجتمع وتفكيك بعض بنياتها الهشة حتي نتمكن من إعادة تركيبها بطريقة جيدة . لذلك يمكن تصور الطريق الي المستقبل علي انها محاولة جادة لإدراك الماضي بصورة عقلانية وجيدة وإستيعاب ما يجري الآن اي في الحاضر حتي نتمكن من ان نعيش بسلام في المستقبل .
والطريق الي المستقبل يبدأ بنقد مفهوم القبيلة , وما نقصده بالمفهوم هو مجموع الصفات الذاتية الخاصة بشئ ما تلك الداخلة في تعريفه وبغيرها لا يكون هو ما هو , لذلك لا ننظر حينئذ الي الصفات التي ترتبط به عرضا.
فمفهوم القبيلة هنا يجب تجاوزها الي مفهوم اللاقبيلة تماما مثلما تم تجاوز مفهوم الهوية الي اللاهوية فلسفيا .
ليس هذا وحسب بل ان الهوية لا يمكن حصرها في بوتقة واحدة صغيرة فهي متعددة اصلاً . ولكن غالبا ما تأتي مشاكل لا تُحمد عقباها , بسبب التصور الخاطئ للعالم وكيف ينبغي ان نعيش فيها . فبدلاً من الإهتمام باشياء اخري تصبح الاهتمام بالهوية , والادلة علي ذلك كثيرة .
لنعود الي ما قلناه سابقا عن تعريف د. فرانسيس دينق للهوية ولنري هل هذه الصفات ستصمد امام الفحص الناقد ام لا؟
اي ان الهوية بإعتبارها الطريقة التي يصف او يعرف بها الأفراد والمجموعات ذواتهم او تعريف الآخرين لهم استنادا علي العرق , الإثنية , الدين , اللغة او الثقافة.
ان تعريف اي مجموعة انفسهم دائما علي انهم كلاً واحد يشوبه بعض الغموض وعدم الموضوعية , مثلا الهوتو كانوا يعتبرون انفسهم كلا واحدا وتناسوا انهم روانديين وهذه الصفة يمكن ان يشتركوا فيها مع التوتسي , وكذلك يمكن لأي فرد من الهوتو ان يختلف مع هوتو اخر , يمكن ان يكون كاهن او عسكري او سياسي وكل هذه الصفات تدخل في تعريف الهوية وهم لا يشتركون فيها معا . اما تعريف الآخرين فهي لا تختلف عن ما ذكرناه انفا بحيث انها غامضة ايضا . لان حصر الناس في قالب واحد غير صحيح البتة , فيمكنك ان تعتبر سكان اوسيتيا الجنوبية وابخازيا علي انهم اناس طيبون وشجعان لانهم يطالبون بالانفصال عن جورجيا , ان هذا قد يكون صحيح ولكن مع ذلك قد تجد ان البعض منهم يعارضون هذه الفكرة ويمكن ان تجد ان بعضهم يحملون الجنسية السويسرية او اليابانية فهم ليسوا من اوسيتيا الجنوبية وابخازيا وحسب بل مواطنين كوزموبوليتانيين . العرق والإثنية هي مفاهيم يطلقها البشر علي انفسهم فحسب لا اكثر (مع انها ميدان الأنثروبولوجيا) ؛ حتي يميزوا انفسهم من الاخرين , ولكن في حقيقة الامر هذا الإدعاء انتهت منذ فترة طويلة علميا , فهناك دراسات تقول ان اصل الإنسان من افريقيا (وهذا يدل علي اننا واحد بغض النظر عن اللون او اللغة) والمؤمنين بالله يعتقدون ان كل البشر من ادم وحواء . وكذلك نجد ان هناك دراسة اجرتها جامعة هارفارد في مطلع هذه الألفية وصل النتيجة الي انه يمكن ان نجد جينات كل البشرية في شخص واحد . هذا ايضا يدحض التمسك بمفهوم العرق او الإثنية او الصفاء العرقي . اما الدين بغض الطرف عن انها توحيدية او وضعية فهي متعددة ايضا , واقرب مثال للأذهان هي ما حدث في السودان ايام الحرب الأهلية حين اعلن جماعة الجبهية الأسلامية الإرهابية الحاكمة في الخرطوم الجهاد ضد الجنوبيين (الحركة الشعبية في الحقيقة) اي كان علي اي مسلم ان ياتي الي الجنوب للجهاد مع انه يمكن ان نجد ان هناك مسلمين في الحركة ايضا , وهذا طبعا تناقض . واخيرا اللغة والثقافة فشأنهما شأن الدين فيها نوع من التداخل والإختلاط بل وتاثر بالباقي . فالبنسبة للمؤمنين فان البشر قبل ان يشرعوا في بناء برج بابل كانوا يتحدثون لغة واحدة ولكن عندما فكروا في بناء برجٍ راسه السماء , بلبل الرب لغتهم واصبح كل يتحدث لغة يختلف عن اي واحد فتفرقوا حول الأرض (سفر التكوين اص 11 : 1- 9). كما ان بعض نظريات اللغة تذهب الي ان اصل اللغات هي السريانية وهذا ما لا شك فيها . كما ان لغاتنا المحلية الآن تأثرت باللغات الأجنبية الأخري مثل العربية وحتي الإنجليزية حتي انه بات من الصعب اليوم ان تجد اي مواطن جنوبي يقول جملة او جملتين بلغته الأم دون ان يدخل كلمة إنجليزية او عربية فيها ؛ ولا ننسي ان كل الحروف التي تكتب بها كل لغاتنا المحلية هي حروف لاتينية وهذا يدل علي عجز عامل اللغة والتي سبقها ايضا في تعريف الهوية تعريف سليم .
اما الثقافة فقد حصل تداخل ايضا بين الثقافات العالمية – بالمعني الحرفي لمفهوم للثقافة - ففي الوقت الحاضر نجد ان السلع , ورأس المال والبشر , والمعرفة , والصور , والجريمة , والملوثات , والمخدرات , والأزياء , والمعتقدات تتدفق كلها بسهولة عبر الحدود الإقليمية .ان الشبكات , والحركات , والعلاقات الإجتماعية العالمية واسعة الإنتشار في كل المجالات تقريبا , من الأكاديمية الي تلك الجنسية (توملينسون , 2008 : 10). ببساطة ان فكرة حصر الثقافة داخل حدود معينة في ظل العولمة اصبحت غير ممكنة . فمفهوم التثاقف هي التي يفترض ان تسود كما هو الحال في باقي الكوكب تقريباً . بهذا نستطيع ان نقول ان الهوية بتعريفها الضيق ليست لها اي اساس من الصحة او وجود واقعي وانما فقط نتيجة للتصورات الحتمية الخاطئة ووهم المصير الواحد او المشترك التي يصورها البشر , وقد ادت الي تقاتل البشر وابناء الوطن الواحد فيما بينهم بسبب ؛ الدين كما حدث في ايرلندا الشمالية بين الكاثوليك والبروتستانت او في يوغسلافيا السابقة بين الصرب والمسلمين والسودان بين الحركة الإسلامية في الشمال والجنوبيين وبين السيخ والمسلمين في الهند, او بسبب العرق كما حدث في رواندا ؛ ونظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا والولايات المتحدة الأمريكية . كل هذه الدروس يجب علينا ان نتعلم منها. ونحن لا ننكر ان معتقدات الفرد نفسه كفرد هي الأخري إجتماعية , لأن كل فرد يعمل في بيئة إجتماعية , والإستقلال الفردي هو الآخر ظاهرة إجتماعية (بدوي , 1981 : 29). ولكن لا يمكننا التعايش مع المعتقدات الضارة في عالم اليوم , لأن مثل هذه الأفكار ستكلفنا الكثير.
بهذا نكون قد انتهينا من مشكلة الهوية ؛ وما جعلنا نقول انها مشكلة الهوية هي ان تصوراتنا لأنفسنا سوا كنا افراد او مجموعات هي التي تؤدي الي الصدام وبالتالي تخلف المجتمع . والمشكلة ليست في الهوية فحسب بل فيما نعتقده ايضا . ويقودنا هذا الي اغلوطة ظل الكثيرون يرددونها في الآونة الاخيرة , وهي ان ما نعاني منها في الجنوب ليست القبيلة وإنما القبلية . ولكن عندما نسأل كيف يمكن ان تنشأ مشكلة قبلية اذا كنا لا نعتقد بوجود القبيلة او نتمسك بها ؟
لا احد يجيب إجابة قاطعة لذا رأينا ان ما يحدث ليست القبلية كما يسفسط البعض بل نتيجة لتصورنا للقبائل , هي التي تؤدي الي الصدام . فاذا تخلصنا من المفاهيم الخاطئة للقبيلة والمصير الحتمي ستنتفي القبلية لأن القبيلة هي التي تؤدي الي القبلية .
ان هذا الجانب (اي دحض مفهوم القبيلة) كما نعتقد المفتاح والكرت الرابح للطريق الي المستقبل , لانه لو تخلصنا منها فلن نجد اي عائق امامنا . لذلك نري ضرورة التفريق بين مفهوم التنوع والإختلاف وتوضيح اللبس , فالتنوع المستخدم كثيراً هذه الأيام يحمل في طياته دلالات غامضة ؛ فالتنوع ببساطة يعني ان نعترف بأننا متنوعين اي ان بيننا بعض الفروق , ولا يذهب التنوع الي ابعد من ذلك وهذا غير مجدي إن كنا نريد التكامل. اما الإختلاف فيعني الإقرار بأننا مختلفون – كما هو الحال مع التنوع – ولكن يمكن ان ندخل في علاقات اياً كانت نوعية هذه العلاقات . لان العلاقات الانسانية اصلا قائمة علي الاختلاف وهذا ما نريده .
ومن هنا نري ضرورة إستبدال مفهوم التنوع بمفهوم الإختلاف لأننا بحاجة الي الدخول في علاقات إنسانية اوسع وليس التقوقع فقط كما نفهم ذلك من التنوع , وإنما الإتفاق علي غرار انه لابد من الإختلاف ليتم الإئتلاف . فالمجتمع السوداني الجنوبي يجب عليها ان ارادت الإستقرار الإجتماعي (الاقتصادي والسياسي) ان تعمل بمفهوم الإختلاف.
ان التخلص من مفهوم القبيلة او بمعني اوسع الهوية ليست كافية مع انها تفتح فرصا للعيش معا والتفاهم مع امكانية التطور في ظل العلاقات الإنسانية الواسعة ليس داخل الحدود فقط بل عالميا ايضا , خاصة واننا في عصر العولمة .
لذلك نري انه لابد من تضمين التنمية في الطريق الي المستقبل , لأنها هي الوحيدة التي ننشدها الان . كما نقع تحت تصنيف الدول النامية . وما نقصده هنا بالتنمية التطور وهذا التطور وسيلة بالمسائل المادية فقط بل يجب تناولها من كل الجوانب تقريبا , منها الإجتماعية , الثقافية والسياسية . ولكي يتحقق كل هذا يجب ان يتمتع كل افراد المجتمع بالحرية ؛الحرية بمعني ان لا يكون الإنسان مكرهاً علي الإذعان لإرادة غيره كما يقول هايك .ويقسم هايك الحرية إلي وهي الحرية السياسية وهي مشاركة الإنسان في إختيار حكومته ومشاركته في وضع التشريعات وفي عملية الإدارة . وايضا الحرية الداخلية اي المدي الذي يستطيع الإنسان في القيام بفعل معين مدفوعا بإرادته , لا بدافع طارئ او ظروف وقتية معينة . واخيرا الحرية بإعتبارها قدرة وتعني مدي قدرة الفرد علي إشباع رغباته , او هي النطاق الذي يمكن ان يمارسه الإنسان في الإختيار بين البدائل المطروحة (دي كرسبني ومينوج , 1988 : 36). فالحرية قيمة اساسية للإنسان لا يمكنه العيش بدونه , ويقول امارتيا صن ان التنمية حرية اي انها تستلزم إزالة جميع المصادر الرئيسية لإفتقاد الحريات (الفقر والطغيان , وشح الفرص الإقتصادية , وكذا الحرمان الاجتماعي المنظم , واهمال المرافق والتسهيرت العامة وكذا عدم التسامح او الغلو في حالات القمع) (صن , 2010 : 18). كل هذه العوامل هي التي تؤثر علي التنمية . كما ان الإفتقار الي الحرية - اي الحرية باعتبارها الحرية في الحصول علي ما يساعد علي البقاء علي قيد الحياة – يكلف المرء حياته (الإقتصادية) . فالإفتقار الي هذه الحرية يؤدي حتما الي الفناء .
اما التنمية في كل جوانبها اي الإجتماعية والسياسية والثقافية , فهي تهتم مثلا في الاولي في ازالة الاثار السالبة والمعوقة للتنمية في المجتمع وفي الثانية حول ترسيخ بعض القيم التي تساعد علي عملية الإنماء مثل التوزيع العادل للثروات بالإضافة الي السماح وفتح الباب لكل المشاريع التنموية , باعتبار ان دور السلطة السياسية في ذلك مؤثرة كما يعمل التنمية من الجانب السياسي الي تغيير بعض المفاهيم الخاطئة عن السياسة ايضاً . والجانب الأخير اي الثقافة بما تشمله من الموضوعات منها الدينية والأخلاقية يجب ان توجه نحو التنمية وإزالة الفروق والقيم التي تؤثر علي التنمية سلباً مثل العنصرية او بعض القيم التي تري انه علي الرجل ان يعمل واما المرأة فعليها ملازمة المنزل فقط او العكس , ان هذه المفاهيم يتم تغييرها بالتوضيح لأفراد المجتمع ان التنمية مسئولية الجميع؛. هذا من جانب التنمية .
اما جانب التعليم فالمدارس التي يرتادها اخوتنا وابناءنا يجب ان تشمل علي مناهج تساعد فعلا علي التقدم والتطور في مجالات المعرفية الإنسانية والإجتماعية . وقبل التعليم التربية طبعا , اي كما قال ديوي إن التربية ظاهرة طبيعية في الجنس البشري وبمقتضاها يصبح الفرد وريثاً لما حصلته الإنسانية من حضارة .ولابد ان تكون هذه العملية مقصودة بمعني ان التربية المقصودة تقوم علي العلم بنفسية الطفل من جهة ومطالب المجتمع من جهة أخري . فالتربية ثمرة علمين هما علم النفس وعلم الإجتماع (الأهواني , 1968 : 41) . واعتقد ان المناهج المتسخدمة اليوم لا تفي بالغرض لذا نري ضرورة تنقيحها وزيادتها . فمثلا علي المدرسين ان يبنوا الاطفال معرفياً واجتماعياً بناءً وطنيا اي ان يتجاوزوا الإنتماءات المركبة مثل القبيلة والدين الي الانتماءات البسيطة وهي اننا جميعا اولا وقبل كل شئ بشر وسودانيين جنوبيين واصدقاء ولسنا اعداء وهكذا دواليك . ان مثل هذه التربية ستساعد الأجيال القادمة علي بناء دولة قوية تكون مثالا علي التعايش السلمي بين مواطنيها . كما ان تعليم وترسيخ مبادي التسامح في الأطفال والمواطنين عامة ضرورة ملحة ايضا . لاننا في عالم اليوم نعاني من مشكلة اللاتسامح في كافة المجتمعات وبمختلف انواعها وهي اللاتسامح الثقافي , اللاتسامح الديني , اللاتسامح السياسي واللاتسامح الإجتماعي . نري ان التربية ضرورة من ضرورات الحياة , وطالما هي كذلك فيجب ان نعمل علي ما يمكن ان نطلق عليه عملية إعادة التربية لكافة افراد المجتمع خاصة الكبار منهم ؛ لأنهم يعيشون في بيئة إجتماعية كما ان الأطفال يتعلمون منهم اساليب الكلام وآداب السلوك وموازين الأخلاق والذوق السليم ومعايير الجمال . وان إنتفت هذه الصفات في الكبار فكيف يمكن زرعها في الصغار ؟ لذا فإن عملية إعادة التربية مهمة , وكل هذا يمكن ان يتم عن طريق وسائط الإعلام التي نستخدمها الآن لأغراض جمالية فقط اي نستخدمها في بث الأغاني التي اعتبرها ثانويات وليست اوليات , ان ما يجب الإهتمام به من قبل وسائط الاعلام المختلفة هي البرامج التفاعلية والحوارات . لأنه عن طريق الحوار نستطيع ان نحل كل شئ ؛ وكذلك نحن بحاجة الي جمعيات تعمل علي توجيه المواطنين توجيها وطنياً دون اي انحياز والعمل علي توعية كافة افراد المجتمع بكيفية العيش معا. ولدينا مثال ناجح في عملية إعادة التربية وهي المانيا النازية بعد الحرب العالمية الثانية , حيث لم يكف كل الانتلجنسيا الالمان وباقي دول الغرب علي حث المواطنين علي تجاوز المفاهيم النازية , وقد نجحوا فيها حتي ان هابرماس وصف نفسه علي انه نتيجة لعملية غعادة التربية , والبابا السابق مبارك السادس عشر كان نازياً ايام دراسته في الجامعة وفي النهاية اصبح بابا وهو ايضاً نتيجة لإعادة التربية . لن يمنعنا شئ من تحقيق ذلك ان عقدنا العزم .
ولا نستثني الأحزاب السياسية – مع علمنا التام ان السياسة لعبة قذرة - من هذا ايضا ؛ لان لها دور فعال في بناء الدولة ايضا عن طريق الإعتماد علي برامج واضحة تخدم المواطن بطريقة مباشرة ولا تصب في صالح الحزب فقط كما هو الحال الان . كما ان الاحزاب بالاضافة الي ما سبق ذكره انفا اي الجمعيات ووسائط الاعلام ستساعد علي تقدم المجتمع نحو الحداثة بالمعني الحرفي لهذه الكلمة . ولكي يتحقق ذلك لابد ان يتبني الأحزاب برامج سليمة معرفياً والإهتمام بالتنمية والتعليم وازالة مفاهيم القبيلة عن العقول قدر الإمكان , وعدم التركيز واللهث وراء المناصب فقط . وهنا ياتي الدور علي الانتلجنسايا الجنوبية ايضا , وقبل الخوض في الامر لابد ان نعرف المثقف او الأنتلجنسيا , يقول غرامشي ان كل الناس مثقفين ولكن ليس لكل انسان وظيفة المثقف. فعندما نميز بين المثقفين وغير المثقفين فإننا في الحقيقة نشير فقط الي الوظيفة الإجتماعية المباشرة (غرامشي , 1994 : 25). فغرامشي يقول انه لا يمكننا الحديث عن الغير مثقفين لان هذه الفئة لا وجود لها , بقدر انه لا يمكننا ان نفصل الانسان الصانع عن الانسان .كما انه قسم المثقفين الي المثقفون التتقليديون وهم الادباء والعلماء وغيرهم . وكذلك المثقفون العضويون وهم ذلك العنصر المفكر والمنظم في طبقة اجتماعية .
ولكن الأنتلجنسيا ليس من يقوم بالأعمال الذهنية او تلقي قدراً من التعليم يؤهله لممارسة اي عمل فقط , بل هو كل من له وعي اجتماعي او وعي سياسي (سعيد , 2006 : 10). ولكن ضروري ان يكون المثقف ضد السلطة اياً كانت نوع السلطة القائمة . وعلي ضوء هذا هل يمكن ان نتحدث عن الانتلجنسيا الجنوبي ؟
ان في الامر بعض الغموض علي الرغم من اني اري انه صعب ان نتحدث بوجود هذه الفئة الان , لن انفي وجودها ولكن هي بالاحري ليست ظاهرة ولا لها راي بما يدور في المجتمع الان من مشاكل قبلية , والفهم الخاطئ للحرية وعدم الإلمام الكافي للسياسيين بالسياسية ناهيك عن الجيوبولتيك والدبلوماسية . كما الضعف المعرفي واضح جدا في اوساط المتعلمين , والافتقار الي التفسير الابستمولوجي , الاكاديمي والعلمي للتركيبة الاجتماعية المعقدة للبلاد غائب عن معظم – ان لم كن كل – الطلاب الجامعيين . لأنه يعوزهم الوعي الإجتماعي وإلا فما تفسيرنا للأحداث او المشاكل القبلية (العنصرية) التي وقعت في جامعة جوبا قبل عام ونيف او عامين تقريباً. مع ان جامعة جوبا تفترض ان تكون - شأنها في ذلك شأن اي جامعة في البلاد - قلعة العلم والمعرفة ؛ من المؤسف جدا ان يصدر مثل هذا التصرف من قبل طلاب يدرسون في الجامعة والذين من الممكن ان يقودوا المجتمع في يومٍ ما بعد التخرج . ما الذي يمكن توقعه من مثل هؤلاء؟ وهل هم مخطئون ام ضحايا للتصورات والتقسيمات الخاطئة لمجتمعنا التي تعود الي فترة بعيدة؟
واخيراً وليس آخراً دور عامة الشعب الذي منهم واليهم يكون هذا الموضوع ولولاهم لما حاولنا ان نقوم بما نقوم من الاساس . فالمطلوب منهم هو نبذ العنصرية , إحترام القانون , إحترام الآخرين , عدم الحط من قدر مجموعات سكانية معينة او افراد معينين . وضع قيم شاملة في الإعتبار والتصرف حيالها وتجاه الآخرين ؛ مثل التسامح وترك العصبية . وهذا مسئولية الجميع لأن الدولة اذا ما مكنت لنفسها من الإستقرار ومهدت الأرض تحت اقدامها فأن العصبية القبلية فيها زائلة لا محالة كما قال إبن خلدون .
كما نري ضرورة إلغاء التقسيمات الجغرافية السائدة اليوم , وما اقصده بكلامي هذا هو الأقاليم الثلاث ؛ أعالي النيل , الإستوائية وبحر الغزال . لأنها تقسمنا اكثر مما توحدنا كما ان التقسيم حديث اي ان نميري هو الذي قام بالأمر لأغراض ذكرنا بعضها سابقاً . لذا نري ضرورة إعادة النظر في الأمر وان امكن إلغاءها لأنها ستصب في مصلحة البلاد . والإبقاء علي مسميات الولايات فقط او إعادة تسميتها . مثلا رومبيك , واو , اويل بدلاً عن بحر الغزال . بانتيو , ملكال بدلاً عن أعالي النيل . جوبا , نمولي بدلاً عن الإستوائية . لانه كل ما كان التقسيم او الإنتماء بسيط وليس مركب كلما كان التكامل اسهل وايسر .

المراجع :
1- صن , امارتيا , التنمية حرية , مكتبة الاسرة 2010م ترجمة وتقديم : شوقي جلال.
2- صن , امارتيا , الهوية والعنف : وهم المصير الحتمي
3- دي كرسبني ومينوج , انطوني و كينيث , أعلام الفلسفة السياسية المعاصرة , الهيئة المصرية العامة للكتاب 1988م , ترجمة : د. نصار عبدالله .
4- غرامشي , انطونيو , كراسات السجن , دار المستقبل العربي 1994م , ترجمة : عادل بهاء الدين .
5- دينق , فرانسيس , صراع الرؤي : نزاع الهويات في السودان , مركز الدراسات السودانية الطبعة الاولي 1999م , ترجمة : د. عوض حسن محمد .
6- بدوي , عبدالرحمن , المنطق الصوري والرياضي , وكالة المطبوعات , الطبعة الخامسة 1981م .
7- شعراوي , حلمي , أفارقة وعرب في مهب الريح , مركز البحوث العربية والأفريقية 2004م .
8- سليمان , محمد , السُودان : حروب الموارد والهوية , دار كيمبردج للنشر , الطبعة الاولي 2000م .
9- سعيد , إدوارد , المثقف والسلطة , رؤية للنشر والتوزيع 2006م , ترجمة وتقديم : د.
محمد عناني.
10- كمير , الواثق , جون قرنق : رؤيته للسودان الجديد وإعادة بناء الدولة السودانية , رؤية للنشر والتوزيع , .
11- توملينسون , جون , العولمة والثقافة : تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان , عالم المعرفة 2008م , ترجمة : د. إيهاب عبدالرحيم محمد.
12- الكتاب المقدس , سفر التكوين .
13- الأهواني , احمد فؤاد : جون ديوي , دار المعارف , الطبعة الثالثة , د ت .



#ديفيد_ج._كوج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين جوبا والخرطوم
- المثقف ودوره في المجتمع (3-3)
- المثقف ودوره في المجتمع (2-3)
- المثقف ودوره في المجتمع (1-3)
- ما بعد العلمانية
- السوفسطائيين واثرهم علي الفلسفات اللاحقة الجزء الاخير
- السوفسطائيين واثرهم علي الفلسفات اللاحقة الجزء الثاني
- السوفسطائيين واثرهم علي الفلسفات اللاحقة
- لماذا فشلنا؟؟؟
- الفلسفة السوفسطائية
- علي الرغم من الالم نحتفل
- علي المسلمون ان يكونوا اكثر تسامحاً
- الحركة السوفسطائية
- البحث عن سلام غير مرغوب به في الجنوب
- الداعرة الشريفة! قصة قصيرة
- جنوب السودان.. وجامعة الدول العربية
- ريك والحركة هل سينتصر منطق القوة مرة اخري؟


المزيد.....




- حماس: تقرير العفو الدولية بشأن غزة دليل تورط واشنطن في الإبا ...
- العفو الدولية: لدينا أدلة وافية تثبت ارتكاب -إسرائيل- الإباد ...
- محكمة باكستانية تأمر باعتقال زوجة عمران خان
- العفو الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية وإسرائيل تقو ...
- إسرائيل ترد على تقرير العفو الدولية بشأن غزة.. -ملفق-
- بسبب خطورة الأوضاع في غزة.. مخازن الأونروا جنوب القطاع باتت ...
- ندوة للمنتدى العراقي لمنظمات حقوق الإنسان بشأن أبرز ملفات ال ...
- رايتس ووتش تبدي مخاوفها من -تكتيكات وحشية- للنظام السوري تجا ...
- الأورومتوسطي: -إسرائيل- حرقت النازحين أحياء في خيامهم بخاني ...
- موسكو بدون عوائق.. العاصمة الروسية توفر بيئة مناسبة للمسنين ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ديفيد ج. كوج - مشكلة الهوية في السودان الجنوبية والطريق الي المستقبل