أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - حضور الهولوكوست في السينما البولندية بعد خمسين عاما















المزيد.....

حضور الهولوكوست في السينما البولندية بعد خمسين عاما


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 4762 - 2015 / 3 / 29 - 11:26
المحور: الادب والفن
    


يُشكِّل فيلم "إيدا" للمخرج البولندي باﭬ-;-ل باﭬ-;-ليكوفسكي انعطافة في رؤيته الإخراجية التي جسّدها على صعيد القصة المُقتضبة، والسيناريو المُتقشِّف الذي يقول أشياءَ كثيرة بكلمات قليلة خافتة قد تصل أحياناً إلى حدّ الهمس، وأداء درامي معبّر بعيد عن الافتعال. كما وجد المخرج ضالته في الأسود والأبيض بدل الألوان، ذلك لأن أحداث هذا الفيلم تقع في عام 1962 وأن تقنية الأسود والأبيض أكثر انسجاماً مع الماضي، وأشدّ تطابقاً مع مناخات الأحداث المفجعة للحرب العالمية الثانية التي لم نتخلص من تداعياتها حتى الوقت الراهن.
يعتقد الكثير من النقاد السينمائيين بأن الشرارة الإبداعية الأولى تكمن في القصة السينمائية أو في السيناريو المُعدّ عنها أو عن نص روائي ناجح حقق شهرة ما في الأعمّ الأغلب. وقصة فيلم "إيدا" التي كتبها المخرج بالاشتراك مع الكاتبة المسرحية الإنكليزية ريبيكا لينكيفيتش تنطوي على مثل هذه الشرارة التي توزعت على شكل التماعات متوهجة تلامس المشاعر الإنسانية العميقة. فما ذنب إيدا "آغاتا تشوبوهوفسكا" أن تولد يهودية، وأن تنشأ وتترعرع في كنيسة كاثوليكية، وقبل أن تتكرّس وتنقطع لحياة الرهبنة إلى الأبد تُعيد اكتشاف نفسها حيث تطلب منها رئيسة الدير أن تذهب وتلتقي بخالتها فاندا كروز "آغاتا كيلوسا"، الناجية الوحيدة في عائلتها من الإبادة الجماعيّة في أثناء الاحتلال النازي لبولندا. لم تكن خالتها امرأة عادية وإنما هي مُدعيّة عامة في النظام الشيوعي السابق، وقد انتمت إلى حركة المقاومة البولندية ضد الاحتلال النازي، وساقت العديد من الرجال الخونة إلى حتوفهم لكنها بالمقابل كانت مُدمنة على التدخين، والمشروبات الروحية، والعلاقات الجنسية مع أكثر من شخص الأمر الذي يضعها على النقيض من شخصية إيدا التي لم تعرف غير الكنيسة التي آوتها لسنوات طويلة.
يعتمد الفيلم برمته على تقنية البوح وآلية التلّقي الهادئ، فالخالة كروز تبوح بما لديها من معلومات مفجعة، وشيمون سكيبا يعترف بالفظاعات التي ارتكبها بحق الضحايا الذين قتلهم ودفنهم في مكان سرّي في الغابة، ووالده يُدلي ببعض المعلومات التي تُشير إلى طيبة الضحايا وحسن سلوكهم الاجتماعي، وحتى عازف الساكسافون لا يجد حرجاً في البوح بجانب من أصوله الغجرية التي ليس له يد فيها في إشارة واضحة إلى أن البشر جميعاً يجب أن يتقبلوا انتماءاتهم ومصائرهم كما هي عليه بعيداً عن الرغبات والتمنيات.
تتلقى إيدا الصدمات تباعا إذ تعرف من خالتها أن اسمها ليس "آنا" كما اعتادت أن تسمعه في الدير وإنما هو "إيدا ليبنشتاين" ابنة حاييم وروﮊ-;-ا ليبنشتاين، وأن ديانتها ليس المسيحية الكاثوليكية وإنما اليهودية فهي من أبوين يهوديين قُتِلا في أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن خالتها قد فقدت ولدها الوحيد أيضاً ضمن سياسة التطهير القائمة على أساس العِرق والدين ولون البشرة، فابنها كان أسمر البشرة ومختوناً الأمر الذي يسهّل الاستدلال على ديانته. أما إيدا فقد كانت صغيرة جداً ومن السهل تغيير ديانتها بوضعها في أي ميتم أو كنيسة من دون أن تلفت الانتباه أو تثير الشكوك.
وعلى الرغم من أهمية المنصب الوظيفي الذي شغلته الخالة كمدعية عامة أو قاضية تُلقّب بـ "فاندا الحمراء" التي كانت تتحكم بمصائر الناس المعادين على وجه الخصوص، وتزجّهم في السجون والمعتقلات، أو تضع حداً لحياتهم إلاّ أنها كانت منكسرة ومنخورة من الداخل، بل أنها اتجهت صوب حياة العبث والمجون لأنها كانت تشعر بالضياع والخذلان واللاجدوى فلاغرابة أن تُدمن على السجائر والكحول، وتنغمس في عالم الملذات العابرة، وتفقد الإحساس بإنسانيتها، إذ تحولت إلى مجرد وعاء إيروسي يحقق رغبات الآخرين ولا يستجيب لحاجاتها العاطفية التي قد تمنح الحياة معنىً ما.
يندرج فيلم "إيدا" ضمن أفلام الطريق حيث تقوم فاندا مع ابنة أختها إيدا بأكثر من رحلة على مدار الفيلم بغية البحث عن فليكس سكيبا "آدم شسكوفسكي" الذي قتل الضحايا الثلاث، واستولى على منزلهم وأراضيهم الزراعية لكن هذا الرجل الطاعن في السن كان راقداً في المستشفى، وكان قاب قوسين أو أدنى من الموت، وقد عثرت عليه بعد عدة محاولات. وفي لحظة المواجهة الأولى اعترف بأن عائلة ليبنشتاين كانت عائلة طيبة ولم يُشر من قريب أو بعيد إلى تورطه في عملية القتل. وحينما تصرّ إيدا وخالتها على معرفة المكان الذي دُفن فيه الضحايا يعقد شيمون سكيبا "جرزي تريلا"، ابن فليكس سكيبا اتفاقاً مع إيدا حيث يدلّها على المكان ويستخرج رفات الضحايا مقابل تخليها عن المطالبة في البيت وترك والده يموت بسلام.
ربما تكون اللقطة البعيدة التي يتجه فيها شيمون وخلفه فاندا وإيدا إلى الغابة هي من أكثر اللقطات تأثيراً وملامسة للعاطفة الإنسانية حيث تتكثف المشاعر كلما يتعاظم البوح فيعترف شيمون بأنه هو القاتل وليس والده كما تبادر إلى ذهن الخالة أو كما تناهى إلى سمعها من حكاياتٍ وأقاويل، ولولا خِتان ابن فانيا كروز وبشرته السمراء لما كان في عِداد الأموات لأنه قصته سوف تكون قابلة للتصديق وأن عملية إنقاذه لن تكون عسيرة تماماً.
لا تتوقف قصة الفيلم عند حدود الضحايا الذين قُتلوا على أيدي النازيين وإنما تمتد إلى حياة إيدا وخالتها اللتين تناصفتا البطولة إن صحّ التعبير. فالخالة فاندا تطلب من إيدا أن تجرّب بعض الخطايا الأرضية وأن تكتشف الجانب الحسّي في حياتها الشخصية قبل أن تكرّس حياتها كراهبة وأن تنقطع كلياً إلى الدين المسيحي حيث تُعرّفها على عازف الساكسافون ليز "ديفيد أوغرودنِك" الذي يدعوها لحضور بعض الحفلات الموسيقية والغنائية إلاّ أنها ترفض أول الأمر لكنها تستجيب لاحقاً بعد أن تتعرف من كثب على هذا العازف وتكتشف رؤيته للحياة الأرضية التي يفضلها ويجد نفسه فيها.
تحدث الانعطافة المهمة في الفيلم حينما تقرر الخالة فاندا الانتحار حيث تُلقي بنفسها من النافذة لتنهي حياتها بطريقة تراجيدية مفجعة لكن الحكومة البولندية تنتبه إلى الخدمات الجليلة التي قدّمتها فاندا كروز إلى الدولة البولندية وشعبها المتعدد الأعراق والأديان فتُوارى الثرى في حفل تأبيني لائق. وحينما تعود إيدا إلى منزل خالتها وتبدأ بتقليد نمط الحياة الذي عاشته هذه الخالة المثيرة للجدل حيث ترتدي ثوبها المكشوف،وتحلّ شعرها لأول مرة، وترتدي حذاء الكعب العالي الذي لم تعتدهُ من قبل، وتبدأ بتدخين السجائر، وشرب الكحول بطريقة توحي لنا بأنها ستقلب حياتها رأساً على عقب حينما تترك العازف ليز يقبِّلها ثم يمضي معها ليلة حمراء، ويقترح عليها الزواج بغية إنجاب الأطفال، وتأسيس أسرة سعيدة تعيش حياة طبيعة، لكنها ما إن تستفيق صباحاً حتى تفاجئنا بالعودة إلى زيّها الكهنوتي القديم حيث تحمل حقيبتها وتعود إلى الدير بانتظار مناسبة التكريس وأداء القسم الذي سيضع حداً لنزواتها البشرية التي جرّبتها أول مرة مع ليز ولم تجد فيها ما يلبي حاحتها الروحية والجسدية على حدٍ سواء.
أثارت عروض هذا الفيلم في أكثر من بلد نقاشات عديدة متنوعة ينطوي بعضها على رؤى سلبية، فيما ينطوي البعض الآخر على رؤى واقعية ترى الحياة كما هي عليها من دون رتوش. ولعل الملاحظة الأبرز أن مخرج الفيلم يقدم الشخصية المسيحية البولندية وكأنها متواطئة مع الاحتلال النازي ودليلهم في ذلك أن شيمون سكيبا قد قتل ثلاثة أفراد من عائلة ليبنشتاين بدم بارد وحجج واهية لم يستطع فيها مخرج الفيلم أن يقنع المُتلقي بأن شيمون قد قتل الضحايا الثلاث من أجل وضع يده على المنزل فقط. فجريمة القتل ظلت ملتبسة ويكتنفها الكثير من الغموض، بل أن جملة شيمون التي أطلقها قبل عقد الصفقة مع إيدا تشي بالكثير، وإلاّ فما معنى أن يخاطب إيداً قائلاً: "لا أحد يستطيع أن يثبت أي شيئ. ما حدث قد حدث". لا بد لمخرج الفيلم، أو لكاتبيّ القصة على وجه التحديد، أن يوضحا أسباب القتل ودوافعه التي ظلت مضمرة، ولربما تركاها غامضة كي يزجّا المُشاهِد العضوي في صُلب العملية الإبداعية وما تثيره من أسئلة عند الطرفين.
لا شك في أن المخرج باﭬ-;-ليكوفسكي قد بذل جهداً كبيراً في بناء الفيلم مُحققاً رؤيته الإخراجية المتفردة التي تدين الهولوكست وتحرّم فعل القتل مهما كانت الأسباب. وقد اعتمد كاتبا النص على شخصيتين أنثويتين متناقضتين الأولى تحب الحياة، وتلهث خلف مسراتها الأرضية لكنها ما إن فقدت الإحساس بإنسانيتها حتى وجدت طريقها الذي يفضي إلى الانتحار لا مُحالة خصوصاً بعد أن تذوّقت ملذات الحياة الأرضية، وعثرت على رفات ابنها الذي ظل ضائعاً ومنسياً في غابة مجهولة. أما إيدا فقد روّضها الدير ولم تعد تستذوق أي شيئ لأنها كانت كتلة صمّاء لم يستطع عازف الساكسافون أن يحرّك فيها أية مشاعر إنسانية فلاغرابة أن تظل مثل كتلة جامدة في فراش دافئ.
لا يقتصر الاقتصاد على الحوارات في القصة السينمائية وإنما امتدّ إلى كل مفاصل الفيلم من مؤثرات سمعية وبصرية. لابد من الإشارة إلى السلاسة المونتاجية التي جعلت الفيلم يتدفق بشكل عفوي على الرغم من مأساوية الأحداث، والمرارة الحادة التي تشعر بها غالبية الشخصيات في هذا الفيلم الذي يصور أزمنة ماضية لكنها لما تزل حاضرة بقوة حتى الوقت الراهن.
حاز فيلم "إيدا" على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي لعام 2014. وسبق لباﭬ-;-ليكوفسكي أن فاز بجائزتي البافتا عن فيلميه "الملاذ الأخير" و My Summer of Love. عُرف باﭬ-;-ليكوفسكي كمخرج للأفلام الوثائقية التي أمدّته بشهرة مبكرة مثل فيلمي "من موسكو إلى ييتوشكي" و "رحلة مع زيرنفسكي" اللذين لا يقلان أهمية عن أفلامه الروائية المبكرة مثل "رحلات دستويفسكي" و "ملاحم صربية".



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التناص الروائي مع الأحداث التاريخية
- الهاوية . . رواية لا تحتمل الترهل والتطويل
- مذكرات كلب عراقي
- أوراق من السيرة الذاتية لكلاويج صالح فتاح
- الغربة القسرية والحنين إلى الوطن في منازل الوحشة
- حدائق الرئيس
- مشرحة بغداد
- ماذا عن رواية «دعبول» لأمل بورتر
- النحات البلغاري سفيلِن بيتروف وثيماته الإماراتية
- كيم دونغ-هو في فيلمه الروائي الأول صُنع في الصين
- رانيا توفيق وليلى حطيط تستكشفان علاقتهما بالوطن الأصلي
- فرادة الابتكار وأصالة الصوت الشعري في -قلعة دزه- لصلاح نيازي
- ملامح الحداثة في الثقافة العراقية
- سخرية القشطيني
- التعالق النصيّ
- استثمار السيرة الذاتية
- ما وراء الجسد
- أدب الاعتراف
- رواية سعد محمد رحيم الماكرة!
- التقنية الميتا- سردية في رواية -كاباريهت- لحازم كمال الدين


المزيد.....




- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - حضور الهولوكوست في السينما البولندية بعد خمسين عاما