الرفيق طه
الحوار المتمدن-العدد: 4722 - 2015 / 2 / 16 - 08:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بكارة شرف و انوثة عائشة الجزء الثاني
المغرب شدت مي رقية يد عائشة و تسللتا من الباب الخلفي للقرية خلسة لتجدا خال عائشة في انتظارهما . عبروا مسارا تحاشوا فيه مواجهة المارة في الطريق . دخلوا بيت والدي عائشة في جنح الظلام . الحزن و الصمت يعم المكان .
بعدما اغلقت الزاهية باب البيت خلف عائشة و مرافقيها الذين توجهوا نحو بهو مظلم في البيت قالت و الدموع تنهمر من عينيها و هي تلوم عائشة ، هذا هو العار الذي نحتاط منه جلبتيه لنا يا ابنتي . ما ذنبي يا بنيتي حتى تعاقبيني بهذا الفعل الممقوت .
بينما كان الخال يردد بهمس " لا حول و لا قوة .." استدارت مي رقية نحو الزاهية و بحزم قالت لها : " لا تقولي في بنتك ما ليس فيها ، بنتك يعرفها الكل بحسن الخلق . و المكتوب مكتوب . و المراة ولية و من لم يخرج من الدنيا ما سلم من عاقبتها ، و من تعجب ابتلى " . " احضني يا الزاهية ابنتك و كوني لها ظلا يخفف عنها حر حقد الكائدين . "
اما عائشة و قد اشفقت على امها تسللت نحو سطح البيت متسائلة عن ذنبها و حظها التعس و ما سيؤول له حالها بعد هذا كله .
بعد منتصف الليل دخل الاب خفية للبيت . كان يود الا يجد احدا مستيقظا ، مرارة و تردد ، حيرة و انهيار معنويات ، تلك حالة ابو عائشة . طعن في شرفه وكرامته وتدنت مكانته بين العوائل و القبائل . خناجر الغدر انغمست في جسده . اين الهمة و الشهامة التي عرف بها بين الرجال . كيف يواجه نظراتهم وايماءاتهم وايحاءاتهم . بمادا يجيب الصديق قبل الشامت . كيف يميز الهامز و الغامز من العزيز .
و هو يتلمس الحيطان ببيته في الظلمة الحالكة تفاجا بجمع من الناس ينتظرونه ، خال عائشة ، مي رقية و خناتة ، في حديث مطول يسامرون انفسهم وسط البيت . يشاركون الزاهية حزنها . وضعهم كمن في ماتم . بعد السلام اخذ ابو عائشة مكانه و جلس متوجسا من الاتي .
ساد الصمت الرهيب قليلا ... سعال الخال كان عارضا بعدما شرب دخان غليونه . حاولت مي رقية تمزيق الصمت بكلامها الرزين و الذي يثير المسامع . " يا جماعة الخير ، عائشة ابنة الرجال و ربتها ابنة الرجال و خرجت من بيت الرجال و عادت لعز الرجال ، و العيب فينا نحن الذين قبلنا بهم( تشير الى القبيلة الاخرى ) و اعطيناهم جوهرة قريتنا و اجمل فتاة بيننا و اشرف بنت في قبيلتنا . و فعلهم هذا فيها سيرده لهم رجالنا صاعا بصاعين ، و الايام بيننا . و انت يا ابو عائشة ، كنت السيد و ستبقى السيد و سيد الاسياد . نحن النساء من معدن العيب ، و لا يغطي عيبنا الا رجالنا و انت اشرف الرجال و انبلهم ، فارفع راسك و ستبقى عمامتك عالية بين الرجال و همتك اعلى من الصوامع .
قال ابو عائشة بصوت غير المقتنع " بوركت يا امنا رقية و بوركت فلداتك و ابعدت الايام عنها الاذى ."
كان يقول ذلك و عيناه مصوبتان نحو المصباح الغازي . و ما ان انتهى من كلامه حتى رفع وجهه للاعلى يعاند الانهيار الذي يغالبه لمنع الدموع من السقوط من عينيه .
كلام مي رقية رغم انه غير شاف الا انه رفع معنويات ابو عائشة و جعله يحس بالدفئ المفقود .
من عمق الغرفة قال خال عائشة : " ما كنا نوافق على الزيجة لولا المكتوب ، لان اهل تلك القبيلة يكرهوننا منذ القدم . تمنيت لو لم تكن ابنتي الجميلة عائشة ضحية خستهم و حقدهم الدفين " .
قالت مي رقية : "عائشة تركها السفلة و يسترها سادة القبيلة "
اما الزاهية فقد بقيت جالسة القرفصاء و يدها اليسرى تمسح الدمع من على خديها صامتة تحبس الانفاس . حاولت الا تتكلم حتى لا تثير غضب زوجها الذي قد يفجر الجلسة و يؤول الامر الى ما لا تحمد عقباه .
اما عائشة و بسبب الثعب و الحزن سقطت نائمة في عراء بسطح البيت و قد تلطخت ملابسها البيضاء بالطين و الغبار . حملتها الزاهية و مي رقية غارقة في النوم لفراشها الذي لم تغادره لثلاث ايام متثالية بلياليها . اصرت مي رقية ان لا تترك غرفة عائشة حتى لا تبقى وحيدة خوفا عليها من المس .
نهاية الليلة الثالثة ، بعدما غابت النجوم وتنازل القمر عن عرشه ،افل كل شيء ، استفاقت عائشة . لا تدري باي ذنب طردت ، لماذا اللوم و المهانة ، ماذا اقترفت ، لماذا يعاملها القوم بهذه القساوة . هناك خلل ما في مكان ما . ماتعرفه وماتفهمه هو انها مرفوضة او بالاحرى منبوذة . نظرات الاحتقار ممزوجة بطعم الخيانة تحاصرها . وابل من الشتم و السب و الذم تحملته كله ، لكن ما لم تستسغه هو الضرب و الركل و الرفس الذي تلقته من يوسف . حتى ان اسفل عينها اليسرى تورم بفعل اللكمات العشوائية .
بدا النسيان يغطي الفاجعة ، و ان حاولت احدى الماكرات اللمز او الغمز على عائشة فان الزاهية تجيبه ب " الكل له بنات و من تعجب يبتلى " . اما مي رقية فلا تتوقف عند رد الزاهية بل يبلغ دفاعها عن عائشة و اسرتها حد تبليغ الرجال بفعل نسائهم . الى ان اصبح ذكر الموضوع من المحرمات في القرية و لو حتى بالاشارة .
وحده ابو عائشة لحظة الانفعال يعنف زوجته بقوله :" النساء تنجب البنات و انت تنجبين الباغيات "، كان هذا سلاحه الفتاك ضد زوجته التي لا تجد له جوابا غير الصمت و الصبر . رغم ان في دواخلها تقول ان حظ الرجال لا حدود له . ان اتت البنت بالخير قالوا بنت فلان و ان اتت بشر نسبت لامها و كان النساء وحدهن يجلبن الشر .
رغم ان كلام ابو عائشة ينزل على الزاهية كالجلمود ، الا انها تتقبله كما يبتلع العلقم . لانها تقدر حجم الكارثة التي حلت بزوجها . كان سيدا في قومه و اردته من الحتالى بينهم .
عائشة وحدها تتجرع مرارة الحرمان ، و قساوة القهر. تؤدي ضريبة ذنب لم تقترفه . غدرها الزمان باسلحة تجهل حاملها . تقصف بنيران صديقة . و تهان بلغة لا تعرف طلاسيمها . عارية بلا واق من سهام تعددت احجامها و وجهاتها . وحده الصمت ملاذها . لهذا تالفت مع الطيور في حركاتها و غارت من حريتها و تمنت لو لها اجنحة تطير بها محلقة متعالية عن مكر القبيلة و خساسة الخبثاء من اهلها . لهذا كان سطح البيت ملجؤها .
الاب ينكر وجودها ، عداوته لها من طرف واحد . في كل صباح تقبل يده و راسه لعله يشفع لها ، لكنها لا تتلقى غير الزفرات . ما تذكرت يوما نطق باسمها و لا طلب خدمتها او قدم لها حاجتها . يقاطع اي مجلس وجدت به . يمتنع عن اكل طعام لها يد في طهيه . لكنها تجتهد في توفير رغباته قبل طلبها . قبل الفجر و في كل اوقات صلاته او مواعيد عودته تدفئ ماء وضوئه . تهيء لوازمه للسوق و لا تتعب من الوقوف قربه حتى يغادر البيت . لكن غضبه عليها يلازمه .
حين يعود من السوق ، يوزع الحلوى و ما جاد به جيبه على اخوانها الكبار و الصغار و تبقى هي بلا نصيب . تلوذ للسطح و ترفع عينيها للسماء و شساعة الكون . في الاعياد ياتي بالملابس الجديدة لكل فرد من الاسرة ، وحدها في البيت عائشة نصيبها النكران و الحرمان المقصودان . بالدموع و الصمت تعاند الظلم و تتقوى بالصبر .
وحدها امها الزاهية تواسيها في معاناتها من مكر الاب و فظاظته . هي وحدها تعطف عليها بحنانها و تمسح دموعها .
مي رقية، العجوز النبيلة ، بقيت وفية لدعم عائشة و تبرئتها . دائمة الزيارة للبيت للاطلاع على احوال عائشة . تاتيها بالغذاء و الكساء . كما تسلحها بالكلام الجميل الذي يقوله الناس عنها . لا تفوت مواعيدها لتسريح شعرها بالزيت و الحناء و احيانا بالزعفران . تقوم بالمستحيل من اجل ان تبقى عائشة المسكينة من اجمل بنات القرية ، رغم انها سجينة بيت اسرتها و لا واحدة من قريناتها تراها و لو عبر نافذة استبعادا للشبهة .
مرت الايام و السنوات و عائشة التي بدا عقلها ينضج كما نضج جسدها و بدات تستوعب ما حدث و اقوال الناس و مقاصدهم و من ضمنهم ابوها . تحفر في ذاكرتها باستمرار لعلها تجد اثرا او اشارة لتبرير ما حدث . توالت الاحداث و غطى النسيان الالم . سنة بعد اخرى الى ان بلغت عائشة سن الثامنة عشر ليتقدم لها ابن عمها منصف خطيبا .
يتبع بجزء ثالث و اخير
سي محمد طه الدار البيضاء 15/02/2015.
#الرفيق_طه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟