أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عباس يونس العنزي - حركة البنية ونظرية الكايوس عبر ماركس و دارون















المزيد.....


حركة البنية ونظرية الكايوس عبر ماركس و دارون


عباس يونس العنزي
(عèçَ حونَ الْيïي الْنٍي)


الحوار المتمدن-العدد: 4716 - 2015 / 2 / 10 - 10:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



قدمت الرياضيات مفهوما مجردا للبنية عبر نظرية الفئات التي قال عنها الدكتور روبرت بارتل بانها الاساس لكل الرياضيات وفق تعريف يصف العناصر ضمن علاقات تتم بعملتين رياضيتين بحيث تتحقق عددا من الشروط الموصوفة بدقة ، ومن الممكن ان تكون عناصر البنية بنى جزئية او بالوصف الرياضي مجاميع جزئية ، والبنية حسب ميشيل فوكو هي شبكة علاقات ثابتة بين عناصر متغيرة يمكن ان ينشأ على منوالها عدد لا حصر له من النماذج لكن بتعريف روجيه غارودي الشامل والمناظر هي منظومة من علاقات وقواعد تركيب ومبادلة تربط بين مختلف حدود المجموعة الواحدة بحيث تعين هذه العلاقات وهذه القواعد معنى كل عنصر ( او مجموعة جزئية ) من عناصر الفئة . وباختلاف عن التعريف الرياضي المجرد وثبات الفئة وعدم قدرتها على التغير فليس من شك في ان البنية الواقعية ( أية بنية ) بكاملها عرضة للتغير والتطور على مستوى العلاقات والعناصر رغم ما يبدو من استقرار نسبي لهما بأطرهما العامة , ولا يمكن تقديم تفسير جاد لتلك الحركة الانسيابية الدائمة ولذلك التغيير إلا في انتماء كل البنى بتفاصيلها الى وجود عشوائي تام تنتابه اشتراطات مطلقة تتباطأ وتيرة فعلها بالانتقال الى مستوى ارتباط تكتلي أعلى وبغير عشوائية الوجود تلك فمن المستحيل تصور أية بداية لأي شيء وكل ما هو قائم وموجود وفق ارتباط معين كان ليبقى كما هو و كما كان للأبد ، ان العشوائية الكونية ولا نهائيتها هي باعث التطور والتغير والحركة في كل شيء و مسوغ التدفق الكوني الزمكاني ، وهي ترتسم بكل وضوح في الحركة الدؤوب للموجودات المادية الأكثر دقة وارتباطاتها المكونة للتشكلات الكبيرة التي تبدو منتظمة و سياقية و ينتابها الثبات النسبي ، و فهم تلك العشوائية واشتراطاتها متاح للعقل البشري على عكس ما يوحي به اللفظ من انفلات لا يمكن ادراكه ومهمة تقعيد حركتها ونواتج تقاطعاتها بالنسبة للوعي الانساني تم بالفعل عبر النشاط الفكري الخلاق الذي قدمه الفيلسوف الالماني هيجل ذروة الفلسفة الكلاسيكية الألمانية عندما قال ( ان صور الفكر لابد ان تدرس في طبيعتها الجوهرية و تطورها الكامل ، انها في وقت واحد موضوع البحث وفعل البحث ومن ثم هي تفحص نفسها بنفسها وبنشاطها الخاص ينبغي ان تعين حدودها وان تشير الى نقيضها وذلك هو نشاط الفكر الذي سأدرسه بصفة خاصة باسم الجدل Dialectic ) وقد قدم فلسفته عبر ثلاثيته الرحيبة في الوجود والطبيعة والروح و عبر جدله (الديالكتيك) الشهير الذي هو وصف لمباديء واشتراطات تنتاب عشوائية الوجود الكوني بأسره ، ولعل العالم البنيوي ميشيل فوكو كان على حق ( مع ما في ذلك من غبن تاريخي ملموس ) عندما انتهى في ختام استلهامه لقانون الحالات الثلاث الذي وضعه الفيلسوف اوغست كونت ( وهي اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية ) لاقتراح حالاته الشهيرة في كتابه (الكلمات والأشياء) فأعلن بجرأة ( قبل نهاية القرن الثامن عشر لم يكن للإنسان من وجود ...فهو مخلوق حديث العهد جدا فطره إبداع المعرفة بيديه قبل أقل من مئتي سنة ) وهو هنا يشير الى الإنتاج المعرفي الأوروبي النوعي الكبير وفي مقدمته ثورة الانجازات الفلسفية الهيجلية الى جانب تطورية سبنسر ودارون وافكار التطور الخلاقة في مجال علم النفس عند سيغموند فرويد و يونغ كذلك الإنجازات العظيمة في العلوم الطبيعية والبايلوجية والطبية وما يجريه العلماء اليوم من اختبارات إعجازية هائلة للتعرف الى أصغر التكوينات المادية وهي كلها وعلى عكس ما ذهب إليه ميخايلوفسكي من أن ( نظريات التطور المعاصرة لا علاقة لها بالهيجلية ) لها الصلة الوثيقة بجدل هيجل وقوانينه ، ان هذا الفيلسوف العظيم والذي كما وصفه بليخانوف ( يجهله الناس لكن الحياة تدعم أفكاره ) كان اول من نظر الى الظواهر من زاوية حركتها و تطورها اي من زاوية نشأتها وانحلالها على حد تعبير إنجلز اي من حيث عشوائيتها .
إن المنهج البنياني في التحليل مستلهما الفكر الهيجلي يقوم على أسس اكتشاف القوى والصلات الناظمة العميقة والباطنة التي تحدد وجود عدد من الاشياء ضمن آن معين حيث يوصف كل ذلك بمصطلح البنية , ولا بنية مطلقا بمعزل عن الديالكتيك الهيجلي ، وقد كان كارل ماركس الفيلسوف الألماني الأممي هو أول من تمكن من استخدام هذا المنهج في حيز حيوي للغاية وهو نقد الاقتصاد السياسي وكما يقول روجيه غارودي ( استنبط ماركس المبدأ التنظيمي الباطن لنمط الانتاج الرأسمالي ولنمطي تداول المنتجات المادية وتوزيعها اللذين يترتبان على نمط الانتاج هذا ) وتمكن بناءاً على ذلك من صياغة نظرية بنيوية دقيقة تفسر التاريخ ماديا وفقاً لقوانين الجدل الهيجلي .
لقد كشف آدم سميث حقيقة الثروة واوضح أساسها المتمثل بالعمل وكذلك فعل بنيامين فرانكلين الرئيس والمفكر الامريكي عندما قال (ان العمل هو ما يرتقي بالانسان عن الطبيعة ) لكن فردريك إنجلز الذي أكد ان العمل خلق الانسان تمكن هو ورفيقه التاريخي كارل ماركس من صياغة هذه الكشوفات وعلى أسس جوهرية هيجلية ووفق منهج بنيوي رصين أدى الى سلسلة اكتشافات مهمة للغاية على مستوى الاقتصاد والمجتمع والطبيعة ، حيث ابتدءها ماركس بفهم جديد لمسألة الاجور والاسعار والأرباح والقيمة الفائضة في بحثه الذي تلاه في جلسات المجلس العام للأممية الأولى في حزيران عام 1865.
وماركس انطلق من أن ( الفرد هو جملة علاقاته الاجتماعية ) وهذه نظرة بنيوية بحتة وتوصل الى مفهوم البنى التحتية والبنى الفوقية مقيما ارتباطا جدليا فعالا بينهما حيث تتحكم الأولى والتي تعبر عن درجة تطور وساءل الإنتاج وعلاقاته بالثانية المعبرة عن كل النتاج الثقافي والحضاري الإنساني ومؤسساته الاجتماعية ، والتطور الذي يحدث على وسائل الانتاج والتناقضات الاجتماعية الناتجة عن ذلك هو الذي يتحكم بحركة التاريخ ، قال إنجلز ( اننا نصنع تاريخنا بانفسنا لكن ضمن شروط ومقدمات معينة ) فيما برهنت مسيرة التاريخ ان البنى الفوقية المتحكم بها ببنى اللاوعي وبنى الوعي الإنساني قادرة على تأدية ادوار إنعطافية حادة و خطيرة في مجال رسم مستقبل وحركة البنى التحتية ، و لعل التطور الشامل و الهائل للمجتمعات الرأسمالية ونجاح مؤسساتها البنيوية في حل معضلاتها وأزماتها المتوالدة و المتصاعدة على مختلف الاصعدة من فترة الى اخرى دليل قاطع على ذلك .
قال أفا ناسييف ( ان ماركس اذ أكد على ان الانسان نتاج الوسط الذي يعيش هو فيه فانه لم يذيب الفرد بالمجتمع ) وقد أكد ماركس ( يجب ان لا ننسى ان الانسان يغير الظروف ) . وهنا بالذات توقف من جاء بعد ماركس فأهملوا وحرفوا هيجليته الأصيلة المعنية بالوقائع الدقيقة والإلمام بأكبر عدد من المتغيرات المتحكمة بحركة الواقع كما فعل هرزن عندما حول الديالكتيك وهو روح الفلسفة الهيجلية واساس شموليتها كما هو كذلك بالنسبة للماركسية الى مجرد ( علم جبر الثورة ) حسب تعبيره وجعلوا من البنية التي وصفها بكل دقة هي الكل الشامل والممتد خطيا الى النهاية السعيدة في مجتمع شيوعي يتحقق على مدى طويل توقعوه دون حساب للفوضى الكونية بكثرة عواملها ومتغيراتها اللاخطية و تأثيرها الحاسم على المدى البعيد في رسم المستقبل وكان ذلك تبسيطا شديدا وخاطئا ، لقد تحولت الماركسية عند معظم المفكرين الماركسيين الى دين جديد تحكمت به أحداث ثورة أكتوبر تماما كما كان الفوضوي برودون يحذر منه في رسالته الشهيرة الى كارل ماركس ( علينا ان لا نجعل من أنفسنا زعماء لتعصب جديد ومبشرين بدين جديد حتى لو كان دين العقل والمنطق ) .
لكن الواقعي و الثابت ان الإنسان تكوين طبيعي بيولوجي متفاعل بجدلية مع الظروف البيئية الشاملة التي تحيطه وفق عوامل جوهرية تحكمت به وبغيره من الكائنات والاشياء وهي عوامل الانشداد لتكوين المستوى الوجودي المستقر نسبيا وفي النهاية الدفاع عن الوجود والبقاء في اي شكل ممكن و بأية صيغة متاحة ، ولم يكن العمل بوصفه القدرة على التدخل في البيئة والتحكم بوسائل وأدوات الانتاج الا نتيجة سعي الفرد للحفاظ على حياته اي ان الأساس البايولوجي هو الأصل في هذا التطور وهو موجود ومؤثر بفعالية شديدة على مسار ذلك التطور , وهو الذي دفع لاختراع العمل وقد تمثل ذلك الأساس في ارقى تشكلاته بالتطور العقلي المذهل الناتج عن صدفة ( بالمعنى الحتمي الوقوع ) جهاز التوريث الفعّال والمتميز الذي توفر لدى خلايا الانسان مما دفع الى تراكم كمي انبثقت منه مجموعة البنى العقلية اللاواعية التي تستجيب في حركتها وتطورها الى النشاط العشوائي الكوني وهي التي وجهت الوجود البشري وقادته بنجاح باهر للمحافظة على نوعه حيث تطورت لديه بتكامل ونضوج عاليين وانعكست على وجوده الاجتماعي وما السعي البشري للتملك الا ناتج اجتماعي اخر لتلك البنى مرتبط بذلك السعي .
ومع ان بليخانوف نسف كل جسر عابر بين مملكتي الضرورة (كونها قوانين العشوائية الكلية المطلقة ) والحرية (كونها تجسيدا للإرادة الجزئية التقييدية الناظمة ) ونظر للوجود وتعقيده كمنظومة معادلات خطية ( بالفهم الرياضي ) فان اكتشاف مسارات التطور الطبيعي والتاريخي المشترك يثبت عكس ماذهب اليه ذلك المفكر الروسي الكبير ، ومن خلال دراسة السلوك الًغرائبي لعدد كبير جدا من الظواهر الطبيعية والاجتماعية التي تعاني من الاضطراب والتشوش اللاتكراري فقد ثبت انها منظومات لا خطية غاية في التعقيد وعبر مفهوم البنى امكن تسليط الضوء على الصلات الوثيقة والمتشابكة بين الضرورة والحرية في اطار بنية معينة وكانت تلك الدراسات التي قام عدد كبير من العلماء لعل ابرزهم مانديلبروت وماي ولورنزو وغيرهم تأكيدا للصلة العميقة بين العشوائية والانتظام القانوني التكراري وتلك تماما منطقة اشتغال نظرية الكايوس التي تصف السلوكيات والتصرفات غير المتوقعة والمنشقة عن التكرار التقليدي و الناتجة عن تداخل العشوائية وما تتركه من اثر بعيد وكبير على حيز الحرية والانتظام .
ان الكايوس تعالج بانتباه شديد الفعل غير المحسوس والذي يتعذر حسابه للتدفق الحركي الكوني العشوائي والذي يؤثر على المستقبل البعيد والحقيقي للتشكيلات ذات الانتظام الثابت بالقياسات البنيوية القصيرة الأجل ، وعلى نقيض حلم لابلاس الذي وصفه بقوله ( ان الذكاء المتفوق في إمكانه ان يطبق معادلات الحركة عينها على أكبر اجرام الكون كما على أصغر الذرات ولذا يستطيع ان يتنبأ بدقة بكل الأشياء الآتية وبحيث يصبح المستقبل معروفا لعينيه مثل الماضي ) فإن نسبية أنشتاين و عدم يقينية هايزنبرغ أكدتا كون مسالة الحساب الشامل الدقيق والكلي أمرا مستحيلا تماما كما بينت نظرية البنى نسبية كل الوجود الكوني طبقا للانتظام البنيوي وارتباطاته .
ان مادة نظرية الكايوس هي تلك الحركة العشوائية المتسربة برقة شديدة للغاية في جسد الكون اللمتناهي والتي لا تظهر بصيغة مفاجآت صادمة إنما بتأثير غير محسوس تماما يشبه الى حد بعيد وجود البكتريا والفايروسات التي تملأ المكان لكنها لا تظهر لأحد الا بعد أن تتم تأثيرها الممتد الى كل مناحي الحياة بعد فترات حضانة مختلفة , يقول جيمس غليك مؤلف كتاب نظرية الفوضى ( لو غطيت الارض بالمجسات التي لا يبعد بعضها عن بعض سوى قدم واحد ولو كرست بشكل مماثل عبر الغلاف الجوي وتولى سوبر كمبيوتر جمع تلك المعطيات فانه لن يفلح ان يتوقع اذا ما كان صباح مدينة برنستون في نيوجرسي سيكون مشمسا ام ماطرا بعد شهر من الان ) .
و يشير غليك الى ان اختصاصيي الفيزيولوجيا عدوا أعضاء الجسم ليست تركيبات مستقرة بل تعيش أحوالا من التذبذب بحيث تتقلب بين الاستقرار وعدم الانتظام وهكذا فان تحرر اليد من تخصصها الأول ( كون ذلك التحررهو اصل العمل ) وانطلاقها الكفوء في مجال الأنجاز العفوي والمخطط له لم يكن حدثا منظما أملته ضرورات الحياة وخصائص البيئة الجغرافية والمناخية و الوقائع الاقتصادية وفق ميكانيكا الفعل ورد الفعل البسيطة حسب إنما كان في جزء مهم جدا منه ناتجا لسلسلة متوالية ومتوازية من الصدف والاحداث العشوائية المتداخلة على مستويات عدة ومنها الطفرات الجينية الحاصلة بفعل تدخل عوامل عشوائية غير منظورة وكان ذلك انجازا خطيرا بدل واقع الكائن البشري وقد قال عنه دارون بحق ( ما كان في وسع الانسان ان يصل الى مركزه السائد الحالي في العالم دون استخدام يديه وهما مكيفتان بشكل راءع كيما يتصرفا طوعا لإرادته ) .
ان صراع الطبقات ونظرية فائض القيمة ودورالبروليتاريا وحزبها الثوري , كل تلك المفاهيم والنظريات الماركسية العتيدة أطاحت بها التطورات الحاصلة في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة والتي قفزت بها من مستوى الاقتصاد الحقيقي المنتج لمنتوج ضخم وأرباح كبيرة على مدى زمني طويل الى اقتصاد مؤسسات مالية يحقق ارباحا خيالية في أزمان قصيرة للغاية فانزوى الاقتصاد الحقيقي ودوره ودور عماله وبروليتارييه وظهر الى الوجود موظفو البورصات والبنوك وإعداد كبيرة مِن المستثمرين بالاضافة الى رؤوس الأموال الضخمة والقابلة للحركة والانتقال السريع من أقصى الارض الى اقصاها وبكبسة زر في جهاز كومبيوتر وبات ( استعمال المعيار الطبقي ليس بلا حدود ) كما قال آلتوسر واختفت الصراعات الطبقية الحادة وتوفرت المنتجات المختلفة بوفرة كبيرة لتقضي على حدة الفقر المؤلب للحروب الأهلية في المجتمعات الرأسمالية المتطورة والمرشحة للثورة البروليتارية حسب الاستنتاجات الماركسية كذلك ولدت بضائع ونشاطات مالية واقتصادية جديدة تماما فمصطلحات مثل البورصات والمشتقات المالية وصناديق المخاطر والتحوطات والمبادلات والخيارات المالية وغيرها لم يكن متاح لها ان تخطر ببال كارل ماركس او اي من معاصريه .
لقد تغيرت البنية التي وصفها ماركس وانجلز بشكل جوهري كما تغيرت قوانينها وغدت كل نبؤات الثورة البروليتارية والمجتمعات الشيوعية القادمة محض احلام ضائعة ، وبفعل تطور التكنلوجيا وتقدم وسائل الاتصالات والنقل نشأت ظاهرة الكارتلات والكونسريومات ومن ثم العولمة وغدا الاقتصاد العالمي مرتبط ببعضه جديا وأصبحت حالات الانتعاش والنمو الاقتصادي او الإنكماش والتضخم تنتشر بسهولة بين اقتصاديات البلدان المتباعدة جغرافيا ، ومثلما تطور الواقع بعيدا عن الماركسية فانه يتطور في كل يوم بعيدا عن الحسابات الرأسمالية المنصبة على تحقيق الأرباح ، فتفلس الشركات وتنهار المصارف والبورصات وتتذبذب الأسعار و تضطرب معدلات النمو الاقتصادي على عكس ما خطط له وبعيدا عن كل التوقعات وهكذا تنبثق في كل حين الأزمات العاصفة رغم كل تلك الحسابات الدقيقة التي يجريها آلاف الموظفين المتخصصين و المتمتعين بدرجة عالية من الحنكة والدراية ، فهم غير قادرين على الإلمام بتفاصيل حركة البنى المختلفة وفوضاها غير المحسوسة ، لكن كيف يحصل ذلك وكيف شط الواقع عن النظريات الدقيقة ؟ ان الإجابة التي تبلورت منذ ستينيات القرن الماضي تكمن في الكايوس حيث الفعل الخفي لعوامل ومتغيرات غير قابلة للتوقع ولا يمكن حسابها مهما كانت شدة الملاحظة والقدرة الفنية متوفرتين ومهما أتيح للمهتمين من قدرات حسابية عظيمة . إن متابعة أسعار مواد ستراتيجية مثل البضائع المالية والنفط والقطن تظهر أن التقلبات الكبرى التي تأتي من عمق قوى الاقتصاد يمكن إحصاؤها وتوجيهها الى حد بعيد لكن ما يسبب الاضطراب في ذلك هو شدة تأثير عوامل تفصيلية يومية دقيقة بحيث تحرف كل التوقعات وتصيبها بالخذلان وعدم الدقة .
وإذا كانت نشاطات ماركس وانجلز في البنية الاقتصادية والتاريخية تعد مبادرة بنيوية أولى وكبيرة فان اعمال تشارلس دارون العملية وتجاربه وغيره ممن استفاد منهم عبر جولاتهم في اصقاع العالم وكذلك تنظيراته وملاحظاته الواسعة الأفق هي مجموعة أنشطة بنيوية في مجال بنية الكائنات العضوية ومما يجدر ذكره ان دارون قام بلفتة مبكرة عن البنى بقوله ( ان السلالة مثل لهجة في احد اللغات ومن الصعب ان توصف بأن لها أصل منفصل ) حيث ان اللغة من أبرز البنى العقلية اللاواعية والتي ناقشها بتوسع وعلمية دقيقة عدد من كبار العلماء مثل رومان تشابوسكي وتروبتسكوي و كلود ليفي شتراوس وغيرهم .
وقد قدم البعض من علماء البيئة و الجيولوجيا والنبات دراسات مهمة في مجالات مختلفة عديدة كانت منصبة على ما يتعلق بالظروف المناخية والجغرافية وغيرها من أفعال الطبيعة و تأثيرها على الضروب و الأنواع الحية من ناحية نشوئها و تطورها والتغيرات التي تحصل في تركيبها ومن ثم بقائها او انقراضها . ويقول كارل ماركس ان فولف في عام 1759 شن أول هجوم على نظريات ثبات الأنواع ونادى بمذهب التطور (Evolution ) وذلك في الوقت الذي شن فيه الفيلسوف الكبير كانط هجومه على مذهب سرمدية النظام الشمسي ، و قال السير بادن باول ( ان استحداث انواع جديدة هي ظاهرة نظامية وليست عرضية ) فيما ذكر الدكتور فريك ( ان جميع الكائنات العضوية انحدرت من أصل بدائي واحد ) وذكر جيوفري سانت هيلاري ( ان صفاتاً معينة هي ثابتة في أصل كل نوع حي طالما تكاثرت تحت نفس الظروف وهي تتعدل اذا ما تغيرت الظروف البيئية ) كما ان السير والاس عالم الطبيعة البارز توصل الى استنتاجات قريبة مما توصل اليه دارون الذي اعترف باهمية وقيمة تلك الاستنتاجات التي نشرت في احدى الصحف العلمية المتخصصة المهمة حينها ، لكن دارون تناول الموضوع بنيويا وتمكن من اكتشاف القوانين الناظمة لبنية الكائنات العضوية ووصف بنية الوجود الإحيائي و بنية الأنواع الإحيائية و جذورها وسلاسل تطورها كما عرض قوانين حركة تلك الانواع و استجابتها لشروط البقاء و تغير وظائف أعضاءها وكان ذلك أول تناول بنيوي شامل ومتكامل لبنية الوجود الاحيائي . يقول جايمس غليك ( ان التعقيد الذي تتضمنه الظاهرة الحية يفوق كل ما قد تتخيله فيزياء المختبرات وبذلك مالت النماذج الرياضية عن البيولوجيا لأن تكون كاريكاتورا عن الواقع على غرار ما كان الامر نفسه في الاقتصاد والديموغرافية وغيرها من العلوم الناعمة ) .
أكتشف دارون بنية تتمحور حول موضوع التمايز ( variation ) وهو يعني دائمية التغير وتراكمه عبر التعاقب التناسلي بما ينتج ضروبا مختلفة عن الأصل ومن ثم لتتغير نحو انواع اخرى مبتعدة عن اصلها ومعدلة كليا سواء في مظهرها الخارجي ووظائف أعضاءها الخارجية وكذلك في أعضاءها الداخلية ووظائفها ، ويرى هذا العالم الإنكليزي المميز ان اختلاف الذكر والأنثى وانشقاقهما عن الأصل الواحد هو مثال واضح لمسألة التعديل و التمايز المعقدة حيث تتم هذه العملية تحت رعاية و ضغط الطبيعة والظروف البيئية وتغيراتها الدائمة كما قد تجري رعاية عوامل بنيوية اخرى مثل التدخل البشري وفق طريقة الانتقاء وقد ذكر دارون ( ان الطبيعة تعطي تمايزات متعاقبة والإنسان يجمعها معا في اتجاهات مفيدة ومن هذا المنطلق حقق لنفسه سلالات مفيدة ) وبهذه الحالة فان ذلك التدخل البشري سينتج انواعا مقصودة ومستهدفة ولكنه قد ينتج اخرى غير مقصودة ناتجة عن فعل متغيرات غير منظورة رغم بطء هذه العملية وعدم محسوسيتها ، ويمكن ان يذكر كمثال كلب الصيد الإنكليزي حيث تطور عن اصله الإسباني وفق تلك الانتقائية غير المقصودة . وحتى الانوع المستهدفة في عملية التدجين والانتقاء هي الاخرى عرضة للتغير والتطور غير المستهدف بغض النظر عن كونه مرغوبا ام لا من قبل الانسان ، و في هذا المعنى يقول دي كاندول انه لم يعد يصدق ان الأنواع مخلوقات ثابتة وغير قابلة للتغير ولكنه يؤكد ان نظرية الاشتقاق هي الأكثر ملاءمة ومن البين ان سلوك البايلوجيا التطورية هو سلوك لا خطي تتداخل به متغيرات كثيرة للغاية تجعل من مستقبل اي نوع غير قابل للتوقع الاكيد .
و يلي ذلك ويفسر جزء مهم منه ما اصطلح عليه السير هيربرت سبينسر بالبقاء للأصلح او ما اطلق عليه دارون مصطلح الانتقاء الطبيعي ، و قد أشير آنفا الى دور الانسان في الانتقاء اثناء عملية التدجين من خلال تكديس التمايزات البسيطة لكن هذه العملية تجري في الطبيعة بنفس الطرق والتوجهات من حيث الجوهر وبشكل مستمر بحيث تتاح للنوع او الضرب المشتمل على الصفات التي تمكنه من النجاة في حلبة التنافس الطبيعية الدائمة ، ومن اللافت ان جميع الكائنات الحية ودون استثناء تماما معرضة الى فعل قوى الطبيعة والى التنافس الشديد والعنيف في ما بينها ، وحسب مفهوم المتوالية الهندسية فان كل الكائنات العضوية في حالة تزايد طبيعي وان الارض يمكن ان تغطى بذرية زوج واحد فقط من الأحياء بظرف الف عام وهذه هي معادلة مالثوس المشروطة بتوفر الغذاء وحرية التزاوج ، والإنسان غير مستثنى من هذا القانون رغم بطء تكاثره ، لكن بفعل التنافس والصراع العنيف ومحدودية الموارد وكثرة من متغيرات طبيعية يكون تطبيق المالثوسية خاطئ أصلا وقد استبدلها علماء الكايوس بمعادلة الفارق اللوجستي التي تعالج النماذج اللاخطية مثل زيادة اعداد نوع ما ، وواقعيا فقد نتج نمط من التوازن المتحرك حيث استمرت عمليات التعظية وتغير مهام الأعضاء و تطور الاضراب وولادة انواع جديدة وتناقص اخرى و انقراض غيرها واستنادا لمقدرة الأنواع على التكيف مع المستجدات و التبدلات الدائمة . ان الانتقاء الطبيعي يفسر بطريقة واضحة معنى فعل الكايوس في البنية الاحيائية من حيث كون توثب الصفات للتجدد والتغير وملائمة البيئة المتحركة والمصطرعة كونه مرآة لما يحصل من سيلان دائم للوجود العشوائي الكوني الذي لا يمكنه الاستقرار ولا الثبات ، ولو كان ممكنا استعراض التغير الاحيائي منذ لحظة بدئه الى الآن كشريط سينمي سريع لكان بالإمكان ملاحظة معنى العشوائية الكونية وعمق فعلها الوجودي الشامل .
لقد ابتعد دارون عن التنبؤ بولادة شكل معين للحياة او تطور ما موجود الى شكل او نوع مختلف إدراكا منه لدرجة التعقيد الشديدة التي يمتاز بها العالم العضوي ، فحتى محتويات الخلايا المكونة للكائن العضوي تشكل احتمالات مستقلة للحركة والتغير مضاف الى تأثرها بقوى الانتقاء الطبيعية ، اما الكائن وتجمعاته المجتمعية فعرضة للفعل المباشر بعيد المدى لتلك القوى ، ومن الواضح ان الطبيعة تفرض مشيئتها تماما على مجرى التطور النباتي وتغير تركيباته الجينية بينما تفعل ذلك بطريقة غير مباشرة ومنقّحة عن طريق البنى العقلية اللاواعية لدى الأنواع الحيوانية والتي تحدد نمط التطور نساليا وعبر التغيرات الجينية ، يقول دارون ( السلوكيات التي تتغير تحدث تغييرا وراثيا ومثال ذلك ما يحدث في الفترة التي تزهر فيها النباتات عندما تنقل من مناخ الى اخر ، اما في الحيوانات فان الزيادة في استخدام اوعدم استخدام الأجزاء قد كان له تأثيرا اكثر وضوحا ) .
ان الكايوس يظهر جليا بالوجود اللامتناهي للوجود العضوي منذ ان أتيحت فرصة التكون الاولى مرورا بتلك العصور من الحركة والتغير والاستمرار والانقراض ، ولو ان قوانين ثابتة تحكمت بهذا الوجود المذهل لما أمكنه التنوع والامتداد والحركة النشيطة في التكيف والارتقاء وحتى الانقراض ولاقتصرت الساحة على عدد محدود وثابت غير متطور ، لقد كان دارون اكثر من غيره من فلاسفة الاجتماع والاقتصاد على ادراك حقيقة العشوائية التي تجتاح بنية الوجود العضوي وعرف مقدار تأثيرها على الارتباطات الناظمة التكوينات العليا لذا لم يسع الى نظرية تنبؤية وأقر بتعقيد مجرى التطور و غموض العناصر الفاعلة فيه .
عباس يونس العنزي



#عباس_يونس_العنزي (هاشتاغ)       عèçَ_حونَ_الْيïي_الْنٍي#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نهاية الذئب الميكافيلي
- أوان الذبول
- وكلمه تكليما ..
- أغنيتي الأخيرة الى شط العرب
- كبت للأبد ..
- مقدمة في بنية التقديس العقلية اللاواعية
- الابنية العقلية اللاواعية والتكوين البنيوي لوعي الذات
- ألنص وحرية القراءة التفكيكية
- دراسات في التشاؤم - عن معاناة العالم - لآرثر شوبنهاور
- عن تفاهة الوجود - شوبنهاور
- الخلود - محاورة لشوبنهاور
- الحشاشون
- إيجاز في السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي
- أوهام ظل ...
- الصفحة الأولى من روايتي - متاهة الحب الأول -
- خريبط وحلمه الضائع - قصة قصيرة
- تحية الصباح الأخيرة - قصة قصيرة
- هلوسات ..
- السلاطين لن يتعظوا ... استذكارا للدكتور علي الوردي
- دلو اللبن ...


المزيد.....




- كيف تمكنّت -الجدة جوي- ذات الـ 94 عامًا من السفر حول العالم ...
- طالب ينقذ حافلة مدرسية من حادث مروري بعد تعرض السائقة لوعكة ...
- مصر.. اللواء عباس كامل في إسرائيل ومسؤول يوضح لـCNN السبب
- الرئيس الصيني يدعو الولايات المتحدة للشراكة لا الخصومة
- ألمانيا: -الكشف عن حالات التجسس الأخيرة بفضل تعزيز الحماية ا ...
- بلينكن: الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان
- انفجار هائل يكشف عن نوع نادر من النجوم لم يسبق له مثيل خارج ...
- مجموعة قوات -شمال- الروسية ستحرّر خاركوف. ما الخطة؟
- غضب الشباب المناهض لإسرائيل يعصف بجامعات أميركا
- ما مصير الجولة الثانية من اللعبة البريطانية الكبيرة؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عباس يونس العنزي - حركة البنية ونظرية الكايوس عبر ماركس و دارون