أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - صور الأب














المزيد.....

صور الأب


حسين الموزاني

الحوار المتمدن-العدد: 4705 - 2015 / 1 / 30 - 15:55
المحور: الادب والفن
    


حسين الموزاني
صور الأب
مشهد قصير من رواية
حين دخلت الدار شعرت بالندم لأنّني نسيت أن أجلب من حانة "كاب دور" بضع زجاجات من البيرة، المصرية المخصصة للتصدير، لأقطّع بها أوصال الليل والذكريات. وبدلاً من ذلك دخّنت سجائر عديدة حتّى فرغ رأسي من الهواء وأصابه الجفاف فأصبح الدم الجديد عاجزاً عن التدفّق... ودون سابق إِنذار انثالت على رأسي تصاوير أبي المندثرة الغائرة في ثنايا الزمن وأخذت تعصف في مخيلتي لدرجة جعلتني أشعر به وكأنّه لم يرحل أبداً، أبي الذي قد أضعتُ ملامحه، وعندما حاولت أن أجمع شتات ذاكرتي لكي أحظى بصورة واحدة اجتمعت فيها تقاطيع وجهه كاملة، فلم أفلح إِلاّ باستحضار عينيه الواسعتين الغائمتين وشفتيه اللتين كان يطبق عليهما الحزن. فهل كان حزنه أكثر قدماً من صورته نفسها؟
لقد غاب عنّي أبي إلى الأبد، ورحل وتفتّت تذكاره مثلما تتفتتُ الريح. فاجتاحني إِحساس عارم باليتم، وتسلل هذا الإِحساس إلى نفسي واستقرّ فيها مثل كائن أليف، على الرغم من أنّني كنت أقاومه أكثر من عشرين عاماً، فدخل هكذا ببساطة مثلما يدخل مبعدٌ منفي إلى دار أهله. كنت أحسب أنّني قد انتهيت من الماضي ودفنته مثلما دفنت أبي، وكنت أحسب أنّني كبرت على الذكرى، ولم أدرك بأنّها كانت تتربّص بي، فهي قد كبرت أيضاً واختارت لها موضعاً دفيناً بين الضلوع. تذكّرت أنّه اشترى لي ذات يوم قنينة حليب: حدث ذلك ظهيرة يوم قائظ، اشتراها من الدكان قبالة المعمل الذي كان يحرسه. دكان كريم، نعم دكان كريم! ولم يزل طعم الحليب عالقاً إلى اليوم بحطام الذاكرة. وتذكرت أنني سمعته ذات مرّة يخوض جدالاً مريراً مع إِخوته وأبناء عمومته، فنجان وشوّاي وريسان وعبد الزهرة ولفتة ومخرّب. فبدا أبي سعيداً بحضورهم، كان يتحدّث منفعلاً وعلى نحو جدّيّ حول موضوعة الوجود والدنيا والآخرة: «فنجان! أنت شمالكْ ما تعتبرْ؟ أگـلكْ بيها، تـگولْ ما بيها! سويتها عليّ مثل خليلاتْ العبدْ!» لكن فنجان كان قد خلع عباءته "الچوبان" المثقوبة والماحلة اللون وفرشها أمام أبي ورفع يديه الطويلتين إلى السماء وهتف كالسائل «إطني؟ أريدْ أعرفْ شنهي فسرها، شنهي فسرها؟» ثمّ التفت إلى أبي وصاح به: «گاطع عليشْ حازبينْ يچوون بينا؟ عليمنْ يا گاطع، شنهو السويناه؟ چا خويةْ متعافين؟ چا يابعدْ روحي حوّافةْ؟ مگطمين؟ علّاسة؟ ونصليكمْ بالنارْ والسعيرْ، عليمن؟ گلي يا گاطع!» فردّ عليه قاطع محتداً «فنجان رحمةْ على أمّكْ وأبوكْ لاتسويها علينا ضغبرةْ، أگلك چوخْ تگول چبنْ، سويتها علينا مثل طلايبْ چعبْ و چنانةْ، يسربتون ليلْ ونهارْ وتاليتها واحد يگل للآخر: خوية تريد الصدگْ يو طريفاتهْ! أهو شنهو الإنسانْ يا فنجان؟ الإنسانْ أبو چخمةْ متكوّدْ منْ الأمعادْ الدقيقةْ، بلا كتْ إِذا ماتْ الإنسانْ أصبحْ زربةْ ابنْ زربةْ. خايب فنيجينْ عثولتها علينا، تاليتها نصير كلّ أحنا مثل چلابْ الحيساويةْ! ترى وداعتك ما تاخذ وياك حتّى هدمكْ الأملح المسرّد...». هذا هو صوت أبي، هذا هو رنينه الصاخب يأتي من أطراف الآخرة، فحاولت أن أخفّف من وقعه الرهيب، وعصرت رأسي لكي أسكت هذا الهاتف الذي تزحزح على صدري مثل صخرة، فهرعت إلى الشرفة المظلمة، ورفعت رأسي إلى السماء وأخذت أهتف أبي، أبي... حتّى توغلت الصورة الغائمة للأب الراحل في خلايا دمي وأصبحت هي نفسها جزءاً عضوياً، بل صارت دماً، فأخذت أتنفّس وأشهق كالمصاب بالربو. لا بد من أن أفعل شيئاً أقاوم به الذكرى التي أوشكت أن تفتك بي، فعليّ أنْ أصرخ في الناس جميعهم، أنْ أوقظ النيام...



#حسين_الموزاني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المعركة
- النكران
- جولة الوداع
- الفجر
- ليلة القدر
- الاستجواب
- الثورة المستجدة في مصر وسقوط الجدار العربي
- الحلّاق الفرعوني
- عندما يتحوّل الدين إلى سياسة
- إرهاصات الحداثة
- مفهوم الحرب لدى زيغموند فرويد
- سياسة منح الجوائز الأدبية في ألمانيا
- هل هناك هويّة ثقافيّة مشتركة في العراق؟
- حوار مع حسين الموزاني
- مفهوم الحرب لدى فرويد


المزيد.....




- ماريانا ماسا: كيف حررت الترجمة اللغة العربية من كهوف الماضي ...
- حاتم البطيوي: سنواصل فعاليات أصيلة على نهج محمد بن عيسى
- رسومات وقراءات أدبية في -أصيلة 46- الصيفي استحضارا لإرث محمد ...
- أنجيليك كيدجو أول فنانة أفريقية تكرم في ممشى المشاهير بهوليو ...
- -حين قررت النجاة-.. زلزال روائي يضرب الذاكرة والروح
- لا خسائر رغم القصف.. حماية التراث الثقافي وسط الحرب في طهران ...
- “فعال” رابط الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025 دور اول ...
- مهرجان أفينيون المسرحي الفرنسي يحتفي بالعربية ويتضامن مع فلس ...
- “برقم الجلوس والاسم فقط” الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية ...
- بعد أغنيته عن أطفال غزة.. الممثل البريطاني المصري خالد عبدال ...


المزيد.....

- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - صور الأب