أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - إرهاصات الحداثة















المزيد.....

إرهاصات الحداثة


حسين الموزاني

الحوار المتمدن-العدد: 4675 - 2014 / 12 / 28 - 13:23
المحور: الادب والفن
    


إرهاصات الحداثة
روبرت موزيل وظاهرة النثر التعبيري

كتب الروائي النمسّاوي روبرت موزيل هذه القطعةَ النثريةَ المترجمةَ هنا في العام 1913 وضمّها إلى جملة من التأملات والانطباعات التعبيرية في كتاب حمل عنواناً غير مألوف آنذاك وهو: "تَرِكَةٌ في زمن الحياة". وعلّق موزيل على هذا العنوان ساخراً بأنّ هناك آثاراً أدبيّةً يمكن أن تكون هديةً عظيمة من وجهة نظر الوارثين، بيد أنّ التركات في واقع الحال تشبه عملية بيع مريبة إثر تصفية تجارية فتصبح البضاعة زهيدة الثمن للغاية. ويعود تعلّق القرّاء بهذه المشتريات إلى "ضعفهم المتسامح مع شاعر يخاطبهم لآخر مرّة في حياته".

وتعرّض موزيل منذ كتاباته الأولى إلى موضوعات العزلة والاغتراب و الفقر والقطيعة عن المجتمع، وذلك بالاستناد إلى دراسة معالم المدينة الأوروبية الحديثة وتحليل أمراضها المزمنة من وجهة نظر مدنيّة وليبرالية موضوعية، إضافة إلى تناوله الموضوعات اللازمنية كالحبّ والموت والمقاومة والخيانة والاندحار. ويعتبر موزيل، إلى جانب نخبة من الكتّاب الألمان من أمثال توماس مان وبرتولد برشت وغيرهارد هوبتمان وفرانتس كافكا وراينر ماريا ريلكه ممن يحسب لهم وضع أسس مدارس أدبيّة جديدة، من أبرز ممثليّ تيّار "النثر التعبيري". وهذا المذهب يعتمد أسلوب التصوير الهادئ والبطيء للانفعالات الإنسانية والمشاعر، وتعميق ما يبدو عابراً وعادياً بغية تحقيق دهشة الاكتشاف أو الصدمة المباشرة التي تأتي بها عبارة مستحدثة، وكذلك الاعتناء بإيقاع المفردات وموسيقاها والخلط بين الماديّ والعاطفيّ الوجداني بما يسمّى بالمزاوجة الحسيّة-المادية مثل قوله: "كان حزنهم حزناً ما قبل ربيعيّ"، أو "كان تعب البلد كتعب البحر الطاووسيّ الزرقة"، أو "لقد تحركت عربة حمير الأفكار"، أو "حين تطرد الأشباحُ الأيّام الصبيانية العُري"، فضلاً عن استخدام الظلال الداخلية والإيماءات والاقتصاد في السرد إلى حدّ بتر الكلمات والإحجام عن الشرح والتفسير وما إلى ذلك من خواص هذا المذهب.
ولد روبرت فون موزيل في العام 1880 بمدينة كلاغنفورت النمساوية، وبدأ تعليمه في مدرسة داخلية، وانتقل منها إلى الكليّة التي كان والده يدرّس فيها هندسة الميكانيك، حيث تخرّج روبرت موزيل مهندساً أيضاً. لكنّه، وبعدما بدأ يظهر اهتماماً بالكتابة رفض مهنة التدريس وتفرّغ للأدب. ثمّ انتقل من بلده إلى برلين، العاصمة السياسية والفكرية لألمانيا آنذاك، حيث درس في جامعتها الرياضيات وعلم النفس التجريبيّ والفلسفة، وبالأخص المنطق على يد كارل شتومف، ونال في 1908 الدكتوراه على أطروحته عن الفيلسوف النمساوي أرنست ماخ. ومع ذلك فإنه رفض من جديد العروض التي تقدمت بها جامعتا غراس وميونخ للعمل في التدريس. والتحق بالجيش النمساوي بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، فأصبح مسؤولاً عن مكتب التربية والتوجيه العسكري. وعقب انتهاء الحرب قدم إلى برلين مرّة ثانية ليمارس مهنة الصحافة، إلا أنه آثر العودة إلى فيينا بعد فترة قصيرة، ليشتغل هناك في مجال النقد المسرحي. وبعد انضمام النمسا إلى "الرايخ الألماني الثالث" غادر الكاتب بلده واختار جنيف منفى له حتى وفاته في العام 1942.


مصيدة الذباب

يبلغ طول ورق الذباب "تنغل-فوت" المستورد من كندا حوالي ستة وثلاثين سنتيمتراً ويبلغ عرضه واحداً وعشرين سنتيمتراً، ويطلى بدهان دبق أصفر سام، وإذا ما تحطّ عليه ذبابة - ليس بسبب الشراهة، وإنما بفعل العادة - فإنّ أطراف سيقانها المعقوفة سرعان ما تلتصق قبل الأطراف الأخرى؛ فينشأ حينئذ شعور خفيف الوطأة وشديد الغرابة، كما لو أننا نسير حفاةً في الظلام، فنسحق بأقدامنا على شيء ما، شيء لا يظهر إلا مقاومة رخوة دافئة ومضطربة معاً. وبالرغم من ذلك فهو شيء مشبّع بالرعب الإنساني، ويمكن التعرّف عليه بوصفه يداً وقد اندسّت في موضع ما، وصارت تقبض علينا بأصابعها الخمسة الممتدة شيئاً فشيئاً.
وبعد برهة قصيرة تكون الأطراف كلّها منتصبة مثلما ينتصب المصابون بالتهاب النخاع الشوكيّ والذين لا يرغبون في أن يلاحظهم أحد، أو مثل رهط من الجنود الهرمين الموشكين على السقوط ) إذ تبدو السيقان معوجةً و منفرجةً قليلاً كما لو أنها قائمة على حافة مائلة)، ثمّ تصطفّ متماسكة من جديد، لتستجمع قواها وتفكّر في تدبير أمرها. وبعد ثوان تجدد عزمها فتحاول بأقصى جهدها أن ترفرف بأجنحتها لكي ترتفع مرّة أخرى، وتظلّ تعيد وتكرر هذه المحاولة المشوبة بالغضب إلى أن يجبرها الإجهاد على التوقف، فتعقب ذلك استراحة لجذب النفس، لتقوم بالمحاولة من جديد؛ إلا أن الوقفات الزمنية تزداد حينئذ طولاً، والآن فإنها وقفت باستقامة، حتى أنني صرت أشعر بمقدار حيرتها وعجزها. وثمّة أبخرة تثير الاضطراب تتصاعد من الأسفل على حين غرّة، فتمدّ الذبابة لسانها وتتحسس به المكان بحذر، كما لو أنّه مطرقة صغيرة.

أمّا رأسها فكان رماديّ اللون، مشعر، وكأنه قدّ من جوز الهند، وكان رأساً كالوثن الزنجي المماثل لهيئة البشر. ثمّ أخذت الذبابة تنحني إلى الأمام وتتراجع إلى الخلف، وتحرّك سيقانها المنغرزة، فتنثني ركبها وتتشبث بقوّة لكي تنطلق، تماماً مثلما يفعل البشر الذين يحاولون زحزحة حمل ثقيل بأيّ وسيلة ممكنة، بل بدت محاولاتها أكثر مأساةً مما يفعل العمّال الأجراء وأبلغ تعبيراً من الجهود البدنية الخارقة التي بذلها الكاهن الإغريقيّ "لاوكن”. لكن بعد ذلك حلّت اللحظة المثيرة للدهشة والاستغراب دائماً، تلك اللحظة التي تنتصر فيها إرادة ثانية واحدة من زمن راهن على نزعات الوجود المتواصلة المتنفذة جميعها. إنها اللحظة التي يفتح فيها متسلّق قبضته طوعاً بسبب ألم في أصابعه أو مثلما يلقي رجل تائه بنفسه في مكان ما كما يفعل الطفل أو مثل طريد يحمل مشعلاً متوهجاً لكنه يتوقف فجأةً. وهكذا أضحت عاجزةً عن مقاومة الجذب السفلي بقواها الذاتية، فغاصت رجيلاتها قليلاً وبدت في هذه اللحظة كالإنسان تماماً، وحالاً أمسك بها من ناحية أخرى، هناك، من ناحية الساق أو مؤخرة الجسد، أو من طرف الجناح.
وإذا ما تغلبت على تعبها الروحيّ، مواصلةً الصراع من أجل حياتها إثر فترة وجيزة، فإنها تثبت مشلولةً في وضع غير مناسب، وتصبح حركاتها غير طبيعيّة، فتكوّر جسدها وتمدّ أطرافها الخلفية وتستند إلى مرفقيها، ثمّ تحاول الطيران أو تجلس على أرضية الورقة بأذرع مشرعة وتبدي مقاومةً ما، مثل امرأة تريد عبثاً أن تحرر معصمها من قبضة رجل، أو تسقط على بطنها، كما لو أنها تعثر وهي تجري سريعاً، فيتقدمها الرأس والأذرع العديدة، فترفع وجهها وحده إلى الأعلى.
بيد أنّ العدوّ يبقى دائماً في وضع سلبيّ، فلا يحقق انتصاره إلا من خلال يأسها واستسلامها. وثمّة شيء ما، شيء كالعدم، يجذبها إلى الأسفل ببطء شديد يصعب على الإنسان حتى ملاحقته. وفي الأخير، وبعدما تنهار من الداخل تماماً، يتمّ الجذب بطريقة متعجلة ومباغتة، فتستسلم فجأةً وتكبو على وجهها عبر أطرافها الأمامية أو تسقط إلى الجانب، مشرعةً أقدامها إلى الأمام؛ وكثيراً ما تنهار نحو الجانب، فترتكز على أطرافها الخلفية وحدها.

وهكذا أضحت راقدة هناك، وتلوّح بأجنحتها في الهواء مثل الطائرات المحطّمة أو الجياد التي تفحّ محتضرةً. أو كإشارات اليأس اللانهائية. أو كالنيام.
أحياناً تستيقظ واحدة منهنّ في اليوم التالي، فتتفحص المكان بقدمها أو تهفهف بجناحها، وأحياناً يمكن رؤية هذه الحركات عبر الميدان كلّه قبل أن تغور المحتضرة عميقاً في موتها. ويمكن أن نلاحظ في جهة واحدة من أجساد الميتات، عند عرق الساق، عضواً صغيراً جدّاً يومض برّاقاً متألقاً، وهو يواصل الحياة مدّة طويلة، فينفتح وينطبق بطريقة من الصعب إدراكها إلا من خلال عدسة مكبّرة، فيبدو مثل عين بشريّة تفتح وتغمض بلا انقطاع.



#حسين_الموزاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفهوم الحرب لدى زيغموند فرويد
- سياسة منح الجوائز الأدبية في ألمانيا
- هل هناك هويّة ثقافيّة مشتركة في العراق؟
- حوار مع حسين الموزاني
- مفهوم الحرب لدى فرويد


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - إرهاصات الحداثة