أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - جولة الوداع















المزيد.....


جولة الوداع


حسين الموزاني

الحوار المتمدن-العدد: 4694 - 2015 / 1 / 18 - 13:14
المحور: الادب والفن
    


حسين الموزاني
جولة الوداع

مشهد من رواية

كان صباحاً ذهبياً مشبّعاً بعسل الصمت هذا الذي أطلّ خلسة وأغرقنا بالضياء. وكنت لم أزل مسكوناً بالصراخ وكان جسدي يرتجف بين الحين والآخر ارتجافات قصيرة وسريعة. لم أشعر بأي رغبة في ممارسة طقس آخر لا علاقة له بالجسد وهواجسه واضطراباته. كانت نيكول صامتة، شديدة الصمت، تدخن منكفئة على نفسها غارقة في وهج النور وتحتسي القهوة العربية.
قلت لها إنّني سأتجول اليوم في أحياء المدينة القديمة، لعلّها ستكون الجولة الأخيرة، فبقيت صامتةً، تزفر الدخان من فمها كما لو أنّها ندمت على ذنب اقترفته. وضعت يدي على كتفها لعلّني أدرك سرّ وجومها، فالتفت إلى يدي وقبلتها قبلة خاطفة، فشعرتُ بالاطمئنان وبنشوة خفيفة. وأتتني رغبة قوية في أن نعيد ما فعلناه ليلة الأمس، لكنّها أظهرت تمنّعاً ثمّ قالت بلغة مصرية «كويس، آني مبسوت كويس جدّاً»، فوددت أن أذكّرها بالقول الألماني" "إنّ المرّة الواحدة لا تحسب!"، لكنني تركتها بسلام ومضيت إلى المدينة، دون أن أتخلّى عن استعادة عطر جسدها ولغته.
وبدأت جولتي من تلك الحارة التي كان اسمها يحمل وقعاً جميل اًفي نفسي، عندما كنت صبياً صغيراً، ، تحوّل مع الأيام إلى نوستالجيh وحنين غامضين، بالرغم من أنّني كنت لا أعرف عنها شيئاً، وحتّى لم أسأل مرّة عن معنى: الكيت كات. إنما كنت أعلم بأنّ الناس الآخرين يقولون «كيت»، بينما العرب تقول «كات»! وذات يوم سمعت شادية تغنّي أغنية غرامية عن هذه الحارة، لكن هل يقف المعنى عند حدود الغناء والتقوّل وحدهما، أم أنّه يذهب بعيداً إلى تخوم الخرافة؟
كيت كات الدرابين والأزقّة الصغيرة الضيقة التي تشبه الشقوق الغائرة في كتل الطين المعالج بالملاط الأبيض الحليبي والأصباغ التي قشّرتها الريح والرطوبة، والحيطان المرشوشة بنثار الجص والإسمنت، الأبواب الواسعة المشرّعة المعتمة الممرات التي تفوح منها رائحة الأرض الرخوة الرطبة، النوافذ الخشبية المشبّكة بالحديد المطليّة بالأزرق والأحمر والأصفر والبرتقالي والأخضر العميق. إنّها لعبة الألوان الصريحة الحادّة والظلال والزمن الساكن المتثاقل والفناءات الخلفية الخفيضة الأسوار والساحات المستديرة المنفرجة ودكاكين الصوف والأقطان والثياب القديمة والعطّارين والسمكريين الشيوخ، وكراسي المقاهي المتثائبة الفارغة ورائحة البن الفائحة النفاذة الحرّيفة. ورأيت صبية المقاهي الذين ينفضون رماد المواقد ويشطفون زجاج النارجيلات والفاكهة الطرية الجديدة التي تتوهج تحت شعاع الشمس الواهن. فوقفت برهةً أتأمل مرح الأطفال والتلاميذ الصغار بصفارتهم ونفيرهم وثيابهم الزرقاء والرمادية السوداء والنساء العجائز اللواتي يتربعن صامتات عند مداخل البيوت المعتمة الرطبة الباردة. ثمّ أتى النيل، بحر النيل المتفتح الغريق في مياهه ، نهر الصفاء الفضّي اللمعان، حيث اصطفت القوارب الصغيرة التي تنبعث منها رائحة الخشب المبلل العتيق والأسماك وشباك الصيد. فاكتريت قارباً إلى الضفة الأخرى، وتهاديت به أوّلاً بمحاذاة الجزيرة المستطيلة المستدقة الرأس مثلما هي مرسومة على الخارطة. فكنت أجدّف بيديّ، بينما جلس صاحب القارب في الطرف الآخر عند الحيزوم يراقبني بحذر وحيطة، وعندما وصلنا إلى الزاوية المدببة للجزيرة، قال المراكبي: «هنا كان يسكن المرحوم محمد عبد الوهاب».
«والمرحومة السيدة؟»
«كانت ساكنة قصاده!»
ورسوتُ عند شاطئ شبرا، أسفل الكوبري الحديدي الجديد. وقطعت الجزر الوسطية الكبيرة المعشوشبة التي أصابها الجفاف، دون أن أسأل أحداً عن الطريق إلى وسط البلد. ودخلت أوّلاً في شارع البحر، ومن ثمة في شارع أبي الفرج المنكشف الذي أصابت أطرافه عوامل التعرية فجعلتها مهشمة متآكلة، فجزيرة بدران، ثمّ انعطفتُ على بولاق. ودخلت في فيض الزحام، زحام الساعة الواحدة في بولاق الدكرور، حيث انطلقت زمارات المركبات الخاطفة المجلجلة والعربات وانكشفت أسواق الخردة والنحاس ودكاكين الأباريق والمكانيس والصابون والتوابل والجلابيات والأسمال القديمة. فمضيت أفتش عن سحر الشرق وإغرائه وغموضه وعن تلك العيون التي تمارس الأشياء كلّها وهي في غمدها. وشيئاً فشيئاً بدأت أتشمّم رائحة النساء، بل أتشمم حفيف الفساتين المضمّخة بالمسك والرياحين، وكانت الرائحة تشتد كلّما ازددت قرباً من قلب المدينة.
هنا، في هذا الميدان القديم، قبل مئة وخمسين عاماً، جال الماجن الفرنسي فلوبير يفتش عن امرأة عربية أيام ولاية السلطان عباس. غير أنّ هذا السلطان الفظّ والمرهوب الجانب كان قد أصدر فرماناً يمنع فيه الرقص داخل بيوت الغانيات. وبعدما عثر فلوبير على هديلة، بائعة الهوى، مضى معها إلى مخدع الحبّ في فندق «الشرق» واشترط عليها أن ترقص عارية. وفتح فلوبير زجاجة خمر فرنسية وتمدد على الطنافس كما يتمدد السلاطين، مستمتعاً بالرقص الإسكندراني الذي يبقى فيه الجذع ثابتاً مستقيماً، بينما تقوم اليدان باصطناع إيماءات متوالية تمسّ بها الراقصة جبهتها، لتهزّ بعد ذلك الخصر والأرداف معاً. وبعد ردح من الرقص، تمّت مراسيم غسل الغانية. وكان فلوبير قد خلع ثيابه قبلها، أوحاطت به عائلة كبيرة من القطط، ثمّ خرجت إليه هديلة بسراويلها الداخلية لتزيد من شهوته وهياجه. وتقدّمت أمامه حاملةً مشعلاً أزرق اللهب، فأخذت القروش الذهبية التي زيّنت بها شعرها المسبل العميق السواد تتلألأ. كانت خطواتها مستقيمة وقصيرة ومتمايلة. فتمددت على بساط مغربي قديم وخلعت سراويلها بحركة سريعة، فانكشف اللحم صلباً وخلاسياً والعانة كانت حليقة جافة زرقاء تبرق تحت اللهب والمتاع الثخين بدا منتفخاً بعض الشيء، لكنّه كان مختوناً، والختان عادةً مأساة لمن يجيد اللحس وينشده. فخاطبته هديلة بلغة عربية لم يفقه فلوبير منها حرفاً واحداً، فوقع في حيرة، إِذ تراءت له العبارات وكأنّها تكرار صيغة سؤال واحد شديد الإِلحاح وكثيف المعنى، وعندما تدخلت عيناها أدرك فلوبير أنّها كانت تسأل fair l’amour, fair l’amour.
وصلت الآن إلى وسط البلد، حيث الميدان الكبير الذي كانت تقف دوريات الشرطة في أركانه الثمانية. وأبصرت باعة الفاكهة والعيش البلدي والخضروات يتفرقون هاربين وهم يحملون أقفاصهم على رؤوسهم والشرطة البلدية تطاردهم في كلّ فجّ وشقّ، ورأيت بائعاً معمّماً يرمي قبّانه في عرض الشارع ليتخلص من دليل الإِثبات، لكنّه لم ينج من رجال البلدية الذين كانوا ينقضون على الباعة كالنسور، فمسكت به يد من قفاه، وجرجرته إلى مكان الدورية المسلحة. وسمعت بائع الفاكهة يتوسل بالشرطي وينتحب مرتجفاً من الذعر ويستغيث «أنا بعرضك يا شاويش، الله يحفظك، دنا راجل غلبان وصاحب عيال!» فأثارني مشهد الفاكهاني الأسير الذي ربّما أعتقد أنّ التوسّل هو أشد الأسلحة مضاءً من الاستسلام ومن شأنه أن يستدر الرحمة والعطف حتّى من رجال الأمن والقانون. لكن ما الذي سيحل بالرجل لو أنّهم وضعوه في الحبس دون أن يعلم به أحد من أهله وعياله؟كنت أعرف أنّ استغاثاته وتوسلاته ستذهب سدى، وفعلاً رفعه شرطيان ضخمان من إبطيه وحشراه في جوف السيّارة المبرقعة بغطاء باهت الاخضرار يشبه الخيمة الحربية في معسكر مهجور. فوقفت بضع دقائق، أفكّر مرّة بالرجل بائع الجوّافة أخرى بالشرطة وثالثة بنفسي التي كانت مشتتةً حائرةً لا تعرف بالضبط كيف تمضي الساعات القادمة قبل أن يحلّ المساء. ورفعت وجهي إلى السماء مبتهلاً ومستسلماً للضياء الساطع المترع بالوهج الرمادي الشفيف. وأمضيت لحظات طويلة أنظر إلى الأعلى، هكذا مثلما تفعل زهرة عبّاد الشمس، فبدت لي السماء نائية وفارغة وشديدة الصفاء، فيها سكينة تثير القلق، كما لو أنّ حرباً ما ستعلن قريباً. وعدت أطوف في شوارع المدينة من جديد، وكأنّني أتفقد أسوارها وأبوابها القديمة: باب البحر وباب الحديد وباب اللوق، ثمّ باب الفراغ، ومن بعده باب الزمن المترب الكسيح، زمني اليابس المكسور الذي ازداد شحوباً ما بعده شحوب؛ زمني، أنا المهاجر الهارب الذي لم يبق له صاحب ولا أهل ولا مستقر ولا عزاء، فيا لهذا الخواء، ويا لهذا الجفاف والخواء. واجتاحتني رغبة عارمة في الصراخ، رغبة في البكاء، وربّما بكيت فعلاً دون أن أشعر بذلك، إِذ أنّني أبصرت رجلاً له ملامح المحقق المبهوق يمرق أمامي كالسهم ويرمقني بنظرة نافذة بليغة المغنى.
وشيئاً فشيئاً بدأت أقتنع أن أوان الرحيل قد حان، نعم، لقد أذنت ساعة الرحيل، ولا بدّ من العودة إلى نجمتي النائية الوحيدة، وإلى خيمة الثلج والنظرات الباردة والظلام الكبير، حيث برزخ الحياة الحديثة. واتكأت على جدر مرتفع، شاهق الارتفاع، وأخرجتُ خريطتي للمرّة العاشرة، وتفحصتها دون أن أبصر فيها شيئاً جديداً.
ورأيت فتاتين ، سمراء وخلاسيّة، تتطلعان إلى وجهي الحائر وتبتسمان، فتعقبتهما، وبعد بضع خطوات استدارت الخلاسية منتفخة الوجنتين، لأنّها كتمت ضحكة كبيرة، سرعان ما انفجرت، فاهتزّ لها الجسد المشدود الملموم دفعة واحدة. ودخلت المرأتان في مقهى بلا اسم ذي واجهة كبيرة من زجاج. كان المقهى واسعاً، وقد اقتُطعَ منه ركن صغير وسوّر بألواح خشبية وخُطّ على لوح منها «حانة الحرية». عندما دخلت الحانة، تذكرت أنّ اليوم كان يوم عيد، ففرحت بهذا الاكتشاف. كانت هناك غيمة كثيفة من الدخان تغطي المكان، لم يكن مصدرها دخان السجائر، إنّما الموقد الكبير للقهوة والشاي الذي كان يتوسط الحانة، وإلى جانبه نضدت زجاجات البيرة وكؤوس الكونياك الذهبية البريق. وبدا لي المكان أليفاً مؤنساً وطبيعياً تماماً. اخترتُ مقعداً قرب طاولة جلس إِليها فتى وفتاة أجنبيان سمعتهما يتحدثان بلغة ألمانية سويسرية اللكنة. وطلبت زجاجة بيرة، فكانت فاسدة وخالية من الرغوة المعتادة، فاستبدلها النادل بواحدة أخرى، لكنّها كانت فاسدة أيضاً، فاستاء النادل ذو الرأس الضخم الحليق، وكأنّني أنا الذي أفسدتها، فقذفني بنظرةٍ خارقة مليئة بالتحدّي والعتاب، فقلت «أوكي، أوكي، لا بأس باريس!»
وأخذت أشرب على مضض بيرةً لا تختلف كثيراً عن بول الأباعر. في الواقع لم يكن طعم البيرة سيئاً مثلما اعتقدت، بل كان غريباً هجيناً، يشبه المياه الغازية التي نفد غازها. ورأيت الفتاتين وهما تغادران الحانة دون أن تلتفتا إليّ هذه المرّة، ربّما قد أضعت فرصة نادرة دونما أدري. وكالحالم سمعت صوتاً يهتف بي، فتعجبت، وقمت أفتش في الحانة عن مصدره، لكنّني لم أعثر عليه. فهل كان الصوت يخاطبني حقّاً؟
وسمعت الصوت واضحاً هذه المرّة «مش عيب قاعد لوحدك يا عربي؟» استطعت بصعوبة استجلاء ملامح الرجال الثلاثة الذين جلسوا في زاوية الحانة، نعم إنّني أعرف إثنين منهما، النادل في «زهرة البستان» وسعيد الذي جادلته وجادلني ليلة الأمس. قال النادل، تفضّل اجلس معنا، فشعرت بارتياح إلى دعوته، ولعلّ سعيد حثّه على ذلك. كان يجلس معهما رجل متقدّم في السنّ، ذو وجه سمح وعينين ذكيتين وعميقتين. فقلت محيياً ومقدماً نفسي وأنا أصافحهم «كل سنة وأنتم طيبين، حمدان»، قال سعيد «سعيد، حصل لنا الشرف» وقال الآخر «عبد العزيز...» نطقها ببطء ولا مبالاة، ثمّ أشار إلى النادل وأردف «العمّ أحمد، أبو المثقفين المقطوعين!». قال العمّ أحمد «الأستاذ عبد العزيز كتّيب وحرّيف قد الدنيا!» فضحك الكتّيب وصبّ لي كأساً من الكونياك وقال «نخبك!» فاحتسيته في جرعة واحدة شاعراً بنشوة وارتياح للحفاوة والترحيب. كانت الطاولة مغطاة بشرشف من المشمع الأصفر، قذر بعض الشيء، وتكوّمت فوقه قشور الترمس البنيّ التي كانوا يبصقونها بمتعة وعجلة وهم يتطلعون في وجوه بعضهم البعض كالغرباء.
«هذا الأجنبي، أبو الشعر الأشقر، حاطط حلق في أودانه!» قال العمّ أحمد قاطعاً الصمت. ولما رأى أنّ أحداً لم ينتبه إليه، أعاد ملاحظته بصيغة أخرى:
ـ «حتة خوالات عايزن يخربوا البلد!»
فأجبت بلا مبالاة:
ـ «يمكن يكون هذا شيء طبيعي بالنسبة للغربيين»، فمسك العم أحمد بيدي وفغر عينيه ثمّ زعق بصوت مبحوح من فرط الدهشة:
ـ «طبيعي؟ بتقول طبيعي؟ أنت مش عربي وإِلاّ إِيه؟ طبعاً ده كفر وعيب كمان! العرب تقول لا تتبرجوا تبرّج النساء في الجاهلية الأولى، مش كده يا أستاذ عبد العزيز؟»
ـ «أيوه كده يا عمّ أحمد».
ـ «طبيعي قلك الجدع! وصلنا للدرجة دي. ممكن تقولي حضرتك منين؟»
فقدمني سعيد:
ـ «من العراق، بس عايش في أوروبا».
ـ «عراقي وتقول الكلام ده؟»
ـ «آسف يا عمي أحمد، أسف!» قلت معتذراً، فتطلع إليّ العم أحمد باستهجان كما لو أنّني نطقت بشيء منبوذ. كان وجهه نحاسياً لامعاً وصدره المنفرج ناتئ العظام وسقيماً، علته شعلة من الشيب الرمادي، لكن كان يكرع الكونياك بشغف ومتعة. ولاحظت أيضاً خيطاً دقيقاً من الحزن يحوم حول عينيه، جعلني أفكر في مغادرة الحانة.
سألني عبد العزيز هذه المرّة:
ـ «بقى لك كم سنة عايش هناك؟»
ـ «حوالي عشرين سنة».
فسقاني كأساً أخرى مطفطفةً وقال بحسرة نافخاً كلماته كمنفاخ النار:
ـ «إِزاي قدرت تستحمل الوقت ده كلّه؟ أنا أستغرب إنّه الواحد يقدر يعيش مع الأجلاف الغربيين دول عشرين سنة!»
في البدء تخيلت أنّ صدى آخر لصوت بعيد هو الذي نطق بهذا الحكم، فابتسمت وسألت عبد العزيز باهتمام عن سرّ معرفته، فقال بفصاحة تلقائية وغير مصطنعة البتّة:
ـ «ذكّرني هذان الأوروبيان بالسنوات الطويلة التي أمضيتها هناك في بلاد الغربة، وقتلت إلى الأبد روح الحماس وحبّ الحياة في نفسي. ذهبت إلى هناك طالباً، فرجعت خائباً منكسراً. في البدء درست الهندسة المعمارية ثمّ انتقلت إلى الرسم والترجمة. كنت آنذاك في سنّ العشرين، فعدت إلى أهلي كهلاً. وتزوّجت من امرأة فرنسية ثرية، لكنّها كانت للأسف الشديد مصابة بالشذوذ، ولها أصحاب كثيرون مصابون بالانحراف الجنسي. وذات يوم حاول أحدهم التحرّش بي، فصفعته كانت زوجتي حاضرة، فقرّرت الطلاق على الفور. نعم لهذا السبب التافه! لا شكّ أنّك تعلم أنّ الشاذ عندهم أفضل بكثير من السوي، بل إنّهم يعتبرون الإنسان السوي مخلوقاً سخيفاً. أنا أعتقد، بل متأكد من أن مشاهيرهم وفلاسفتهم ومفكريهم كلّهم مصابون بالشذوذ. ولذلك فإنّ رأي العم أحمد صحيح تماماً، فهم أجلاف وأبناء أجلاف كمان لا بد أن تكون أهدافهم غير بريئة دائماً وأبداً...» وتوقّف عبد العزيز عن الاستطراد وأطرق يفكّر في شيء كان عليه أن يقوله لكنّه ربّما نسيه في الثانية الأخيرة. كنت أنظر إِليه بقلق وانفعال غير مصدق فيما إِذا كان هذا الذي نطق به حكماً صحيحاً، فحاولت أن أقلّده في كلامه، لئلا يعتقد هو أو الآخران أيضاً أنّه قد أفحمني، فقلت متصنّعاً السذاجة:
ـ «صحيح كلامك، أو قد يكون صحيحاً على العموم، لكن هل أنّ جنسنا العربي خال حقّاً من الشذوذ؟ ثمّ أليس شذوذ الروح أشد خطراً من الشذوذ والنفاق الجسديين؟ وأظنّ أنّ الشذوذ ميل طبيعي موجود في النفس البشرية، على الأقل إنّ أفلاطون نفسه كان يزعم ذلك، وقد أخذنا عن هذا الرجل الكثير الكثير...».
ردّ الكاتب بنفاد صبر:
ـ «لنا ربّ يحمينا من أفلاطون وجماعته! ربّنا يحمينا من كلّ طبيعة خبيثة منحرفة. يا أخي إنّ الرجال هناك يقفون صفوفاً لكي يحظوا بفتى أجنبي ذي بشرة سوداء يقوم بجلدهم بالسوط والكرباج حتّى يشفى غليلهم. ثمّ إنّ نساءهم أكثر تطرّفاً من ذلك، فضلاً عن الرائحة النتنة القاتلة التي تفوح من أعضائهن الجنسية. هل حضرتك متزوج من أجنبية؟»
ـ «أنا؟ كنت متزوجاً ثمّ طلقت!»
ـ «ما هو رأيك أن تتزوّج امرأة من مصر؟»
ـ «في الواقع إنّني أحلم بذلك، فإِذا كان لديك شيء من هذا فلا تبخل علينا!»
هنا تدخّل سعيد للمرّة الأولى قالباً الموضوع برمّته، فقال:
«الغرب أقدم سنّاً منّا طبعاً في يتعلق بالحداثة. فأصبح عجوزاً هرماً منذ زمن بعيد، أمّا نحن فما زلنا فتياناً نتطلّع إلى المستقبل بعين الرضا والأمل. إنّهم جرّبوا هناك كلّ شيء بمدنيتهم وصناعتهم وديموقراطيتهم وحروبهم، إِلاّ أنّهم فشلوا فشلاً ذريعاً في خلق الإِنسان الحقيقي الجديد، بل إنّهم خلقوا لنا إنساناً مريضاً مشوّهاً، إِنساناً غريزياً خالياً من المعنى والفائدة والقيم والأخلاق».
وتطلعت إلى العم أحمد، فوجدته يصغي بانتباه شديد، يمطّ شفته السفلى ويهزّ رأسه دهشة وإعجاباً بكلام زبونيه اللذين كانا يتحدّثان عن أمور جليلة الشأن بثقة ودراية كبيرتين. فقلت موجهاً كلامي إلى سعيد:
ـ «إنّك ذهبت بعيداً في التأويل يا صاحبي. وما قلته ما هو إِلاّ موقف أيديولوجي شبعنا من سماعه حتّى أصبنا بتخمة القرف. فمن هو هذا الذي ما زال متمسكاً بالفضائل والأخلاق العربية؟ من؟ وهل بقيت فضيلة أو أخلاق عربية؟ وهل كانت هناك أصلاً فضيلة أو أخلاق؟ وأنا أشكّ في الأمر من بدايته إلى نهايته! وقد يكون كلامك صحيحاً، لكنّه يبقى مجرد استثناء. الأستاذ سعيد العزيز قال قبل دقيقة (ربّا يحمينا من كلّ طبيعة خبيثة منحرفة) قلي بشرفك يا سعيد، وأعيد عليك ثانية: بشرفك يا سعيد مين هو الشاذ والمنحرف أخلاقياً، وهل هو الذي ينتاك في عقله أو ذاك الذي مشغول ليله ونهاره في تجميع الأرانب، أقصد الملايين، في بلد الجياع والعراة والزبالين؟ أرجوك! أنا عراقي أحمق، وممكن أصير عصبي وعدواني بسرعة. وبعدين أروح أنزل السماء على الأرض، دحنا لو كان عندنا ناس حاكمين، أخلاقهم مثل أخلاق المافيا الإِيطالية، لعشنا بخير وسلام، لكن المافيا يا عزيزي صارت صينية وروسية، تقتل من أجل القتل وحده. أرجوك أن تكمل أنت بقية الكلام...».
ـ «ليس بس كده متحامل ومزنوق وكأنّ الدنيا حتفرط بكرى؟ يعني حتبقى مبسوط لما أقلك إِنّنا أمّة مهزومة! مش كده؟»
ـ «مهزومة وبس يا سعيد؟»
ـ «أمّال جرى لها أيه تاني؟».
ـ «هذه الأمّة يا سعيد لن تقوم لها قائمة إلى يوم القيامة. هذه الأمّة مسلوبة الروح والجسد، وتقتات على الزيف والوهم يا سعيد، وعلى النوايا والظنون. أليست هي التي كانت تتحارب مع بعضها أربعين عاماً من أجل ناقة جرباء؟ أنا أعتقد لو أنّها كانت أمّة صالحة لما هبط الوحي فيها...».
فردّ سعيد بانفعال أيضاً:
ـ «لكنّه أصلح من شأنها، وباتت أمّة عظيمة. أنا أعرف تمام المعرفة بأنّنا أمّة تبالغ حتّى في شتم نفسها. لكن ذلك لا يغيّر من واقع الأمر شيئاً، فالشمس كما يعلم الجميع لا تخفى في الغربال. وهل تعتقد يا عراقي أنّ للغربي الحقّ في قتلك وإبادة أهلك وتحطيم تاريخك وثقافتك؟ هل ترضى بذلك؟ ونحن لسنا أمّة مسلوبة الروح مثلما تعتقد، بل أولئك الذين يقتلون الناس لكي يشبعوا غرائزهم وبطونهم هم الخاوون روحياً وهم الراغبون في الانتقام من الأمم الحقيقية الحيّة. فمن هو ذا الذي غرس الخنجر المسموم في ضلعنا سواهم؟ من الذي حرق الحرث والنسل وهدم الديار وزوّر الحاضر والماضي؟ لكن، يا عراقي، لكلّ كلب يوم مناسب لا بدّ أن يأتي!»
هنا أدركت أنّني لا أستطيع أن أفعل شيئاً آخر سوى التراجع والانسحاب، فقلت بلهجة المجاملة:
ـ «على أيّة حال، لعل الخنجر المسموم يتحوّل ذات يوم من قاتل إلى قائد للشعوب السامية كلّها، ونتمنى أن يأخذ بيدها إلى طريق الخلاص، مثلما أخذت هذه الشعوب اللغة عن الخنجر، ثمّ الأشياء المعروفة كلّها، وربّما ستأخذ عن العدو التاريخيّ بعضاً من الحرية وقليلاً من المال والجاه...».
فصرخ سعيد:
ـ «كفاية يا جدع، دأنت تجنن بجد، خلاص بقى خلاص كلام علاك...».
فقذفت بحسرة ساخنة طويلة واستندت إلى الطاولة لكي أنهض وأنا أردّد في نفسي كالشبح الخائف «مفيش خلاص، حنعمل إِيه؟ الطرق والمنافذ كلّها مقفلة، فلا مخرج هناك ولا مهرب، مفيش خلاص...».

غادرت الحانة نصف صاح ونصف سكران وفي العين بعض من الغشاوة والتثاقل. وتراءى لي العالم الخارجي مثل لوحة تعبيرية بحجم الطبيعة نفسها: السماء الرمادية الحمراء الخالية من الكواكب وصبّاغ الأحذية العجوز الذي يعتمر عمامة ضخمة ويطقطق بفرشاته فوق صندوقه الخشبي والشحاذ الأعمى الذي تربع عند ناصية الشارع بثياب نظيفة وطاقية حمراء من الصوف يتلو آيات بصوت خفيض شجي والمرأة التي أمسكت بيد ابنتها تريد العبور إلى الجهة الأخرى وتتلفت مذعورةً إلى العربات المتسارعة والصبي المشحّم الوجه والمغطّى بطبقة من سخام السيّارات والذي قطع الشارع دون أن يضع للعربات والشتائم أدنى اعتبار والنساء القرويات بثيابهن الفضفاضة السوداء اللواتي كنّ يقفن في شارع خلفيّ حائرات مضطربات كما لو أنهنّ قد أضعن الزمن وشجرة السدر الوحيدة العجفاء المتربة التي تلقي ظلاً باهتاً على السيّارات المرصوفة في أغرب نظام للصفّ في العالم والدخان الفضي المتطاير مثل فتائل القطن المندوفة وصفارة الشرطي المنفرد في جزيرته والتي لم ينتبه إليها أحد وهناك، في الناحية الأخرى، تماماً تحت ذبالة شمس الغروب، لاحت امرأة فارعة الطول، يشعّ فستانها من بعيد خاطف البريق. فاتجهت حيث الأشعة والفستان المتوهج، لا لكي أرى المرأة، وإِنّما لأنّني لا أعرف بالضبط إلى أين عليّ أن أتّجه الآن. وحالما أبصرت المرأة عن قرب، تحوّل الوهج والبريق إلى ركام بارد، بعدما تبيّنتُ أنّها حولاء عمشاء ومطفأة العين وفمها واسع محشو بالذهب وأسنانها صفراء، فشعرت فوراً بإحباط كبير، حتّى أنّني لم أنتبه إلى القسوة والفجاجة اللتين أصابتاني. وربّما لم تكن المرأة قبيحةً بشعةً، من الداخل على الأقل، لكن ماذا كانت تعني هذه العلامة السحرية؟ فهل انكشفت أسراري كلّها وتحوّلت، أنا نفسي، إلى ركام بارد، أم إنّ هذه كانت علامات الهيروغليفية فيا التي لا تقرأ إِلاّ م السماء؟ إنّها لا شك الهيروغليفية التي تطالعها الآلهة من الأعلى مثلما تستطلع طيور السماء ديدان الأرض والصقور حمائمها. فهذه هي إذاً الكتب المفتوحة والمدينة-القرّافة التي صار الموت والخراب صناعتها الثقيلة الأولى. وتذكرت الطاعون الذي عاث هنا قبل قرن ونصف من الزمن، فأباد المدينة وأهلها، وامتلأت الأزقة والشوارع بجثث الموتى، ولم يعد يسمع هناك سوى النشيج والعويل وأصوات الشاعرات القوالات. كانت أياماً عجافاً، قست فيها القلوب وجفت فيها الدموع، وسلطان الموت وحده كان يجوس ويعوي في القلاع والأزقّة والحارات، بينما كان السلاطين يشيدون الأسوار حول مقابرهم الأرستقراطية ويغرسونها بأشجار السرو والصنوبر ويأمرون بإِحراق جثث الفقراء، إسلامياً وليس بوذياَ...
وشعرت بشيء يقرض أحشائي، فتذكرت أنّني لم أتناول طعاماً منذ يومين، لكنّه لم يكن جوعاً حقيقياً هذا الذي أصابني، لأنّه لم يبدأ من البطن، إنما من منطقة مجهولة، فمنا هناك في السرّ. إنّه لا شك جوع الغربة والتشرد الذي أخذ يعوي الآن على كوبري الجلاء بين سباع الخديوي المخصيّة. وشعرت بمرارة الألم تتصاعد إلى البلعوم: إنّه احتراق الألم، وأوّل أوكسيد الألم الذي تسلل من أطراف أصابعي إلى هامة رأسي، فصرت أترنّح متثاقلاً حائراً مثل روح حزينة ضائعة. وقطعت الجسر حتّى منتصفه، حيث وقفت هناك وأخذت أتطلّع إلى أديم النهر الطافح المتخم بالمياه. وأحسست بلفحة من دخان أبيض مخلوط برذاذ الماء تلامس وجهي. وبدا الهواء عذباً ناعماً وطرياً والماء سرى حاملاً أغصان الأشجار والأحراش التي لم تزل خضراء. وكانت هناك قوارب صغيرة متفرقة تنزلق على سطحه بهدوء. ولوهلة واحدة فكرت في القفز من الجسر، فبلا شكّ أنّ هناك كثيراً من الناس وقفوا حيث وقفت وفكّروا بما فكّرت به، لكن المرء لا يفعل دوماً ما يخامر ذهنه. وحاولت إزاحة هذه الخاطرة، أو الغمامة الرهيبة بالصمت والانقطاع عن التخيّل والتفكير، فأخذت أدندن دندنةً خفيفةً مع نفسي إلى أن وصلت إلى الضفة الأخرى من النهر العملاق.



#حسين_الموزاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفجر
- ليلة القدر
- الاستجواب
- الثورة المستجدة في مصر وسقوط الجدار العربي
- الحلّاق الفرعوني
- عندما يتحوّل الدين إلى سياسة
- إرهاصات الحداثة
- مفهوم الحرب لدى زيغموند فرويد
- سياسة منح الجوائز الأدبية في ألمانيا
- هل هناك هويّة ثقافيّة مشتركة في العراق؟
- حوار مع حسين الموزاني
- مفهوم الحرب لدى فرويد


المزيد.....




- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين الموزاني - جولة الوداع