أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عباس الزيدي - قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 9















المزيد.....

قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 9


عباس الزيدي

الحوار المتمدن-العدد: 4689 - 2015 / 1 / 12 - 19:50
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


قيادة الحركة الإسلامية في العراق
1980 – 2003
الحلقة التاسعة
عباس الزيدي – عبد الهادي الزيدي

من العزلة إلى الانفراج
لم يشهد عقد الثمانينيات غياب الحركة الإسلامية والظاهرة الإسلامية فحسب، بل شهد إحباطاً وظلامية وتشاؤماً اجتماعياً عاماً، فبالكاد نجد أسرة لم تصب بضحية من ضحايا الحرب، وكان الجهل والأمية وبداية الأزمة الإقتصادية على وشك أن تصبح الحالة العامة، ولم يلح في الأفق أية بوادر على إنفراج قريب، ومع نهاية الحرب كانت هذه المشاكل تطفح على واجهة الحياة اليومية، وفي مثل هذه الظروف يلجأ المجتمع عادة الى الجانب الروحي ويندفع باتجاهه بقوة، ولكنه يحتاج الى موجِّه وقيادة استثنائية، تمتلك مؤهلات علمية وعملية، إضافة الى معايشتها لكل معاناة المجتمع، ولم يعرف بوجود مثل هذه القيادة في ذلك العقد المظلم، كل ما في الأمر محاولة الشعب الإتكاء على قيادة عاجزة لم تستطع أن تدير شؤونها الخاصة، وكانت ولا تزال تعيش في برج قد اصطنعت حولها هالة قدسية حالت دون معرفة القليل أو الكثير، ولربما "للأمانة التاريخية" أنها لم تصنع هذه الهالة ولم تطلبها، ولكنها ستكون تحصيل حاصل، خاصة في مجتمع لم يدخل في صميم تفاصيل العمل الحركي، الذي ستكون نتيجته جملة من المشاكل (وهي نتيجة حتمية للحركة)، بينما لم تتعرض تلك القيادة لمثل هذه المشاكل لأنها لم ولن تكون حركية إلا رغم إرادتها، وعندها ستكون أمام أمرين، فالصمت والهدوء الذي وفَّر قدسية ووقاراً سيكون خير مصدر للقوة لأنه خلاف الحركة لا تتنج منه مشاكل العمل، أما الحركة فهي التي ستولد المشاكل والصدام، وهما ضريبتا الوعي الحركي، أما في حال فُرضت الحركة على القيادة غير المؤهلة فلن تقع لوحدها في ورطة بل ستحل الكوارث على المجتمع(1).
في هذه الأوضاع المحبطة اليائسة التي لم يكن يتوقع أحد وفق الحسابات الدنيوية أن تظهر على الساحة قيادة متكاملة تستطيع أن تخرج المجتمع العراقي من هذا البؤس، وهذه القيادة تتمثل بالسيد محمد الصدر مرجعية وقيادة المرحلة اللاحقة، وخلاف كل حساباتنا كانت متطلبات القيادة حاضرة عنده، وقبل الشروع في تفاصيل نهضته نطل بلمحة خاطفة على شخصيته وتاريخه.
فقد عكف السيد محمد الصدر في عزلة تامة عن الحوزة والمجتمع منذ استشهاد أستاذه السيد محمد باقر الصدر سنة 1980، واستمرت هذه العزلة أو الإقامة الجبرية لمدة سبعة أعوام(2)، عانى فيها من شتى الضغوط الاجتماعية والأمنية والاقتصادية التي لا يستطيع أن ينجو من آثارها إلا من كان صلب المعدن، وعادة يعكف من يمر بمثل هذه التجربة منطوياً حتى بعد رفع هذه الضغوط، الا أن الكلام هنا عن رجل لم تؤثر فيه هذه العزلة إلا بما يزيد من عزيمته، بل نرى من خلال بعض كلماته بعد ذلك أن هذه العزلة لاقت هوى في نفسه، تفرغ فيها تفرغاً تاماً للعلم والتأمل وتربية نفسه زيادة على ما وصل إليه قبلها، وهو ليس بالقليل سابقاً.
كانت له فلسفته الخاصة بالكون والدين والروح والحياة والموت والسياسة والمصاعب والرخاء والحب والكره والطبيعة وقوانينها وكل شأن من شؤون هذه الحياة، فتكونت عنده منظومة شمولية محكمة، جمع فيها بين إيمانه وعقيدته وبين المنهجية العلمية. فهذا الشيخ الشاب الذي لم تتجاوز سني حياته السابعة والثلاثين قرأ بجدارةٍ التاريخ والفكر البشري الذي امتد ستة آلاف عام، وخرج منه بحصيلة مترابطة آخر المطاف، وترك الجميع لسوء توفيقهم سفره المتعمق في تأريخ البشرية أعني كتابه الفريد (اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني)، الذي طُبع في بيروت عام 1975، وأهمية هذا الكتاب أنه لا يمثل خلاصة الفكر البشري فحسب، ولا يمثل فلسفة التاريخ خاصته فحسب، وانما يمثل خطته المتكاملة التي (ربما) لم يكن يعلم بأنه سيخرج يوماً من عزلته لينفذ واحدة من أهم حلقاتها حرفياً بعد أكثر من عشرين عاماً على خروجها للنور، ليس هذا فحسب فكتابه (اليوم الموعود) يمثل المخطط أو التخطيط العام القادم بعد مقتله لعقود ولربما لقرون، حسب رؤيته.
كانت عيون النظام ترصده والرقابة متواصلة ليلاً نهاراً:
((انزوى في بيته بعد استشهاد أستاذه الصدر (قدس سره) ولم يكن يخرج إلا لضرورة، وبعد أن شنت حملة جائرة لاعتقال السادة آل الحكيم عام 1983 وكان جاره واحداً منهم واستشهد لاحقاً، وضع جلاوزة الأمن نقطة مراقبة عند باب داره، فتكثَّف عمله بالتقية حتى وصفها في بعض رسائله بأنها أشد من التقية التي عاشها الإمام الحسن السبط (عليه السلام)، وبقي في الإقامة الجبرية حتى حصل إنفراج نسبي عام 1987، ثم الفرج أوسع بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، وعاد الى نشاطه العلمي وبدأ بالتدريس في جامعة النجف الدينية(3))).
فكيف قضى كل هذه الفترة الطويلة نسبياً؟، بل الطويلة جداً نظراً لكون العزلة التامة والوحدة عن جميع الناس رافقت الرقابة والترهيب وعسر المعيشة، حتى أنه عند حديثه عن تلك الفترة يذكر ما لاقاه من وضع مالي ومقاطعة وصلت الى حدِّ الجوع، فقد بلغ به وبأسرته الحال الى عزل نصف وجبة الغداء لتناولها عشاءً، وهذه الحال المزرية كانت في وقت توفرت فيه المواد الغذائية وصارت كأرخص ما يمكن شراؤه وتوفره في العراق في الثمانينات.
يحدثنا تلميذه الأمين على أسراره في تلك الفترة الحرجة عن شخصيته وكيف صقلها، وتوجهاته وأفكاره وآراءه السياسية وكيف يستقيها:
((ـ تهذيبه لنفسه وسيطرته على غرائزها، وانتصاره على ذاته بحيث أصبح هو يملك زمام نفسه، وليست هي التي تملكه، وكان معروفاً بنكران الذات، وطالما كان يكرر أنه يدوس ذاته بقدميه، ونجح بدرجة كبيرة في الجهاد الأكبر مما سهل عليه النجاح في ساحة العمل الإجتماعي وهو الجهاد الأصغر، ومن كلماته (قدس سره): إن النجاح في الجهاد الأصغر لا قيمة له إذا لم يقترن بالانتصار في الجهاد الأكبر، وهو معنى قرآني ذكرته كثيراً في كلماتي، وفي الحقيقة فإن أي شخص يراد تأهيله لتحمل المسؤولية لا بد له من المرور بهذه المرحلة حتى يصل الى درجة الإمساك بزمام نفسه، وقد خاض (قدس سره) هذه التجربة العملية على يد أكثر من شخص، وذكر لي في رسائله التي قاربت المائتي صفحة نكتاً من هذه التربية.
وكان يحب الموعظة لأن فيها إحياءً للقلوب كما أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) ولده الحسين (عليه السلام): (يابني أحيي قلبك بالموعظة وأَمِتْهُ بالزهادة)، فكان يحثُّ على مطالعة كتب الموعظة كـ(إرشاد القلوب، ومجموعة ورام، وعموم جوامع الأحاديث الشريفة كتحف العقول، والخصال)، ولقد كانت هذه سيرته منذ نهاية السبعينيات، وحدَّثني أنه كان ملازماً لأستاذه وابن عمه الشهيد الصدر الأول الذي كان يحترم هذا المسلك ويدافع عنه، بل التزمه في أيامه الأخيرة كما هو واضح من محاضرته الأخيرة عن حب الدنيا، ضمن محاضرات السنن التاريخية في القرآن الكريم.
كان (قدس سره) يودُّ أن يأخذ من كل شيء عظة وعبرة تأسياً برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمثلاً: حين يدخل الى الحمام ويرى الماء الحار يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): (نِعمَ البيتُ الحمام يزيل الدرن ويذكِّر الآخرة).
ـ ارتباطه بالله تعالى وإدامة ذكره وجعله الهدف الوحيد الذي يسعى من أجله، وقد انتقد في أحدى خطب الجمعة ما يفعله أئمتها من الإكتفاء بسطر واحد أو أقل من الحمد والثناء على الله تبارك وتعالى ثم الخوض في موضوع الخطبة، أمَّا هو (قدس سره) فكان ينقل مقطعاً من دعاء أو آيات قرآنية أو خطبة لأحد الأئمة (عليهم السلام) تعمِّق الصلة بالله تعالى وتعرِّف بصفاته الحسنى، وتبيِّن حاجتنا وفقرنا إليه تبارك وتعالى، وكان مراقباً لله سبحانه، ومراعياً له في السر والعلن، ومما أدَّبني به ما رواه عن أحد العلماء: أنه دخل عليه شخص فرآه بزيِّه الكامل وهو جالس وحده في البيت فسأله عن ذلك، قال: لأني بحضرة الله تبارك وتعالى، وكان آخر لا يمدد رجليه حتى لو كان وحده لنفس السبب، ومما حكاه (قدس سره) لي عن سيرته: إنه مرةً صلى ركعتين استغفاراً لأنه قال لشخص التقى به وكان غائباً عنه مدة: (مشتاقين)، وهي كلمة متعارفة، ويمكن أن تُبَرَّر، إلا أنه خشي أن يكون كاذباً بهذه الدعوى.
ـ معايشته مع القرآن وتفاعله مع مضامينه ، ففي وقت مبكر من حياته كان له دفتر يسجل فيه ما ينقدح في ذهنه من نفحات أثناء تلاوته للقرآن، ويثبِّت فيه الآيات التي توحي له بخُلُقٍ قرآني أو موقف أزاء حال معينة أو سلوك عليه أن يطبّقه.
وفي مرحلة أخرى أخبرني أن له نسخة من المصحف ثبَّت على هوامش صفحاته القراءات المتعددة للكلمات القرآنية، وقال (قدس سره): إنه كان يستفيد من هذه القراءات معاني لا توحيها الكلمات المرسومة، وأحياناً تحل له معضلة فقهية لا ينسجم حلُّها مع القراءة الموجودة لكنها تنسجم تماماً مع قراءات أخرى، وختم حياته (قدس سره) وهو يلقي محاضرات (منة المنان في الدفاع عن القرآن).
ـ دراسة سيرة الأئمة (عليهم السلام) بدقة وعمق وشمولية لمعرفة أدوارهم التي أدَّوها والمسؤوليات التي قاموا بها، وكيف كانوا يتخذون المواقف المناسبة اتجاه مختلف القضايا، ومن حكمة الله تعالى وعظيم مننه على الأمة جعل أدوارهم تجربة للأمة وظروفهم مختلفة ومدة إمامتهم طويلة (مائتين وخمسين عاماً)، لتنضج تجربة الأمة وتحصل على كل ما تريده من سيرتهم المباركة، فعرف (قدس سره) متى ينكمش ومتى يتحرك، وماذا عليه أن يفعل، وكيف يتعامل مع الآخرين أفراداً أو طوائف أو سلطات، فبينما يكتب لي في منتصف الثمانينيات وكنت شاباً متحمساً للعمل الإسلامي فيقول: إننا في ظروف لعلها أشد من ظرف الإمام الحسن (عليه السلام) وحاجته الى الصمت والتقية، تجده في سنته الأخيرة يقود تحركاً جماهيرياً مليونياً في وجه نفس السلطات العاتية.
ـ الجدُّ والإجتهاد في تحصيل العلوم، لأن العلم من الركائز الأساسية في بناء شخصية القائد المصلح حتى بلغ أسنى درجاته ونال ملكة الإجتهاد. كان يقول: إنني أشتغل حوالي ثمان عشرة ساعة في اليوم بالدراسة والتدريس والكتابة والتأليف، وقال مرة (قدس سره): إنه أثناء اشتغاله بتأليف موسوعة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) كان ربما يكتب أربعين صفحة في اليوم الواحد. وهو إنجاز ضخم لمن مارس عملية التأليف والكتابة، وحتى حينما يذهب إلى بغداد لكي تزور زوجته أهلها فإنه لا يضيع الوقت بل يقضيه بالكتابة والتأليف، وقد أجمع زملاؤه وأقرانه على جِدّه حين بدأ بدراسة العلوم الدينية وانتمى الى كلية الفقه سنة (1957) وهو في الرابعة عشر من العمر، بعد امتحان أجراه له عميدها المرحوم الشيخ محمد رضا المظفر وكان متفوقاً على أقرانه.
ـ عدم انفصاله عن واقعهِ وما يجري فيه ومواكبته له، فتراه مثقفاً بثقافة العصر ويتابع تطوراته العلمية والسياسية والاجتماعية، ففي الثمانينيات نصحني بقراءة مجلة (علوم) العراقية التي كانت تعنى بأحدث أخبار العلم وانجازاته، وكان يهمُّه منها أكثر باب العلوم الباراسايكولوجية، لأنها أولاً تنسجم مع توجهاته النفسية وتعلقه بما وراء المادة، ولأن فيها حسب تعبيره لطمة للمادية الغربية التي تؤمن بالمادة والمحسوسات فقط، وكان يستمع الى الإذاعة ويطلع على ما يدور في العالم حتى حصلت عنده رؤية رصينة للأحداث. ومن بحوثه التي كتبها وأهداها لي - وهي محفوظة لدي- بحث بعشرات الصفحات بعنوان (فلسفة الأحداث في العالم المعاصر والدروس والعبر المستفادة منه)، وقد علَّقتُ عليه وأضفت إليه مثله فرغب إليَّ في أن أضمهما في كتاب. وكان مهتماً بأخبار الجمهورية الإسلامية في إيران وخطابات قائدها العظيم السيد الخميني (قدس سره)، ويستمع مباشرة باللغة الفارسية، وقال (قدس سره) في ذلك: لأنه تجري على لسانه نكات عرفانية وأخلاقية، لا تعرضها الترجمة التي تهتم بالمقاطع السياسية والمتعلقة بالعمل الاجتماعي.
ـ وبعد تحرير الجمهورية الإسلامية لأراضيها من القوات العراقية في معركة (المحمرة) في آيار (1982)، وانتقال العمليات الحربية الى الأراضي العراقية في تموز (1982) سارت الحرب سنين عجاف رتيبة ثقيلة باهضة التكاليف بشرياً واقتصادياً، فكان من وجهة نظره (قدس سره) : أنه لا جدوى من استمرارها لأنه استنزاف لطاقات بلدين شيعيين (وهو توجه السيد الخامنئي رئيس الجمهورية آنذاك)، ومقابله الرأي القائل بضرورة استمرارها حتى القضاء على المعتدي ومحاسبته، وكنت معه وأردد ما كان يقوله الساسة الإيرانيون الآخرون كالرفسنجاني والأردبيلي ومن ورائهم السيد الخميني : أن السلم المفروض أسوأ من الحرب المفروضة. فطلب مني أن نفتح حواراً عبر المراسلة طبعاً - لأنه كان تحت الإقامة الجبرية – لمناقشة الرأيين، فكتبتُ بحثاً (نظرات في الحرب والثورة) وقد أتلفته حين داهمتنا القوات الصدامية عقب الإنتفاضة الشعبانية المباركة.
ـ نزوله الى المجتمع ومخاطبته لجميع الناس بما يناسبهم وعدم الابتعاد عنهم، فقد كان إلى حين تصدية للمرجعية يذهب بنفسه الى السوق ليوفر الحاجات المنزلية، وكان يحب أن يطلع على آلام المجتمع وآماله وهمومه من دون أن يتخذ حاجباً أو (سكرتيراً).
ــ نقل أحدهم: أنه قلَّد السيد الصدر (قدس سره) بسبب الطماطة، قيل له: وكيف؟، قال: لأني سألت عدداً من المراجع وأنا أبحث عمن أقلده: كم هو سعر الطماطة في السوق، فكان جوابهم جميعاً هو الزجر، وأن هذا ليس من اختصاصنا، إلاَّ السيد الصدر فقد أجاب بالتفاصيل عن سعر الجيدة منها والرديئة، فعلمتُ -والكلام له- أن هذا هو الرجل الذي يصلح لقيادة الأمة، وسواء صح هذا أو لم يصح لكن المهم أنه يعبر عن آلية للإيمان بالقيادة وصلاحيتها، كما نقل عن ابن سينا وهو الفيلسوف العظيم : اللهم إيماناً كإيمان العجائز. أي أن هذه الوسائل الساذجة للإيمان بالحقائق قد تكون أثبت في القلب والنفس من طرق الإستدلال العقلية المتضخمة بالإشكالات والشبهات، وقد رأينا في صلاة الجمعة كيف يتحدث بلغة المجتمع فيفهمه المجتمع، ويشاركهم الحر والبرد، ويعيش في أوساطهم بلا تمييز عنهم، ويشمل بخطاباته كل شرائح المجتمع، فخاطب الحوزة والعشائر والمسؤولين السياسيين والديانات الأخرى حتى الغجر، بحيث أحس الجميع أنه منهم فيتأثرون به ولا يشعرون بالغربة والإنفصال.
ـ إستثماره لطبيعة العلاقة مع السلطة الحاكمة التي شعرت بعد الانتفاضة الشعبانية المباركة وامتداد الحركة الاسلامية في العراق بالحاجة الى الحوار مع المرجعية الشريفة، والإنفتاح عليها وتخفيف القبضة الحديدية عن بعض ممارساتها الدينية، لكي تتجنب حصول ثورة شعبية عارمة قد لا تنجو منها هذه المرة، ولكي تُبقي على وجود للقيادة الدينية في النجف، لأن انحسارها التام يعني رجوع الشيعة في العراق الى القيادات الدينية في إيران، وفي ذلك خطر عظيم عليهم، لذا كانوا حساسين جداً من مقولة انتقال الحوزة الى قم المقدسة، وحريصين على عدم حصوله، وهاتان الحاجتان كانتا تمسكان يد النظام بدرجة من الدرجات عن التعرض لبعض النشاطات الإسلامية للحوزة، في حين لم تكن تسمح بها أولاً ولا بأقل منها قبل ذلك، فاستغل السيد الشهيد (قدس سره) هذا الوضع لينطلق بمشاريعه الاجتماعية، وكانت قمَّتها صلاة الجمعة، وحينما كان يحذر من بعض الخطوات التي يراها العارفون ببطش النظام أنها تؤدي الى الخسارة كان يقول (قدس سره) : إنما السلطة لنا كإشارات المرور، فنحن نسير حتى تشعل لنا ضوءاً أحمر فنقف، ثم نتقدم وهكذاً، هذا الإستغلال الدقيق الواعي للعلاقة مع السلطة أتاح الفرصة لإنجازات عظيمة، في حين أن المتعارف على التصرف الشيعي أمام السلطات إما المواجهة غير المتكافئة والتي نتيجتها إهلاك الحرث والنسل وأزهاق أرواح المؤمنين الذين تعبت أجيال من العلماء على تربيتهم، والذين يقول فيهم السيد الخميني (قدس سره) فيما ينقل عنه: (إن بعض ما يسميه الشباب استشهاداً هو إنتحار)، أو الإنكماش والإنسحاب الذي يفوُّت الكثير من المصالح، أو الخضوع للحكام والإنسياق وراء رغباتهم وفي ذلك تضييع الدين وأهله. (4))).


------------------------------------
(1) ولدينا مثالان معروفان على ذلك، الأول: تورط مرجعية السيد الخوئي بانتفاضة عام 1991 كما سنرى، والثاني: توريط الناس في الزحف الى النجف بعد نداء أطلقه "حامد الخفاف" ممثل السيد السيستاني في بيروت في25/ 8 / 2004، كما ذكرت صحيفة الشرق الأوسط يوم الخميـس 10 رجـب 1425 هـ 26 اغسطس 2004 العدد 9403، بعنوان أن المرجعية تطالب الشعب العراقي بالزحف الى النجف لكسر الحصار، وبعد أن زحفت الجموع يوم 26/8/2004 حصلت مجزرة رهيبة راح ضحيتها المئات من الأبرياء الراكضين وراء موكب "سماحته" وهم يهتفون بحياته ونصره القادم مع ركبه، ولم تقدم المرجعية الى هؤلاء الضحايا سوى طلب فتح تحقيق من ناحية، وتنصل "الخفاف" في اليوم التالي عن مطلبه الأول من ناحية أخرى، إذ صرَّح بأنه ومرجعيته لم يطلبا من أحد المجيء الى النجف، وضاعت دماء هؤلاء المساكين بين الحكومة العراقية المنفذة للجريمة وبين الخفاف ممثل المرجعية، وهذا ليس النموذج الوحيد على عدم قدرة المرجعية غير الحركية وغير المؤهلة، وما دامت الأوضاع تتطلب الحركية فسيكون هناك المزيد من التورط والتوريط.
(2) أنظر الملحق رقم (1) الوثيقة رقم (1).
(3) اليعقوبي، محمد، الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه، ص360.
(4) المصدر السابق، ص 338 ـ 344.



#عباس_الزيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 8
- قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 7
- قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 6
- قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 5
- قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 4
- قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 3
- قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 2
- قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 1
- آدم ليس أول البشر / الحلقة 5
- آدم ليس أول البشر / الحلقة 4
- آدم ليس أول البشر / الحلقة 3
- آدم ليس أول البشر - الحلقة 2
- آدم ليس أول البشر - الحلقة 1


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عباس الزيدي - قيادة الحركة الإسلامية في العراق 1980 – 2003 / الحلقة 9