أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - مغيّبون: تجارب السوريين في التغييب السياسي خلال جيلين















المزيد.....


مغيّبون: تجارب السوريين في التغييب السياسي خلال جيلين


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 4658 - 2014 / 12 / 10 - 14:51
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


اعتقلت أجهزة النظام الطبيب الشاب محمد عرب من مدينة حلب في تشرين الثاني 2011، ولا يُعرف عنه شيء منذ ذلك الحين. لا يعرف شيء أيضا عن عبد العزيز الخير وماهر طحان وإياس عياش، وهم من جناح بالغ الاعتدال في معارضة النظام، وقد اعتقلوا في أيلول 2012. لا شيء أيضا عن الكاتب والناشط الفلسطيني السوري علي الشهابي المعتقل من مخيم اليرموك منذ كانون الأول 2012. ولا يعرف شيء كذلك عن فائق المير الذي اعتقل في تشرين الأول 2013. عرب والخير والشهابي والمير معتقلون سابقون في أماكن معروفة، وكانت تزورهم أسرهم. الأول كان طالبا جامعيا وقت اعتقل أول مرة عام 2003، وقضى الثلاثة الأخيرون، وهم من تنظيمات يسارية، فترات متطاولة في السجن، تجاوزت عشر سنوات لكل منهما في عهدي حافظ وبشار.
اليوم، الأربعة مغيبون قسرا، ولا تعلم أسرهم شيئا عن مصيرهم، ولا حتى إن كانوا أحياء. المعلومة الوحيدة الأكيدة عن الثلاثة أنهم معتقلون عند أجهزة النظام السوري.
التغيبب الطويل الأمد دون معلومات عن المغيبين ليس مقصورا على أسماء معروفة قليلة العدد. هو حال أغلب المعتقلين عند النظام في موجة الصراع الاجتماعي والسياسي السوري الحالية منذ ربيع 2011. عددهم غير معروف، لكن تتكلم بعض التقديرات على 200 ألف (سأقول لاحقا إنه سواء صح هذا التقدير الآن أو لم يصح، فإنه مضلل جدا).
قبل أيام علمت من صديق في الغوطة الشرقية أن أخوه المعتقل منذ تموز 2013 لا تتوفر أي معلومات عن مصيره، وأن الأسرة دفعت 4 ملايين ليرة سورية لزيارته أو معرفة شيء عنه دون جدوى. الرجل المغيب أربعيني، له زوجة وأولاد، وأخوه كان يتوقع مني العون في الخروج من الغوطة، وتأمين عمل في الأردن أو تركيا.
هنا معطى أساسي بخصوص التغييب على أيدي أجهزة الدولة الأسدية. يجري ابتزاز أسر المغيبين ويعمل في سمسرة المعلومات محتالون ومخبرون وضباط مخابرات وتابعون لهم. المال ينهب من الأسر كثمن لمعلومات عن أبنائها أو لإيصاله إلى عضو الأسرة المغيب أو لتحسين أوضاعه في المعتقل، أو لشراء معاملة خاصة، أو ربما ثمنا للإفراج عنه. وفي غالبية الحالات دون جدوى.
عدد المعتقلين كبير. والنقطة التي تفوت غير السوريين عموما، بما فيهم منظمات حقوق الإنسان الدولية، هي أن المهم في قياس الظاهرة ليس العدد الموجود في لحظة بعينها في السجون ومراكز التحقيق والمعتقلات المؤقتة والدائمة، بل مجمل عدد من يمرون بهذه المراكز لأوقات تتراوح بين أيام قليلة وأسابيع وشهور وسنوات. هذا العدد هائل، تقريبا كل السكان. فالجميع في موضع الاتهام المبدئي وعليهم إثبات براءتهم و"وطنيتهم" أمام حاكميهم. ربما كان عدد المعتقلين في السجون بحدود 10000 بين عام 1980 و1982، كان عدد السكان عندها نحو 9 ملايين، لكن عدد من مروا بـ"تجربة أمنية"، تبدأ من الاستدعاء والتحقيق، وتمر بالتوقيف أياما أو شهورا في الفروع الأمنية، وأحيانا سنوات، وقد تنتهي أو لا تنتهي في سجن عادي أو سجن تدمر (دياربكرنا السورية)، أكبر بما لا يقاس من عدد المعتقلين "الثابتين". وأميل إلى ترجيح أن الأمر نهج متعمد ومفكر فيه، وليس توسعا قمعيا عفويا. الغرض في تقديري هو أن يكون الحضور الرادع لأجهزة الخوف محسوسا في حياة الناس، وأن يصل حس الرعب إلى جميعهم، وبقوة، بما يثبط عزمهم على الاعتراض أو الاحتجاج. فإذا مثلنا على الأمر بهرم، كانت قمة الهرم مكونة من ألوف أو عشرات قليلة من ألوف المعتقلين وقتها، بينما قاعدته أوسع بكثير، ويشغلها من قضوا أوقاتا متفاوتة الطول في المراكز الأمنية، ومنهم من هم ملزمون بمراجعات دورية لهذه المراكز.
وبفعل اتساع هذه القاعدة الاجتماعية للاعتقال السياسي، فإنه تشتغل في نهب مقدرات أسر المعتقلين شبكة واسعة، يشغل قمتها نافذون في أجهزة قمع النظام، والمواقع الوسيطة فيها سماسرة متنوعون. هناك علاقة ثلاثية تشكل صلب الاقتصاد السياسي للاعتقال السياسي في سورية، وهي تربط بين النظام أو أجهزته القمعية التي تعتقل وتعذب وتحبس، وتحجب المعلومات عن المعتقلين والمخطوفين، وبين الأسر التي تفقد أعضاء منها وتحجب عنها المعلومات عن مصيرهم، وبين شبكات تقايض المعلومات بالمال وتتولى نهب الأهالي، وترتبط مباشرة بأجهزة النظام. هذا وجه أساسي لقضية الاعتقال السياسي في سورية منذ موجته الكبرى الأولى في مطلع ثمانينات القرن العشرين. وهو وجهي منظومي أو منهجي، وليس "فسادا" عارضا. ونرجح أن نسبة مهمة ممن تكون "تجاربهم الأمنية" قصيرة، أياما أو أسابيع، هم من الأشخاص الذي تداركتهم أسرهم ودفعت مبالغ كبيرة لإنقاذهم. فرص إنقاذ موقوف حديثا، بالتوسط عند ضابط التحقيق أو رئيس الفرع الأمني، أكبر بكثير من فرص إنقاذ معتقل منذ أسابيع أو شهور.
لهذا النهب النظم للأهالي سابقة كبرى مشهورة في ثمانينات القرن العشرين. شهد ذلك العقد تحول الاعتقال السياسي إلى مشكلة وطنية عامة بفعل اعتقال عشرات الألوف من تنظيمات سياسية متنوعة، شيوعيون وناصريون وبعثيون، وناشطون كرد، ومواطنون كتبت بهم "تقارير أمنية" لأنهم تذمروا علنا من شيء ما، نقص المواد الاستهلاكية في الأسواق مثلا، أو ظنوا أنهم في مأمن فشتموا الرئيس أو "الحزب القائد". عموما كانت الزيارة متاحة للمعتقلين اليساريين، وإن لم يقدم أكثرنا إلى المحاكمة إلا بعد سنوات من توقيفهم. أما الإسلاميون فحبس أكثرهم في سجن تدمر الرهيب والإرهابي بعد اعتقال من قبل الأجهزة الأمنية في مدن متعددة، والتعرض لتعذيب بالغ القسوة. في تدمر لا يتعرض السجناء لتعذيب يومي عشوائي فقط، وإنما هم محرومون من الزيارات أيضا، ما يجعل الاعتقال عقابا لهم ولأسرهم، وما يعني أننا حيال اختطاف في الواقع. وقتها كان مدير سجن تدمر هو العقيد فيصل غانم، أحد موثوقي النظام. والعلاقة الثلاثية المميزة للاقتصاد السياسي لاعتقال الإسلاميين في تدمر تمثلت آنذاك في المعتقل الغائب طبعا، ثم المركز الاعتقالي ممثلا بالعقيد غانم، ثم من أم العقيد التي كانت تقصدها نساء المعتقلين من زوجات وأمهات وبنات وأخوات، ويقدمن لها "الهدايا"، ومنها مصاغهن الذهبي، من أجل أن تحصل لهن من ابنها على معلومات عن زوج أو ابن أو أب أو أخ مغيب، أو أحسن أن يتمكنّ من زيارته. ويبدو أن الحصول على زيارات تحقق على نطاق ضيق جدا، ويرجح أن ثمن الزيارة كان باهظا جدا. لكن معظم الأهالي لم يعرفوا شيئا عن مغيبيهم حتى اليوم، أو عرفوا بعد انقضاء سنوات طويلة من زملاء للمعتقلين أفرج عنهم بعد عشر سنوات أو عشرين عاما. تحدثت منظمات حقوق الإنسان في مطلع هذا القرن على رقم للمغيّبين يتراوح بين 15 و17 ألفا. ويرجح أنهم أعدموا أو قتلوا أو ماتوا في السجن، ودفنوا في الصحراء حول تدمر.
كنت شخصيا أحد هؤلاء المغيبين، لكن لعام واحد فقط. بعد انتهاء 15 عاما في السجن قضت بها علي محكمة أمن الدولة العليا الاستثنائية، قضيت عاما في سجن تدمر الإرهابي، ولم يكن أهلي الذين كانو يتوقعون إطلاق سراحي قبل نهاية عام 1995 يعلمون شيئا عن مصيري.
الوجه الاقتصادي للاعتقال السياسي لم يغب يوما حتى بخصوص المعتقلين غير الإسلاميين. لم يكن تأمين الزيارة أمرا روتينيا دوما، ولا إدخال ما يحتاجه السجين من دواء وغذاء، أو من كتب، أو من زيارات خاصة أحيانا، أو ببساطة مجرد اتقاء شر عناصر المخابرات، وهم يحومون حول أفراد الأسرة الآخرين. كانت كتابة التقارير وتبلّي الناس وتلفيق التهم شيئا منظوميا أيضا، نابعا من تكوين النظام وأولياته العليا، البقاء الأبدي وما يقتضيه من ترهيب عام، وليس مسلكا سيئا لأفراد سيئين. هذا الإكراه المنظم والمنهجي، في غياب حمايات قانونية ومؤسسية، كان يضع عموم السكان في وضع دفاعي صعب، يمكن التكيف معه بقدر ما إن توفرت الواسطة القوية، أو المال الوفير. أوضاع الاعتقال لم تكون تسير وفق مسطرة قانونية معلومة، ولم يوجد قط إطار قانوني يمكن اللجوء إليه لمواجهة التجاوزات المحتملة على هذا المستوى. وهو ما يوفر هامش تلاعب واسع للمراكز الاعتقالية، من السجانين إلى الأجهزة الأمنية إلى النظام ككل، لابتزاز الأهالي مقابل الرضوخ وتجنب المتاعب، أو مقابل المال. من يفتقرون إلى الواسطة، وهم أكثرية السكان، يضطرون إلى دفع المال. يجري إفقارهم على هذا النحو واغتناء المقربين من النظام. من لا يملكون الواسطة ولا المال، يسحقون بكل بساطة.
وعبر هذه الآلية تكونت طبقة جديدة، استثمارها الأساسي هو الشيء الذي اسمه "الدولة"، هذا المركب الجهازي الذي يدر ثروات وامتيازات كبيرة عبر التشدد في معاملة السكان. والسؤال المهم هنا هو: ترى، إذا كان ممكنا جني المال بنهب أسر المعتقلين، ألن يكون مشروعا رابحا إذن اعتقال أعداد أكبر من الناس من أجل جني مزيد المال؟ أو وضع السكان جميعا في موضع مخالفين لقواعد ما كي يمكن تغريمهم ثمن مخالفاتهم؟ بصورة عامة، ألن يكون التعسف والاعتباط، حكم الطغيان عموما، مشروع نهب عام مثمرا؟ في سورية كنا في هذه المرحلة قبل تفجر الثورة. كان نهب المجتمع بلغ أطوارا متقدمة، ولم تكن هناك قواعد أو مؤسسات عامة تحمي حياة الناس.
ومشروع الاعتقال السياسي المجزي ماديا برع به الشبيحة منذ وقت مبكر نسبيا من الثورة. يوقفون على حاجزهم أشخاصا، ولا يتركونهم قبل تجريدهم مما في جيوبهم، أو يرغمون على الاتصال بذويهم لجلب فديات لهم. وحصل أن استطاع ثائرون الاستفادة من آلية الفساد الشاملة هذه، عبر افتداء أنفسهم أو الوعد بافتداء أنفسهم.
الفرق المهم بين جمهور معتقلي موجة مطلع الثمانينات وموجة الثورة هو أن معتقلي الثورة جمهور شعبي أكثر، أكثره غير منخرط في أطر سياسة أو إيديولوجية من أي نوع. قمع النظام هذه المرة توجه إلى كسر ظهر البيئات الحاضنة للثورة وتدمير شروط الحياة فيها، وليس إلى القضاء على تنظيمات بعينها كما في الثمانينات. في ذلك الوقت أيضا توسع النظام في الاعتقال خارج حدود التنظيمات، لكن الجسم الأساسي للمعتقلين كان من تنظيمات معارضة. اليوم ليس هناك جسم أساسي، وهو ما يعود جزئيا إلى سحق تنظيمات المعارضة في الثمانينات. المعتقلون أرخبيل متماد، لا مركز له ولا تربط المجموع غير اعتراض من نوع ما على النظام. بل وليس حتى هذا مؤكدا ما دام بين المعتقلين أطفال، وما دام يعتقل كل من تطاله اليد من سكان المناطق التي يقتحمها النظام، ويتعرضون للتحقيق والتعذيب. معظم المعتقلين هذه المرة لا ينالون زيارات، ولا يعرف شيء عن مصيرهم، ما يعني عمليا تعميم شرط سجن تدمر الإرهابي على مقرات الاعتقال كلها.
ومعلوم أنه تكشف أن 11 ألفا قتلوا تحت التعذيب بين مطلع الثورة وآب 2013، بمعدل 12 يوميا، ما يعني أن القتل في المقرات يرتفع إلى مرتبة صناعة منظمة. ومعظم هؤلاء لا تسلم جثثهم لأهلهم ولا يعرف أين دفنوا. وفي أكثر الحالات التي سلمت الجثث فيها للأهالي، يفرض عليهم دفن الميت سرا ودون جنازة.
من الفروق المهمة أيضا عدد ونسبة النساء العالية نسبيا بين معتقلي الثورة، ومنهن من قتلن تحت التعذيب، ومن اغتصبن بشهادة منظمات حقوق الإنسان الدولية.
وينتمي إلى أسرة التغييب العام نفسها الحصار التام لمدن وبلدات وأحياء، ليس لمنع حركة للبشر منها وإليها فقط، وإنما كذلك لمنع دخول دخول أي مواد غذائية وطبية. هذا مورس على مخيم اليرموك، وعلى الغوطة الشرقية، وعلى المعضمية وداريا، وعلى مناطق من حمص خرجت من سيطرة النظام، وفي درعا وفي حلب وغيرها. وحتى آذار 2014 مات من الجوع 126 في مخيم اليرموك. وكان 11 ماتوا من الجوع في المعضمية قبل نهاية العام الماضي، والعد الإجمالي أكبر بكثير. وطور النظام شعارا خاصا لحصار البلدات والأحياء: الجوع أو الركوع!
هنا أيضا يمكن للحصار أن يكون مشروعا تجاريا مجزيا. تتحكم حواجز الحصار بدخول المواد بأضعاف أسعارها، وكلما تشدد النظام في الحصار صار كلفة بيع خرقه أعلى. وقت وصلتُ الغوطة الشرقية في نيسان 2013، كان سعر لتر البنزين نحو 150 ليرة سورية (في دمشق نحو 30 ليرة)، في حزيران كان 300 ليرة. وفي أكتوبر، وقت إطباق الحصار على المنطقة، وصل إلى 3000 ليرة. وكيلو غرام الرز الواحد اليوم 1700 ليرة.
الشيء الجديد خلال العامين الماضيين، أي منذ خرجت مناطق واسعة من البلد من سيطرة النظام هو أن الجهات التي تقوم بالاعتقال والخطف والتغييب لم تعد تقتصر على النظام. انكسار احتكار النظام للسلاح كان في وجه منه ثوريا، يواجه النظام، ويدافع عن المجتمع ضد قوة معتدية، لكن في وجه آخر منه كان ثورة مضادة تواجه المجتمع وتعمل على إخضاعه.
الأبرز في هذا الشأن داعش التي أقمت سلطتها في مناطق الشمال والشمال الشرقي السوري باستهداف تشكيلات الثورة المدنية والعسكرية، وليس أبدا النظام في تلك المرحلة. داعش تخطف ولا تعتقل، ولا تعرف معلومات عن مخطوفيها ولا تتوفر لهم زيارات. ويحتمل أن عددهم بالألوف من عموم السكان. ومثل النظام، داعش تسحق المجتمع، ولا تقف عند الناشطين المعارضين لها. ومنذ خريف 2013 كان لديها 7 سجون في الرقة، هي مؤسسات مدنية جرى تحويلها إلى مراكز اعتقال. هي بهذا تمثل استئنافا لنهج النظام في معاملة الإسلاميين في الثمانينات والتسعينات، ولنهجه اليوم في التعامل مع أكثر سجناء الثورة. منذ ربيع 213 لا يعرف شيء عن المحامي عبدالله الخليل، ومنذ صيف العام نفسه لا يعرف شيء عن فراس الحاج صالح وإبراهيم الغازي والأب باولو دوالوليو، ثم الدكتور اسماعيل الحامض الذي اختطف في مطلع تشرين الثاني 2013.
لكن صحفيين فرنسيين وأسبانا كانت اختطفتهم داعش أطلق سراحهم مقابل ملايين الدولارات في الصيف الماضي. هذا وحده يكفي للقول إن الاختطاف مؤسسة رابحة ماليا، فوق كونها مؤسسة إخضاع سياسي في منطق سيطرة داعش.
وبقدر ما تعمل داعش على عسكرة المجتمعات التي تحكمها، وتربط نظام التعليم الذي تقيمه بحاجات بناء مجتمع حرب مسلح، فإنها تعزل النساء عن المجال العام وتحبسهن في ما يفترض أنه لباس إسلامي أسود، يحجب كيان المرأة وشخصيتها، ويعادل عمليا الاستعباد المنظم للنساء.
ويشارك جيش الإسلام الذي يتزعمه زهران علوش، وهو تشكيل سلفي عسكري عناصره سوريون، وأقل استقلالية من داعش، في أن لديه أكثر من مركز اعتقال في منطقة سيطرته الأساسية، دوما في الغوطة الشرقية. مركز الاعتقال الأساسي اسمه "سجن التوبة"، لكن من المرجح جدا أن هناك مراكز اعتقال سرية موزعة في المنطقة، والأرجح أن سميرة الخليل ورزان زيتونة وائل حمادة ناظم حمادي في أحد هذه المقرات. منذ خطفهم قبل نحو عام من اليوم لا نعرف معلومات عنهم.
وجبهة النصرة من النموذج نفسه، وتمارس الاختطاف والتغييب بالمنهج نفسه. قبل شهور كان الدكتور أحمد البقاعي مختطفا لدى الجبهة التي حلف قادتها الأيمان المغلظة على أنه ليس لديهم. وحين ووجهوا للأمر بعد اضطرارهم للإفراج عنه، قالوا: هناك فتوى لهذا النوع من اليمين!
هذه المجموعات كلها تتطلع إلى سلطة مطلقة في مناطق سيطرتها، وأول علامات السيادة التي تبنيها هي مراكز الاعتقال. وكلها تمارس التعذيب كشيء روتيني. وثاني العلامات، احتكار المعلومات ومنع السكان من الحصول المستقل عليها. وهي بذلك تنسخ بنية النظام الأسدي، وإن اختلف الختم الإيديولوجي.
عاش السوريون في منسى عالمي، في ظل نظام حافظ الأسد، واعتقل عشرات الألوف ومنهم وقتل عشرات الألوف دون أن تجري تغطية ذلك بعشر مقالات في صحف العالم. كان الوضع من هذه الناحية أحسن بما لا يقاس في بداية الثورة، وغطى السوريون بأنفسم ثورتهم، وإن ووجهوا بالتشكيك خارج سورية، من تيارات اليسار التقليدي بخاصة. لكن في طور لاحق اتجهت التشكيلات العسكرية السلفية إلى التحكم بحركة المعلومات مثل النظام، وتفضيل إعلاميين تابعين لها مثل النظام أيضا، وصولا إلى خطف وقتل الصحفيين من قبل داعش.
في كل الحالات نحن أمام ما يقارب امحاء الفرق بين السياسة والجريمة. وراءنا في ذلك حجْر سياسي لمدة جيلين على المجتمع، ومستويات مذهلة من تعنيف السكان وإذلالهم. الدولة الأسدية هي النموذج الذي لا يعرف غيره قادة السلفية العسكرية السوريين، ولا يعرف قادة السلفية العسكرية العراقيين وغيرهم غير أوضاع سياسية لا تكاد تختلف عن الجريمة المنظمة في شيء. فإذا كان مستوى العنف الأسدي ممكنا وطوال سنوات وعقود، فإن مستوى عنف السلفية العسكرية يغدو ممكنا بدوره.
عند المجموعات الإسلامية تلعب فكرة الشريعة والحكم الإسلامي دور تشريع الاستيلاء على السلطة وعلى المجتمعات المحكومة. الفكرة هنا، مثلما هي عن النظام، هي السيطرة التامة على المجتمعات وتعليبها في إطار ضيق، بما يتيح استقرار الحكم بيد نخب جديدة. في كل الحالات السلطة مفتاح الثروة، وهي المشروع الأساسي للامتياز والنفوذ. ولعل السند المطلق للإيديولوجية الإسلامية مؤهل لأن يكون قاعدة عَقَدية لأشكال أشد قسوة من الفاشية والهندسة الاجتماعية والديمغرافية، ومن تشريع الاستعباد والتمييز العنصري والقتل الجماعي. كمجتمع حرب لا ينتج شيئا، داعش لا تستطيع أن تتوقف عن التوسع كي تبقى، هذا يتطلب عسكرة الذكور كلهم ومركزة التعليم حول العسكرة على طريقة النظم الفاشية والشمولية، والقتل العاجل للخصوم، والعزل التام للنساء.
في كل الأحوال يمد التغيب القسري للمخطوفين والمعتقلين، وحصار المناطق وتجويعها، جذوره في تربة نظام لتغييب السياسة أو الحجر السياسي على السكان عموما. كان في مراكز الاعتقال في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته عشرات قليلة من الألوف، لكن كانت هذه المراكز، وسجن تدمر منها بخاصة، المصانع الحقيقة لعلاقة الإخضاع العام التي تعم السوريين كلهم، أي للعبودية السياسية للسوريين غير المسجونين.
كانت الثورة السورية تمردا اجتماعيا على نظام الحجر السياسي وجهدا جماعيا جبارا لامتلاك السياسة. لكن بفعل التحطيم المنظم لبيئات الثورة بالعنف الشامل، ثم ظهور الجماعات السلفية العسكرية التي لا تحجر على السكان سياسيا فقط، بل ودينيا أيضا، أعني تجردهم من ملكية الدين أيضا، صارت شروط التحرر السوري وامتلاك السياسة تمر بمواجهة الفاشيين القدامى والجدد، فاشيي ربطة العنق وفاشيي اللحية، ونمطهما المشترك في الاستيلاء على الثروات العامة والخاصة: النهب والإرهاب والحجر السياسي على السكان.
أخيرا، تظهر هذه المناقشة الأهمية السياسية الحيوية للقوانين والمؤسسات التي تحمي حياة الناس، وتحول دون الاعتقال التعسفي والإذلال والابتزاز. ما أطلق يد طغمة النظام الأسدية في حياة السوريين، وما شكل نموذجا تبني على غراره الطغم السلفية الجديدة، هو افتقار السوريين للعدالة القانونية والاجتماعية، وللرقابة الاجتماعية على السلطة العمومية. الضمانات القانونية العامة لتسيير حياة الناس ومصالحهم ليست قضية قانونية أو حقوقية شكلية، إنها قضية سياسية واجتماعية، وهي البيئة الأنسب لحياة عامة تصون كرامة السكان وحيوية المجتمع.
أعتقد في النهاية أننا، السوريين في قلب صراعنا الاجتماعي والسياسي الكبير، بحاجة إلى إرساء مبادئ قانونية أساسية تصون حياة الشخص البشري وحريته وكرامته وأمنه وعمله، شيء يعادل وثائق الحقوق التاريخية الكبرى التي عرفتها مجتمعات أخرى.
نقاوم الغياب وحرّاسه بما يحمي الحياة من قواعد وقيم.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أربعة وأربعون شهرا وأربعة وأربعون عاما/ 2- حروب ضد العامة
- امرأتان ورجلان من سورية
- سميرة ورزان: وقائع أسطورة معاصرة
- هل الضمير الإنساني واحد؟ والمسلمون شركاء فيه؟
- من تصورات الديمقراطية إلى «النظرية الديمقراطية» في المجتمع؟
- هل سلفيو داعش بشر مثل كل البشر؟ وعقولهم مثل عقول جميع الناس؟
- في أية بيئات سورية ظهرت السلفية العسكرية؟
- أربعة وأربعون شهرا وأربعة وأربعون عاما/ 1- طماشتان
- أنماط الاعتقال السورية من وجهة نظر الأهالي
- علمانيو سورية وإسلاميوها: شراكة غير مؤسسة أو مخاصمة غير تحرر ...
- أنماط الموت السورية، مصنفة حسب القاتلين
- جانب من سيرة الإشاعات السياسية في سورية
- ياسين الحافظ وعبالله العروي
- طفرة في التفكير لفهم طفرة -داعش-
- كرد، عرب وترك، وأميركيون...
- بعد ركود مديد، هذه الجِدّة السورية التي لا تطاق
- تقاطع تاريخي: تشيُّع السنة وتسنُّن الشيعة
- إرهاب أعمى، ومحاربة إرهاب حولاء!
- صراع المناهج: في الحاجة إلى منهج مركب لمقاربة الظاهرات الإسل ...
- العربية والأصولية: تأملات لغوية (ودينية) سياسية


المزيد.....




- حاول اختطافه من والدته فجاءه الرد سريعًا من والد الطفل.. كام ...
- تصرف إنساني لرئيس الإمارات مع سيدة تونسية يثير تفاعلا (فيديو ...
- مياه الفلتر المنزلي ومياه الصنبور، أيهما أفضل؟
- عدد من أهالي القطاع يصطفون للحصول على الخبز من مخبز أعيد افت ...
- انتخابات الهند.. قلق العلمانيين والمسلمين من -دولة ثيوقراطية ...
- طبيبة أسنان يمنية زارعة بسمة على شفاه أطفال مهمشين
- صورة جديدة لـ-الأمير النائم- تثير تفاعلا
- الدفاع الروسية تعلن إسقاط 50 مسيرة أوكرانية فوق 8 مقاطعات
- مسؤول أمني عراقي: الهجوم على قاعدة كالسو تم بقصف صاروخي وليس ...
- واشنطن تتوصل إلى اتفاق مع نيامي لسحب قواتها من النيجر


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - مغيّبون: تجارب السوريين في التغييب السياسي خلال جيلين