أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حياوي المبارك - جوزتو















المزيد.....

جوزتو


عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)


الحوار المتمدن-العدد: 4653 - 2014 / 12 / 5 - 12:44
المحور: الادب والفن
    



(( جوزتو ))

كنت اتساءل لو ان العطر ـ وهو رذاذ لمواد كيمياوية تتحسسه انوفنا ـ يمكنه ان يبقى في الجو لفترات طويلة، شأنه في ذلك شأن الضوء الذي يقطع ملايين الاميال في الفضاء وألوف السنين الضوئية، أو شأن الصوت ـ الذي تجري البحوث عليه اليوم ـ لأثبات بقائه في الاثير كطاقة لا تتلاشى أبداً، بحوث دفعت بعض الباحثين لمحاولة تسجيل صوت السيد المسيح في بيت لحم قبل ألفي عام.

من يدري، ربما سيتمكن العلماء من تسجيل خطبة الحجاج بأهل العراق و(تنزيلها) على موبايلات سياسيي العراق، علـّهم يتعظون ويستغفرون ربهم !

ولكي لا نتقرّب من السياسة و(دوخة الراس)، لنعود للعطور، فلو تمكن العلم يوماً أن يخترع الجهاز الذي يتحسس العطور الفرنسية الفاخرة وبعد سنوات من أطلاقها في الجو، فأنني سأثبت لكم حكايتي واُبرهن بأن ( يوم دخول سيدة الى سوق بغداد) لم يكن ... مجرد كلام.

× × ×

كان هو الشاب الوحيد غير المندائي من بيننا نحن عمال ورشة الصياغة الواقعة بشارع النهر سوق بغداد في منتصف الثمانينات، وكان لا يجلب طعامه مثلنا من البيت.
ولأن سلصة اكلة (الكُشري) من مطعم المصريين الواقع فوقنا بالطابق الأول والتي كانوا يوصّلوها له (بزمبيل) مربوط بحبل ... (مَ تنجرع)، كان المسكين يضطر لمشاركتنا طعامنا، ولأجل ان يكسب رضانا ويداري حرجه، يقوم بتسخين (سفرطاساتنا) وتجهيز محتوياتها، ثم غسل الأواني وأعداد الشاي على (طابوكات الكورة الساخنة).
في احد الايام، جلب صاحبنا (علاكة) نايلون انيقة، مطبوع عليها كلمات انكليزية لماركة أجنبية، أزدحمت بداخلها أواني (دسبوسبل) عميقة بغطاءات شفافة، تعبقُ منها حتى قبل ان فتحها رائحة طبيخ زكية سلبت لبّنا !

ظهر أنها تحوي طعام وفير، بدا أن مَن طبخَـ( تـ )ـهُ كانت تعلم جيداً أن رائحة وطعم أكلها لا يقاوم، فضاعفت كميته فوق حاجة صاحبنا !

دفعتنا تلك (الرائحة) اللذيذة لمشاركتهُ طبقه، وأن نأخذ اجازة من طعامنا المعتاد !

يومها ولأن لاتوجد مواعين للغسل، فقد اكتفى بأنتظار أن نُعد (نحن) له الشاي، كنا كعزاب و(أكّالة) ممتنين له وسعداء بأكلة (خمس نجوم). لكننا لم نكتفِ بأشباع بطوننا، بل أردنا أشباع فضولنا، ففي وقت العصرية وبينما كنا (نرص بريكات اللحيم) توسلنا أن يبوح لنا عن مصدر مأدبته الشهيّة هذه، ووعدناه بكتمان سره ...

في أحدى الأماسي، وبينما كان يجلس في محل ألعاب ألكترونية* في شارع الربيعي بزيونة، أنهال صاروخ (سكود) ايراني أعمى على أحد أجزاء شارع محمد القاسم فأرتطم به ودوّى صدى أنفجار هائل ليُحدث أرتباك بين الناس فتشتتوا خوفاً وجزعاً !

من بين ممن تحرك، لفت نظره سيدة محترمة (شويّة) اصغر من اُمّه، تصرفت بأتزان وشجاعة، وحين تعرّف عليها، ظهرت أنها سيدة لبنانية تعيش لوحدها في مشتمل بزيونة وتعمل وسيط بين (تجار) أردنيين وعراقيين.
وبمرور الوقت يبدو أن علاقتهما تطورت لتصبح (حميمة) جداً !

لم نعِ مدى ما وصل به الأمر معها ولا أسباب تأخره وغياباته المتكررة، ولم نفهم لماذا كان غير مكترثاً باستقطاعات اسبوعيته، حتى وصلت الشتائم بينه وبين أخيه الاكبر امام الورشة يوماً للاشتباك بالايادي، بعد ذلك حضر والده للورشة وانهال بالغلط عليه وبتوبيخه، قائلاً بأن أمه لم ترَه منذ أيام !

كان الشاب فيما يبدو، يدفع ثمن (وسامته)، فأصبح على الدوام يبدوا متعباً شارد الفكر قليل التركيز.
لم يطل الأمر به في أيديها كثيراً، فقد استطاعت أن (تلبسه) وبسهولة خاتماً في أصبعها، وجعلته يترك العمل وأشترت له سيارة حديثة، وجال فيها محافظات العراق الجنوبية يبحث لها عما يشبه ... (الكنز) !

× × ×

ـ مُهربة للآثار ربما، قالا أبواه، وغمغما : الله يستر !
كنا نستمع لحديث أمه وأبوه وهم يصطحبانا نحن زملاء العمل الى بيتها في زيونة، حيث كانا قد ترجّانا مرافقتهما بالذهاب (هدّادة) والهجوم على عش ولدهم الذهبي لحسم أمره معها، وكانا من فرط تعصبهم وثورانهم يهددان ويتوعدان طوال الطريق بأن البنت ستتلقى درساً سوف لن تنساه، لكننا ترجيناهما اللطف بها، وان الذنب ـ قلنا ـ يعود كذلك على الولد لاشك.

وما ان استقبلتنا بمودة ونعومة، حتى احتوتهما ليعودا فيترجاها، ثم تنافسا في تقديم التنازُل لها بمقابل اطلاق سراح الشاب من شباكها، وتزايدا في ثنائها وطلب تعاونها !

فصار لقاء يتسم بالاحترام والاتيكيت، ولم تدع هذه السيدة القوية أي منفذ لادانتها، وصرحت وبكل صراحة بأن أبنهم صار حبيب قلبها ورفيقها والذراع الايمن لتجارتها، ولِمَ لا وهي تدير الحديث بأسلوب ناعم ولهجة متميعة حتى وضعتنا كلنا وبهوستنا وعلى رأي المثل (بجيب الخُردة)...
ثم أخرجت ورقة مطوية من درج منضدة قريبة وصارت تلوح بها لتقول بصريح العبارة بأن ما في يدها ورقة تقول أنها ... جوزتو !

× × ×

بعد عدة أيام وبينما خرج (دونجوان) من البيت بمهمة خاصة وسرية وقد استخدم (بيكب الشغل)، حاولنا معرفة تلك المهمة وأين، فشلت مساعينا أول الأمر لولا أن بعض (العيون) في شارع الربيعي قامت بإفشاء سر هذه السيدة اللغز، كانت تعمل على شراء وتجميع وتهريب فسائل النخيل (البرحي) فقط، ولها اسمها و(ثِقلها) بسوق (تجارة) الأصناف الجيدة في عَمّان !

لم يطـُل الحال بصاحبنا كثيراً، فقد استطاعت ان تُهربهُ مع صفقة فسائل الى عمان عبر طريبيل بزمن منع السفر، وكانت قد أغدقت من (حلالها) في سبيل ذلك الكثير.

لم يمكث الشاب سوى بضعة أشهر بعمان بإدارة أعمالها فترة مكوثها ببغداد، حيث وصل فجأة إلى أجمل بلد بأوربا، واتصل الرجل بنا غير ناكر العِشرة كما هاتف أمه وطلب الصفح منها وأبلغها إنما كانت نزوة وقد (اجتازها) وتزوج من شابة مثقفة، بنت شيخ عشيرة أردني، كان قد تَعرّف عليها خلال أشهر وجوده بعمان وهو بصدد لم الشمل.

وترك لوالده اسم عشيرتها (المعروفة) بالأردن، وأكد بأنه نَسب يُشرّف وان زوجته وأبوها الشيخ بصدد زيارتهم لبغداد من اجل التعرف وتقوية الأواصر، خصوصاً والبنت ... حامل.
تنفس الكل الصعداء وشكرنا الله لسلامته و(فلتانه) من الشرك واستبشرنا خيراً.

× × ×

وما ان مرت أسابيع وإذا بسيدة (تهز) أركان سوق بغداد وتنير عتمته، فـُتحت العيون والأفواه واستنشق العمال عطر فرنسي فاخر واستمعوا لصوتٍ ملائكي.

جاءت (جوزتو) للورشة بعد (غارة) قامت بها على أهله لم تسفر عن نتيجة، لم يستمر بنا الأمر كثيراً ونحن نعيش هذه النشوة، فبعد أن حاولت الحصول على عنوان (نسابة) صاحبنا بعمان وفشلت، حمّلتنا الذنب ولم تدُم ابتسامتها كثيراً، فلقنتنا درساً في الآداب والأخلاق لم نسمعه مثله من قبل، فتجمع الجيران أفواههم مفتوحة وآذانهم صاغية وأنوفهم مشرعة تلتقط عبير عطوراً منعشة !

خرجت تهدد وتتوعد بأنها سوف تستعيد (زوجها) ممن سرقته منها ولو بعد عشر سنين !
تساءل الجايجي المصري بهمس : عايزة تنتزرو عَشَرْ سنين ... (الوسخة) !

خرجت كما دخلت السوق تاركة عَبيرها يسبح في أثير سوق بغداد لعدة أيام، عدة أيام ونحن نشمُّ (العطر الفرنسي) ونسترحم ذلك اليوم المميز، يوم ... دخول سيدة في سوق بغداد !

× × ×

اليوم حينما أرى كيف (غزا) التمر البرحي الأسواق وجعل بلدان اخرى تُصدره بدل ما كانت تستورده، أدرك بأن جهود (جوزتو) لم تذهب سُداً، فبعد سنين على زراعته على (ضفتي) نهر الاردن، بدأ النخيل يُثمر.
من يعلم فربما التمر المتوفر هذه الايام بأوربا والذي يصل سعر الكيلو لثمان يوروات إنما من فضل تجارة المدام (طيبة العطر)، وأكيد لهذه النخلات المنتجة اليوم في الأردن وعلى أمتداد خارطة (فلسطين)، أعمام بصاروة وأخوال كرابلة !

عماد حياوي المبارك


× كانت محلات ألعاب (الفليبرز) ومطاعم الوجبات السريعة (التيك اوي) في الثمانينات قد انتشرت ببغداد بكثرة.

× كلمة (وسخة) التي استخدمها العامل المصري، كانت تتناقض وواقع الحال ، فعطرها الفرنسي الذي كان يسبح بأجواء ذلك السوق قد سبح بحرية في أثير ذلك السوق المظلم لقبر !



#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)       Emad_Hayawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وداعاً سنت كلاس
- تيتي ... تيتي
- بركاتك شيخ سلام
- أنتوشات
- شيخصملي
- أرنبون


المزيد.....




- الكويت.. تاريخ حضاري عريق كشفته حفريات علم الآثار في العقود ...
- “نزلها لعيالك هيزقططوا” .. تردد قناة وناسة 2024 لمتابعة الأغ ...
- تونس.. مهرجان الحصان البربري بتالة يعود بعد توقف دام 19 عاما ...
- مصر.. القضاء يحدد موعد الاستئناف في قضية فنانة سورية شهيرة ب ...
- المغربية اليافعة نوار أكنيس تصدر روايتها الاولى -أحاسيس ملتب ...
- هنيدي ومنى زكي وتامر حسني وأحمد عز.. نجوم أفلام صيف 2024
- “نزلها حالًا للأولاد وابسطهم” .. تردد قناة ميكي الجديد الناق ...
- مهرجان شيفيلد للأفلام الوثائقية بإنجلترا يطالب بوقف الحرب عل ...
- فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي ...
- انقاذ سيران مُتابعة مسلسل طائر الرفراف الحلقة  68 Yal? Capk? ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حياوي المبارك - جوزتو