أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كلكامش نبيل - ملحمة وطن – قراءة في رواية -الحريّة أو الموت- للكاتب نيكوس كازانتزاكيس















المزيد.....


ملحمة وطن – قراءة في رواية -الحريّة أو الموت- للكاتب نيكوس كازانتزاكيس


كلكامش نبيل

الحوار المتمدن-العدد: 4559 - 2014 / 8 / 30 - 01:30
المحور: الادب والفن
    


الحريّة أو الموت، ملحمة حقيقيّة، ملحمة حياة وموت، حب وغيرة وكراهيّة، نضال وبحث عن السلام، أفراح وأتراح، تساؤلات بأجوبة وأخرى كل ما نملكه عنها إفتراضات قد تصيب أو تخطيء، هي رواية تصوّر حياة أمّة تصرّ على البقاء وتكافح من أجل حقوقها وسط تغاضي العالم الذي تحكمه المصالح عن مساعدتها وعجز الوطن الأم عن مساعدتها. هي رواية أزليّة تتكرّر في كلّ يوم على اماكن مختلفة من بقاع هذه الارض لتثبت أنّ التكافل البشري يكاد يكون كذبة، فلا يشعر بالألم إلاّ من يختبره وقلّة ممّن ينتمون للإنسانيّة المتجرّدة.

تبدأ الرواية في وصف الظلم الذي يشعر به الكريتيّون تحت الحكم العثماني، وتصميم بعض فرسانهم على أن ينالوا الحريّة يوما ما، وعن الأحقاد المؤجّلة، وإحتفاءهم بقادة الثورات القديمة وتعليقهم صورهم على جدران منازلهم، وبكاءهم سقوط القسطنطينيّة وهم أنفسهم تحت حكم أجنبي، هي رواية تحكي لنا عن مؤاخاة بالدم بين الكابتن ميخايليس "بطل القصّة" ونوري بك وكيف أنّ هذه المؤاخاة لا تستمر لأنّ كلّا منهما يضمر في قلبه الشرّ للآخر، فنقرأ مشاعر الكابتن ميخايليس، "لقد ولدا في نفس القرية، الأول بك له كل شيء، والآخر رعيّة – أدنى من كلب!" ومن ثمّ تزداد المشاكل فيما بينهم عندما تدخل إمرأة في خضّم ذلك الصراع، أمينة، زوجة نوري بك الشركسيّة، فيشعر نوري بك بالإهانة لأنّ أمينة تعتقد بأنّ ميخايليس اقوى منه – بالإضافة لكونها جارية باعها والدها لنوري بك - وتقع في غرامه رغم أنّه لا يأبه لها ويخفي مشاعره حتّى النهاية.

تغرق الرواية في وصف مشاعر أهل كريت حيال أرضهم ورغبتهم الجامحة في أن تتحرّر، فنقرأ عقب أن يهزّ الجزيرة زلزال لا يؤدّي إلى خسائر ما يلي، "ليس الزلزال شيئا ذا بال يا بيترودولوس، كريت شيء حي، وهي تتحرّك ويوما ما سوف أرى كيف تجد طريقها لترتبط باليونان."، ونقرأ مشاعر المغتربين العائدين من بلاد الفرنجة وهم يحلمون بأرضهم، الفقيرة والعزيزة رغم كلّ شيء، ففي هذه الرواية نشعر بأنّ الأرض دماء تجري في العروق، لا يمكن التخلّي عنها، رغم الأسى والألم، ولا يمكن أن نقرأها من دون أن نتذكّر آلام أوطاننا في الشرق، في رواية تساعدنا على أن نتفهّم أنّ من الواجب الوقوف إلى جانب وطننا في محنته، كما وقف أهل كريت مع ارضهم دائما، رغم أنّهم كانوا يتساءلون أيضا إن كانت هذه الأرض تحبّهم ام لا، فنقرأ، " ثائرة قاسية هذه الأرض .. ما أصعب فهمها، إنّها لا تتيح لأبناءها لحظة واحدة من الراحة أو الرقّة أو الإسترخاء، وإنّ فيها لشيئا ما غير إنساني، وان المرء ليحار في أمرها، أهي تحبّ ابناءها أم تكرههم؟ ولكن المؤكّد أنها تظل تقرعهم حتى تسيل دماؤهم."

في الرواية ايضا نقاش عن الحرب والسلم، وكيف أنّ من ينتمي للأرض ويملك شيئا عليها يتألّم لكل خراب يصيبها، عكس الأشخاص المؤدلجين، ممّن تعميهم الكراهيّة ويتشوّقون لليوم الذي تراق فيه الدماء، ونجد ذلك واضحا في النقاش الدائر بين سليم أغا والمؤذّن، بعد أن طرد الكابتن الأتراك من المقهى ليتناول قهوته منفردا، فأخذ المؤذّن يحرض على اليونانيين ويريد إرتكاب مذبحة تأديبيّة بحقّهم، فنقرأ الحوار التالي: أنت لا تملك أشجارا، ولا كروما ولاحقولا، وإنّك لا تعرف أحزان الارض والرجال والنساء، ولكن سلني أنا .. سل الأشجار والزرع، أتراها تريد مذبحة؟ كلا إنّها لا تريد إلاّ السلام.
وصاح المؤذّن وهو يشير إلى القرآن
أنا لا أسأل الأشجار والزرع ولا أسال الناس، ولكنّني أسأل الله سبحانه!
ثم عاد فأخرج القرآن وفتحه، ولكنّ الباشا ردّ يده وهو يقول:
تستطيع – ما دمت تقصد – أن ترى لكل سؤال جواب في القرآن...تريد مذبحة؟! إفتح المصحف وستجد – ما دمت تقصد – تبريرا لها، وإذا فتحه سليم أغا فسوف يجد كلمات أخرى عن السلام .. وكلا الأمرين من عند الله .. كلاهما من عند الله.
ففي هذا الحوار يبدو جليّا حبّ المزارعين للسلام، وخصوصا وأنّ المحصول كان وفيرا في ذلك العام، وكيف أنّ النصوص الدينيّة قابلة للتأويل بشكل يجلب الشر أو الخير وفقا للمصالح الشخصيّة والنفسيّات التي تقوم بإستغلالها لتبرير دوافعها وتحقيق مصالحها.

من القضايا التي تناقشها الرواية أيضا، موضوع الإنسانيّة، ورفض القتل والدماء – على الرغم من أنّ الفرسان يرفضون تماما ما طرح على لسان شخصيّات هشّة – فنجدهم يدينون المتعلّمين ويعتبرون من يمسك قلمه كسلاح على أنّها وظيفة من لا يمكنه فعل شيء، ولكنّ هذا الأمر يسقط في النهاية عندما يموت عازف القيثار فيندوسوس – الذي سخر منه الكابتن ميخايليس ومن رجولته – و"كوزماس" إبن أخ الكابتن ميخايليس – الذي عاد من بلاد الفرنجة – برفقة آخر ستّة بقوا يقاتلون الجيش التركي، ليتّضح أنّ الجميع يحبّون وطنهم ومستعدّين لأن يموتوا من أجله في جنون، وأنّ لكل شخص وظيفته ورسالته في الحياة، بل يوضّح الكاتب اهميّة العلم عندما يصر العجوز سيفاكس "والد ميخايليس" على أن يعلّمه حفيده ثيراساكي الكتابة – بعد أن بلغ المائة عام – ليخطّ على جدران المدينة وعلى جرس الكنيسة وجدار المسجد عبارة "الحريّة أو الموت".

رغم إغراق الرواية في أحداث القتل والحرق والموت، إلاّ أنّ بعض شخصيّاتها غاية في الإنسانيّة، فنقرأ على لسان أحدهم قوله، "كيري إليسون"! لقد مرّ بخاطري سؤال .. كيف يمكن لإنسان أن يرفع سكّينه ليقتل إنسان آخر! لا أستطيع أن أفهم .. إنّني لا أقوى على ذبح حمل، هل قلت حمل؟ لا – هل تصدّق يا كابتن أن قطع خيارة يجعلني أرتعد؟" وتحاول الرواية توضيح أنّ القتل لم يكن هدف الكريتيين أبدا، بل أن ينالوا حريّتهم ولكنّ الدماء ثمن تلك الحريّة، وهو ما يأسف له الكثير منهم. توضّح الرواية أيضا كيف أنّ البعض لا يفهمون كل الفوارق ويعيشون معا، من خلال إستعراض شخصيّة أفندينا روث الخيل – التركي الذي يحبّ اليونانيّين ويعشق خمرهم ولحم الخنزير ويطلب منهم أن يجبروه على تناوله كي لا يعدّ إنتهاكا ذاتيّا لدينه ويبرّر فعله يوم القيامة بأنّ كان مجبرا على ذلك – وصديقه اليوناني، وكيف أنهم يؤمنون بانّ الكل بشر، وتتجلّى سخريّة الحبكة، عندما تظهر عمق صداقتهم الحقيقيّة – رغم كونهما مهمّشين في المدينة – وكيف أنّ محبّتهما حقّة وقد غلبت اللقاء الكاذب بين الباشا والمطران من أجل إعلان السلام، ذلك اللقاء الذي قضاه كلّ منهما نائما على كنبته، والشعب ينتظر في الخارج توقيع معاهدة السلام، وحيّا الرجلين الممسكين بيد بعضهما البعض على مضض، وسط فرحة الشعب بعودة السلام، كما تتجلّي في عدّة مواضع مدى سخريّة الحرب التي تنتهي بطرق غاية في السذاجة، ولكأنّ شيئا لم يكن ولكأنّهم لم يقضوا على حياة أناس وأحلامهم بسبب جنونهم، فعندما نقرأ بأنّ مذبحة بحقّ يونانيي كريت تنتهي بمجرّد تدخل المطران وأقناع الباشا ليوقف هذا، فيقرع الأخير طبول السلام ويقف كل شيء، لا يسعنا إلاّ أن نفكر في مدى حماقة بني البشر، وكيف أنّ الكثير منهم ينتظر الفرصة المواتية ليطلق الوحش في داخله – الوحش الذي يعبّر عن حقيقته – حتّى يأتي القانون من جديد ليحبس ذلك الوحش من جديد. الحرب أكبر حماقات بني البشر ودليل على مدى بدائيّتهم.

من أكثر الموضوعات التي تقلق الكاتب على ما يبدو، موضوع الكهولة والموت، فنقرأ خوف الكاتب وحزنه من التردّي الذي يصيب الإنسان بسبب الكهولة على لسان إحدى الشخصيّات، "إنه لمن المؤسف حقّا أن الشباب في الكائن البشري لا يدوم ألف سنة! أيمكن أن يكون السبب أنّ الله يخشى أن نأخذ منه عرشه؟ ألهذا السبب يا ترى يجرّدنا في حذق من أسلحتنا .. قطعة فقطعة؟ فهو يخلع أسناننا، ويلولب مفاصلنا ويضعف كلواتنا ويلقي العتامة فوق عيوننا ويجعل أنوفنا وأفواهنا تقطر الوحل والبصاق .. إن الموت لا يقلقني، بحقّ روحي إنّه لا يقلقني، فهناك شيء ينبغي أن يقال في صدد التغلّب تماما على هذا القلق، ولكنّي لا أطيق صبرا على أن أنحدر شيئا فشيئا لأصبح مجرّد صورة." كما نقرأ عن شعوره بأنّ موت البعض ظلم بالغ، وإن كان يمجّد الأبطال دون سواهم، فهم وحدهم من يجب أن لا يموتوا وفقا لنظرته. ويبدو موضوع الموت شبحا يطارده، كما يطارد شبح والد كوزماس أسرته ويؤرّق حياتهم، فنقرأ في الوداع الأخير للعجوز سيفاكس كيف أنّه يطلب من أصدقاءه الكهول وهم يحتفلون قائلا، " ثبّتوا أقدامكم جيّدا فوق الأرض التي سوف تأكلنا يوما ما. ويبرّر الخوف من الموت في مكان آخر قائلا، "إنّ الرجل الذي لا يخشى الموت – يخشاه حتّى الله!"

أمّا غاية الحياة في نظر الكاتب فيمكن أن نراها في مواضع كثيرة، وتبدو فكرة الخير والشر مسيطرة عليه، وغياب العدالة أيضا موضوع يؤرّقه ولكنّه يرى بأنّ الخير والشر حليفان وبعضهما يكمّل بعضه، وكأنّه قد حلّ أزمة غياب العدالة الكونيّة بمثل هذه الصيغة، فنقرأ، " الدنيا عجلة! عجلة دائمة الدوران! وحين كان البعض يسأله: ومن الذي يديرها يا جاكوميس؟ كان يقول: الله أحيانا والشيطان أحيانا أخرى، فالإثنان متحالفان، أحدهما يخرّب والآخر يبني، ولن تجد واحدا منهما إلاّ وهو مشغول بعمله." ونقرأ أيضا ما يوضحّ عبثيّة الحياة وضرورة التمسّك بها رغم كل شيء في آخر حوار بين العجوز سيفاكس وأصدقاءه، " لقد عشنا حياتنا كما إتّفق، وسوف نموت أيضا كما إتفق، كسفينة بلا دفّة، شراعها منتفخ بالهواء. إن الريح لتهب، ونحن نمضي في إتجاهها، ان الماء ليقتحم علينا السفينة ونحن نلتصق بالمضخات نعمل عليها ليل نهار .. ولكنّ الماء يرتفع .. والمضخّات صدئة لا تعود تعمل بعد .. ثمّ إذا نحن في قاع البحر. هذه هي حياة البشر مهما صرخت وصحت .. فما واجبنا نحن؟ واجبنا أن نظل لصيقين بالمضخّات ليل نهار، لا أن يبسط كل منا ذراعه، ولا أن نشكو، ولا أن نئن. لا ينبغي أبدا أن نستسلم، وإنّما الذي ينبغي حقّا .. هو أن نظل نعمل بالمضخّات ليل نهار .. هذا هو الذي تعلّمته من الحياة." بينما يرى الصديق الآخر بأنّ الحياة شيء لا بدّ منه وأنّ الموت نهاية حتميّة يجب أن نتقبّلها، " لقد فتح الباب المغلق وأنطلقت الأرواح لتسمعها .. من أين جئنا؟ هكذا سألتني. لقد جئنا من باطن الأرض يا كابتن سيفاكس. وإلى أين نمضي؟ هكذا أيضا سألتني. نحن نمضي إلى باطن الأرض يا كابتن سيفاكس. وما واجبك اذن؟ أن تأكل إذا كنت ذئبا، وأن تؤكل إذا كنت حملا. وأنت تسألني عن الله: فهو الذئب الاكبر – فإنّه يأكل الذئاب والحملان معا."

تناقش الرواية أيضا موضوع العدالة الإلهيّة بقوّة، ففي عيد القيامة نجد الكابتن ميخايليس ممتلئا بالغضب ونقرأ بأنّه عندما كان يصلّي "لم يكن يطلب الرحمة، ولكنّه كان يطلب العدل" ونقرأ أيضا في مكان آخر من متن الرواية الضخم، عن الحزن الذي يعتمل قلوب من كانوا يعوّلون على القوى العظمى لتساعدهم من أجل أن يتحرّروا، ودفاعهم عمّا يقومون به، وأنّ صراخهم ليس عبثيّا، فنقرأ، "إنّ الصرخة لا يمكن أن تضيع هباء، فالصوت يسبق الأذن التي تسمع، والأذن لم تخلق إلاّ لتسمع النداء والصراخ يا سيّدي المدرّس! ولسوف يسمعني يوما ما كل الملوك والأقوياء، الذين أكتب إليهم، وإذا لم يسمعوا هم فسوف يسمع أبناؤهم وأحفادهم." وينتهي الحوار بأنّه حتّى إذا لم يصغي هؤلاء فإنّ الرب سيصغي يوما ما. الرواية ههنا توضّح شعور المتألّمين ومن يشعرون بأنّ العالم قد تخلّى عنهم، فهم يدركون بأنّ الإيمان لن يساعدهم ويلجأون للواقع والقوى العظمى ولكنّهم يحتفظون بالإيمان لكأنّه شكل من اشكال الأمل، حتّى يتمكّنوا من مواصلة المسيرة إذا ما تخلّت عنهم القوى العظمى، ولكنّ ترتيب ما يلجأون إليه يبيّن حقيقة ما يشعر به حتّى الإنسان المؤمن، وهو أنّه يعرف بأنّ الواقع يأتي أوّلا.

يرى كازانتزاكيس في مواضع كثيرة من الرواية بأنّ الحريّة لا يمكن أن تمنح وأنّ من يمنح حريّته سيكون عبدا لتلك القوّة الجديدة فنقرأ، " إنّ الذي يتلقّى حريّته من الآخرين، يظل عبدا إلى الأبد." كما يرى بأنّ النضال من أجل الحريّة يجب أن يستمرّ حتّى وإن كان الطرف ضعيفا، وهو ههنا يتخلّى عن المنطق الذي يؤكّد بأنّ ميزان القوى هو وحده من يكتب النهاية وبدون مشاعر ولا عدل، فنقرأ على لسان الثائرين بعد أن أكّد بعض المتعلّمين والواقعيّين بأن القوى العظمى قد تخلّت عنهم وبأنّ إماكنيّاتهم لن تسمح لهم بأن ينتصروا، نقرأ ما يلي: " تلك هي حرفة الفرسان أن يثوروا بلا ضمان. إنّ روح الرجل ليست محاسبا، ولكنّها مقاتل، نحن – أبناء كريت – مقاتلون ولسنا أصحاب حوانيت، إنّ قلب كريت سفينة محمّلة بالبارود." وفي النهاية يحصلون على دعم المثقّفين أيضا، ممّن يعبدون الواقع، فيقولون بأنّ الحريّة لن تتحقّق هذه المرّة أيضا ولكنّ التضحيات لن تضيع أبدا فنقرأ، " أن الحريّة بذرة، وأنّ هذه البذرة لا تنمو بالماء، وإنّما بالدماء وحدها تنمو وتترعرع." وربّما يكون ذلك واقعا فرغم اليأس الذي خيّم على شعب كريت في تلك الحقبة ها هي اليوم حرّة ومع وطنها الأمّ اليونان.

وفيما يخصّ مساعدة الدول الأخرى لإحدى الشعوب من أجل أن تنال حقوقها، نرى بأنّ الموقف كان ولا يزال واحدا منذ الأزل، فالمصالح وحدها من تحرّك دولة ما لمساعدة أخرى. في الرواية نرى أحلام المطران وإيمانه العميق بأنّ روسيا وحدها من ستساعد كريت، وبأنّ المسيحية لن تموت ما دامت موسكو وكييف بخير، بينما يعوّل الوطنيّون على اليونان – الضعيفة في تلك الفترة والتي حاولت مساعدتهم رغم ذلك – ويعوّل المثقّفون على فرنسا، فنقرأ نداء من يؤمن بقوّة القلم للقوى العظمى في بيته، "إنّني أرفع صوتي .. أنا لا شيء .. رجل لا قيمة له، ضائع عند أطراف أوروبا .. بعيدا عنكم يا أقوياء الأرض." وسط المذبحة، قبل أن يوقّع رسالته بالدماء بعد أن يقتحم الجنود الأتراك بيته، ليموت وهو ممسك بسلاحه: القلم. وتوضّح الرواية ما تجرّه خيبات الأمل من كراهيّة، عندما يشعر حتّى المثقّف بأنّ فرنسا تخلّت عنهم، فيحرق ملابسه الفرنسيّة ويرتدي الملابس الكريتيّة، ويحمل بندقيّته مع ابناء شعبه، وهم يؤمنون بأنّ السعادة لن تتحقّق إلاّ إذا تحرّر الشعب، "ليست هناك للرجال أمثالنا سعادة شخصيّة، فنحن لا نجد مثل هذه السعادة إلاّ في سعادة المجموع."

الرواية تدعو ضمنيّا للتعايش وهي تبرز آلام اليونانيّين على يد الأتراك، وخوف اليهود في مدينة "ميكالوكاسترو" أبان عيد القيامة، خوفا من أن يعتدي أحد على أحياءهم، كما تظهر آلام زوجة كوزماس اليهوديّة "نعيمي" والمذابح التي إرتكبها القوزاق بحق شعبها، بالإضافة إلى معاملتها بشكل مؤلم عند وصولها كريت رغم إعتناقها المسيحيّة، ولكنّ كوزماس يقول واصفا حبّه لها، " لقد فتحت عيني وعقلي وقلبي، وعلّمتني كيف أحب الأجناس الأخرى التي كنت أكرهها، وكيف أتعلّم الأفكار الأخرى التي كنت أحاربها، وكيف أحس بأننا نحن البشر ننتمي إلى أصل واحد." ويذكر كازانتزاكيس في أماكن أخرى عن المحبّة بين الصديقين التركي واليوناني، وعن كلام القبطان العجوز صديق سيفاكس، في تعايشه مع الجزائريين وكيف أنّه تزوّج كأيّ بحّار من نساء من كل أصقاع الأرض، من السود والبيض والصفر، وأدرك في النهاية بأنّ كل الأجناس البشريّة من أصل واحد. ولكنّ هذه الدعوة تقابلها في مواضع أخرى، ضيق أفق الأغلبيّة وتتجلّى عندما يحزن الأتراك على قرار "نوري بك" – الذي إنتحر عقب أن أصبح خصيّا إثر إصابته أثناء قتله شقيق الكابتن ميخايليس – بأن يقتل حصانه الأثير على قبره، فنقرأ عن عجز الأتراك عن قتل ذلك الحصان – لأنه ليس شاة أو حملا أو ثورا أو يونانيّا – فهم يجدون قتل اليوناني أسهل من قتل الحصان. ويقارن الكاتب في موضعين كيف أنّ الحيوانات ممكن أن تحبّ أكثر من بني البشر، أوّلهما عندما يموت الحصان على قبر صاحبه بعد أن يرفض تناول ما يقدّم له من طعام، وأيضا عن دعوة الصديقين التركي واليوناني لأن يتوحّد الجميع، ما دامت الكلبة مستعدّة أحيانا لأن تمنح ثديها لترضع قطّة ضعيفة وسط جراءها، وتتكرّر هذه الدعوة مرّتين من أجل أن يسود العالم الإخاء والإنسانيّة.

تناقش الرواية ايضا موضوع العلم والإيمان، عندما يسأل المطران إبن أخ الكابتن ميخايليس "كوزماس" القادم من فرنسا عن الإيمان في فرنسا، فيقول له كوزماس: إنّهم مؤمنون بإله، قائد جديد: صارم قوي .. قد يصبح يوما ما كلّ شيء.
- أي إله؟
- العلم
- عقل بلا روح، ذلك يعني أنّهم يؤمنون بالشيطان
ولكنّ هذه الفكرة غير صحيحة في نظري، فإن بدا المنطق مجرّدا من الروح، فإنّ هذا لا يعني أبدا أنّه سينتج شرّا مطلقا، كما أنّ الروحانيّة الدينيّة لن تولّد خيرا مطلقا – بل هي مصدر للتفريق بين البشر وإضطهاد الآخر المختلف عنهم – فالحل يكمن في أن نكون إنسانيّين سواء أكنّا ملحدين أم مؤمنين، فالإنسانيّة هي ما يهمّ ولا يهم ما تعتقد به.

موضوع المرأة الشركسيّة "أمينة" من مفارقات القصّة والتي تظهر مشاعر الإنسان الحقيقيّة، فهي التي تكره نوري بك، وتسخر منه بعد أن يظهر تفوّق الكابتن ميخايليس عليه، ومن ثمّ تقع في غرام الكابتن بوليكسيجيس، فشعر ميخايليس بالكراهيّة تجاهه، ويدينه دائما لأنّه أحبّ إمرأة ليست منهم، وهو يضمر في داخله مشاعر الغيرة، ويصرّ الأخير على أنّ أمينة ستعتنق المسيحيّة، ولكنّنا نقرأ بأنّ أمينة لم تكن تنظر للأمر إلاّ وسيلة للتحرّر فنقرأ، " كان المسيح بالنسبة إليها بابا تفتحه وتعبر من خلاله إلى الطرقات بلا حجاب." وفي النهاية يختطف الأتراك أمينة قبيل عرسها فيهبّ ميخايليس لإنقاذها ويخبّئها في بيت عمّته، ويعود ليجد بأنّ دير السيد المسيح – الذي كافح لحمايته قد أحرقه الأتراك بعد أن هزموا الكريتيين في أثناء غيابه، فيلقي الكثيرون باللائمة عليه، ويخجل هو من نفسه لأنّه ضحّى بوطنه من أجل إمرأة، فيعمد إلى قتلها، فيظهر لنا جانب آخر خفي من شخصيّة الكابتن – الذي لا يأبه للنساء والذي عزل إبنته عنه هو شخصيا ما أن بلغت الثانية عشرة لدرجة أنّه لم يعرفها في أحد الأعراس – ولكنّه يصارح الكابتن بوليكيسجيس في النهاية بأنّه هو من قتلها لأنّها تقف في سبيل حريّة كريت، ولأنّها سبب الفرقة بينهما وإن لم يصرّح بأنّه كان قد أحبّها في سرّه وبأنّ غيرته زالت بموتها.

في الختام، الرواية شيّقة جدا وعميقة، وما أن يصيبك الملل وأن تقرأ صفحاتها ال560 حتّى تفاجأك أمور مستجدّة لتعيد إليك متعة القراءة، سواء أكانت أحداث رهيبة كأن يقرّر الكاتبن ميخايليس قتل أفراد أسرته خوفا من أن يقعوا في يد الأتراك – وإن لم يفعل ذلك – أو بنقاشات فلسفيّة عميقة وجريئة عن الحياة وغايتها والموت والحريّة والثقافة والكهولة، هي ملحمة حقيقيّة تحكي حياة شعب يصرّ على البقاء رغم تحالف كلّ شيء ضدّه، وتصرّ الرواية على أن تفاجئنا حتّى النهاية في تلك المعركة المجنونة وأطرافها غير المتوقّعين لتؤكّد عبقريّة الكاتب في إيصال فكرته، وإصراره على نيل الحريّة أو الموت.



#كلكامش_نبيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أحيانا - قصيدة
- الإنسانيّة هي كل ما نحتاج إليه
- أن تناقش حقّ الحياة والحريّة في القرن الحادي والعشرين
- كان هنالك شرق - قصيدة
- مجتمع المظاهر وسقوط المثاليّة - قراءة في مسرحيّة الزوج المثا ...
- إغفر يا قلب لهم - قصيدة
- جنازة السلام - قصّة قصيرة
- سِفر الأحزان - قصيدة
- النقاشات البيزنطيّة تعود بحلّة إسلاميّة
- عندما أضعنا البوصلة - قصيدة
- ثورات منسيّة – قراءة في رواية -البشموري- للكاتبة المصرية سلو ...
- بناء وطن للجميع - قراءة في كتاب العقد الإجتماعي للفيلسوف جان ...
- قوس قزح
- إنه العراق يا قوم – لا تحرقوه لأجل الآخرين
- مستقبل الوطن رهن ورقة إنتخاب – لننقذ العراق
- لمحات إنسانيّة – قراءة في المجموعة القصصيّة -في خضمّ المصائب ...
- ما بين سراب الماضي الجميل ودخّان فوضى الحاضر – قراءة في رواي ...
- بقايا صبي سيبيري عمرها 24 ألف عام تلقي المزيد من الضوء على أ ...
- وحدة الشعب العراقي وفقا للدراسات الجينيّة – ترجمة وتقديم
- الإنسان المنتصب؟ العثور على عظمة شبيهة بعظام يد الإنسان عمره ...


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كلكامش نبيل - ملحمة وطن – قراءة في رواية -الحريّة أو الموت- للكاتب نيكوس كازانتزاكيس