أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - “داعش” وأنستاس الكرملي















المزيد.....

“داعش” وأنستاس الكرملي


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 4535 - 2014 / 8 / 6 - 17:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


“داعش” وأنستاس الكرملي
لا أدري كيف خطر ببالي العلاّمة اللغوي والأديب والمؤرخ الأب أنستاس الكرملي وأنا أتابع بألم وأسى أخبار هجرة المسيحيين القسرية من الموصل بعد أن نفّذت "الدولة الإسلامية" (داعش) تهديداتها بحقهم، ولاسيّما بعد أن أعطتهم ثلاثة خيارات أحلاها مرٌ، بل مثل السمّ الزعاف . الأول: تغيير دينهم وقبولهم الأسلمة أو التأسلم، ولا نقول الإسلام، لأن الدين الإسلامي يحترم الأديان الأخرى ويعترف بمكانتها، والثاني: دفع الجزية، أي تقديم بدل نقدي شهري . أما الخيار الثالث فهو الرحيل، وهو الذي اضطرّوا إليه، ولاسيّما عشية موعد الإنذار، وقام مسلحو "داعش" بسلبهم ممتلكاتهم وجرّدوهم مما يحملون معهم من نقود ومقتنيات ثمينة .
لم تبدأ محنة المسيحيين في العاشر من يونيو/ حزيران الماضي ،2014 بل إنها تمتد إلى سنوات قبل ذلك، فمنذ الاحتلال الأمريكي في عام 2003 كانوا هدفاً سهلاً للفريقين المتصارعين، فهم لا يملكون ميليشيات وبلا دعم أو غطاء خارجي، خصوصاً في ظل تأجيج "الصراع" السني - الشيعي الذي غذّاه أمراء الطوائف بعد القسمة الجهنمية لمجلس الحكم الانتقالي والتي قرّرها الحاكم المدني الأمريكي للعراق بول بريمر .
المسيحيون باعتراف الجميع، باستثناء التكفيريين والإلغائيين المتعصبين، لم يرتكبوا جرماً أو جناية لا بحق الفرقاء المتخاصمين ولا بحق الوطن في السابق والحاضر، وهم طيلة وجودهم كسكّان أصليين للبلاد كانوا مثالاً للتعايش والانسجام والتواؤم والتسامح والسلام، وتلك المواصفات تشكّل ركناً أساسياً في الذاكرة الجمعية التاريخية والاجتماعية العراقية القديمة والحديثة، وقد عملوا طيلة وجودهم في العراق ما بعد الإسلام بجد وحيوية، وشغلوا . مناصب رفيعة طيلة قرون من الزمان، وتلك شهادة التاريخ لهم، شأنهم شأن مسيحيي البلاد العربية، حيث شكلوا نسيجاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً، هو جزء من حضارة هذه البلاد ذات التنوّع والتعددية من دون تفرقة أو تمييز وحسبما تسمح به ثقافة تلك الأيام .
ولذلك فإن الشروط التي وضعها "داعش" على مسيحيي الموصل، وقبل ذلك ما تعرّض له مسيحيو البصرة وكركوك وبغداد على يد الجماعات الإسلاموية المسلحة، إنما تستهدف إلغاء آلاف السنين من الوجود الحقيقي للمسيحيين، وشطب مساهمات جليلة في تاريخ الحضارة العربية - الإسلامية، والحضارة الإنسانية بشكل عام، خاصة أن معاناة المسيحيين مركّبة، فهم إضافة إلى كونهم عراقيين عانوا من الاستيلاب والاستبداد والحروب والحصار والاحتلال، ويعانون اليوم العنف والإرهاب والفساد والطائفية والمحاصصة، وهي وإن كانت معاناة عراقية، إلا أن وقعها على المسيحيين مضاعف، لأنها تتعلق بوجودهم واستمرارهم، اللذين استهدفتهما الحملة الداعشية الإرهابية لاجتثاث المسيحيين واستئصالهم، وامتدت الحملة إلى الشبك والكاكائية والإيزيديين والتركمان وغيرهم .
وهكذا أصبح حرف "نون" "نصراني" المكتوب في أعلى أبواب المنازل، تهمة بحد ذاتها إذا لم يبرئ صاحبها نفسه، بالتأسلم أو الجزية أو الرحيل، وإذا فعل الأولى أو الثانية فسيتم تزويده بهوّية "غير كافر" وإذا لم يفعل، فسيرسل إلى المجهول أو إلى السماء استحقاقاً لشريعة "داعش"، ولعلّ مثل هذه الكارثة التي حلّت بالمسيحيين سوف تترك تأثيراتها على الفرز السكاني والعزل الاجتماعي والتركيب الديموغرافي، حيث يتم العصف والإجهاز على آخر أركان المواطنة بحدها الأدنى، خصوصاً عندما يتم زرع الأحقاد ونار الكراهية بين الأديان والطوائف والأعراق، ولعلّها الوجه الآخر لمشروع التقسيم العراقي، لاسيّما بعد التفتيت والتشظي واندلاع حرب أهلية، حيث سيكون الوصول إلى النهاية بإقرار التقسيم والاعتراف بما هو قائم كأمر واقع، وهذا ما سعت إليه القوى الصهيونية، ومشروع برنارد لويس منذ أواخر السبعينات والذي توّجه جو بايدن نائب الرئيس الأمريكي، الذي فصّل العراق على هواه كمشروع ثلاثي مشرع للتقسيم، وفق المشرط الأمريكي - الصهيوني .
عشية وخلال وعقب موجة التغيير التي شملت الوطن العربي، ابتداءً من تونس ومروراً بمصر، طُرحت مسألة المواطنة والتنوّع الثقافي كنتيجة لتبلور أطروحات تتعلق بالدولة العصرية، خصوصاً في التعامل التاريخي الخاطئ مع المسيحيين، منها تجاهل كونهم عرباً، والعرب أغلبية في أوطانهم بغض النظر عن دينهم، وبالتالي فإن أي محاولة لفصلهم عن العروبة إنما هي محاولة مغرضة وخبيثة . وثمة مسألة أخرى لكنها مغرضة أيضاً، وتتعلق باستصغار دورهم والتشكيك في مواطنتهم والغمز من قناة علاقتهم بالمسيحيين في الغرب، بل إن البعض يعتبرهم طابوراً خامساً، لاسيّما في فترة الأزمات، يضاف إلى ذلك أن دعواتهم للحداثة والتنوير والعصرنة تفسّر باعتبارها أدوات خادعة وواجهة للنفوذ الغربي - الصليبي .
أما المحاولة الإغراضية الثالثة، فهي من جانب الإسلامويين ومنهم، وعلى رأسهم جماعات "داعش" و"القاعدة" وكل قوى التكفير مهما اختلفت تسمياتها، وهي التي تقول: إن على المسيحيين الانصياع إلى قدرهم وعدم المطالبة بالحقوق المتساوية والمواطنة المتكافئة، لأنهم ذميون "ولا ولاية لذميّ"، وإذا أرادوا البقاء في "دار الإسلام" وتأمين حمايتهم، فعليهم إما الأسلمة أو دفع الجزية .
إن التيارات الإسلاموية حتى لمن هي أقل تطرّفاً من "داعش" و"القاعدة"، تنظر إلى المسيحيين باعتبارهم "رعايا" لا مواطنين، وباعتبارهم أقلية في العالمين العربي والإسلامي (عددياً وكميّاً)، فعليهم الانصياع والقبول بما هو سائد من دون تفكير بمبدأ المساواة النوعية بغض النظر عن الحجم والعدد، وذلك في إطار ثقافة استعلائية مؤدلجة . الإسلامويون لم يقرأوا التاريخ العربي - الإسلامي، لا فيما يتعلق بدستور المدينة الذي أبرمه الرسول (صلى الله عليه وسلم) لتأسيس المجتمع الجديد، وضمان حقوق الأديان، والتكوينات الاجتماعية التعددية، ولا العهدة العمرية، ولا مقاومة مسيحيي الشرق للغزو الفرنجي لبلاد العرب (مسلمين ومسيحيين)، ولا بعد استقلال وقيام الدولة العربية الحديثة، حيث رفعوا لواء الأدب والثقافة والفنون والتاريخ والاجتماع في العالم العربي، وحملوا المعارف والعلوم القانونية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية .
فلماذا يريدون تجريد العراق من هذا الامتياز، ودفع المسيحيين إلى الهجرة وتهديم الكنائس والأديرة ورفع شعار "الدولة الإسلامية" فوقها، فالمسيح (عليه السلام) ولد في الشرق وفي مدينة بيت لحم ونشأ في الناصرة، وهو "يسوع الناصري" ولم يولد أو يعش في الغرب .
إن غياب المسيحيين يعني طوفان الصراع الطائفي على السطح، وهو ما تريده "إسرائيل" التي تسعى إلى تصوير الصراع في المنطقة باعتباره صراعاً دينياً بين المسلمين والمسيحيين، مثلما هو بين المسلمين واليهود، وصراعاً طائفياً بين الشيعة والسنّة، وليس صراعاً بين الصهيونية و"إسرائيل" من جهة والشعب العربي الفلسطيني مهضوم الحقوق من جهة ثانية .
"المسيحيون ملح العرب" وهو عنوان كتاب كنت قد أصدرته، بعد حملة الاستهداف ضدهم، مشيراً إلى أن وجودهم في العراق كان قبل الإسلام وهو الذي أعطاه الطابع المتنوّع والتعددّي، دينياً مثلما هناك أقوام شريكة إلى جانب العرب، ولا نريد استعراض دورهم التاريخي سواءً كان في الإسلام الأول أو عند تأسيس الدولة الأموية أو في العصر العباسي، وتكفي الإشارة إلى دورهم المتميّز في النهضة الحديثة في رفع لواء القومية العربية واللغة العربية ضد حملة التتريك العثمانية، بوضع المعاجم والقواميس والمناجد .
في غمرة الحملة الداعشية استذكرت أنستاس الكرملي، فهو نموذج لما أعرفه من المسيحيين الأصدقاء، منذ أيام الدراسة الجامعية والعمل السياسي والثقافي، في داخل الوطن وخارجه، وفي إطار عربي، إذْ لا بدّ من استذكار مساهماته الجليلة كلّما جرى الحديث عن اللغة والأدب والثقافة، وكان صديقنا المؤرخ والأديب جليل العطية، دائم الاستشهاد بهذا العلاّمة بغدادي الولادة والنشأة، حيث ولد الكرملي في عام 1866 لأبٍ لبناني وأم عراقية وتوفّي في عام 1947 .
اضطلع الكرملي بمهمة ريادية لا يقدر عليها شخص واحد، وكان عمله أقرب إلى مؤسسة ثقافية كبرى بأقسامها المتعددة، حيث كان يتقن عدّة لغات، وكان مؤلفاً لعشرات الكتب منها: " الفوز بالمراد من تاريخ بغداد" 1911 وخلاصة تاريخ بغداد - البصرة 1919 و"أغلاط اللغويين الأقدمين" و"نشوء اللغة العربية ونموّها واكتمالها" و"المعجم المساعد" وكتاب "العين" (الجزء الأول) للخليل بن أحمد الفراهيدي و"الإكليل" للهمداني .
وإضافة إلى ذلك فقد كان رائد الصحافة اللغوية، فقد أصدر مجلتين وجريدة واستمرت مجلته "لغة العرب" وهي مجلة شهرية اشتملت على اللغة والأدب والمصطلحات والتاريخ وعلم الاجتماع والانتربولوجي، بين عامي 1911-1931 والمجلة الثانية هي "دار السلام" وهي نصف شهرية، وتُعنى بشكل خاص بشؤون العراق الاجتماعية والتاريخية والأدبية، وصدرت لمدة أربعة أعوام 1918-،1921 أما الجريدة فهي "جريدة العرب" اليومية، وصدرت لمدة أربع سنوات أيضاً بين عامي 1917-،1920 وكان له مجلس أسبوعي كل يوم جمعة تحضره نخبة من الأدباء، والمثقفين . وامتاز الكرملي بمراسلاته مع كبار شخصيات عصره مثل أحمد تيمور وأحمد زكي باشا ومحمد شكري الآلوسي .
لعلّ شعوراً "بالخيانة" يصاحبنا، عندما نسكت عن جرائم "داعش" في اضطهاد المسيحيين واستهدافهم ومحاولة اقتلاعهم من جذورهم، ونحن نستعيد شخصية الكرملي الأثيرة كرمز للتعايش والمشترك الإنساني والتواصل الثقافي والتفاعل الحضاري .



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غزة: الغاز مقابل الدم!
- الجزائر وإشكاليات الدستور “التوافقي”
- الجامعة العربية والأزمة العراقية
- غزة.. ثقافة المقاومة وثقافة الاحتلال!
- “الجرف الصامد” وماذا بعد؟
- ماذا نقرأ في خطاب الخليفة الداعشي؟
- نصرٌ ل ”إسرائيل” أم هزيمةٌ للأمم المتحدة؟
- موريتانيا.. مسلسل الانقلابات والانتخابات!
- تشاؤل ليبيا
- من هو الرئيس العاشر «لإسرائيل»؟
- لا بدّ من صنعاء ولو طال السفر
- زمن داعش!
- داعش هل تعجّل التفاهم الإيراني الأمريكي ؟
- عراق “داعش” من الحرب الأهلية إلى التقسيم
- اليمين يجتاح أوروبا.. وماذا بشأن العرب والمسلمين؟!
- في “حضرة” اللاعنف
- الدّب الروسي والتنين الصيني وصفقة العصر!
- “إعلان البحرين” والمحكمة العربية لحقوق الإنسان
- نحو رؤية عقلانية للحركة العربية لحقوق الإنسان
- من مذبحة ماي لاي إلى سجن أبو غريب!


المزيد.....




- تمساح ضخم يقتحم قاعدة قوات جوية وينام تحت طائرة.. شاهد ما حد ...
- وزير خارجية إيران -قلق- من تعامل الشرطة الأمريكية مع المحتجي ...
- -رخصة ذهبية وميناء ومنطقة حرة-.. قرارات حكومية لتسهيل مشروع ...
- هل تحمي الملاجئ في إسرائيل من إصابات الصواريخ؟
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- البرلمان اللبناني يؤجل الانتخابات البلدية على وقع التصعيد جن ...
- بوتين: الناتج الإجمالي الروسي يسجّل معدلات جيدة
- صحة غزة تحذر من توقف مولدات الكهرباء بالمستشفيات
- عبد اللهيان يوجه رسالة إلى البيت الأبيض ويرفقها بفيديو للشرط ...
- 8 عادات سيئة عليك التخلص منها لإبطاء الشيخوخة


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبد الحسين شعبان - “داعش” وأنستاس الكرملي