أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الروائي العراقي سنان أنطون لـ - الحوار المتمدن -: البنية في رواية - إعجام - دائرية تداخلية ولا أجوبة في نهاية المطاف















المزيد.....


الروائي العراقي سنان أنطون لـ - الحوار المتمدن -: البنية في رواية - إعجام - دائرية تداخلية ولا أجوبة في نهاية المطاف


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1278 - 2005 / 8 / 6 - 10:45
المحور: مقابلات و حوارات
    


سنان أنطون، شاعر وروائي، ومخرج سينمائي، وأستطيع القول إنه متميز في الشعر والرواية والإخراج السينمائي. ومَنْ قرأ مجموعته الشعرية الأولى الموسومة بـ " موشور مبلل بالحروب " وروايته الأولى أيضاً " إعجام " سيتأكد من صحّة ما نذهب إليه من تقييم نقدي ينتصف لحجم هذا المبدع الشاب الذي لا تغادر أعماله ونتاجاته الأدبية أذهان القراء والمتلقين. وفي السينما أثار فيلمه التسجيلي المعنون " حول العراق " جدلاً واسعاً لم تنتهِ تشظياته حتى الآن بسبب الرؤية الحادة التي يتمترس خلفها، والتقنيات الفنية التي اعتمدها في الكشف عن زوايا نظر متعددة، وآسرة في آن معاً، وضعتْ النقاد والمشاهدين أمام أساليب وخبرات فنية غير مألوفة في الأقل. في عام 2004 صدرت رواية " إعجام "، ولم تنل حظها من الدراسة والنقد والتقييم، ربما لصعوبة بنيتها الدائرية القائمة على التداخل والتضاد والإبهام، باستثناء قراءة الناقد عبدو وازن الذي كشف أهمية هذا النص على صعيد الثيمة والتقنيات، أما الدراسات الأخر، القليلة والمبتسرة، فلا أريد أن أتوقف عندها لأنها اتهمت بعض الشخصيات بما ليس فيها، وهذا الاتهام ناجم عن سوء فهم لأبجديات هذا النص الروائي المعقد والشيّق في آن معاً. ولاستجلاء تجربة سنان أنطون الروائية التقاه موقع " الحوار المتمدن " وكان لنا معه هذا الحوار:

*تتسيّد بنية التداخل والتضّاد في روايتك الأولى " إعجام " على بنية التوالي التقليدية، هل تعتقد أن النص الأدبي الكابوسي ذي السمات الكافكوية يحتاج إلى هذه البنية المعقدة والشائكة التي تَشتّت فيها كل شيء. . . الزمان، والمكان، والأحداث، وحتى الشخصية الرئيسية في الرواية " فرات " الذي أخذ دور السجين، والراوي، وكاتب النص؟
-ليس من الضروري أن تكون البنية في غاية التعقيد والتشتيت لإنتاج المناخ الكابوسي الكافكاوي، لكنها كانت كذلك في" إعجام" عن وعي وقصدية و بدونهما أحياناً. الوجود، بالنسبة لي، كما أعيشه، وكما تخيلته للراوي/ السجين، عشوائي أساساً ولا ينساب خطياً نحو غاية ما ( إلاّ الموت!). الرواية ( بالمعني الأوسع للمصطلح، أي
Narrative هو ما يلجأ إليه الفرد لعقلنة الوجود، وتدجين عشوائيته، وقولبته في سرد ما. والرواية بهذا المعنى عماد الأيديولوجيات والأديان والأساطير التي نقع فريستها، بلا وعي، لنفهم العالم أو نُوهم أنفسنا بأننا نفهمه. فلا خطاب ولا "قول" خارج الرواية وبدونها. التحدي، إذاً، في موضوع كهذا، هو كيف يمكن أن تتمظهر عشوائية الوجود، بالذات، وجود إنسان سجين معذب في مجتمع حكم شمولي، من خلال نص روائي يحاكي التشظي لكن من دون أن يتشظى كليا و"ينفرط العقد." الراوي في إعجام" هو سجين يحاول المحافظة على كينونته، و يجاهد لئلا يفقد عقله كلياً، ولا تتوفر له إلا وريقات قليلة يكتب عليها. لذلك فمن الطبيعي أن يكون خطابه هذيانياً يصطدم فيه الحاضر بالماضي ويضيع الداخل بالخارج، وتتداخل كل هذه مع بعضها البعض. كأنه يحاول الخروج بهذيانه من هذا الواقع ويحاول، أيضاً، أن يعيد تشكيل ذاكرته ويقاوم المحو والانقراض. لكنه دائماً يصطدم بجدران حقيقية و أخرى خيالية. كما أن" الذات"، كمقولة، خصوصاً بعد إضاءات فرويد ولاكان، ليست كياناً مستقلاً بحدود واضحة، بل هي نتاج وفريسة، في الوقت ذاته، لخطابات وقوى وغرائز ومؤسسات شتى وللآخر بكافة تمظهراته. الـ "أنا" هذه قد تحافظ على تماسكها في اللغة صوتياً، لكنها قناع يخفي التشظي الذي نعيش حياتنا محاولين الحد منه. فالسجين المعذب في بلد أصبح سجناً خرافي الأبعاد سيكون أكثر تشظياً من الفرد العادي الذي يعيش أساساً في كل مكان من هذا العالم في" السجن المفتوح" – بتعبير أدورنو الشهير - الذي تحكمه مؤسسات الدولة. كما أن الراوي في "إعجام" يكتب سراً في زنزانة ولا يدري ما إذا كان الورق شركاً نصب له أساساً لاستنطاق لاوعيه ومصادرته، فهو ملاحق ومراقب حتى في أكثر الممارسات حميمية- أي الكتابة - ولذلك يكتب بدون نقط. المعضلة هنا تشبه محاولة رسم خارطة للمتاهة – متاهة الداخل/الخارج والماضي/الحاضر- لكن كيف يرسمها من هو في خضمها؟ السرد في أحد مستوياته الأساسية في "إعجام"، بالنسبة لي، كان محاولة اختراق جدران ورقابات ومراوغتها ولملمة أشلاء ذاكرة. تعقيد البنية وتشابكها كان نتيجة حتمية للمناخ العام كما أن ضراوة الكابوس الأكبر الذي حاولت كتابته تطلبت الإيغال في التشتت والهذيان.

* تتوفر الرواية على مناخ سوريالي أفاد كثيراً من أجواء " المحاكمة " التي سيق إليها جوزيف. ك، كما يمكن أن نتلمس تعلقك بالجو العام لرواية " 1984 " لجورج أورويل، فضلاً عن أجواء " الانتظار " العبثية لصموئيل بيكيت. هل لك أن تعزز لنا هذا الرأي؟ وهل تعتقد أن العراق كان مجرد " حديقة حيوانات " يسوسها رجل سايكوباثي، غير متزن، بات مرتعا للأمراض النفسية والعقلية؟

- ليس هناك كتابة على بياض ونحن، دائما، نعيد النسج والتنويع على الخيوط التي نرثها في تناص أزلي. وعندما يغامر المرء بكتابة رواية عن السجن والضياع في غياهب الدولة، مهما كانت طبيعتها، فسيحوم شبح كافكا فوق الرأس ليضيء سماء النص. وستكون يد أورويل على الكتف تطبطب أو ترهب! في عام 1988 ازداد اهتمامي بأورويل لأسباب واضحة. كنت أدرس الأدب الإنكليزي في جامعة بغداد وكانت " قادسية صدام" قد شاخت وشاخت شعاراتها بالرغم من المرابد ( وما دمنا في هذا السياق فقد كانت المرابد سيركا ثقافياً من الدرجة الأولى شاهدته مصدوماً على شاشة التلفزيون في بغداد أيامها ). عندما حاولت استعارة الكتاب من مكتبة القسم لكتابة بحث عنه، قيل لي بأنه على قائمة الكتب الممنوعة ( وضمنت هذه الواقعة في الرواية ) ولا بد من استحصال موافقة من رئيس القسم، فذهبت إليه وطلبت الإذن، فقال لي بالحرف الواحد:" ليش تدخلنا بمشاكل إبني؟ شوفلك موضوع ثاني. ثم استدرك قائلاً: هي طبعاً عن الأنظمة الستالينية، بس دير بالك!". نجحت في الحصول عليها فيما بعد من مكتبة المعهد البريطاني وبكيت و شعرت بالرهبة وأنا أقرأها فكأن أورويل كان يعيش معنا ومناخ نصه ينطبق على عراق الثمانينيات بشكل مخيف وخصوصاً إشاراته إلى موضوع اللغة والحقيقة والسيطرة عليها. ثم سنحت لي الفرصة لمشاهدة الفلم المأخوذ من الرواية وكان ممنوعا ًلكن شريط الفديو كان قد دخل العراق سراً وكذاك "مزرعة الحيوانات." أما بيكيت، فهو الآخر من عمالقة سلالة العبث والجنون، وكنت ولا أزال مهووساً بأعماله ومحظوظا لاطلاعي عليه مبكرا باللغة الإنكليزية في سنين الدراسة وتأثيره واضح في بعض مقاطع الرواية. أما "المحاكمة" لكافكا فقرأتها لاحقاً بعد هجرتي من العراق عام 1991. هذه بالتأكيد، مجتمعة، هي الروافد الرئيسية في لاوعي الرواية و سلالتها النصية. أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال، فالأنظمة (الستالينية بالذات)تمعن في تدجين الفرد ومحو إنسانيته أو تحاول ذلك قدر الإمكان (مع العلم بأن صداماً كان يقول بأن "الإنسان قيمة عليا!") وهناك لحظات كان الإنسان يشعر فيها بأنه لا يمتلك حتى حقوق الحيوانات الأليفة في أماكن أخرى. لا جدال بأن صداماً، كغيره من الدكتاتوريين، يعاني من جنون العظمة، ومن عصاب أصبحت تفاصيله واضحة للعالم أجمع بما لا يقبل الشك. و لكننا نخطيء إذا ما عزونا كل الكوارث السياسية التي عصفت بالعراق إلى الجنون أو اكتفينا بالبحث عن جذورها في لاوعي صدام، كما يحلو للبعض أن يفعل في نوع من الأسطرة. هذا خطاب تسطيحي فيه إلغاء لشعب وتاريخ بأكمله واختصاره في شخص دكتاتور. هناك عوامل تاريخية و سياسية وتيارات وتفاعلات داخلية وخارجية يمكن تحليلها للوصول إلى فهم أعمق لظاهرة البعث العراقي والصدامية. لكن يجب أيضاً ألا نقلل البتة من وطأة الخراب النفسي الذي ألحقته الدكتاتورية و الاضطهاد اليومي والحروب و الحصار أيضاً بالفرد العراقي. وأبعاد الكارثة أكبر في العراق لأسباب عدة منها عقدة التعامل مع الأمراض النفسية وتبعاتها على الفرد في مجتمعاتنا والتي، وإن تغيرت النظرة إليها بعض الشيء، ما تزال بدائية وتقع في خانة "العيب". وحالة النصر" الدائم" والعنتريات الذكورية لم تكن تسمح بالاعتراف بأي شيء أو بوجود تبعات كارثية والاعتراف ومواجهة الحقيقة هي الخطوة الأولى. كما أن الخراب الذي أصاب النظام الصحي والنسيج الاجتماعي والعلاقات الفردية بفعل الحروب والحصار يعني أن أجيالاً بأكملها من الرجال والنساء والأطفال الذين عاشوا عقوداً كابوسية وثلاثة حروب يحملون على كواهلهم أعباءْ لم يتم التعامل معها بعد. من المعروف أن العنف الذي ينتجه ويرسخه النظام الشمولي والذي تقدسه وتعمقه الحروب يتجذر في بنيان المجتمع ويعيد إنتاج نفسه بأشكال جديدة لا تقل بشاعة. والنساء يدفعن الثمن الأكبر في هذا السياق حيث يصبحن الهدف الأسهل في تراتبية العنف. المحزن أن سقوط النظام تزامن مع احتلال عسكري ومع طوفان عنف سيضيف تراكمات جديدة وما يحدث الآن، في بعض تمظهراته، ليس إلا إعادة إنتاج للعنف الذي غرسه النظام في اللاوعي الجمعي. أضف إلى ذلك العنف الامبراطوري الجديد الذي يمارسه الاحتلال. فهما حليفان، في نهاية الأمر، ضد المدنيين! ثلاثة عقود من حالات العنف الاستثنائي ودوامة حروب ستترك قروحاً جديدة.
* تتميز رواية " إعجام " في جانب منها بالسمة " البوليسية " لكنك استطعت أن تروّض هذا الجانب البوليسي لمصلحة البنية الكابوسية المبهمة إبهام المخطوطة ذاتها قبل التنقيط، كما ظل السر المتمثل في منْ كتب التقرير مجهولاً، لكن هذه المجهولية شديدة الدلالة والإيحاء لحقبة الزمن الستاليني في العراق. هل تعمدت إبقاء كاتب التقرير مجهولاً للإيحاء بأن الجزء الأكبر من البعثيين كانوا إما كتبة تقارير أو عيون سرية تحصي على أنفاسهم؟

-الحبكة البوليسية تعتمد على التشويق وعلى لذة كشف بنيتها وأسرارها تدريجياً ووضع النقاط على الحروف في خاتمة المطاف. الفرق في النص الكابوسي هو أن الاستيقاظ من الكابوس لا يعني نهايته بالضرورة، بل الدخول في كابوس جديد. البنية دائرية تداخلية ولا أجوبة في نهاية المطاف، بل أسئلة وعلامات استفهام تجرح كمناجل. ووضع النقاط على الحروف قد يضيء شيئاً من النص، لكنها إضاءة خادعة تبهم وتعجم الكثير في نفس الوقت.
إن ثيمة "التقرير" كانت أساسية في حياة العراقيين لعقود ثلاثة، حتى أن البعض كان يمازح أصدقاءه قائلاً: سأكتب عنك تقريراً! وكم من إنسان اختفى ولم يعد إلى اليوم بسبب واحد من تلك التقارير اللعينة وحتى بعد نبش المقابر الجماعية. كان التقرير السلاح الأساسي في تسلق تراتبية الحزب على أكتاف الآخرين وجثثهم طبعاً. أول ما تعلمناه بعد إجبارنا على الانتماء إلى الحزب القاعد وكنا أطفالاً في الصف الأول المتوسط هو كيفية كتابة التقرير للإبلاغ عن" أعداء الحزب والثورة" ومن يومها تجلت لي تناقضات الخطاب الرسمي. فإذا كانت الثورة قد جعلت الحياة بهية وزاهية بمنجزاتها لماذا كان الأعداء يتربصون في كل مكان!؟ لو كانت "إعجام" رواية بوليسية لاكتشفنا، في نهاية المطاف، هوية الشخص الذي كتب التقرير والذي وشي بالراوي وأدخله في غياهب السجن. لكني أثرت ألا يعنى النص بهوية الشخص ويبقيها مجهولة أو غامضة وأن يظل القاري/القارئة، مثل الراوي، فريسة للتساؤلات. فالمهم والمأساوي هو أن عددا كبيراً من الناس، لأسباب شتى، فقدوا إنسانيتهم، أو أجبروا على ذلك، وأصبحوا من كتبة التقارير. ما يعمق الإحساس بالفجيعة والكابوسية هو أننا لن نعرف أبداً من وشي بالراوي. هذا السؤال المؤرق أكثر بلاغة من أي كشف وهو الإعجام في أحد معانيه المستخدمة في النص.

* أشار الشاعر والناقد اللبناني عبدو وازن إلى أنك " هتكت اللغة والعقيدة " في آن معاً عبر صياغات لغوية مقترحة تتناسب مع الصفات الحقيقية للموصوف، فالرئيس القائد يغدو " قاعداً " ووزارة الثقافة والإعلام تصبح وزارة " للسخافة والإيهام " و " الثورة ، تصير " فورة أو عورة ". . . هل كنت تتقصد هذا الهتك اللغوي وتتعمده، أم أنه نوع من التهكم المر، والكوميديا السوداء؟

- هناك ارتباط وثيق بين اللغة و "المقدس" وخصوصاُ في الخطاب البعثي فأسطورة اللغة النقية التي يجب استعادة بهائها أو المحافظة عليه ذات حضور قوي فيه و هي واحدة من ركائزه. وأي مقدس، يلد، جدليا، نقيضه والشهوة والرغبة الغريزية في هتكه. اكتشفت منذ طفولتي متعة التلاعب باللغة وكان اللعب على الكلمات هوايتي المفضلة. فكان ذلك في البداية نزقاً وشغباً غريزياً لم أكن أعي أبعاده السياسية. بدأت بتغيير كلمات الأغاني السياسية وعكس معانيها وكنت أرددها لبعض المقربين للضحك. ولا بد أنك تذكر أيضا أن آلة النظام الإعلامية تضخمت في أثناء الحرب العراقية – الإيرانية بشكل انفجاري وكنا نقصف كمواطنين بالأغاني والشعارات والقصائد والبيانات والصور والجداريات. وهذا، بالنسبة لي، كان معناه وفرة المواد الأولية. وبتشكل الوعي السياسي توضحت لي ثنائية السلطة واللغة (سلطة اللغة ولغة السلطة) وأهمية احتكار المعنى، وسلطة إنتاجه وبدأت أعي الأثر الرمزي لما كنت أقوم به. على مستوى آخر فإن النزعة إلى هتك الخطاب الرسمي نجدها في سياقات كثيرة والفرد، لكي لا يصاب بالجنون، دائم البحث عن متنفس عبر النكات و عبر السخرية و المحاكاة التهكمية (الباروديا)، خصوصاً في الثقافة الشعبية. فالخطاب الرسمي كان يعشعش في اللاوعي فتجد نفسك تردد أغنية مع أنك تتقزز مما تمثله. كما أني، كغالبية العراقيين، كنت أشعر بأني محاصر بصرياً ولغوياً وأردت أن أنتقم بالضحك والتهكم. كان لا بد من تغيير الكلمات والتعابير لكي تصبح أكثر تناغماً مع الواقع الذي نعيشه من منظارنا نحن. فهو تهكم وضحك وتعرية للسلطة في ذات الوقت. إما الضحك وإما الانتحار أو الجنون! لذلك تسمح الأنظمة الذكية بصمامات أمان هنا وهناك. أما في العراق فكانت عقوبة ترديد النكات التي تسخر من الرئيس بشكل مباشر الإعدام.

*لم تتوقف كثيراً عند فكرة التعذيب الجسدي التي تناولها كتاب عراقيون كثيرون، ولكنك ركزّت على فكرة الاغتصاب، وبلورت مفهومها في عقيدة البعث الوحشية، ومنهجهم الحياتي في التعاطي مع المعارضين أو المنتقدين لهم أو الساخرين منهم. لماذا هذا التركيز على فكرة الاغتصاب؟ هل هو نوع من الكشف عن المستور، وتعرية للمسكوت عنه، وفضح لآلية التفكير البعثي؟

-الحروب والأنظمة الشمولية والمؤسسات التي تتخصص في احتكار و إنتاج العنف تتيح لبعض الأفراد والجماعات، وخصوصاً في لحظات وحالات معينة، أن يخلعوا بزة التحضر ويطلقوا العنان للوحش السادي الكامن في الداخل و الذي عادة ما يقمعه المجتمع وتحدد رغباته مؤسساته وقوانينه (ولنا في ما يحدث في غوانتانومو أو في سجن أبي غريب بإدارته الجديدة خير مثال). لا أريد أن أقلل أبداً من كارثية ما حدث في العراق أو من خصوصيته، لكن أرى أن علينا أن نستوعبه في سياقه المباشر أولا، ثم أن نحاول رؤيته ضمن السياق الأعم والأشمل للعنف كحالة كونية تختلف تمظهراتها لكنها تشترك في بعض الأسس والأعراض. البعث العراقي نسخة رديئة وبشعة لحركات مشابهة في سياقات أخرى، لكنه تفوق على نفسه أيضاً بالأرقام والأساليب! الأيديولوجيات، بشكل عام، تختزن في ثناياها النزعة إلى إلغاء الآخر واحتمال العنف. وعندما تتقاطع عوامل و ظروف معينة، يخرج الوحش الجمعي لافتراس الأخر. في عراق البعث وفر المدخول الهائل من عوائد النفط الفرصة لبناء هيكل أخطبوطي من أجهزة الأمن والتجسس وظفت أعداد هائلة من الناس وحولتهم إلى أدوات تعذيب ومراقبة وقدست الأيديولوجيا تهجير ومحو الأخر من الوجود.
ركزت على الاغتصاب الجنسي بالذات لأنه، كفعل، قد يكون أحد أقسى تمظهرات العنف وأبشعها على الإطلاق. ففيه يصادر حق الآخر في الرفض وتخترق فيه حدود الجسد والكينونة تاركة جراحاً نفسية تحملها الضحية العمر كله. وهو يترك خرابا في تعامل الإنسان مع جسده و مع من يحبهم. كما أن دينامية العلاقة بين الجلاد وضحيته تتجلى فيه. فمن خلاله أردت سبر أغوار نفسية الجلاد المغتصب ومرضيته وكذلك صراع الضحية ومقاومتها الانهيار الكامل. الاغتصاب كان، كما نعرف، الأداة المفضلة للنظام مع خصومه وعوائلهم. والجلاد الصغير أيضاً أنموذج للجلاد الكبير. لكني أرى أيضاً أن استيعاب فداحة ما يتعرض له الإنسان لا يكتمل من دون مواجهة الحقيقة بكل تفاصيلها مهما كانت بشعة. الكثير يعاني من فقدان الذاكرة الانتقائي والضحية، كفرد وجماعة، تلجأ إلى قمع بعض التفاصيل المؤلمة لصعوبة مواجهتها. نعم، يجب أن نعري كل شيء وننظر إلى الجراح والتشوهات بلا خجل. حتى الذين يظنون بأنهم يعرفون فداحة ما عشناه في العراق ليس لديهم صبر للانصات إلى ألمنا. سأضرب لك مثالاً. هناك مقطع طويل في الفلم الوثائقي الذي ساهمت في إخراجه "حول بغداد" مقطع عن التعذيب والاغتصاب الذي تعرضت له محامية عراقية شجاعة. و اعترض عدد لا بأس به من العرب عندما عرض الفلم في مدينة عربية وكذلك في بعض المدن الأمريكية على أساس أننا نبالغ في عرض العنف والتعذيب وأن ربع ساعة عن الموضوع أكثر من اللازم! لكن ردود فعل العراقيين كانت على العكس. عندنا، للأسف، أرشيف من الألم والموت وأنا، مثل الكثيرين، أريد أن ينفتح على مصراعيه وأن تخرج كل الأشباح وإلا فإنها ستلاحقنا إلى الأبد. وكما قال الجواهري "جراح الضحايا فم."

*هل عشتَ تجربة السجن في العراق، وإذا كنت كذلك فهل أفدت من سيرتك الذاتية في كتابة رواية " إعجام " وهل تعتقد أن " أدب السجون والمعتقلات " سيزدهر في العراق على وجه التحديد بعد سقوط النظام السابق، وهل تتوقع أن يكون هناك أدباء جريئين قادرين على تسمية الأشياء بمسمياتها علماً بأن هناك عدداً محدوداً من الأدباء قد صرحوا أو دوّنوا ذلك في نصوص أدبية بأنهم قد تعرضوا لفعل الاغتصاب؟

-لم أعش تجربة السجن شخصياً. وهذا سبب لي، في المراحل الأولى للكتابة، شيئا من التردد والرهبة. تخوفت من الكتابة عن حالة وتجربة لم أعشها بشكل مباشر. فأخرت كتابة بعض مقاطع الداخل لسنين. و لكني تغلبت على هذا التخوف مدركا بأن تقمص محنة الآخر والتعبير عنها و رسم تضاريسها بالتأمل والاستلهام ممكن وهذه هي روعة الكتابة والفن بشكل عام والتحدي الإبداعي. اعتمدت، بالطبع، على ما كان يتناهى إلى سمعنا من تفاصيل عن المعتقلين وما تخيلته عن الذين اختفوا من حياتنا إلى عالم "الجوّة." وعززت ذلك بالإطلاع على تقارير منظمات حقوق الإنسان العالمية الخاصة بالعراق والمقابلات المفصلة مع المعتقلين والناجين لكي أحاول معايشة مناخ السجن وتقمصه. السيرة الذاتية هي بالطبع البئر الأولى لمعظم الروائيين، وخصوصاً في العمل الأول. وجزء لا بأس به من تفاصيل وشخوص الرواية مطابق أحيانا و مشابه في أحيان أخرى لأحداث عشتها وأناس عايشتهم في عراق الثمانينيات. أعتقد بأن أدب السجون سيزدهر من دون شك. فما زال هناك مساحات هائلة من الماضي لم تسنح الفرصة لكتابتها وهناك من يكتبها وسيكتبها بالطبع. كما أن عندنا الآن سجون جديدة وأبو غريب يزهو بإدارته الجديدة التي ستظهر عنها كتابات في المستقبل من دون شك. لكن لا يمكنني إلا أن أكون متشائلا. فزوال رقابة الدولة بسقوط النظام، كما ذكرت، جاء بثمن باهظ هو احتلال عسكري وانهيار لدولة بأكملها أنتجا فوضى أمنية و إرهاب وجريمة بشكل يومي. الكتاب والفنانون عنقائيون بالرغم من جحيم الحياة اليومية. لكن لا يبدو بأن بناء المؤسسات الثقافية الحقيقية وتوفير الدعم اللازم للإبداع والنشر هو مسعى حقيقي للنظام الحالي. والثقافة تقبع في قعر قائمة الأولويات. زالت رقابة البعث ودائرة التوجيه السياسي لكن الكتاب الآن قد يواجهون التحفظ والانغلاق المتزايد في شرائح كثيرة في المجتمع العراقي من جهة وضراوة الأوضاع المعيشية والكابوس اليومي وكذلك إعادة إنتاج الثقافة الصدامية لنفسها بحلل جديدة.مع كل هذا فأنا واثق من حتمية ظهور كتابات جريئة تغربل الماضي الكابوسي لكي نضمد بعضاً من جراحنا ولن نضمدها إذا لم نحدد تضاريسها وعمقها سواء كنا في العراق أو خارجه. لا أريد أن أدخل في إشكالية الداخل والخارج وهذه التقسيمات التبسيطية، لكن أدباء الشتات محظوظون بالمقارنة و لديهم فضاء أوسع حياتياً وسياسياً. أخيراً، يقال في التحليل النفساني أن على الضحية أن تعود إلى المشهد الأول. علينا أن نتعامل مع ما أسميه "المغولي" الداخلي، كرمز، هذا الوحش الذي خلقه نظام صدام و ترعرع في كنف الحروب والعنف المؤسساتي، ثم ازداد عنفا وجوعا في سنين الحصار. هذا المغولي مازال يعيش في دواخلنا ويختبيء في النخاع الثقافي والاجتماعي وعلينا استنطاق تاريخه.



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التشكيلي سعد علي في معرضه الجديد - ألف ليلة وليلة -: التشخيص ...
- - يوم الاثنين - شريط روائي قصير للمخرج تامر السعيد، حكاية مف ...
- خطورة البعد الرمزي حينما يرتدي حُلة الوعظ والإرشاد في - فستا ...
- الروائي العراقي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: بوصلة ال ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: بعد وفاة غائب قي ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: وضعت حياتي كلها ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: نحن الكتاب عائلة ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: استقبلت -حب في م ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: أشعر أن الكون كل ...
- الروائي برهان الخطيب لـ - الحوار المتمدن -: لا أميّز بين لغة ...
- المخرج رسول الصغير لـ - الحوار المتمدن -: أنا مغرم بالحكايات ...
- - الذاكرة المعتقلة - للمخرج المغربي جيلالي فرحاتي: من يرّد ل ...
- التشكيلي حسام الدين كاكاي لـ - الحوار المتمدن -:البكتوغرافي ...
- المخرج أحمد رشوان في شريطه التسجيلي القصير - العراق، أبداً ل ...
- في مسابقة الدورة الخامسة لمهرجان الفيلم العربي في روتردام: أ ...
- الشاعر موفق السواد لـ - الحوار المتمدن-: الكتابة في المتاهة ...
- اختتام فعاليات الدورة الخامسة لمهرجان الفيلم العربي في روترد ...
- مهرجان روتردام للفيلم العربي في دورته الخامسة: خمسون فيلماً ...
- ( 4 ) سلسلة أغلى اللوحات في العالم: سوسنات فان كوخ الجذلى وع ...
- مخاوف هولندية من تداعيات الرفض الشعبي للتصويت على الدستور ال ...


المزيد.....




- كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما ...
- على الخريطة.. حجم قواعد أمريكا بالمنطقة وقربها من الميليشيات ...
- بيسكوف: السلطات الفرنسية تقوض أسس نظامها القانوني
- وزير الداخلية اللبناني يكشف عن تفصيل تشير إلى -بصمات- الموسا ...
- مطرب مصري يرد على منتقدي استعراضه سيارته الفارهة
- خصائص الصاروخ -إر – 500 – إسكندر- الروسي الذي دمّر مركز القي ...
- قادة الاتحاد الأوروبي يتفقون على عقوبات جديدة ضد إيران
- سلطنة عمان.. ارتفاع عدد وفيات المنخفض الجوي إلى 21 بينهم 12 ...
- جنرال أوكراني متقاعد يكشف سبب عجز قوات كييف بمنطقة تشاسوف يا ...
- انطلاق المنتدى العالمي لمدرسي الروسية


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الروائي العراقي سنان أنطون لـ - الحوار المتمدن -: البنية في رواية - إعجام - دائرية تداخلية ولا أجوبة في نهاية المطاف