أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عطا درغام - من مفكرة عامل مصري في حفر قناة السويس















المزيد.....

من مفكرة عامل مصري في حفر قناة السويس


عطا درغام

الحوار المتمدن-العدد: 4506 - 2014 / 7 / 8 - 13:50
المحور: الادب والفن
    


يعجز القلم عن وصف ما يدور هنا فى الكومبانية، من جر عشرات الآلاف من المصريين الشرفاء الذين تجرهم زبانية لا تعرف للرحمة طريقا، حتى أن قلوبهم كالحجارة، أو أشد قسوة، فى تحقيق مجد زائف لسادتهم من الفرنساوية على حساب دماء وأشلاء الجوعى والعطشى هنا فى الصحراء القاحلة التي ليس فيها سوى الموت والضياع والتشرد ، هذه السطور أخطها بدمائي المصرية الأصيلة التي ارتوت من نهر النيل ، فعلمتني الصبر والجلد على المحن والنكبات، وعلى تحمل غطرسة الترك وصلف الإنجليز، وقسوة الفرنساوية ، وكل باغ يتطلع إلى الظلم.
وكما سبق أن ذكرت آنفا عن عجز القلم، الذي يأبى إلا أن يكون مداده من دماء المصريين الذين اشتركوا فى حفر هذه القناة، لتكون شاهدة على مصرع الآلاف ما بين جوعي وعطشى وموتى بالطاعون، والكوليرا ، وضربات الشمس ، والتيفود، دون أدنى اعتبار لهؤلاء المساكين، الذين لا ناقة لهم ولا جمل ....ز ولم نعرف هنا فى الكومبانية أسماء الأيام ، ولا السبت من الأحد، لأن الأيام تشابهت فيما نتعرض له كل يوم من ويلات المحن .
يبدأ يومنا بقيام الحـــــارس بالنــفخ فى البروجـــي ، ويســـتيقظ الجميع، ونذهب إلى الجحيم الذي نلقاه كل يوم ، ومن شاء سوء حظه أن يتأخر تنهال عليه الكرابيج من حيث لا يدرى، حتى يقوم المسكين ويذهب حيث لا يعود؛ دونما السماح لنا بالصلاة، أو حتى إزالة ما لحق بنا من آثار النوم....ونقسم إلى جماعات.......جماعات تقوم بالحفر بالفئوس التي تشق الأرض مرتطمة بالصخور والحجارة، وفريق آخر يقوم برفع ما نتج عن الحفر من رمال وصخور فى مقاطف من الخوص ؛ ليحملها الفريق الثالث ويبعدها إلى مكان آخر، ويا ويله من يتلكأ أو حتى يرفع ظهره، تنهال عليه كرابيج الزبانية الترك على أجسادنا العاريةالتى تشربت السواد من الشمس الحارقة التي لفحتها بأشعتها ... وأمامها لا نستطيع أن نكتم صرخاتنا ؛ لأنها المتنفس الوحيد فى الشكوى عما يحدث لناهنا ، وكأننا غرباء فى بلادنا ، يتحكم فيها الأجانب، ويحصلون على الامتيازات لسحق هذا الشعب المسكين، الذي لا يساوى عندهم جناح بعوضة.
وفى هذا اليوم ساقت الحكومة أكثر من أربعة آلاف جندي ممن قاربوا إتمام خدمتهم العسكرية، للعمل فى حفر قناة السويس، ولما رأوا الحال السيئة التي نحن عليها ، رفضوا العمل، وحدثت فوضى واضطرابات ، وتركوا ميدان الحفر،فحاولنا الدخول وسطهم،كي ننجو من العذاب الذي نتعرض له كل يوم، لكننا فوجئنا بطلقات نارية فى الهواء أخافتنا ......... بعضنا تراجع ، وآخرون غامروا بحثا عن أمل فى النجاة من الموت الذي يلاحقهم، حتى ولو أصابتهم طلقة طائشة، فلن يخسروا شيئا ،لأنهم بالفعل موتى.......زوكنت ممن شاء سوء حظهم أن يتراجعوا ، وننال عقاب السادة المشرفين بكرابيجهم المحماة فى الزيت، ونزلت على ظهورنا من شدتها لم نشعر بها لأننا تعودنا عليها .
أسمعنا المشرف التركي ذو الكرش المنتفخ وصلة من الردح والشتائم مما يعف اللسان عن ذكره.وأصبح حالنا يرثى له.. ننتظر الموت والخلاص الذي لا بد منه إزاء هذا المصير التعس الذي نتعرض له هنا كل يوم.... وصرخ فينا التركي ذو الشارب الكث ، وعاقبنا بحرماننا من حصتنا اليوم من المياه ، وكتمت غيظي وسألت نفسي أية مياه يعنيها الأحمق ، انه تمر علينا أيام لا نذوق فيها طعم المياه، فيموت منا الكثير تحت وطأة العطش ومن أفلت من العطش ، وقع فيما هو أسوأ من الأوبئة الفتاكة التي لا ترحم، ومن أسعده حظه وهرب تاه فى الصحراء الشاسعة تهاجمه الذئاب والحيوانات المفترسة....وكنا ننتظر الجمال المحملة ببراميل المياه؛ لنرتوي حتى نقوى على العمل...؛ لكنها كانت تتأخر، وعندما تصل لا يتبقى لنا سوى القليل، لأن السادة الفرنساوية والأتراك كانوا يستأثرون بالنصيب الأوفر من المياه ، فنقع أمامهم من العطش، ورغم ذلك كانت قلوبهم لا ترحم وتنهال علينا الكرابيج حتى ونحن موتى، كأنهم آليون لا روح فيهم ، تعودوا على الضرب، لا فرق بين ميت وحى .
أشعر بالغيظ وأكتم صرخاتى من العطش وأنا أرى هذه القطط تسمنت على حسابنا وهى تشرب الماء وتحرمنا منه.. ويوزعون علينا الجراية ، وهى الأخرى لا تقل سوءا عن الأحوال المعيشية، وكان نصيب الفرد منا كسرة خبز لا تغنى ولا تسمن جوع ، فرغم قلتها كنا نلتهمها شاكرين الله تعالى أننا ما زلنا على قيد الحياة، فى الوقت الذي كانوا يأكلون فيه أشياء لم نرها من قبل ، وكنا نسترق السمع لمعرفة أسمائها، فعرفنا انها بسكويت، وجا توه ، وكعك ، وأشياء أخرى تمنينا أن نحظى بها ن لكنها الحياة ...سادة يأكلون ويتنعمون ، وعبيد يجوعون ويحرمون....ماهذا الذي أراه......؟ إنه منظر فظيع جدا منظر تلك الجثث التي يحملونها ويقذفونها فى حفرة كبيرة ، منظر لن أنساه ما حييت ، وقد يحملونني أيضا عندما أقع من التعب أو الجوع أو التعرض لوباء الكوليرا أو الطاعون ....لقد انتشرت هذه الرائحة بسرعة رهيبة ، كنذير للعمال فى الحفر بأن هذا مصيرهم... !! أين العدالة ... ؟ .. أين الأطباء ..؟ ... أين الماء ... أين الطعام .. ؟.. إنهم يستأثرون لأنفسهم بكل شيء ، ويبخلون علينا حتى من أبسط حقوقنا من الحرية .. !! .. كيف يسوقوننا إلى هذه البقعة النائية، مربوطين كالحيوانات.. تاركين أرضنا وزراعتنا، لتحقيق مجد هؤلاء السادة ونموت ضحايا هذا الظلم .... !! ونظل على هذه الحال حتى غروب شمس هذا اليوم، ونتنفس الصعداء لمرور هذا اليوم سريعا ، لكننا نفاجأ بالمشعل، ترفع وتملا المكان ،ويأمر لمهندسون الفرنساوية باستمرار العمل على ضوء المشاعل دونما اعتبار للتعب الذي حل بنا، والدماء التي سا لت، والعرق المتصبب من جباهنا، والعطشى الذين ماتوا، والجثث المتناثرة فى كل مكان.. !!! ... أين الرحمة يا أهل الأرض...؟الرحمة يا أصحاب الأمجاد الزائفة والجيوب المنتفخة على أشلاء هؤلاء المصريين الذين ينتظرون الخلاص وتمنى الموت من حكام ظالمين ساقوهم إلى الموت بالسخرة والقوة...ووقعت من التعب والإعياء الشديد الذي حل بى ، وظننت أن أعينهم ستغفل عنى، لكن خاب ظني، وانهال التركي السمين بكرباجه دون رحمة ، وانا أصرخ صرخات تدوي فى الصحراء ، وتصعق زملائي من العمال ن وكلما هممت القيام أقع مرة أخرى ؛ حتى خارت قواي تماما ، وصرخ التركي السمين ...اتركوا هذا الكلب يموت، وغدا نأتى بألف غيره.....حملونى ودفعوني لإحدى الخيام المنصوبة للنوم ، وطرحونى على الأرض ، وأنا أرتعش كاننى أصابني الوباء ن ولم يسأل عنى أحد، وانا أزحف متلفتا حولي كي أجد ما أشربه أ أو اقتات به، هيهات ...لقد ساقونا إلى الجحيم....ولم تكد تمر دقائق؛حتى فوجئت بالجثث التي تلقى على واحدة بعد الأخرى، أجساد هدها التعب ويداعبها الموت ليخطفها ، ويمتلئ المكان بهذه القوى المتهالكة؛ والتي لا أعرف لها عددا ، والقاسم المشترك بيننا أنها متعبة وتصرخ من التعب والعطش، ولا حياة لمن تنادى .... وزحفت ما استطعت المرور من بين هذه الجثث حتى بوابة الخيمة لأسمع البروجي يعلن انتهاء العمل فى تمام الساعة الثانية عشرة مساء، والكل يجرى ليلحق مكانا ينام فيه ، ويشعر بالراحة ، ويحلم بالماء والطعام والحرية عسى أن يتحقق ذلك فى الحلم ، بعد أن تعذر الحصول عليه فى الواقع.



#عطا_درغام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فن الإلقاء -3
- فن الإلقاء -2
- فن الإلقاء - 1
- فن التمثيل والممثل -2
- فن التمثيل والممثل -1
- المسرح في القرن العشرين
- المسرح في القرنين السابع عشر والثامن عشر
- المسرح في القرن التاسع عشر
- مسرح العصور الوسطي وعصر النهضة
- فلكلوريات من ذكريات الطفولة في رمضان
- فلكلوريات الميلاد والختان في الريف المصري
- فلكلوريات الموت في الريف المصري
- من فلكلوريات الزواج في الريف المصري
- من فلكلوريات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في قرية مصرية
- تطور الفن المسرحي في مصر
- النص المسرحي وأساليبه
- نشأة الفن المسرحي
- النزعة الإنسانية عند سارويان
- رزق الله حسون الأرمني


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عطا درغام - من مفكرة عامل مصري في حفر قناة السويس