أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - أبو العلاء المعري رهين المحبسين















المزيد.....

أبو العلاء المعري رهين المحبسين


سميح مسعود

الحوار المتمدن-العدد: 4494 - 2014 / 6 / 26 - 18:10
المحور: الادب والفن
    



أقدم متطرفون على تحطيم رأس تمثال لأبي العلاء المعري ، بحجة أنه كان كافرا ً زنديقاً واًن تمثاله من الأصنام ، وتدل هذه الجريمة النكراء على ما تحمله المجموعات التكفيرية من أراء متطرفة ضلالية ، تقودهم إلى تصرفات غير مقبولة شكلاً ومضموناً ضد المواقع الأثرية والثقافية بتبريرات لا علاقة لها بأصول الدين .

وتقودهم أيضا إلى الإهتمام بمظاهر التدين الشكلي ، وبتبرير تصرفاتهم بسلسلة ألفاظ رنانة غامضة يغلفونها بشعارات من فكرهم المتزمت ، يبينون فيها أنفسهم على أنهم غيارى على الاسلام والمسلمين ، ومن حقهم إعادة ترتيب المكون التراثي في الدول العربية كما يحلو لهم ، وهكذا يُحرمون بمفاهيمهم الضيقة التماثيل لأنها من الاصنام ، علما بأن التماثيل محرمة فقط إذا اتخذت أصناماً معبودة ، ومباحة إذا اقيمت لتخليد الثقافة والفكر والفن ، وحماية الموروث الحضاري بكل معالمه الأثرية والثقافية ، وبكل أعلامه من القدماء العظام .

وهنا يطرح التساؤل المشروع عن سبب استهداف تمثال المعري ، هل هذا الشاعر العظيم الذي ملأ الدنيا بشعره ونثره كان كافراً زنديقاً كما يدعون ؟

للإجابة سوف استعرض في الفقرات اللاحقة بعض جوانب من حياته ومعالم أعماله العظيمة ، حيث تلتحم الفلسفة بنسيجه الشعري .

يحظى أبو العلاء المعري بمكانة مرموقة بين صفوة الكبارمن الشعراء والأدباء العرب على مر العصور، إنه من أساطينهم ، تُجمع المصادر على امتلاكه موهبة إستثنائية ونزعة تنويرية عقلانية ، فقد قدم العقل طيلة حياته على كل شئ ، وحَكمهُ في كل شئ ، وجعله أساس منهجه النقدي المليء بالسخرية والتشاؤم والشك والتساؤلات .

عُرف عنهُ إلمامه بكل ألوان الفلسفات الشرقية ، وتعمقه بمعرفة الأديان والمذاهب والفرق الدينية ، لامس الفلسفة في نثره وشعره ، واعتبرت نتاجاته الشعرية والأدبية بمثابة تأملات فلسفية نادرة في مجال الدين والدنيا والحياة الآخرة .

بحثَ بمنهج فكري عقلاني متنور، استباح به انتقاد كل شيء ، وقدم على أساسه رأيه وفكره بمسائل كثيرة تتعلق بالأدب والشعر والفلسفة والتصوف والتاريخ وأمور الدين والفقه والنحو والصرف ، كما ناقش بمنهجه هذا الفلاسفة والشعراء والأدباء والفقهاء ، ودافع بكثير من الحماس عن خياراته الفكرية العقلانية بكل تجلياتها ، دون إخفاء لشكوكه ومعتقداته ومناهضته لمنتوج الموروث التراثي المُكبل للاذهان بقيود الجهل والخرافات .

إختلف عن معاصريه من الأدباء والشعراء بعدم الإرتماء تحت أقدام الحُكام ، والتكالب على طلب المال ، لم يُغره المال ، ولا التقرب من الحكام والأمراء ، ترك كل شيء ، ولزم بيته وهو في ريعان الشباب ... دفعه تشاؤمه إلى العزلة والعيش بعيداً عن الناس ... اختار لنفسه التقشف والزهد وبساطة العيش ، وسمى نفسه رهين المحبسين للزومه بيته وفقدانه بصره...عاش منعزلاً بعينين مطفأتين زهاء أربعين عاماَ في بيت صغير مظلم يخلو من مقومات الحياة الأساسية ، لبس فيه أخشن الملابس ، وامتنع عن أكل اللحم طوال حياته رفقاً منه بالحيوان وحتى لا يساهم في إيلامه.

إهتم في عزلته بالتأليف ونظم الشعر وكتابة الرسائل ، فملأت شهرته آفاق الأرض العربية ، قصده طلاب العلم من أمكنة كثيره ، وراسله عن بعد أهم شعراء وأدباء وعلماء عصره ، وأصبحت بسببه قريته المعرة النائية والصغيرة مركزًا من أهم مراكز المعرفة العربية .

أشهر آثاره في الشعر " اللزوميات " يفيض شعره كالسيل في هذا الكتاب بنزعة فلسفية مجبولة بفكرعميق قائم على آرائه حول أسرار الكون وجوهر الوجود والمعتقدات .

تلتحم الفلسفة في كتاب اللزوميات بثنايا قوافيه الشعرية وتتداخل مع مكوناتها ، وتظهر فيه أشعاره محملة بمشاهد صورعديدة متزاحمة انسانية ووجدانية ورمزية ، يدفعه العقل فيها إلى الشك والإنكار تارة ، وإلى اليقين والإيمان تارة أخرى ... يَظهرفي صور شعرية غير مطمئن إلى بعض المعتقدات ، غير وجل من شكه فيها ، ويميل في صور أخرى إلى إختيارالإيمان بعقله وعلى طريقته ، لا كما يختار عامة الناس من حوله .

يُكرس المعري شعره في كتاب اللزوميات للتعبيرعن تأملاته ونظراته الفلسفية كناقد وصاحب مواقف جريئة في الحياة والانسان والكون ، يفيض شعره بروح انسانية متمردة ضد الظلم والاستبداد والأكاذيب والجهل والخرافات وكل أنواع العبودية ، ويرتبط شعره بتتابع مظاهر الحياة والموت وتوالي البدايات والنهايات ، كما يتصل بالمعاني الخفية لحياة الانسان على الأرض .

ثمة اجماع على أن كتاب اللزوميات ينفرد بمكانة خاصة في مجال الشعر العربي كديوان فلسفي وحيد في اللغة العربية ، ويؤكد طه حسين في هذا الجانب على " أن اللزوميات فن جديد في الشعر العربي " وأن أبا العلاء " أحدث فناً في الشعر لم يعرفه الناس من قبل ، وهو الشعر الفلسفي "

ويقول يوحنا قمير في هذا السياق ايضاً " اللزوميات .. هي بَعدُ فنٌ جديدٌ في الفكر العربي، فن الشعر الفلسفي .. هي صدى حالات نفسية انتابت صاحبها ، فكونت فلسفة اصطبغت بالشعر ، وكثرت فيه المراجعات .. إنها قبل كل شيء صدى روح فكرت كثيرا، وشعرت كثيرا وشقيت كثيرا " ، وبهذا يكون ابو العلاء شاعراً وفيلسوفا في نفس الوقت ، ولهذا استحق بجدارة لقب " شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء " .

لأبي العلاء المعري كتب أخرى غير اللزوميات في مجال الشعر والنثر، من أهمها كتاب " رسالة الغفران " وهو أجمل ما كتب في النثر ، وتنبع اهمية رسالته في كونه سبق جميع كتاب العالم ومفكريه بالكتابة عن الآخرة بطابع روائي ، تمكن فيه من وصف الجنة ونعيمها والجحيم بخيال أدبي جامح .

وسبق المعري في عمله هذا دانتي الإيطالي في " الكوميديا الإلهية "، وسبق غوته و"شيطانه" ، وسبق ميلتون الشاعر الانجليزي الأعمى في ملحمته " الفردوس المفقود " وسبق الكاتب الانجليزي الشهير فنسون أديسون في قصته "الحياة الأزلية" التي يصف فيها الآخرة بشيء من السخرية والنقد والتندر، وثمة مراجع كثيرة عالمية تشير إلى أن أفكار كل هذه الاعمال قد اقتبست عن " رسالة الغفران " ، لأن رسالة المعري عُرفت مبكرا في اوروبا ، وصلت إلى الأندلس ، وترجمها الطبيب اليهودي ابراهيم الحكيم إلى القشتالية في عام 1264م قبل مولد دانتي بعام واحد ، ومنها تم ترجمتها إلى اللاتينية والفرنسية القديمة ، وإلى لغات أوروبية أخرى ، وجرى تداولها في أوروبا .

وقد بين في هذا الشأن المستشرق الاسباني الشهير ميجيل أسين بلاثيوس: " أن رسالة الغفران للمعري قد كونت أسس الكوميديا الإلهية لدانتي " واعتمد في قوله هذا على دراسة قام بها استغرقت ربع قرن ، عرضها في كتاب له على امتداد 405 صفحة من القطع الكبير، نشره بمناسبة تعيينه عضواً في الاكاديمية الملكية الإسبانية في عام 1919، عنوانه " الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية" أجرى فيه مقارنة مركزة بين نصوص الكتابين ( رسالة الغفران والكوميديا الإلهية ) حدد على أساسها دلائل التشابه بينهما، كما بين أيضا دلائل كثيرة تؤكد على تأثر دانتي بأبي العلاء ، وأنه قلد رسالته وأخذ عنها ، وقد أثار هذا الكتاب ثورة كبرى - على حد تعبير عبد الرحمن بدوي – في مختلف الأوساط العلمية في العالم كله .

والمستشرقون بوجه عام يشتركون في تقدير المعري ومدحه ، يضعونه في مقام عالٍ بين شعراء العربية ، من حيث اسلوبه ونظرته إلى الحياة والوجود ، ويعدونه شاعراً للإنسانية جمعاء سبق زمانه ومكانه بعلمه وتفكيره وآرائه العقلانية.

وعلى المستوى العربي اعترف أغلبية النقاد القدماء بشاعرية المعري وتفوقه على الكثيرين من مجايليه ، وهناك من النقاد من قلل من أهميته واتهمه بالزندقة والإلحاد ، لمختلف أرائه الفلسفية التي لا يرتضيها عامة الناس ، وقد تصدى لهم بكثير من الحماس مجموعة كبيرة من المفكرين ومن علماء الدين انبروا للدفاع عنه ونفي هذه التهمة ، ومن هؤلاء جمال الدين القفطي ، وكمال الدين ابن العديم ، وقد وضع الأخير كتاباً عن المعري بعنوان " الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري " اتهم فيه حُساده بوضع أقوال ملحدة على لسانه وإخراجه عن الدين .

ولعل أهم دفاع عن المعري قدمه الإمام الذهبي المتوفي عام 1346م ، وتتلخص شهادته بقوله " كان المعري في الجملة من أهل الفضل الوافروالأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب ، وله في التوحيد واثبات النبوة ، وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة ... "

ويعتبر طه حسين أكثر من دافع عن المعري في الزمن الحديث ، كان يشعر أنه ظله على الأرض ، يرافقه في كل مكان ، ولهذا كرس له رسالته لنيل أول شهادة دكتوراه تُعطى من الجامعة المصرية في عام 1914 ، وخصه ايضا بكتابين اخرين ، وكان يتحدث عنه في مجالسه دون توقف ، ويعلن دوما أنه يعيش آلام نفس المعري المتقشفة ، يتحسس مرارتها ويتقمصها في بعض اللحظات .

وتعرض في كتاباته عنه إلى الجانب الديني بقوله " أبوالعلاء صادق فيما يقول فهو إنما ألف الكلم يبتغي بها رضا الله ويتقي سخطه ، كُتبه نوع من أنواع التقرب إلى الله ، ولون من ألوان العبادة له والإمعان في تسبيحه والثناء عليه ، ولكن أبا العلاء يعبد الله ويتقرب إليه كما يريد هو ويختار ، لا كما يريد الناس ويختارون ".

والذي لا شك فيه أن الدول الغربية تعطي لأبي العلاء المعري في الزمن الراهن مكانة عالية بين أعلام العالم الكبار في الأدب والفكر والشعر ، وفي المقابل يلاقي الكثير من الجحود من ابناء أمته وأهله مع خفوت المد النهضوي العربي, والمحزن أن يد الغدر الجبانة كما سبق ذكره قد قطعت مؤخرا رأس تمثاله وجرى إسقاطه من قاعدته ، وذلك بعد مرور نحو ألف عام على وفاته ، وما يقرب من سبعين عاما على نصب تمثاله ، ويحمل هذا العمل الإجرامي في ثناياه دلالة ارهابية رمزية تشير إلى إصرار الظلاميين على إغتيال عقول الفكر العربي التنويري .

إن الذين أسقطوا رأس تمثال المعري هم أنفسهم الذين اغتالوا المفكرحسين مروة والمفكر مهدي عامل والمفكر فرج فودة ، وحاولوا قتل الاديب الكبير نجيب محفوظ ، إنهم من أتباع القوى الظلامية التكفيرية من الذين لا تمت أفكارهم المتخلفة إلى الدين والانسانية بأية صلة ، لا يعرفون سوى القتل والتدمير والتكفير .



#سميح_مسعود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في كتاب : مارغاروش ( ومضات من حيفا )
- المتشائل بين المسرح والرواية
- كلمات عن شعر حزين
- الأخوة بين أبناء الشعب الواحد
- مأساة الهنود الحمر
- قصيدة للرصافي في افتتاح الجامعة العبرية
- قصيدة غير وطنية للشاعر معروف الرصافي
- كتاب : رؤية معاصرة لحياة وأعمال المطران غريغوريوس حجّار
- أيام في جبال الأوراس
- من حيفا أستمد حروفي
- سيدة القصة القصيرة
- القاصة الكندية أليس مونرو
- الموسيقى حلالٌ حلالْ
- حيفا يا عشقي الأزلي
- أيامٌ في حيفا
- لماذا فشل حكم الإخوان في مصر ؟
- في ذكرى رحيل الشاعر محمود درويش
- مريضة الغرفة 72
- رواية دروز بلغراد ... حكاية حنا يعقوب
- على ضفاف البحر الميت


المزيد.....




- أوركسترا قطر الفلهارمونية تحتفي بالذكرى الـ15 عاما على انطلا ...
- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميح مسعود - أبو العلاء المعري رهين المحبسين