أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عزيز باكوش - الدين والمجتمع الدكتور إدريس مقبوب















المزيد.....



الدين والمجتمع الدكتور إدريس مقبوب


عزيز باكوش
إعلامي من المغرب

(Bakouch Azziz)


الحوار المتمدن-العدد: 4460 - 2014 / 5 / 22 - 18:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



أنجز الدكتور إدريس مقبوب أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الأول كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب دراسة قيمة لإصدار للباحث الأكاديمي عبد الغني منيب تحت عنوان" الدين والمجتمع
دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب، أفريقيا الشرق، المغرب "


صدر للباحث السوسيولوجي المغربي عبد الغني منديب كتابا بعنوان " الدين والمجتمع، دراسة سوسيولوجية للتدين بالمغرب" عن دار النشر إفريقيا الشرق، المغرب سنة 2006 من (238 صفحة). استهل الباحث كتابه بمقدمة وخمسة فصول، أنهاه بملحق ضمنه مختلف وعدد المساجد التابعة لوزارة الأوقاف وغير التابعة لها والمتواجدة بإقليم الجديدة، ومحددا تلك التي تحتضن إقامة صلاة الجمعة والتي لا تحتضنها، وقائمة بالزوايا الدينية الموجودة بالإقليم مبرزا الطائفة التي تنتمي إليها كل زاوية، وقائمة بالأضرحة التي يتوفر عليها الإقليم. وختم الباحث هذا الكتاب بلائحة من المراجع بالعربية والفرنسية والإنجليزية التي اعتمد عليها في تأطير دراسته وبفهرست للكتاب.
1. الحياة الدينية بين العلم والإيديولوجيا:
الفصل الأول من هذا الكتاب بـ"عنوان الحياة الدينية في المجتمع المغربي بين السوسيولوجيا والإيديولوجيا" أبرز فيه الباحث أهم الاتجاهات الأنتروبولوجية والسوسيولوجية التي اهتمت بالموضوع. وقد ميز فيها بين ثلاث اتجاهات.
1.1. الدراسات الأنتروبولوجية لأشكال التدين بالمغرب:
الاتجاه الأول: تعد الأبحاث والتحريات الميدانية التي خلفها فسترمارك حول المغرب أحد المصادر الأساسية والمهمة لدراسة الظاهرة الدينية بالمجتمع المغربي. ساعده ذلك على تحديد أنماط الاعتقاد الديني بالمجتمع المغربي في ثلاثة محاور، أوردها على الشكل التالي:
_ اختلاف الدين الشعبي للمغاربة عن الدين الأرطودوكسي الفقهي.
_ التداخل بين الديني والسحري داخل الطقوس الدينية للمغاربة.
_ الحضور القوي للبقايا الوثنية داخل المعتقدات الدينية والممارسات المرتبطة بها.
تبرز معالم الاعتقاد الديني في الأشكال الشعبية للممارسات الدينية اليومية التي تتواجد خارج الإسلام الفقهي، كالاعتقاد في الجن والبركة والعين الشريرة وعبادة الأولياء والسحر كما تمارس في المجتمع القبلي المغربي. وبالتالي فلا غرابة في وجود تداخل بين الدين والسحر ما دامت الممارسات السحرية تشكل جزء لا يتجزأ من المعتقدات الدينية للمغاربة (عبد الغني منديب، ص:19) أو احتواؤه للبقايا الوثنية التي أولى لها فسترمارك أهمية قصوى (كالنواح وندب الوجه والاعتقاد في الجن)، إلى جانب الاعتقاد في العين الشريرة كقاسم مشترك بين جميع الشعوب (ص:20-21) واللعنة التي يعتبر العار أحد تجلياتها، ثم الاعتقاد في الصلحاء وعبادة الأولياء.
وفي قراءته لأعمال فسترمارك أكد الباحث بأن مشروعه العلمي، والذي ارتكز على أصل وتطور الأفكار الأخلاقية، لم تكن تحركه أية منطلقات إيديولوجية بقدر ما كان يحكمه في ذلك الوازع العلمي يتجلى ذلك في رفضه للحركات التبشيرية المسيحية وانتقاده للاستعمار الفرنسي وأساليبه الهمجية. أما المنطلقات النظرية لأعمال فسترمارك، يقول الباحث، فلم تكن تبتعد كثيرا عن النزعة التطورية والانتشارية والوظيفية على الرغم من انتقاده الشديد للتطورية الفيكتورية (ص:25). ولعل التعايش العميق لفسترمارك مع الحياة الواقعية للمغاربة جعلته يعتمد كثيرا على جمع المعطيات الميدانية لوضع أسس أنتروبولوجيا ميدانية جمع فيها بين ما هو نظري وما هو إمبريقي ساعده على وضع تصنيف للظواهر المدروسة أكثر من تحليلها وتفسيرها (ص:26).
1.2. الدراسات السوسيولوجية الكولونيالية لأشكال التدين بالمغرب:
الاتجاه الثانـــي: ويتمثل في السوسيولوجيا الكولونيالية التي جسدها كل من إدمون دوتي مرورا بإدوارد مونتي وهنري باسي وإميل لاووست وألفريد بيل وجورج دراك وإميل درمنغن وأخيرا جاك بيرك (ص:28-51). وعلى الرغم من المنزلقات والمؤاخذات الإبستيمولوجية المسجلة على هذه الأعمال وخلفيتها الإيديولوجية، إلا أنها تبقى إحدى الدعائم العلمية الأساسية التي اهتمت بالمعيش اليومي المغربي في حقبة تاريخية معينة والتي ساهمت بشكل أو بآخر في تأسيس سوسيولوجيا مغربية.
يعد إدمون دوتي من الباحثين الكولونياليين الأوائل الذين انشغلوا بالبحث حول المعتقدات الدينية كما يبدو ذلك من خلال كتابه "السحر والدين بإفريقيا الشمالية"، حيث أثار فيه قضايا تتعلق بأسلمة المعتقدات الوثنية القديمة ثم التوحيد المفرط للإسلام وظهور الوسطاء كما يؤكد الباحث على ذلك قي كتابه.
وتتضح معالم أسلمة الممارسات الوثنية في بعض الطقوس كرمي الأحجار للتعوذ من أخطار الطريق ليتحول في وقت لاحق إلى أضرحة تحمل أسماء أولياء حقيقيين أو وهميين، أو إلى منبع مائي مقدس كذلك الذي يوجد بإحدى المناطق بجنوب مدينة مراكش (للا تاكركورت) حيث تحول إلى مزار لليهود والمسلمين معا.
ويناقش الباحث ظاهرة عبادة الأولياء بالعودة، مرة أخرى، إلى إ. دوتي الذي يعود له الفضل في سبر أغوار هذا الطقس مفسرا إياه بالتوحيد المفرط للإسلام وليس فقط للبقايا الوثنية (ص:32).
مارس الأولياء تاريخيا أدوارا تحررية لفائدة جماعاتهم من أجل حمايتها من كل المخاطر الداخلية والخارجية التي تهددها "(ص:34)، مما سيجعلهم محط تبجيل وتوقير من طرف الناس أثناء حياتهم وبعد مماتهم. ونظرا للهبة الرمزية التي يتمتع بها هؤلاء وتجعلهم قادرين على الاتصال بالقوة الربانية ويستمدون منها خاصيتهم الروحية (حمودي، ص: 11) يخول لهم ذلك ممارسة وظيفتين رمزيتين (الأبوية والأمومية) (حمودي، ص:25). ويقدم في هذا الشأن بعض النماذج كـ"سيدي بلعباس السبتي" و "سيدي التادلي" و"سيدي العربي الدرقاوي". ويلتقي مونتي مع دوتي، حسب الباحث، في القول بأن عبادة الأولياء في المغرب لها جذور وثنية.
وسار باسي، في نظر الباحث، على منوال أسلافه من الدارسين الكولونياليين للدين الشعبي عند المغاربة عندما فسر عبادة المغارات بالمغرب بكونها مسكونة بالجن الذي يقدم خدمة للناس الذين يستعطفونه ويتقربون منه، خاصة وأن له القدرة على إشفائهم من الأمراض أو جلب السعادة أو إبعاد سوء الطالع كما يعتقدون. وقد تم توظيف هذا الطقس من طرف بعض الزعماء الدينيين بعدما تبين لهم استحالة محوه نتيجة رسوخه في أذهان الناس. أما التقاء باسي بنظرائه السابقين فيتمثل في القول بأن هذا الطقس هو من البقايا الوثنية هو الآخر، إلا أن الإسلام قام باحتوائه بفعل صراع المعتقدات الوثنية والمعتقدات الجديدة التوحيدية التي جاء بها الإسلام (ص:36)، نجم عنه، وبفعل احتداد هذا الصراع، استمرارية هذا الطقس مع إلباسه لبوسا إسلاميا.
ويعد مؤلف كتاب "كلمات وأشياء بربرية"، أحد الإنتاجات الكولونيالية لمؤلفه إ. لاووست الذي ركز في دراسته على مجموعة من الطقوس والممارسات ذات الصلة بالحياة الزراعية للقرويين المغاربة كطقوس التضحية القربانية (الذبيحة) والاستسقاء للحفاظ على خصوبة الأرض وإبعاد كل التأثيرات السيئة المهددة للمحصول الزراعي. فالتضحية يهدف من خلالها الفلاح، حسب الدارس، إلى ضمان خصوبة الأرض واستعادة قوتها خلال افتتاح كل موسم فلاحي وإعطائها قوة وحياة بعد موسم فلاحي سابق وشاق، أكثر مما هي سبب منم أسباب حدوث العنف (الزاهي، ص:96). أما طقس الاستسقاء "تغنجة" فهو ممارسة يلجأ لها القرويون كلما تأخرت الأمطار، ومؤداه الطواف بعلم يرمز إلى الرياح التي تساعد على نزول الماء من السماء. هذه الطقوس ذات نزعة وثنية احتفظ بها الإسلام وأضفى عليها صبغة إسلامية تتمثل في صلاة الاستسقاء دون إلغاء لأشكال هذا الطقس (ص:38). ينتقل الباحث لسرد تصور أ. بيل لتجليات الدين الشعبي عند المغاربة من خلال كتابه " الإسلام في بلاد البربر "مبرزا بأن الدين الشعبي عند هؤلاء يتميز بنوع من التركيب والتمازج بين المعتقدات الأصلية والمعتقدات المحمدية الجديدة المختزلة في التوحيد. ويعود أصل هذا التركيب الديني لدى المغاربة إلى صعوبة استيعاب تعاليم الإسلام من طرف عامة الناس، بل ظل ذلك مقتصرا على نخبة مدينية. لذلك، كان من اللازم التفكير في وسيط يقرب من العلاقة بين الله وعامة الناس ويسهل تطبيق تعاليم الإسلام، لن يكون هذا الوسيط، حسب بيل، إلا الزوايا التي ستعمل على تعديل المعتقدات الإسلامية (ص:39).
أما السبب في عدم تثبيت دعائم الإسلام الأصلي في البوادي المغربية فهو "عدم قابلية الدين الأساسي الأصلي عند البربر لاستيعاب أية معتقدات بديلة" (ص:40)، ويدلل على ذلك بالقوة الرمزية التي يتمتع بها الصلحاء وشيوخ التصوف من قدرة على منح البركة. ويجمل بيل مكونات هذا التركيب الديني في ثلاث معتقدات تداخلت فيما بينها نتيجة الاحتكاك والتفاعل وهي كالآتي: التصوف الإسلامي، المذهب المالكي، البقايا الوثنية القديمة التي بقيت صامدة أمام المكونين السابقين ترتب عنه تقديم تنازلات حتى تستطيع التوافق معها.
ولم يخرج جـ. دراك عن توجه أسلافه من الباحثين الكولونياليين أثناء حديثهم عن الدين الشعبي لدى المغاربة، حيث أقر هو الآخر من خلال كتابه "مجمل التاريخ الديني المغربي" أن نشر الإسلام في المغرب واجهته صعوبات بفعل المعتقدات الأصلية التي كانت سائدة في المغرب. ويورد دراك، حسب الباحث، واقعتين يبرز من خلالهما الصعوبة التي لقيها الإسلام. تتمثل الأولى في ادعاء مؤسس مملكة بورغواطة النبوة وإتيانه بقرآن بربري نجم عنه نشر إسلام معدل ينسجم مع عقلية القبائل ويتوافق مع المعتقدات الأصلية (ص:45).
وتبقى دراسة درمنغن، المعنونة بـ" الأولياء في الإسلام المغاربي " من الدراسات التي تميزت بنوع من الحياد والموضوعية، مقارنة مع الدراسات السابقة، تطرق فيها إلى فكرتين رئيسيتين ترتبط الأولى بتمظهرات المقدس والثانية باستمراريته.
تعد العلامات والرموز التي نلامسها في الواقع الأرضي والتي تمنح لها قداسة مستمدة من الله تجسيدات للمقدس، وهذا ما يفسر وجود بعض الأماكن التي تحمل نفحات قدسية كالأضرحة والأحجار والأشجار (ص:46). أما الفكرة الثانية، وهي بيت القصيد في أطروحة إ. درمنغن، حسب مؤلف الكتاب، والمتعلقة باستمرارية المقدس فهي تدل على ممارسات تندرج ضمن دين شعبي يتخذ من عبادة المغارات والأشجار والأضرحة والينابيع المائية ملاذا يؤمها المسلمون واليهود، وهي أماكن كانت عبارة عن معابد وثنية قديمة حسب درمنغن نالت رضا اليهودية والإسلامية معا وتحولت إلى معابد لها. والجديد في الأطروحة، هو أن استمرارية هذه المعابد ليس في العمق إلا لإراحة العقل وإثارة الاطمئنان في النفس وليس فقط استمرارية لتقليد أساسي أعمى أو عبارة عن فضلات غير ذات جدوى (ص:46).
يصل، مؤلف الكتاب، في نهاية هذا الفصل إلى تصور جـ. بيرك حول الحياة والمعتقدات الدينية بالمجتمع المغربي. في هذا الإطار يميز بيرك بين نوعين من هذه المعتقدات والممارسات؛ دعا الأولى بـ "المقدس المجسد" والثانية بـ "المقدس غير المجسد". صنف في الأولى عبادة الأولياء وفي الثانية ممارسة الشعائر الدينية. ولقد ركز بيرك، حسب الباحث، على النوع الأول حيث قدم وصفا دقيقا للممارسات المرتبطة بالأضرحة. إذا كان بيرك يلتقي مع الباحثين السابقين عليه حول أصول وجذور الطقوس الدينية عند المغاربة على الرغم من الانتقادات التي وجهها لهم بعدم ربطهم لهذه الطقوس بالمجتمع المغربي المسلم، فإنه يتميز عنهم بكونه، شدد بقوة على الوظيفة الاجتماعية للظاهرة القدسية المطابقة مع الظاهرة الدينية، ثم ربطه تقديس الأولياء بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية، وهي الظاهرة التي تجذرت في التاريخ المغربي بسبب وظيفتها الاجتماعية (ص:48). لذلك، فممارسة طقوس تقديس الأولياء في نظر بيرك هو نتاج إبداع جماعي يعبر عن نفسه من خلال مجموعة من المشاعر المشتركة والتي هي من صنع التاريخ (ص:49). لقد شدد بيرك، على مدى الحفاظ الذي قامت به القبائل البربرية على هويتها المحلية من خلال الإبقاء على هذه الطقوس مع انفتاحها على المعتقدات القادمة من الصحراء لتحدث نوعا من التعايش بينها داخل نسق واحد. وفي هذا السياق، يقول بيرك: "كل شيء بدأ وانتهى بالرقص، فمن الممكن القول أن الله ما زال حاضرا في هذا المغرب العربي [ ...]، لقد وصل صدى الرسالة السماوية كصوت آت من الصحراء ليمتزج بهذه الأناشيد الوثنية المنبعثة من حوض البحر الأبيض المتوسط" (ص:49-50). هذه الدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجية التي اهتمت بالظواهر والطقوس الدينية صارت متجاوزة لافتقادها لأدوات التحليل على الرغم من أهميتها وغناها.
1.3. الدراسات الأنكلوساكسونية لأشكال التدين بالمغرب:
الاتجاه الثالث: ويتمثل في الدراسات الأنتروبولوجية الأنكلوساكسونية التي بدأت في الظهور في مطلع 60 من القرن الماضي وأخذت على عاتقها دراسة وفهم المجتمعات المغاربية.
وقد ميز الباحث فيها بين أربعة اتجاهات كبرى حددها في: الاتجاه الانقسامي، الاتجاه الدينامي، الاتجاه التأويلي، وأخيرا اتجاه الاقتصاد السياسي. إلا أنه سيركز على رائدين من رواد الاتجاه التأويلي وهما كليفورد جورتز وديل إيكلمان نظرا لما قدمته أبحاثهما عن الحياة الدينية بالمجتمع المغربي وما تميزت به من شمولية.
وفي معرض حديثه عن أعمال جورتز ميز الباحث بين ثلاث مستويات:
- نظريته حول الدين،
- التاريخ الديني للمجتمع المغربي،
- البحث الميداني.
بعد النقد الموجه للأبحاث الأنتروبولوجية السابقة عليه، منهجيا ونظريا، في دراستها للمعتقدات الدينية والمرتبطة بها، اعتبر جورتز الظاهرة الدينية ظاهرة ثقافية، وهو نفس الموقف نجده عند عبدالله حمودي في اشتغاله على نسق السلطة بالمجتمع المغربي (حمودي، ص:69) مقتفيا أثر كل من فيبر وبارسونز وغيرهما، وكان أن قدم تعريفا للدين كالآتي: "الدين نسق من الرموز يعمل على تأسيس طبائع ودوافع ذات سلطة، وانتشار واستمرار دائم عند الناس، وذلك عبر تشكيل تصورات حول النظام العام للوجود، مع إضفاء طابع الواقعية على هذه التصورات، بحيث تبدو هذه الطبائع والدوافع واقعية بشكل متفرد" (ص:55). يؤكد جيرتز، على العلاقة القائمة بين المعتقدات الدينية كطقوس وممارسات وبين حقيقتها المفترضة والمدركة كأساس للعلاج والازدهار. بهذا المعنى سيقبل عامة الناس بهذه المعتقدات الدينية، وإرساؤها هو ترسيخ للضوابط الأخلاقية من منطلق كونها تعمل على دمج الرموز المقدسة والمعبودة مع النظام القيمي الأخلاقي. إن فهم النسق الديني، حسب جيرتز، يبدأ عبر فهم الأشكال الثقافية (الرمزية) والتي ما هي إلا وقائع اجتماعية قابلة للملاحظة، من خلالها يستطيع الباحث إدراك الطريقة التي يمارس بها الناس طقوسهم واستعمال رموزهم المجسدة لمعتقداتهم (ص:56). ويشدد جيرتز، على ضرورة الربط في دراسة النسق الديني بين الأنتروبولوجيا والتاريخ وفهمه في سياق التغيرات الاجتماعية.
يؤكد جيرتز، على أن الفضل يعود إلى الدين في بناء الحضارة الإسلامية المغربية، وأساسا دين الصلحاء والأولياء والقوى السحرية بفعل تحرك القبائل التي تمثل مركز الثقل الثقافي مقارنة مع علماء الحواضر. وبعد تسلط القوى الاستعمارية على المغرب أصبح التاريخ الديني المغربي يبنى بفعل السياسي، ويبدو ذلك واضحا في الدور الذي لعبته كل من الحركة السلفية والوطنية معا في مجابهة المسيحية الغازية (ص:58)، على الرغم من بعض النزاعات اللحظية التي كانت تنشب بين الحركة السلفية والإسلام الشعبي حول الزعامة الروحية للأمة. مما كان يفرض تدخل المؤسسة الملكية (محمد الخامس)، بفضل جمعها بين الولي الصالح والسياسي المقتدر للحفاظ على الوحدة الروحية للبلاد.
1.3.1. طقس البركة وقدسيتها الدينية:
البركة طقس من طقوس الحياة الدينية بالمجتمع المغربي التي تطرق لها جيرتز تستمد من الزعامات الدينية التي تجسد من خلال بعض تجلياتها التي تجسد الروحانية الحقيقية عند المغاربة، وبمثابة شخصية أسطورية ذات دلالة ثقافية عميقة كما هو الأمر بالنسبة لـ "الولي اليوسي". إن البركة لم تعد مفهوما دينيا فقط، بل هي هبة ربانية يحضى بها أناس ينحدرون من سلالة الرسول يخول لها ذلك اكتساب الشرعية الدينية والاعتراف الرسمي بها من طرف السلطان المركز. هذه صورة يقدمها جورتز عن الحياة الدينية في سياق تاريخي كان فيه الأولياء هم المؤسسون للنماذج الثقافية. إلا أن التغيرات التي شهدتها الحياة الدينية في المجتمع المغربي وتغير طقوسها رافقها تغير النظرة إلى الدين، فـ "الدين ليس ما هو إلهي، وإنما مجرد فكرة عنه، فالناس يتعاملون، بالأساس، مع تصورات عن الدين ترتبط بالضرورة بوظائف مكانية وزمانية محددة" (ص:60). إنها نقلة بدأت تشهدها الحياة الدينية في المغرب إذ أصبحت تتميز بالليونة والتسامح وتذويب الهوة بين الديني والعلمي في تفسير النظرة إلى الكون. وإذا كان جورتز، كما يقول صاحب الكتاب، يرى بأن الحياة الدينية في المغرب لم تتأثر كثيرا بالتغيرات التي شهدها المجتمع المغربي على الأقل منذ 60 حتى 90 من القرن الماضي، وأن الدين لم يعد ذلك الموجه الروحي للسلوك الاجتماعي، فإن هذه الفكرة سرعان ما ستفندها الأحداث الدرامية والحركات الإسلامية التي سيشهدها المجتمع المغربي في بداية الألفية الثالثة، وإن رفضت من طرف مختلف مكونات الشعب المغربي.
ولم تنج أبحاث جيرتز حول الحياة الدينية من الانتقادات، والتي همت أساسا التفاوت الحاصل بين التنظير والتطبيق، والغموض الذي ميز كتاباته القائمة على تأويل السلوك الإنساني، ثم تعقد الظاهرة الدينية، وأخيرا أسلوبه في الكتابة. وهو ما أكده الباحث الأنتروبولوجي روبرت هفنر بخصوص تأويل جيرتز للحياة الدينية في أندونيسيا عندما اعتبر تصور الأندونيسيين للوجود هو تصور هندوسي إشراقي ألبس لبوسا إسلاميا. إن الأمر يتعلق بالتفسير والتأويل الذي اعتمده جورتز لفهم لظاهرة الدينية.
على غرار سابقه، انكب ديل إيكلمان من جهته، على دراسة الحياة الدينية في المجتمع المغربي بعد المؤاخذات التي وجهها لأغلب الدراسات السابقة عليه والتي اهتمت بتحليل النصوص المكتوبة من طرف الأنتليجينسيا الدينية وإغفال المعتقدات الشعبية. بناء على ذلك، ركز إيكلمان، كما ورد في الكتاب، على جانبين اثنين داخل الحياة الدينية في المجتمع المغربي: نظرة المغاربة إلى الكون باستعمال نسق مفاهيمي من ناحية، وتفكيك وإعادة تركيب المعتقدات الدينية التي تقبع خلف ما أسماه إيكلمان بإيديولوجيا الزوايا والصلحاء بالمغرب من ناحية ثانية (ص:63).
1.3.2. الحياة الدينية في المجتمع المغربي حسب إيكلمان:
حاول إيكلمان معالجة إشكالية نظرة المغاربة إلى الكون انطلاقا من المفاهيم التالية: المكتوب، العقل، الحشومة، الحق والعار. إنها مفاهيم لها دلالات منطقية تتناسب فيما بينها لتشكل ما يشبه قطعة البازل التي تختلف القطع المكونة لها إلا أنها تنسجم فيما بينها لتخلق وضعا محددا وتناسقيا (ص:64). وبعد سرده لدلالات هذه المفاهيم وتمثلات الناس لها، ينتقل الكتاب إلى عرض موقف إيكلمان من الصلحاء والزوايا واعتبار معتقداتهم بمثابة إيديولوجيا دينية. والاعتقاد في الزوايا يقوم على مدى امتلاك أولياء هذه الزوايا للبركة التي يمنحونها لمريديهم. إن البركة هي بمثابة الرأسمال الرمزي الذي يتمتع به الصلحاء التي يستعملونها كنعمة لتفسير جميع الوقائع والأحداث. إنها ذلك الدهاء السياسي الخارق الذي يتميز به بعض الأفراد ويتقربون به من الحضرة الإلهية. وعلى الرغم من ظهور إيديولوجيا إصلاحية إلا أنها لم تلغ إيديولوجيا الزوايا حيث حافظت على نفسها بالتكيف مع التغيرات الاجتماعية التي بدأ يشهدها المجتمع المغربي (ص:66).
2. التدين والمجال بالمغرب:
الفصل الثاني من هذه الدراسة بعنوان "التدين والمجال" مهد فيه الباحث لإشكالية التدين بالمغرب. ستحدد الدراسة نطاق الاشتغال في منطقة دكالة مع التساؤل عن مدى إمكانية تعميم النتائج التي ستتوصل إليها.
تستدعي مقارنة العلاقة بين التدين والمجال وضع جغرافية للمقدس والتأكيد بأن ممارسة الاعتقاد الديني تتم من خلال المجال والزمان والإنسان. ويتعرض الكتاب للمجال المقدس في صورته الشكلية بالتمييز بين المجال المقدس المجسد واللامجسد كما تناوله بيرك. في هذا السياق تم التمييز بين المساجد كمجالات مقدسة والأضرحة كمجالات لا مقدسة لممارسة الاعتقاد الديني، وتخضع كلها للتصنيف والتمييز حسب درجة مكانتها الاجتماعية وتوفرها على قاعدة اقتصادية.
أما المجال غير المقدس (الأضرحة)، فهو الآخر على حد تعبير الباحث خاضع للتصنيف، إذ هناك أضرحة تمتاز بتواجد قاعدة اقتصادية عريضة مرتبط وجودها بزعامات دينية محلية من الأعيان قريبة من السلطة، وأخرى تحمل علامات أشجار أو كراكير تتحول إلى بناية متواضعة فيما بعد تفتقد إلى قاعدة وموارد اقتصادية (ص:83).
3. النظرة إلى الكون في مخيال الإنسان المغربي:
الفصل الثالث من هذه الدراسة بـعنوان "النظرة إلى الكون" أو كيف يتمثل المغاربة الطبيعة والمجتمع؟ وللإجابة على هذا التساؤل وضع الباحث تعريفا لمفهوم النظرة إلى الكون في النسق النظري الفيبري. والمقصود بالنظرة إلى الكون مجموع المواقف الطبيعية تجاه الكون التي تتم صياغتها انطلاقا من فهم رمزي غير ممنهج نابع من الحس المشترك اليومي، ويدرك به الناس الكيفية التي يوجد عليها عالمهم الاجتماعي، إذ تعد هذه المواقف بمثابة مرجعيات بديهية تنتظم بمقتضاها الحياة اليومية (ص:89). وبناء على هذا التعريف، عمد الباحث إلى تحديد ثلاثة مفاهيم أساسية أراد بها قياس نظرة ساكنة منطقة دكالة لها وهي: الله، الدنيا والصلاح.
3.1. تصورات المغاربة لمفهوم الله:
كيف يدرك الله عند الساكنة القروية في منطقة دكالة؟ يؤكد الباحث بأن الله يدرك كقوة خارقة مشاركة في صنع الوقائع الاجتماعية وحدوثها. إنه (الله) يتدخل في تغيير أحداث الدنيا بالمنح والعطاء للفرد والجماعة من جهة، ومن جهة ثانية في إنزال الضرر بهما على حد سواء (المرض، خسارة، الكوارث، الوباء...)، ويفهم من هذا التدخل بأنه مكتوب على الفرد، وقد يكون ذلك عقابا وقصاصا إذا كان الأمر يمس الفرد المفطر عمدا في رمضان على سبيل الذكر. وقد يكون هذا الضرر/المصيبة/العقاب الإلهي بمثابة اختبار لإيمانه، وعند خصومه بأنه عقاب له. إن إدراك الله لا يقف عند هذه الحدود بقدر ما يدرك الله، كذلك، كقوة قادرة على الحفاظ على الأمر الواقع وتجنب الكوارث المحدقة بالإنسان من منطلق أن الله قوة تمهل ولا تهمل وتصبر على عباده (ص:93).
تجليات إدراك الله كقوة خارقة ودينامية ومشاركة تظهر من خلال مفهومين أساسيين هما المكتوب والسبوب، أي المقدر والمسبب. والمكتوب ليس بالمعنى الذي تدول في الكتابات الإثنوغرافية الكولونيالية حيث تم تصوير الإنسان المغربي، القروي خاصة، على أنه الخامل والجامد والسلبي الذي يعجز عن إحداث تغيير في وضعه وحياته لأنه يفسر كل شيء بالمكتوب. إن إدراك العلاقة بين العالم الدنيوي الحسي والعالم العلوي لا يمكن أن تكتمل إلا من خلال هذين المفهومين. فكل ما يحدث ويقع، حسب الساكنة القروية بالمنطقة، وفي المغرب عموما، مقدر سلفا. لكن هناك دعوة، أيضا، إلى البحث عن الوسائل والسبل لتحقيق الأماني وسعي حثيث لتحسين الوضع، ويظهر ذلك في السبوب. إن الإيمان بالمكتوب لا يعني الاتكال عليه والقبول بما هو مقدر، ولكن أيضا لا بد من أسباب تتخذها الساكنة القروية كوسائل للتغلب على مشاكلها الاجتماعية. إن المكتوب يوجد في نهاية مطاف السبوب وليس قبلها (ص:95). وهي الفكرة التي تفند أطروحة الكتابات الأنتروبولوجية والإثنوغرافية الكولونيالية عندما أكدت بأن السكان القرويين يعيشون فقط على المكتوب لا غير. ولإثبات ذلك، يورد الباحث بعض الأمثلة التي جمعها في ثلاث، بعد عملية تصنيف للمعطيات التي استقاها من واقع الحياة اليومية للدكاليين، وهي أمثلة تبين طبيعة إدراك هؤلاء لعالمهم ونظرتهم للكون. يتعلق الأمر بالمرض والموت، ثم الكوارث الطبيعية، وأخيرا العاهات والإعاقة.
3.2. الوساطة الإلهية ودورها في ترسيخ الدين الشعبي:
يتعاطى السكان القرويون في منطقة دكالة مع ظاهرتي المرض والموت من خلال المكتوب والسبوب، بحيث يقوم أهل المريض بداية بزيارة الصلحاء (كوسطاء إلهيين) تيمنا ببركتهم في شفاء المريض. والمهم في كل هذا هو اللجوء إلى كل الوسائل المعتقد فيها بأنها قادرة على إيجاد حل للمرض (السبوب). وسواء كان الشفاء أو الوفاة فإن ذلك شأن مقدر ومكتوب (ص:97).
وعندما يكون الأمر يتعلق بالكوارث الطبيعية فإن سكان دكالة يلجأون إلى الله للتيمن بقدرته للحد من فواجعها. فمن الطقوس التي يستعينون ويرجون بها الله يمكن ذكر صلاة الاستسقاء في حالة تأخر الأمطار تفاديا للجفاف الذي إذا حصل فذلك مصدره القوة الإلهية التي لا قوة فوقها (ص:99).
لا يستثنى حالات الإعاقة والعاهات وعدم الإنجاب من اللجوء إلى الوساطة الإلهية في شخص الأولياء، إذ يتعاطي سكان منطقة دكالة مع هذه الظواهر، على غرار جل ساكنة الوسط القروي في المجتمع المغربي، باللجوء إلى الوسائل التقليدية المتمثلة في زيارة الأضرحة والأولياء والقيام ببعض الطقوس والمعتقدات التي قد تستمر لوقت طويل (السبوب) حتى يأتي الفرج الإلهي؛ أما المقدر والمكتوب فهو ما سيحصل في نهاية المطاف لأن ذلك مصدره القوة الإلهية (ص: 101).
في سياق الحديث عن نظرة سكان منطقة دكالة إلى الكون، يورد الباحث مفهوما ثانيا يقيس به هذه النظرة، إنه مفهوم الدنيا. فكيف يدرك هذا المفهوم من قبل هذه الساكنة؟
3.3. التفاوتات الاجتماعية إرادة إلهية:
إن الدنيا حسب تصورات وآراء الناس هي مجال للتفاوتات الاجتماعية، وتتحكم في ذلك الإرادة الإلهية. بهذا المعنى تصبح هذه التفاوتات أمرا طبيعيا ومقبولا من طرف هؤلاء الناس. ولا يجب أن يفهم من ذلك أن هذا التفاوت يبقى ثابتا على حاله، بل قابل للتحول بفعل الإرادة الإلهية وتلك حقيقة من صميم جوهر الكون. وينتج عن الإيمان بهذه الحقيقة قابلية التكيف والتلاؤم مع هذه التحولات الاجتماعية، من هنا تكتسي العلاقة بين الميتافيزيقي والاجتماعي مشروعيتها واعترافها من منطلق أن كلا منهما يدعم الآخر ويرتكز عليه. وهذا ما يفسر الانسجام الحاصل بين تصورات السكان للدنيا ونظرتهم لها وبين التفاوتات الاجتماعية (ص:103). يصبح تعاطي السكان، في هذه المنطقة، مع الدنيا كفضاء للحركية الاجتماعية أفقيا و/أو عموديا، وللعلاقات الاجتماعية التي من المفروض أن تسهم في الرفع من الحظوة الاجتماعية للإنسان. فإذا كانت الإرادة الإلهية تتحكم في التحولات الاجتماعية التي تعرفها الدنيا، فإن الإنسان يعمل جاهدا لكي تكون هذه التحولات في مصلحته، لذلك نجده ينخرط في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تساعده على ذلك، ويبحث عن الفاعلين وشركائه الاجتماعيين وعلى رأسهم الزوجة. فلا يمكن الإقبال على الزواج إلا بعد القيام بحسابات دقيقة للعواقب التي يمكن أن تنجم عنه. إن الزواج في المجتمع المغربي يأخذ طابع الصفقات التجارية أكثر من الاعتبارات الوجدانية (ص:109). وإلى جانب الزواج، هنالك علاقات اجتماعية أخرى عابرة ينخرط فيها الإنسان على غرار الولاءات والوسائط لتحقيق النجاح في هذه الدنيا، مع حرص سكان دكالة على عدم اللجوء إلى وسائط أخرى محرمة اجتماعيا وتخرج عن القواعد والضوابط الأخلاقية لتحقيق هذا النجاح.
ويقيس الباحث، كذلك، نظرة سكان دكالة إلى الكون وأشكال الاعتقاد لديهم من خلال مفهوم الصلاح. يربط هؤلاء الصلاح بفعالية سلوكهم في أفق تحسين الوضع المادي والاجتماعي والرفع من مراكزهم الاجتماعية. إن الصلاح هو ذلك النجاح الاجتماعي في تدبير الحياة الاجتماعية والابتعاد عن التبذير والإكثار من الادخار (ص:113). فالإنسان الصالح، حسب تصورات سكان دكالة، هو ذو السلوك القويم تجاه أقاربه وخاصة والديه (الأب على وجه التحديد لأنه يمثل السلطة الرمزية المقدسة لاستمرارية العائلة)، كما يعتبر عاملا من عوامل تحقيق الصلاح وتحصيله في هذا الكيان الاجتماعي. ويتمثل الصلاح، أيضا، في طاعة الزوجة لزوجها وخدمتها له والحفاظ على الأسرة وحسن التدبير اليومي للاقتصاد المنزلي، وترضى بمكانتها الدونية وتقتنع بها. ويتحقق الصلاح، كذلك، في تبجيل الأب، رمز الشيخ في بيته، من طرف أبنائه طلبا في رضاه. ويظهر الصلاح، أخيرا، في الابتعاد عن الاكتراث بأمور الناس والاهتمام بالأمور الخاصة بالعائلة والتفرغ لخدمتها، أو الإحسان وإكرام الآخرين في الحالة التي ينعم فيها الله على عباده، أو التحية والاحترام في الوقت الذي يجد فيه المرء نفسه في مكانة اجتماعية دونية مقارنة بذوي الوضع الاجتماعي العالي.
النظرة إلى الكون أو المعتقد الديني عند الدكاليين من خلال المفاهيم السالفة الذكر ليست قارة بل مرتبطة بحركية النشاط الاجتماعي، وهي تصورات مستوحاة من الدين الإسلامي دون أن تتناقض مع ما هو دنيوي. إنها نظرة تحفز الإنسان الدكالي على العمل ومواجهة الواقع الاجتماعي في إطار الضوابط الاجتماعية.
4. أصناف ووظائف الممارسات الدينية بالمجتمع المغربي:
ينتقل الباحث في الفصل الرابع إلى معالجة الممارسات الدينية وأشكال التدين في المجتمع القروي المغربي، وسكان منطقة دكالة تحديدا، من خلال مجموعة من الطقوس الدينية المحلية منها والرسمية دون التوسع فيها أو تحديد مصادرها (هل هي وثنية أم إسلامية أو نتيجة تفاعل بينها وتكيف معتقدات مع أخرى)، بقدر ما كان الهاجس هو التعرف على وظائفها ومدى استجابتها مع هواجس المجتمع القروي. وقد صنف الباحث مختلف الممارسات الاعتقادية التي جمعها من الواقع إلى ممارسات يومية وأخرى ظرفية وأخيرة موسمية.
4.1. الممارسات الدينية اليومية:
تتجسد الممارسات الدينية اليومية عند ساكنة منطقة دكالة في البسملة والحمدلة والاستغفار والتعوذ ثم في الدعاء واللعنة وأخيرا في الصلاة. حدد للبسملة كطقس ديني وظيفتين توصل إليهما من خلال تحليله للمعطيات المجمعة من الميدان. فكل نشاط أو سلوك إنساني يبدأ بذكر اسم الله ويحدث ذلك في اتجاهين:
ذكر استعطافي، إذ يقوم به الإنسان القروي، حسب الباحث، جهرا أو سرا كلما وجد نفسه في وضعية تتطلب الاستعانة بالقدرة الإلهية وبحثا عن بركته التي تعني كل أشكال الراحة السيكولوجية والثراء والعافية.
ذكر وقائي حيث يلجأ الإنسان القروي إلى ذكر اسم الله احتماء به من كل القوى الشريرة (الجنون) التي لا تقدر عليها إلا القوة الإلهية وهي القادرة على طردها.
إلى جانب هاتين الوظيفتين يورد الباحث، على لسان مبحوثيه، وظائف أخرى للبسملة حددها في ترسيخ الهوية الإسلامية (البسملة هي تمييز للمسلم عن النصراني، المجوسي...)، من جهة، ومن ناحية أخرى تسييج الإنسان المسلم، الذي يذكر اسم الله دائما، من ارتكاب الخطايا والمعاصي.
أما الحمدلة كسلوك ديني يومي عند سكان منطقة دكالة، فتتمثل دلالتها في الاعتراف وعدم الاعتراض على القدرة الإلهية في كل مواقف الحياة والسياقات الاجتماعية (الفرح، الحزن، الإنجاب، الوفرة...). إن الحمدلة في تصورات هذه الساكنة هي توجيه الشكر لله والقبول بقضائه وقدره (ص:125).
ويعد سلوك الاستغفار والتعوذ من الممارسات اليومية، كذلك، التي يلجأ إليها الإنسان المغربي في بعض المواقف الاجتماعية لعل أبرزها تلك التي يقبل فيها على ارتكاب خطإ ما في حق نفسه أو غيره، حيث يتم تفسير ذلك بتدخل قوى شريرة (الشيطان) كانت وراء هذا السلوك المشين، حتى وإن كان المغاربة، حسب بول باسكون، يعتبرون أنفسهم غير مسؤولين عن أخطائهم لأن نفوسهم خالية منها، بل السقوط فيها ناجم عن عدم الاحتراز والاحتراس من شراك الشيطان (ص:126).
كما يتخذ سلوك الاستغفار والتعوذ في كثير من الأحيان صيغ الاعتذار الصريح من طرف المخطئ في حق الذي وقع عليه الخطأ، أو يستعمل خوفا من الوقوع في الظن أو الشك في القدرة الإلهية.
ولكون المجتمع القروي بالمنطقة هو الأكثر تهديدا بالكوارث الطبيعية، وبالتالي الأكثر تخوفا من نتائجها، فإن ذلك يجعله فضاء خصبا لتنوع الممارسات الدينية. في هذا السياق، يأتي ذكر الباحث للدعاء واللعنة كشكل من أشكال التدين اليومي السائد بالمنطقة. ويحضر الدعاء في مجموعة من التجليات بدءا من الدعاء الداخلي مرورا بالدعاء المكشوف والمسموع حيث يجلس الداعي على ركبتيه أو منكمش الرجلين موجها نظراته إلى السماء ومتضرعا نحو الله مستعطفا إياه لمساعدته على أمور الدنيا. ويلجأ سكان المنطقة، وهو الشيء الذي ينسحب على مناطق المغرب، إلى الدعاء بمجرد الإقبال على سلوك ما كان عابرا وبسيطا أو ضروريا، أو خلال الأنشطة التجارية، أو أثناء التواصل بين الناس. كما يتخذ الدعاء شكلا آخر عندما يمارس في مناسبات وولائم كالزواج، العقيق، الختان...، إذ بمجرد ما ينتهي الفقهاء (الطلبة) من قراءة بعض من آيات الذكر الحكيم والأمداح النبوية وتناول وجبة العشاء إلا ويقوم أحدهم بفتح متواليات من دعاوى الخير تهم البلاد والجماعة وصاحب الوليمة والبلاد والملك...، ودعاوى أخرى تجنبا للأضرار والمصائب والكوارث (ص:128).
من زاوية أخرى، يلجأ السكان إلى شكل آخر من الدعاء يتمثل في اللعنة والذي غالبا ما يتوجهون به إلى طرف تسبب في إلحاق الضرر بالآخر. يرد هذا الدعاء، في مجمل الأحيان، في سياقات ومواقف اجتماعية متنوعة قد تكون في إطار المزاح أو في إطار الغضب فيصبح دعاء على شكل لعنة وسب وشتم وذم... وهي كلها ممارسات تخاطب الله لأنه هو القادر على تحقيق هذا الدعاء.
إذا كانت الصلاة، شأنها شأن باقي الممارسات ذات الطابع الإسلامي قد تم تجاهلها من طرف الدارسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية السابقة، فإن الباحث اعتبرها (الصلاة) أحد الدعائم الأساسية المشكلة لنظرة الإنسان القروي، في منطقة دكالة، إلى الكون من منطلق كونها ممارسة تدينية يومية. وحتى يقيس مدى حضور الصلاة وحجم ممارستها في المجتمع المدروس عمد الباحث إلى اختيار عينة تتكون من 466 فردا من أصل 1991 فرد وهو مجموع أفراد الدوار الذي اقتصر عليه لقياس هذه الممارسة الدينية (ص:129).
ودون العودة إلى البيانات والمعطيات الإحصائية التي توصل إليها بشأن دراسة علاقة الناس بالصلاة، يؤكد الباحث بأن هذه الأخيرة تمثل حقيقة "النموذج الإلهي في السلوك وفريضة دينية واجبة على جميع المسلمين أينما وجدوا. لذلك، فإن عدم الالتزام بممارستها يعد تقصيرا وإهمالا واستسلاما لإغراءات الشيطان المثبطة للعزائم" (ص:130). إن نسبة 25% من المداومين على الصلاة تفسرها فرضية صرامة نظام النظافة الذي تقتضيه هذه الممارسة وما تتطلبه من التزامات يومية أمام مجموعة من الإكراهات الموضوعية المعيقة لذلك والمتمثلة في الظروف المعيشية الصعبة، ونفس التفسير ينسحب على أداء صلاة الجماعة حيث نسبة المداومة تقدر بـ 10% فقط ويعود ذلك، حسب الباحث، إلى مجموعة من الفرضيات المفسرة لهذه الظاهرة (كثرة الانشغالات، بعد المساكن عن المسجد، عدم سماع الآذان، المواقع المحتلة في صفوف المصلين...)، (ص:131).
4.2. الممارسات الدينية الموسمية:
الصنف الثاني من هذه الممارسات يتعلق بالممارسات الموسمية كما هي حاضرة في المعيش الاجتماعي الدكالي، وفقا للتاريخ الهجري. فطقس عاشوراء مثلا يبدأ الاحتفال به في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام، ويحدث ذلك في جل مناطق المغرب، وسكان دكالة على وجه التحديد رجالا ونساء وأطفالا. يلجأ السكان إلى القيام بمجموعة من الممارسات التي يشرع فيها ابتداء من الليلة التاسعة حيث تشعل النار فيبدأ الرجال في القفز عليها مرددين الله أكبر، وتقوم النساء والأطفال بنفس العملية بمجرد انخفاض لهيبها؛ تتناول وجبة العشاء المخصصة لهذا الطقس؛ بعد ذلك يشرع في العزف على الدفوف وترديد الأهازيج بمجرد الالتقاء في ساحة الدوار أو في إحدى الدور يتخلل ذلك احتساء الشاي وتناول بعض الفواكه الجافة. وفي صبيحة اليوم العاشر تقوم النساء بالاغتسال بالماء البارد الذي يتخذ بعدا مقدسا. أما الأطفال فيغبطون بلباسهم الجديد ويخرجون للعب في فضاء الدوار، ثم يتوجه الجميع إلى المقابر للترحم على الموتى والتصدق عليهم وتلاوة القرآن من طرف الفقهاء. وفي المساء يجتمع الرجال في المساجد لحضور قراءة القرآن بشكل جماعي وإنشاد الأمداح النبوية. ويعتبر هذا اليوم العاشر من محرم بمثابة يوم مقدس ومبارك في الاعتقاد الشعبي لدى ساكنة منطقة دكالة، وهو يوم للتآزر وإصلاح العلاقات الاجتماعية وترويح للنفس.
اعتبر فسترمارك عاشوراء مهرجانا وثنيا تمت أسلمته بأن تحول توقيته من نهاية السنة الفلاحية التي كان يرمز إلى موتها ونهايتها، ليدرج ضمن التقويم الهجري (ص:134). ويتميز هذا الاحتفال بتنوعه حسب مناطق المغرب كما يتسم بتزاوج الفرح والحزن معا. حزن يظهر في الأهازيج المرددة من طرف النسوة كأن الأمر يتعلق بالبكاء على متوفى، وفرح يتجلى في زغاريدهن وغنائهن ولعب الأطفال والوجبات السخية. إنها تعبيرات يتمظهر عبرها المقدس، وتمتزج فيها السلوكات بعناصر طبيعية (نوى الفواكه، النار، الماء البارد) يرجى منها تحقيق الثراء والخير وتطهير الذات من الشوائب والاستعداد لعيد الأضحى. وتجيب رمزية هذه الممارسات كذلك، على مختلف التجاذبات المميزة للحياة الاجتماعية في منطقة دكالة، تجاذبات بين الوفرة والندرة، بين العقم والخصوبة، بين الحياة والموت وأخيرا بين الديني والوثني (ص:135).
ويلي هذا الطقس، في السنة الهجرية، طقسا آخر وهو عيد المولد النبوي الذي يصادف يوم الثاني عشر من ربيع الأول ويولي له الدكاليون، كباقي المغاربة، قدسية تظهر معالمها في أجواء الاحتفال والبهجة. قدسية هذا اليوم تتضح بجلاء في تعطل كل الأنشطة الاجتماعية والتفرغ للاحتفال بالعيد. فتخصص صبيحة هذا اليوم، بعد تناول الفطائر المعدة من طرف النسوة، لتبادل الزيارات والتهاني بين أهل الدار، والجيران ثانية، والأقارب والأجيال والأصدقاء في المقام الثالث. كما يتم الابتعاد عن مختلف السلوكات المعكرة لأجواء الاحتفال. ويختتم العيد بالتوجه إلى مسجد الدوار لقراءة القرآن وترديد الأمداح النبوية والانصهار الوجداني معها (ص:137). ويعتبر الاحتفال بهذا اليوم طقسا لتخليد ميلاد ولي أولياء الله كتخليد مجمل باقي الصلحاء في المغرب من قبيل سيدي حماد أو موسى في جنوب المغرب.
ينتقل الباحث للحديث عن طقس آخر يتمثل في صيام شهر رمضان والاحتفال بعيد الفطر. يعد شهر رمضان من الأشهر الهجرية التي تشهد كثافة على مستوى الممارسة الدينية، وبالتالي، يكتسي قدسية في بالغ الأهمية يفسرها الاستعداد الروحي والمادي لسكان دكالة. خلاله تحتل طقوس الصلاة مكانة في الأنشطة اليومية للسكان الذين يعكفون على آدائها بشكل منظم سواء المنقطعون عن آدائها خلال الأوقات العادية أو المداومون لها أو المؤقتون في آدائها.
وتتسم أيام شهر رمضان بحماس ديني منقطع النظير ممزوجة بإعداد أطباق الأكل لتناولها خلال وجبة الفطور مع آذان صلاة المغرب. يستقبل اليوم الأول من هذا الشهر بخشوع من طرف سكان دكالة على غرار المسلمين. إن الصيام هو ارتقاء إلى ما هو علوي، إنه صيرورة من أجل تطهير ذوات المسلمين (ص:138). وهو أيضا تحكم في طبيعة حياة الفرد وضبطها وفقا للقواعد الدينية كما تجسده كل الفئات الاجتماعية نساء ورجالا، وعند بعض الأطفال، وحتى في الحالات التي يتعذر فيها الصيام (الحوامل، المرضى...). والصيام كذلك ذو طبيعة صحية تخلق انسجاما وتوازنا على مستوى الجسم لأنه من مصدر إلهي. وتتميز الأيام الرمضانية عند الصائمين، في بعض الأحيان، بردود أفعال عنيفة وتوترات سرعان ما تذوب بمجرد مرور تلك اللحظة العابرة. وفي ليلة الخامس عشر من رمضان يتم التبرع بموائد الطعام إلى المسجد حيث يلقى الذكر ويقرأ القرآن بعد صلاة العشاء حتى بلوغ صلاة الفجر، ويجمع قدر من المال ليمنح للفقيه (إمام المسجد). وتستمر أيام رمضان في شكلها العادي حتى حلول ليلة القدر التي يصل فيها التعبد ذروته وقدسيتها تتمثل في إقبال السكان على الصلاة منذ تناول الإفطار إلى حلول صلاة الفجر. وهي ليلة ذات طابع خاص ومباركة حسب آراء المبحوثين، حيث تفتح فيها أبواب السماء أمام دعواتهم. ويتأهب سكان المنطقة لمراقبة الهلال في مساء اليوم التاسع والعشرين من هذا الشهر والذي في حالة ما تم ثبوت رؤيته يكون ذلك بمثابة إعلان عيد الفطر في اليوم الموالي، فيتم الشروع في إخراج الزكاة قبل العيد. وفي صبيحته تتبادل التهاني بين أفراد الأهل بعد تناول مائدة الإفطار المعدة من طرف النسوة والمتنوعة الأطباق. خلال هذه العملية يتم البدء بكبار السن والشأن، ثم يشرع في تبادل الزيارات بين الأقارب والأحباب والجيران كما هو الأمر في مناسبة عاشورا.
يحظى طقس الحج بمكانة بارزة في تصورات أهل دكالة، ويبدو ذلك في الرغبة التي تنتابهم لزيارة الأماكن المقدسة (بيت الله وقبر الرسول)، خاصة وأن الحج هو فريضة دينية لمن استطاع إليه سبيلا. وغالبا ما يقتصر الحج على وجهاء المنطقة (الدوار الذي أنجزت فيه المقابلات بهذا الشأن)، من ثمة يصبح رمزا من رموز الوجاهة الاجتماعية، يضاف إلى ذلك نعت كبار ذوي الجاه في التراتب الاجتماعي بالمنطقة بلقب الحاج مميزين إياهم في الهرمية الاجتماعية. وإلى جانب طقوس الاحتفالية عند المغادرة أو العودة، فإن المثير للملاحظة هو تلك الهالة التي يضحى الحاج/ة يكتسيها والاستعداد لاستقباله، إذ يتم التسابق للسلام عليه وتقبيله والتمسح بجسده الذي رفعت عنه زيارته لقبر الرسول طابعه العادي والمألوف وجعلته يشع بالنور والبركة (ص:142). يتهافت المستقبلون، صغيرا وكبيرا، للحاج العائد من الديار المقدسة للتشبع بهذه البركة وتطهير ذواتهم من المدنس خاصة وأن جل سكان المنطقة بعيدون عن هذا الإنجاز الديني بفعل ظروفهم المعيشية. وللتعويض عن ذلك يلجأ هؤلاء إلى التشبع بالبركة التي عاد بها من الحج، أو زيارة الأضرحة التي تعادل قيمتها قيمة الحج (ص:143).
ينهي الباحث الممارسات الدينية الموسمية كما تحضر عند سكان دكالة بحديثه عن شعيرة عيد الأضحى الذي يعد سنة مؤكدة يتم الاحتفال بها في العاشر من ذي الحجة. وفي حديثه عن هذا الطقس يجد الباحث في دراسة أنجزها عبد الله حمودي حول سيرورة الاحتفال بهذا العيد بإحدى مناطق الأطلس الكبير، ملهمه النظري، حيث قسم مراحل هذا الاحتفال إلى مرحلة صلاة العيد وتهيئ الأضحية، ثم نحر الأضحية، وأخيرا إعداد الوجبات الفاخرة(ص:144).
ودون الدخول في تفاصيل ممارسة هذا الطقس يجدر التذكير بأن رمزيته وقدسيته الدينية تتمثلان في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام الذي أراد نحر ابنه استجابة لدعوة الله الذي فداه بكبش عندما رضي إسماعيل بذلك. ترمز هذه الشعيرة، حسب الباحث واستنادا إلى أحد الدارسين (M.E.combs, 1983)، إلى الإنجاز الذكوري في تحقيق الأمل في جعل الحياة الأبدية ممكنة ومستمرة (ص:145). أما قدسيتها فتتجلى في مختلف السلوكات والممارسات التي يقوم بها الدكاليون خلال اليومين الأولين من مناسبة العيد. فالالتقاء في مكان مقدس (المسجد) بالدوار والصلاة الجماعية يعد ذلك وقوف بين يدي الله والتخشع له وهو اليوم الذي أنقذ فيه اسماعيل من التضحية به ضامنا بذلك استمرار الحياة في الوجود (ص:146). وما يثبت رمزية هذه المناسبة هو تسمية ذلك المزيج الغذائي المقدم للأضحية قبل نحرها (المشكل من حبات القمح ووريقات من الورد والريحان وإعطائها قليلا من الماء) باسم عرفة عرفانا بقدسية وشعائرية المكان الذي يقف فيه الحجاج إجلالا لله. ينضاف إلى ذلك طريقة القيام بالنحر في توجيه الأضحية نحو القبلة والبسملة والتكبير. وهي طقوس يؤطرها ما هو ديني إسلامي شأنها شأن نحر الحيوانات الذي يتم وفق قواعد معينة كما قال مارسيل موس (ص:146). إن البعد القدسي في عملية التضحية هذه يبدو في تحرير الروح من الجسد وإلحاقها بالأرواح الخالدة، وأن الأضاحي بمثابة عرائس تزف للجنة، ودمها مقدس يوجه لله (ص:147). وما يزيد من رمزية هذا الطقس ذلك الالتحام الوجداني القائم حول موائد الأكل بين الأحباب والأصدقاء خلال يوم العيد، وتبادل الزيارات تمتينا للروابط القرابية وتطهيرا للذوات من الشوائب والنزاعات الاجتماعية. أما الطقس الذي يقوم به شباب المنطقة والذي أورده عبد الله حمودي في دراسة باسم "سبع بولبطاين" فاعتبرها فسترمارك، حسب الباحث، طقسا وثنيا ألبس لبوسا إسلاميا (ص:147). وهو طقس يسير الآن في اتجاه الانقراض.
4.3. الممارسات الدينية الظرفية:
ويحدد الباحث مختلف الممارسات التدينية الظرفية التي يقوم بها سكان دكالة في: زيارة الأضرحة والممارسات الجنائزية والختان. وعلى الرغم من أن زيارة الأضرحة لا تنال رضى الفقهاء، فهي حاضرة بقوة في المخيال الاجتماعي للسكان بالمنطقة إلى الدرجة التي يستعين فيها الفقهاء أنفسهم ببركة أولياء هذه الأضرحة بزيارتها خفية في الحالات القصوى.
4.3.1. وظائف زيارة الأضرحة كممارسة دينية ظرفية:
تعد الأضرحة في الوسط القروي، على وجه التحديد، بمثابة مؤسسة دينية قائمة بذاتها لها وضعها القانوني والساهرون على تدبيرها. فالضريح بناية لقبر ولي أو لشخصية مستعارة لجن ما تتوفر على بركة بواسطتها يعمل على قهر الأرواح الشريرة وإلحاق الأذى بمن يشك فيه. ويظل هؤلاء الأولياء الذين بنيت أضرحة حولهم أحياء حتى بعد مماتهم بفعل توسطهم عند الله لقاصديهم من الناس. ويسهر مسيرو هذه الأضرحة، حفدة كانوا أم خداما، على الإبقاء على سرمدية التراث الرمزي لهؤلاء الأولياء عبر إعادة إنتاج هذا الرأسمال بواسطة الرواية الشفوية ونقله إلى الأجيال اللاحقة لمريديهم والإشادة ببركاتهم ووساطتهم الإلهية، ونسب المعجزات لهم.
زيارة هذه الأضرحة كممارسة دينية عند هؤلاء السكان يعد، في حقيقة الأمر، بحثا عن السبوب، شريطة توفر عنصر النية عند الزائر حتى يستجاب لطلبه ولموضوع الزيارة والالتزام بآدابها من تقبيل لأركان الضريح وتقديم الهدية التي تختلف رمزيتها باختلاف قيمة موضوع الزيارة (ص:151). وقد ميز الباحث بين أربعة أسباب تدفع بسكان المنطقة إلى زيارة الأضرحة حددها في الإبراء من الأمراض، وإبرام المواثيق والعهود، والتخلص من النحس، والسياحة الدينية.
تتمثل الأمراض التي من أجلها تزار الأضرحة في الأمراض العضوية (العقم، الإجهاض المتكرر، عدم إنجاب الذكور) وأمراض نفسية وعقلية ناتجة عن إصابة بالجن أو عن سحر ما (أمراض الفصام، الصرع...). وقد تزار أضرحة محددة مشهود لها بشفائها لمرض معين (ضريح مولاي بوشعيب الرداد بمنطقة دكالة يعرف بمنقذ العاقرات، وضريح مولاي ابراهيم بضواحي مدينة مراكش لنفس الداء وواهب الذكور، ضريح سيدي مسعود بن حسين بمنطقة دكالة، ضريح بويا عمر بمنطقة الحوز لإبراء الأمراض النفسية، سيدي معاشو بن سعيد للإبراء من الأمراض العضوية).
ويعتبر بعض الدارسين، كما يقول الباحث، بأن هذه الممارسات والطقوس ما هي إلا طرق استشفائية محلية تنتمي إلى الإثنوطبنفسية المغربية (ص:152-153)، ولكنها في حقيقة الأمر هي أكثر من ذلك لأنها جزء لا يتجزأ من معتقداتهم الدينية.
ويرد في الكتاب سببا آخر من أجله تزار الأضرحة يتمثل في إبرام العهود والمواثيق، مؤكدا بأن هذه الأضرحة كانت وما زالت المكان المفضل عند أهل دكالة الذي تعقد فيه العهود بين الشركاء بدءا من الأزواج، وكل من خالف عهدا ما عليه أن ينتظر عقاب وقصاص ولي هذا الضريح الذي عقدت في حضنه هذه الشراكة. ويعتبر ضريح مولاي عبدالله أمغار من أكثر الأضرحة زيارة لهذا الغرض وأشهرها قداسة وتحقيقا بما يعهد به في حضرته.
ويلجأ سكان دكالة إلى الأضرحة تيمنا منهم بها لتعطيل سوء الطالع والنحس الذي قد يلازمهم في حياتهم اليومية. يؤكد الباحث في هذا السياق بأن سكان أحد دواوير مجتمع الدراسة (دوار الرواحلة) متشبثون بانتسابهم للولي "سيدي اسماعيل مول الزاوية" الذي يعد جدهم الأول ويزورون ضريحه كلما رغبوا في اتخاذ قرار هام وحاسم كالزواج أو الهجرة أو الدخول في شراكة أو غير ذلك (ص:155). تحدث هذه الزيارات في شكل طقوس دينية تنتهي بانتظار أجوبة هذا الولي بعد الرجوع إلى منازلهم التي تصلهم في شكل رسائل مرمزة إما بوقوع أحداث أو عبارة عن رؤى تحصل لهم خلال النوم معاتبا إياهم بالإخلال بالعهد أو بعدم تقديمهم للهدية. إنه اعتقاد ديني يلتزم به سكان هذا الدوار إلى المستوى الذي يعتقدون فيه أن الولي لن يخطئ في مشورته ووساطته مع الإله، خاصة وأنه يتميز عن باقي الأولياء في المنطقة بكونه يشفي من "داء التابعة" (سوء الطالع) الذي يلازم شخصا ما وينغص عليه حياته، وبمجرد ولوجه هذا العالم الروحي بإيمان مطلق فإنه يعود إلى بيته آمنا مطمئنا (ص:156).
وتتخذ زيارة الأضرحة، كذلك، في منطقة دكالة، شكلا آخر يتمثل في السياحة الدينية. فإذا كانت هذه الأضرحة بمثابة أمكنة مقدسة، فإن هذه القداسة تستمدها من علاقتها مع السماء حيث موطن الفضيلة والتقوى. ولعل ذلك ما يجعلها في النهاية خزانات أرضية للقداسة السماوية. أما الظفر بهذه القداسة فلن تتحقق إلا بفضل المواسم حيث تكثر زيارة الضريح كما يحصل في موسم "مولاي عبدالله أمغار". إلا أن ذلك سرعان ما يتحول إلى سياحة دينية يغلب عليها الطابع التجاري على الرغم من أن المسعى من الزيارة يبقى في نهاية المطاف هو الترويح عن النفس عن طريق دعوة الولي الصالح للوقوف إلى جانب الزوار في مواجهتهم لصعوبات الحياة (ص:157).
4.3.2. الطقس الجنائزي دعم للتلاحم الاجتماعي:
تحدث الطقوس الجنائزية كممارسات تدينية أثناء الموت حيث ينتشر القلق والتوترات لدى أهل المنطقة مما يستدعي تضامنا بين هؤلاء لمواجهة هذا الخوف. وإذا كان هذا الطقس الذي يلازم الموت بمثابة طقس مرور بامتياز، بتعبير بلانديي، فإن هذا المرور يحدث من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، وتهييئ سيكولوجي لباقي الأحياء للتشبع بهذا الطقس. وقد ميز الباحث، في هذا الطقس، بين ثلاث محطات للمرور حددها في فصل الميت عن عالم الأحياء، وفترة الحداد والعودة إلى الحياة العادية. تتخلله سيرورة من التصورات التي يتداخل فيها المحلي بالكوني والديني بالاجتماعي (ص:158).
تظهر تجليات الطقس الجنائزي في فصل الميت عن عالم الأحياء في بداية الأمر وهو ما زال مريضا حيث يركن في زاوية من زوايا البيت. وبمجرد ظهور أعراض على جسمه يشرع سكان الدوار، خاصة الكبار منهم، على زيارته للرفع من معنوياته أو لتوديعه وطلب السماح منه إن أخطأوا في حقه أو كان هو المخطئ. ويصبح الفصل نهائيا بعد الوفاة حيث تسد عيناه ويولى شطر القبلة ويتم تغسيله بالماء الساخن والصابون وفق الضوابط الإسلامية. يتولى ذلك إمام المسجد إذا كان الميت ذكرا أو امرأة مولدة إذا كان أنثى بعد أن يلقن لها ما ستقوم به من طرف هذا الإمام. وبعد عملية التغسيل يتم تدليك أطرافه بقطعة من الثوب باستثناء الفم والأعضاء التناسلية حيث يلجأ المغسل إلى يدي الميت في تنظيفها وتقفل أذناه بقطعة من الصوف درءا لعذاب القبر. وتمر عملية تكفينه بثوب أبيض قطعة منه على شكل سروال والثانية صدرية والثالثة تلف فيها الجثة بكاملها توضع إلى جانبها مجموعة من المعطرات (وريقات الورد والريحان وحبات الحرمل وقنينة من ماء الزهر). توضع الجثة على جانبها الأيمن في اتجاه القبلة ثم يشرع الطلبة (حافظو القرآن) في تلاوة القرآن إلى أن يقترب موعد الفصل الأخير، وهي اللحظة الرهيبة، حيث يتوجه بها إلى المقبرة محمولة على نعش من طرف أقاربها. يحدث ذلك في موكب جنائزي دون مشاركة النساء في ذلك باستثناء بكائهن ونحبهن. توضع الجثة في قبرها على جانبها الأيمن وتغطى بأحجار وتراب بعد أن يصلى عليها صلاة الجنازة التي تختلف عن باقي الصلوات الأخرى على مستوى التكبير ودون ركوع وسجود. يودع الميت بتلاوة القرآن التي تحدث بشكل تزامني مع عملية الدفن والدعاء له بالرحمة والغفران. وعند الانتهاء يغادر الرجال المقبرة باستثناء الفقيه الذي يمكث إلى جوار القبر يلقن الميت الإجابات التي سيرد بها على ملكوت الموت (ص:160). ويحرص أهل الميت على إخفاء كل الأدوات التي استعملت في تطهير الجثة وتكفينها خشية استعمالها من طرف السحرة لإلحاق الأذى بالناس، خاصة وأن تصور القرويين حول هذه الأدوات كونها منبعا للسحر والشعوذة.
4.3.3. الحداد التزام ديني ووفاء للميت:
تلي هذه المرحلة مرحلة أخرى تتمثل في طقس الحداد حيث المراد منه إدماج الميت في عالم الموتى وإدماج حدث الموت مع عالم الأحياء. ولتحقيق ذلك يتحتم على أهل الميت، أن يدخلوا في حداد وحزن على مستوى الدوار مع القطع مع مظاهر وعلامات الفرح. غير أن المعنيين أكثر بهذا الطقس هم أقرباء الميت الذين يقطعون مع كل مظاهر الزينة، وخاصة الزوجة إذا كان الميت متزوجا. يلزم هذه الزوجة/الأرملة الاغتسال في المكان الذي تم فيه تطهير الميت مع ارتداء لباس وأحذية بيضاء إلى غطاء الرأس. وكل ذلك تعبير عن مدى احترام الزوجة لزوجها المتوفى وحزنها عليه. وتقام منذ الليلة الأولى من الوفاة حفلة تأبينية تدعى بـ "عشاء الميت" ترافقها تلاوة القرآن من طرف الطلبة. يتكون العشاء المقدم من الكسكس ويعتبر أول طعام يقدم من مال المتوفى بعد وفاته مع العلم أن العادة تقتضي ألا توقد نار المطبخ في بيت المتوفى قبل موعد العشاء، إذ يتكلف الجيران بإطعام أهل الميت والمواسين. وأثناء اليوم الثالث من الحداد تزور النسوة المقبرة للترحم عليه وقراءة بعض الآيات القرآنية والتصدق والدعاء معه بالغفران. ينتقص الحداد بعد ذلك بشكل تدريجي باستثناء الزوجة/الأرملة حيث تبقى وفية له و"حافظة حق الله في زوجها" بعدم مغادرتها للبيت، أو مخالطتها للرجال وعدم استحمامها، أو تغييرها للباسها الأبيض إلا بمثيله سوى يوم السبت. وفي الأربعين بعد الوفاة يقام حفل تأبيني يرفع بعده أقارب المتوفى الحداد إلا زوجته التي تستمر في ذلك حتى اليوم الثلاثين بعد المائة (ص:161).
وتبدأ المرحلة الأخيرة من الحداد بانقضاء أيام العدة (130 يوما) حيث تقوم الأرملة بإزالة ثيابها البيضاء وتعويضها بلباس عاد بعد أن تستحم في "المتروسة" التي أعدت لها وتضع زينة على وجهها وتطلي رجليها ويديها بالحناء. غير أن العلاقة بين الأحياء والأموات تبقى مستمرة في شكل زيارة والدعاء لهم بما يخفف عنهم أو بما يسليهم، وبين الأموات والأحياء في شكل أحلام تزور فيها الموتى أقاربهم ليطلعونهم على أحوالهم (ص:162).
4.4.4. الأهمية الدينية والاجتماعية لطقس الختان:
وفي حديثه عن طقس الختان كممارسة تدينية ظرفية، يستهله الباحث بالتساؤل عن مصادره وهويته. ودون إطالة الكلام عن هذا الإشكال نود القول بأن الختان تعزى أهميته الكبرى، التي يحظى بها عند الشعوب الإسلامية التي جعلته فرضا دينيا، إلى وظيفته الوقائية من الجراثيم ووظيفته الجنسية أيضا (ص:164). وقد أفرزت المعاينة التي قام بها الباحث لمجتمع الدراسة عن تحديده لثلاث لحظات زمانية يمر عبرها طقس الختان.
تبدأ اللحظة الأولى بالإعداد للختان وغالبا ما يكون بعد نهاية الموسم الفلاحي. يجتمع المدعوون عند أسرة الطفل المقبل على الختان. إنها مرحلة تهيئ الطفل للانتقال به إلى عالم الطهارة والتميز الجنسي كما يقول الباحث (ص:165). يلبس اللباس المخصص لهذا اليوم (قميص طويل، صدرية، طربوش تركي، بلغة) وهو لباس يتراوح لونه بين الأبيض والأخضر، وهي الألوان التي تضفي طابعا قدسيا على هذا الطقس وترمز إلى الصفاء والطهارة على حد تعبير الباحث. ويتم التوجه بالطفل، في حشد كبير، نحو ضريح الولي الصالح على صهوة الحصان رفقة أبيه، وحوله النساء والأطفال مرددين الأهازيج، باستثناء الأم التي تظل منتظرة عودة الموكب الذي يجدها متزينة بالكحول والسواك وملابس بيضاء. وعند وصول الموكب إلى الضريح يتم إنزال الصبي عن الحصان ويطاف به حول الضريح سبع مرات وهو على ظهر جدته. يعود الموكب إلى المنزل من جديد، يقدم الأكل ثم يشرع في تزيين الطفل (الحناء) في مجلس نسوي يرمز إلى عالم الأنوثة الذي لا يزال هذا الصبي ينتمي إليه إلا أنه مدنس بالمعايير الذكورية (ص:166). وعندما تحين اللحظة يخطف الطفل من بين النساء ليؤتى به إلى غرفة مجاورة حيث يمكث الحلاق ووالد الصبي وبعض الأقرباء (أخواله وأعمامه).
يجلس الأب ابنه في حجره ويقترب منه الحلاق دون إزعاجه بل بإثارة انتباهه بحيلة ما يعرف "العصفور الذي يحلق هناك"؛ في تلك اللحظة يختن الحلاق، بحركة سريعة، الطفل منقلا إياه إلى عالم الطهارة والذكورة. وما أن تسمع النسوة، اللائي يتتبعن عملية الختان من وراء باب الغرفة صراخ الطفل، حتى يبدأن في الإنشاد والزغاريد والصلاة على النبي (الصلاة والسلام على رسول الله، لا جاه إلا جاه النبي، الله مع الجاه العالي). ويضيف الباحث، على لسان الباحثة فينك ريسو، أن ترديد تلك الزغاريد والأناشيد ليس إلا لإبعاد الأرواح الشريرة وصرف انتباهها عن حالة الضعف التي يوجد فيها الصبي. بهذا الختان يصبح الصبي قد ولج عالم الرجولة (ص:167).
أما بعد الختان، فهي لحظة يرجع فيها الطفل إلى أمه التي تشرع في الرقص وسط النساء إلى أن تسقط مغمى عليها ليوضع الطفل الختين في حجرها وتبدأ في البكاء. وترمز هذه الرقصة، حسب الباحث، إلى سلوك وقائي للطفل ولأمه، ويرمز البكاء إلى فقدان الأم لابنها الذي ولج عالم الرجولة والذكورة. في هذه اللحظة تقدم للإبن مجموعة من الهدايا في شكل قطع نقدية وقوالب السكر (البياض). إن قدسية هذا الطقس وبعده الديني يتمثلان في كون الصبي الختين يتغلب على توتراته وقلقه بفعل بركة الولي الصالح الذي طاف حوله لسبع مرات، ويتمثلان كذلك في كون عملية الختان هي تأكيد لإسلام الطفل وتمييزه عن النصراني.
5. ثنائية الديني والسحري في المجتمع المغربي:
هل هناك حدود بين الدين والسحري؟
سؤال حاول الباحث أن يجيب عنه من خلال المرجعيات النظرية الأنتروبولوجية التي قدمت مقاربات بشأنها على الرغم من تباينها (فرايزر، مارسيل موس، جاك بيرك، فسترمارك). ونتيجة للمعاينة الميدانية التي قام بها الباحث في مجتمع الدراسة توصل إلى التمييز بين ثلاث ممارسات تدخل ضمن نطاق أشكال التقاليد الدينية بالمجتمع المغربي، بما فيها التقاليد الرسمية، مصنفا إياها إلى الوقائي والغيبي والسحري.
5.1. الممارسات الدينية وقاية للذات الإنسانية:
حدد الباحث الممارسات الوقائية في تلك التي تخرج عن نطاقها الديني الضيق دون أن تتحول إلى ممارسات سحرية. الهدف منها هو الاحتماء من القوى الشريرة التي تتربص بالناس. تقام هذه الممارسات في بعض المناسبات كالزواج والختان والرضاعة والنفاس والولادة والحمل وغيرها (ص:170). تمظهراتها تبدو في أشكال التزيين والتجميل ببعض أنواع الحلي أو إحراق البخور وطلاء الجسد بالحناء أو وشم أعلى الجبين أو أسفل الذقن أو الذراعين والساقين، وكذلك على مستوى الأعضاء التناسلية في بعض الأحيان (ص:170). ومن بين الممارسات الأكثر شيوعا تلك التي ترتبط بحمل التمائم والتعاويذ التي تبتعد عن كل مظاهر السحر حسب تصورات سكان المنطقة، ما دامت تضمن اسم الله وما زفت به الملائكة الرسول عندما سحره أحد السحرة (ص:171). إنها تمائم لحفظ الإنسان من العين الشريرة والساحرة، فهي بالتالي ممارسات وقائية.
5.2. الوساطة الربانية آلية للممارسة القدسية الغيبية:
أما الممارسات الغيبية فهي تلك التي يلجأ إليها للاحتماء بها أيضا من القوى الشريرة، ويكون ذلك عبر وساطات. إنها ممارسات تنبئ بالغيب وقد حددها الباحث في نوعين:
ما يرتبط بقراءة الطالع (علم الأبراج)، وما يرتبط بالتشوف (الشوافة). القائمون بهذه الممارسات يدعون بأنهم يمتلكون قوة ربانية تساعدهم على التنبؤ بمستقبل الإنسان (المريض، المسافر، الغائب...). ويستعان في ذلك بأدوات كالورق (الكارطا) أو الكفوف أو عظم كتف الكبش، أو الرمل، أو الرموز...إنها ممارسة تدينية يقوم بها القائم، في بيته، بشكل مكشوف وعلني لأنها مستساغة في مجتمع الدراسة وتعرف انتشارا واسعا وعريضا في قطاعات اجتماعية واسعة.
5.3. الممارسات السحرية ناقمة على الذات الإنسانية:
أما الممارسات السحرية، التي تشع بدرجة أقل من سابقتها لأنها محرمة دينيا، فهي سلوكات من فعل أشخاص محترفين تقام في أمكنة سرية يلجأ فيها هؤلاء إلى نقل مجموعة من الخصائص من كائن حيواني أو إنساني، عن طريق استعمال أوصافه أو أجزاء منه إلى الشخص المستهدف من وراء العمل السحري. ويستعان في ذلك بمجموعة من الأجسام القذرة والغريبة كالدم والأوساخ ورفات الجثث وأعضاء الحيوانات والشعر وقلامة الأظافر والملابس الملوثة بدم الحيض أو النفاس والسائل المنوي والإفرازات الجنسية للمرأة (ص:173). إنها أدوات يوظفها الساحر للتأثير على الشخص المستهدف من العمل السحري (استمالة عشيقين، تغليب كفة أحد الزوجين على الآخر، الحرمان من الإنجاب، إضعاف الخصوبة، تعطيل الزواج بالنسبة للفتاة...). وتتم ممارسة هذه الأعمال السحرية في غالب الأحيان في أوقات ذات حساسية قدسية (الليالي المقمرة، ليلة القدر، عاشورا)، وغالبا ما تلجأ النسوة إلى هذه الأعمال لمقاومة سلطة الرجال. إنها المقاومة بالحيلة (ص:174). وقد اعتبر الباحث هذه الممارسات السحرية منها أو الدينية بمثابة تصرفات حافلة بالدلالات المرتبطة في أغلبها بالتوترات التي يشهدها الإنسان خلال حياته اليومية.
6. التدين بالمغرب بين الوجود والتغير والاستمرار:
ينهي الباحث هذه الدراسة بـفصل ختامي ناقش فيه وضعية التدين بمجتمع الدراسة بين الوجود والتغير والاستمرار. في هذا السياق، يؤكد الباحث، بأن الإسلام كأحد الديانات التوحيدية الكبرى، يتجاوز في بعض أبعاده وقائع الحياة اليومية منظورا إليها من الزاوية الدينية. إن فهم هذا الدين بشكل مستقل عن الحياة اليومية للناس بمجتمع الدراسة، وبالتالي، محاولة تطهيره من هذا المعيش اليومي يكون محط مقاومة ومواجهة. ذلك ما توصل إليه الباحث وهو يناقش هذه الإشكالية معتمدا على آراء مبحوثيه التي أورد بعضا منها في هذا الكتاب (ص:177-183). لقد تبين للباحث أن فهم التدين والممارسات الاعتقادية في منطقة دكالة لا يمكن فصله عن السياق الاجتماعي والحس المشترك لدى سكانها على اعتبار أن ذلك يجسد جزءا من تنظيمهم الاجتماعي ومؤسسا لتصورهم ونظرتهم للكون. وقد بين ذلك من خلال أمثلة مستوحاة من الواقع، حيث عمد إلى إبراز المعارضة التي يبديها سكان المنطقة لكل تصور ديني لا يتوافق مع تنظيمهم الاجتماعي من قبيل الدعوة والوعظ والإرشاد الذي كان يقوم به أتباع جماعة الدعوة والتبليغ والتي لم تكن تلقى قبولا واستحسانا من طرف هؤلاء السكان بدليل العدد القليل الذي كان يحضر هذه الجلسات التي تكون محاور نقاشاتها الكف عن مختلف الممارسات اليومية التي لا تمت بصلة للإسلام (زيارة الأضرحة، التمائم...) وهو ما لم يكن يستسيغه سكان المنطقة. غير أن هذا لا يعني بـأن هؤلاء يغيرون من مبادئهم الدينية وعقائدهم على الرغم من الأشكال الاعتقادية والممارسات التي تتسم بالتغير. إن المبدأ المعتقدي ثابت وراسخ كجزء من الهوية الإسلامية للسكان. وقد سبق لمجموعة من الدارسين، أن أثبتوا ذلك مؤكدين بأن العقيدة لا تتغير نظريا، ولكن الممارسة اليومية مختلفة بفعل التحولات التي شهدتها البنية الاجتماعية (ص:184). ويورد الباحث مثالا، على سبيل الذكر لا الحصر، يتمثل في الاحتفال بمناسبة عاشورا التي كان يحتفل بها في بداية ق 20 كحداد على مقتل أحد أبناء علي بن أبي طالب، وكيف تحول هذا الطقس إلى يوم مقدس لا يحمل دلالة في الذاكرة الجماعية للسكان سوى هذه القداسة الدينية؛ أو الاعتقاد الذي كان يلازم السكان حول الجنون في بداية هذا القرن، وكيف أصبح هذا الاعتقاد، في الوقت الراهن، لا يولى له أي اهتمام من طرف شباب المنطقة عكس شيوخ وكبار السن الذين يعتقدون كليا في الجنون وظهورها في أشكال بشرية كما يبدو ذلك من خلال رواياتهم. كل ذلك عنوان لرسوخ الاعتقاد عند سكان المنطقة، إلا أن شكله يتغير بتغير البنية الاجتماعية ولو دون وعي من السكان.
ولا تقف استمرارية هذه الأشكال التدينية بالمنطقة على توافقها مع الحس المشترك وانسجامها مع التنظيم الاجتماعي اليومي فقط، وإنما أيضا بفضل الدعم الذي تتلقاه من طرف الدين الرسمي والسلطات المركزية التي تسهر على الحفاظ عليها. وقد حضيت هذه الأشكال التدينية (زيارة الأضرحة على سبيل المثال) بتشجيع الدولة لها ضمانا لاستمراريتها. يحدث ذلك وفق ثلاث محطات، وهي السماح بالوجود، تقديم المساعدات المادية، الاعتراف بشرعية الوجود.
فإذا كان وجود هذه الأشكال التدينية موضع رفض من طرف الجماعات الإسلاموية بدعوى أنها بدعة تمس جوهر العقيدة الإسلامية، خاصة وأنها تتم في أضرحة لصلحاء ماتوا وليس لأحياء، فإن السلطة المركزية تسمح لهذه الممارسات بالاستمرار والبقاء عن طريق تشجيعها وعدم إغلاقها (ص:192). ولعل المساعدة المادية التي تقدمها لها وزارة الأوقاف لمؤشر دال على الأهمية التي توليها السلطة المركزية لهذه الأشكال التدينية، خاصة وأن الوزارة الوصية لا تلزم الأضرحة بأية إتاوات على المداخيل التي تجنيها بفضل مهرجاناتها السنوية المنظمة ومختلف ممتلكاتها، أو منح المنحدرين منها فرص ولوج عالم السياسة بتوليهم مناصب عليا داخل جهاز الدولة لأنهم أبناء السيد أو الشريف...
ويؤشر كل ذلك على وضع سياسة دينية جديدة تنبني على دعم وتقوية الأضرحة وشبكة العلاقات الاجتماعية المبنية على المعتقدات المرتبطة بها في المنطقة، وفي المغرب عموما. وهي سياسة لم تعد ترتكز على السماح بالوجود بهذه الأشكال فقط، وإنما أيضا بالاعتراف الكامل بشرعية الوجود (ص:194).
وفي نهاية هذا العمل يورد الباحث جدولا إحصائيا يبرز فيه عدد المساجد التابعة لوزارة الأوقاف وغير التابعة لها المتواجدة بإقليم الجديدة موضحا مدى احتضانها لصلاة الجمعة أم لا؛ وقائمة بالزوايا الدينية الموجودة بالإقليم مبرزا الطائفة التي تنتمي إليها كل زاوية؛ وقائمة بالأضرحة التي يتوفر عليها الإقليم.
وختم الباحث هذا العمل بلائحة من المراجع، بالعربية والفرنسية والإنجليزية، التي اعتمد عليها في تأطير هذه الدراسة السوسيولوجية، وبفهرست للكتاب.
7. الظاهرة الدينية بين الأنتروبولوجيا والسوسيولوجيا:
يمكن إجمال أبرز ما استخلصه الباحث من هذه الدراسة في النقط التالية:
ظاهرة التدين بالمغرب، وتحديدا بالوسط القروي، هو تدين شعبي أكثر مما هو رسمي.
- ظهور حركات اسلامية مناوئة للدين الشعبي وللحس المشترك بالمجتمع المغربي علما بأن الاعتقاد الديني يتميز بالتقائه مع هذا الحس.
- ظاهرة التدين بالمغرب أخذت تشهد تغيرات عميقة حسب الفئات الاجتماعية. فإذا كان الشيوخ، مثلا، ما زالوا مقتنعين بأهمية الأولياء والوسطاء والاعتقاد في الجن لأجل التقرب من الله، فإن الشباب شرعوا في هدم هذا الاعتقاد مؤكدين بأن ذلك ما هو إلا اعتقاد وليس حقيقة. وبالتالي فنحن هنا أمام جدلية استمرار طقس الاعتقاد من جهة، وتغير النظرة إلى هذه القوى.
- سيادة الاعتقاد الشعبي بالوسط القروي يجعل البوادي بعيدة عن التطرف الديني.
الجدوى العلمية التي تضيفها هذه الدراسة حول المجتمع المغربي، كونها قدمت مونوغرافية للمعتقد الشعبي بمجتمع الدراسة باستلهام أطر نظرية تنتمي إلى السوسيولوجيا الكولونيالية، وأخرى أنكلوساكسونية ساهمت في ترصيصها وتثبيتها؛ وهو ما جعل الدراسة تلبس ثوب الأنثروبولوجيا أكثر من الفهم السوسيولوجي لظاهرة التدين. وهنا يكمن بيت القصيد إذا استحضرنا عنوان هذه الدراسة والتي جعل منها الباحث دراسة سوسيولوجية.
تستوجب اليقظة الإبستيمولوجية من الباحث العلمي إخضاع الموضوع الإبستيمي للتحليل والفهم العلميين أكثر من الوصف والسرد. ولذلك، فإن المقاربة الأكثر نجاعة للظاهرة الدينية استنادا لما جاء في هذا الكتاب تكون مقاربة سوسيوأنتروبولوجية (C.Rivière, 2008).
المراجع
1. كايوا، روجيه (2010)، الإنسان والمقدس، ت: سميرة رشا، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
2. حمودي، عبدالله (2003)، الشيخ والمريد، ت: عبد المجيد شحفة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب.
3. زاهي (ال) نور الدين (2005)، المقدس الإسلامي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب.
4. Rivière, claude (2008), socio-anthropologie des religions,2eme édition, Armand colin, Paris.
إدريس مقبوب[email protected]
أستاذ علم الاجتماع، جامعة محمد الأول، كلية
الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، المغرب.



#عزيز_باكوش (هاشتاغ)       Bakouch__Azziz#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحديات تدبير ظاهرة احتلال الملك العام بالحواضر ...
- فاس والكل في فاس 299
- فاس والكل في فاس 298
- الهدر المدرسي بين هاجس التنمية وتضليل الأرقام
- إرساء بنية تحتية للاتصال شاملة قصد تدبير المعلومة عن قرب وتو ...
- الفضاء الحداثي للتنمية والتعايش المؤتمر الدولي الأول تحت شعا ...
- فاس والكل في فاس 297
- حوار مع الدكتور بوشعيب أوعبي استاذ العلوم السياسية بجامعة مح ...
- فاس والكل في فاس 296
- فاس والكل في فاس 295
- الدكتور محمد البقصي في إصدار تربوي وتشريعي جديد
- فاس والكل في فاس 294
- كيف تقضي مصداقية الإعلام المغربي على عدو اسمه الجزائر ووهم ا ...
- فاس والكل في فاس 293
- فاس والكل في فاس 292
- ما الفرق بين اليسار السياسي واليسار الإلكتروني في الصحافة وا ...
- السمعي البصري والتربية أية علاقة ؟
- - المسألة الاجتماعية والفاعل السياسي والنقابي والحقوقي -موضو ...
- فاس والكل في فاس 291
- فاس والكل في فاس 290


المزيد.....




- حجة الاسلام شهرياري: -طوفان الاقصى- فرصة لترسيخ الوحدة داخل ...
- القناة 12 الإسرائيلية: مقتل رجل أعمال يهودي في مصر على خلفية ...
- وزيرة الداخلية الألمانية تعتزم التصدي للتصريحات الإسلاموية
- مراجعات الخطاب الإسلامي حول اليهود والصهاينة
- مدرس جامعي أميركي يعتدي على فتاة مسلمة ويثير غضب المغردين
- بعد إعادة انتخابه.. زعيم المعارضة الألمانية يحذر من الإسلام ...
- فلاديمير بوتين يحضر قداسا في كاتدرائية البشارة عقب تنصيبه
- اسلامي: نواصل التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة وفق 3 أطر
- اسلامي: قمنا بتسوية بعض القضايا مع الوكالة وبقيت قضايا أخرى ...
- اسلامي: سيتم كتابة اتفاق حول آليات حل القضايا العلقة بين اير ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عزيز باكوش - الدين والمجتمع الدكتور إدريس مقبوب