أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عزيز باكوش - تحديات تدبير ظاهرة احتلال الملك العام بالحواضر ذ. إدريس مقبوب















المزيد.....


تحديات تدبير ظاهرة احتلال الملك العام بالحواضر ذ. إدريس مقبوب


عزيز باكوش
إعلامي من المغرب

(Bakouch Azziz)


الحوار المتمدن-العدد: 4454 - 2014 / 5 / 15 - 14:49
المحور: المجتمع المدني
    


فاعلون أكاديميون في ندوة بصفرو يناقشون معضلة المٍلْك العام البلدي بين هاجس التثمين وسؤال إكراهات التدبير "

تحديات تدبير ظاهرة احتلال الملك العام بالحواضر
ذ. إدريس مقبوب
مقدمـة:
ظاهرة احتلال الملك العام من الظواهر المزعجة والمقلقة، إلى الدرجة التي أصبح فيها المجتمع يعاني منها وعلى وجه بالتحديد المجال الحضري. فإذا كان السطو على الفضاءات الخضراء من طرف لوبيات العقار ينمو بشكل مستمر ويشهد اختراقا مزعجا لها بتشييد العمارات، فإن ذلك ينتج عنه حتما إفراغها من جمالها الطبيعي وتعويضها بالبنايات والعمران. يدعونا ذلك إلى التساؤل عن الهدف وراء محو الرموز الفنية والجمالية للمدينة المغربية التي كانت تحيط بها في الزمن الماضي البساتين والحقول ، وأصبحت الآن مسيجة بالمباني والعمارات. وإذا كان هذا الأمر أصبح معتادا ومألوفا عند ساكنة المدينة، فإن الذي أصبح يقزز مشاعرهم هو التسلط على حقوقهم في التجول في الشوارع والحدائق العمومية، بالقوة والتحايل على القانون وتواطؤ السلطات المحلية إلى المستوى الذي أصبح يطغى عليه نوع من العبثية والفوضى. فكثير من المواطنين يحرمون من ولوج هذه الفضاءات لا لشيء إلا لأنهم لا يحسون براحتهم، ولا يشعرون بالأمان، الشيء الذي يجعلهم يفكرون في الابتعاد عنها. وما الباعة المتجولون والفراشة والترامي على الملك العام (احتلال الشوارع والأرصفة وواجهات المؤسسات الدينية والتربوية...) إلا صور معبرة وواقعية عن هذه الظاهرة.
ستحاول هذه المداخلة إثارة قضايا تهم تحديدا تجليات احتلال الملك العام بالوقوف عند أشكالها وصورها من جهة، وإثارة إشكالية تدبير المجال الحضري ما دام السطو على الملك العام في حد ذاته هو غطاء على الكيفية التي يدبر بها المجال في المدار الحضري.
أما الآراء والمواقف حول هذه الظاهرة فتبقى متباينة ومتراوحة بين رفضها وقبولها بحسب الاستفادة منها من عدمها. فهناك من يؤيدها بإنكار صفة الاحتلال لهذا الملك العام ، وهناك من يعارضها بدعوى أن ذلك إخلال بالقانون وسلب لحقوق المواطن في التصرف في هذا المشترك بالشكل الذي لا يسيء للآخر.
إن الأمر أبعد من ذلك، فهو صراع على المجال بين الذي يمتلكه بالقوة وبين الذي يعمل على تحريره بقوة القانون. إنها ثنائية القوة والقانون، فأيهما سيخدم الآخر لتدبير المجال؟ أو، بالأحرى، لامتلاكه؟ فإذا كان القانون عبارة عن ضوابط وثوابت ومبادئ وقواعد لتحقيق العدالة الاجتماعية، فلماذا يغيب في تدبير أزمة المجال وفي استرداد الملك العام؟
بناء على ذلك، سنقارب في هذه المداخلة ظاهرة احتلال الملك العام من خلال التطرق للآليات التي تشتغل بها الظاهرة، والعوامل المتحكمة في انتشارها، مع التوقف عند مواقف الفاعلين السياسيين والمنتخبين منها، ومحاربتهم لها بشكل مناسباتي وبعد تدخلات براغماتية. وهكذا، يمكن تحديد عناصر إشكالية هذه المداخلة في التساؤلات التالية: ما المقصود بالملك العام؟ ما هي تجليات احتلال الملك العام؟ ما أسباب انتشار ظاهرة احتلال الملك العام؟ كيف يتم تدبير الملك العام؟ ما هي نتائج احتلال الملك العام؟ وما هي السبل الكفيلة بحماية الملك العام؟ وسننهي هذه المداخلة باقتراح توصيات حول هذه الظاهرة.
الإجابة على هذه التساؤلات تقتضي منا استحضار بعض المقدمات النظرية والموجهة لهذه المداخلة التي تتقاطع معها. بناء على ذلك، يمكن القول بأن:
- ظاهرة احتلال الملك العام بقدر ما هي ظاهرة مرضية فهي صارت، أيضا، ظاهرة طبيعية ومألوفة عند المواطن العادي بحكم الاحتكاك اليومي بها، والتكيف معها بفعل التردد الدائم عليها.
- ظاهرة احتلال الملك العام أصبحت مفروضة بفعل التملص من المسؤوليات.
- ظاهرة احتلال الملك العام هي، في واقع الأمر، صراع مجالي وسياسي.
احتلال الملك العام: إشكالية التعريف:
تمثل عملية تحديد المفهوم وتعريفه إشكالا إبستيمولوجيا في الدراسات العلمية، وتعد خطوة منهجية ضرورية لكل دراسة تتوخى تحقيق العلمية. لهذا، فالممارسة الإبستيمولوجية هي في عمقها ممارسة اليقظة المنهجية والنقدية للبعد المفهومي والميتودولوجي في الدراسات الاجتماعية والإنسانية وتستوجب القيام بالتأطير العلمي للمفهوم. على هذا الأساس، فإن تعريف مفهوم الملك العام يطرح إشكالا معرفيا خاصة وأنه لم ينل حظه من الدراسات النظرية، الاجتماعية منها تحديدا، لمقاربته مقاربة علمية إذا استثنينا التأطير القانوني لها. ولعل ذلك ناجم، في تقديري، عن تعقد أجرأة المفهوم، ومن خلال ذلك الإقرار بصعوبة ملامسة الظاهرة.
تأسيسا على ذلك، فإن تقديم تعريف شاف وتام لمفهوم الملك العام كفيل بمساعدتنا على مقاربة الظاهرة موضوع الدراسة، لن يكون بالأمر اليسير بالنظر إلى نذرة المصادر والمرجعيات النظرية والعلمية التي أطرته. ومن هنا أجدني مضطرا للاكتفاء بالتعريف الذي قدمه أحد الباحثين والذي مؤداه أن الملك العام هو ما لا يستحقه الإنسان لوحده بقدر ما هو مشترك بين الناس، ويدخل في إطاره الأرصفة والمساحات والحدائق العمومية والإدارات وأسطح وممرات المساكن المشترك . ويضيف إليه الباحث محمد مياد أملاك أخرى تعد عمومية كما ينص على ذلك الفصل الأول من ظهير فاتح يوليوز 1914، وهي: الشواطئ والآبار والخلجان والبحيرات والسدود ومجاري المياه والموانئ ، إنها أملاك عمومية لا يحق لأي أحد أن ينفرد بتملكها.
ويتميز الملك العام بخصائص، ينفرد بها عن الملك الخاص، تتمثل في عدم القابلية للتفويت، وعدم القابلية للحجز، وعدم القابلية للاحتجاز كما جاء في ذات التعريف السالف ذكره. وهي خصائص كافية لتأكيد بأن الملك العام لا يحق لأي فرد أن يتصرف فيه بذاتيته، وبالتالي فإن احتلاله هو غير مشروع قانونيا وشرعا.
والملاحظ أن التصرف في الملك العام واستعماله يتراوح بين الترامي والتسلط عليه بالقوة من جهة، وبين الترخيص القانوني له من جهة ثانية، حيث يتخذ ذلك صفة الاحتلال المؤقت يتبع فيه مسطرة وإجراءات قانونية، بينما يصير الأول احتلالا دائما وبالقوة وتحت أنظار السلطات المحلية.
ما هي تجليات احتلال الملك العام؟
احتلال الملك العام لا ينبغي تجسيده في الباعة المتجولين أو المستقرين على الأرصفة وفي الأزقة والشوارع والحدائق وبجانب المؤسسات العمومية (المدرسة، المستشفى، المسجد، السجن، المحطات الطرقية...)، أو وسط المدينة، أو في الأحياء الشعبية منها والراقية ولو بأقل مستوى. إن ظاهرة احتلال الملك العام تفوق ذلك بكثير. فإذا كانت المقاهي، هي الأخرى تتسلط على الملك العام، أرصفة الشوارع، وتحرم المواطنين من حقهم في الولوج إليها، فإننا نجد أيضا ما هو أخطر من ذلك يتمثل في السطو على العقار وتفويت المساحات الخضراء لذوي النفوذ وللوبيات للاستحواذ عليها. وهذا ما يجعل الجمال الطبيعي للمدينة ينقرض تدريجيا ويحل محله الجمال المعماري.
غير أن المستهدف من محاربة ظاهرة احتلال الملك العام يبقى تحديدا فئة الفراشة والباعة المتجولون أو المستقرون، مما يجعلنا أمام ازدواجية الخطاب الرسمي ومفارقته في التعامل مع هذه الظاهرة. فمن جهة يغض النظر على المقاهي والتجار الذين يخرجون سلعهم إلى أرصفة الشوارع والمترامين على العقار من طرف السلطات العمومية، ومن ناحية أخرى يحارب ويحاسب الباعة المتجولون والفراشة المسترزقون ببضاعتهم. أما المواطن فلا حول ولا قوة له سوى الاحتجاج والاستنكار أحيانا، والتعاطف مع هؤلاء أحيانا أخرى.
وهناك أنواع أخرى من الملك العام وتقع تحت مسؤولية السلطات المحلية والمجالس المنتخبة، يتعلق الأمر بالأملاك المخزنية أو الأملاك الجماعية. إنها الأنواع الأكثر استهدافا للسطو والتسلط لكونها تكون مجاورة لذوي الملك الخاص وهو ما يسهل من فعل الترامي عليه؛ أو لكون أهميته الاستراتيجية في التراتبية المجالية تجعله موضع تهافت وطمع المترامين عليه، ويحدث ذلك إما بدون رقابة أو بواسطة غض الطرف خدمة لأغراض خاصة.
دواعي انتشار ظاهرة احتلال الملك العام.
تفشي ظاهرة احتلال الملك العام لم يكن محض صدفة، بقدر ما كان وليد مجموعة من الشروط التاريخية التي أنتجت الظاهرة والتي سنأتي على ذكرها لاحقا. وقد حددت المندوبية السامية للتخطيط في تقاريرها لسنة 2007 أن عدد المشتغلين في القطاع غير المهيكل يفوق 2,2 مليون، وهو رقم له دلالة اقتصادية واجتماعية يستدعي التأمل والتفكير فيه. هذه الظاهرة لا يعاني منها المجتمع المغربي فقط، وإنما هي ظاهرة تكاد تكون شبه كونية وتعاني منها المجتمعات المتخلفة تقريبا، خاصة في إفريقيا، وتشهدها بعض البلدان الأوروبية إلا أنها تتسم بطابع الانتظام. ومن الأسباب التي أدت إلى ظهورها يمكن ذكر العوامل التالية:
- عامل الهجرة من البوادي نحو المدن: ولأن البادية المغربية تعاني من الفقر والهشاشة وتفتقر لكل الشروط الموضوعية الكفيلة بالإبقاء على أبنائها فيها، فإن ساكنتها، وبحثا عن العمل في سوق الشغل بالمدينة، تجد نفسها مضطرة لمغادرة البادية، مما ينتج عنه اكتظاظ الحواضر بالجيوش الاحتياطية القادمة من القرى والتي تتسيج بها. وحيث أن فرص العمل تكاد تكون منعدمة بهذه المجالات الحضرية، فإن هذه الأخيرة لا تجد بدا من اللجوء إلى البيع التجوالي واحتلال الأحياء الشعبية ببضاعتهم وسلعهم التجارية. تتكاثر هذه الظاهرة، بعد صمت المسؤولين في التعامل معها عبر نهج أساليب مصلحية ضيقة واعتبارها رهانات سياسوية.
- إلى جانب الهجرة، تساهم العطالة بدورها في انتشار هذه الظاهرة بين فئة الشباب المنحدرين من أوساط شعبية وفقيرة لم يتفوقوا في مسارهم الدراسي، بل حتى الحاصلين على شهادات مهنية (الإجازة، شهادات التكوين المهني...)، يلجأون إلى امتهان هذه الحرفة التي تدرج ضمن القطاع غير المهيكل الذي لا تؤدى عنه الواجبات الضريبية.
- الهدر المدرسي من العوامل المنتجة لهذه الظاهرة التي تمتص الجيوش الفاشلة دراسيا والمنقطعة عن المدرسة. وتدفع المتطلبات اليومية المغرية، خاصة منها المادية، بهؤلاء إلى البحث عن الآليات التي تساعدهم على الاندماج ومسايرة المعيش اليومي.
- المتقاعدون ذوو الدخل المحدود والمتعاطون للبيع المتجول يجب أخذهم بعين الاعتبار أثناء مقاربة هذه الظاهرة، على أساس أن هناك من يعتبرها وسيلة لملء الفراغ من جهة، ومن يعتبرها آلية لسد احتياجاتهم المادية علما بان مرتبهم لا يكفي لذلك.
وعودة إلى الأساليب والآليات المعتمدة في السطو على الملك العام، أشارت دراسة ميدانية إلى أن هذه العملية تتم بطريقة ممنهجة وتدريجية، إذ تتزامن مع الاستحقاقات الانتخابية وفرسانها رجال السلطة ومنتخبون انتهازيون قاسمهم المشترك هو المصلحة الخاصة، حيث تجسد هذه الأخيرة أساس كل صراع بين الأفراد ينتج عنه دفن الشفافية والتعالي على الديمقراطية في الاستفادة من الملك العام.
تتخذ هذه العملية شكل سيرورة تصاعدية تبدأ، حسب هذه الدراسة بدرجة التحسيس، حيث يتحتم على المستفيد من عملية الاحتلال أن ينتظر يوما تتعطل فيه كل المؤسسات والمرافق العمومية كأيام السبت والآحاد، أو الأعياد الوطنية والدينية. يحدث كل ذلك في تنسيق مع رموز السلطة (الشيخ، لمقدم...). تليها بعد ذلك عملية تجنب الاحتكاك مع الآخر وتفادي الاصطدام، وتعد هذه الخطوة من بين وصايا رموز السلطة للمحتل لضمان السطو دون مشاكل وعراقيل من شأنها أن تحول دون نجاح المهمة. تستبع هذه الخطوة بأخرى تتمثل في القيام بفعل الترامي باستغفال الآخر والتصرف كمالك للمجال المحتل. وهكذا إلى أن يصل المترامي على الملك العام إلى الاستحواذ النهائي عليه بتنسيق مع السلطات الرسمية والمحلية، وبإيعاز رموزها مقابل مبالغ مالية وإتاوات يسكتها بها.
إن المنهجية المتبعة في احتلال الملك العام السالف ذكرها لا تنطبق فقط على البقع الأرضية المنتمية إلى الملك العام، والتي عادة ما تكون بجوار الطرقات (توسيع هامش المنزل) أو المؤسسات والمقاهي، ولكن تشمل أيضا الحركة التجارية. إذ يقوم التجار باكتساح الأرصفة بسلعهم يوما عن يوم، وتحت أنظار المعنيين بالأمر وبتواطؤ معهم. والصورة ذاتها تنطبق على الباعة المتجولين الذين يهمسون في آذان رجال السلطة المراقبين لهذه المجالات (قوات مساعدة، شرطة...) فيفسح لهم المجال لعرض بضاعتهم في الساحات العمومية، فيتحول ذلك إلى الأمر الواقع الذي يستحيل معه المواطن فعل أي شيء.
حماية تدبير الملك العام:
لكون استغلال واحتلال الملك العام ظاهرة ذات جذور تاريخية استفاد منها أشخاص منذ فجر الاستقلال حتى الوقت الراهن، فإنه من الصعب إيجاد الآليات القمينة بوضع حد لهذه الظاهرة، سيما وأن الجهات المستفيدة أكثر هي الجهات النافذة والقريبة من السلطات وذوي القرار السياسي، والتي لا تتحمل مسؤولياتها من أجل معالجة هذه الظاهرة حسب تقرير للمجلس الأعلى للحسابات الذي نبه لتداعياتها. لقد جاء في تقرير لهذا المجلس عام 2008 أن السلطات المعنية تتهاون في حماية الملك العام. لذلك تلجأ هذه الأخيرة إلى تصدير هذه الأزمة إلى الفئات المعدومة من عامة الناس التي تلجأ إلى الاسترزاق عن طريق البيع التجوالي (الفراشة، البائع المتجول) فتعمل على محاربتها واستصدار سلعها قصد اجتثاثها والحد من الظاهرة. وهذا النوع من المقاربات، وهي مقاربة أمنية، أكدت التجارب فشلها في التعاطي مع هذه الظاهرة.
ولكونها ظاهرة بنيوية كذلك، يتعين على الكل الانخراط لإيجاد حلول لها كل من موقعه. لذلك لا بد من تعبئة جل مكونات المجتمع، بدءا من الجهات العليا النافذة في تدبير الشأن العام مرورا بالأحزاب السياسية وصولا إلى المجتمع المدني والحقوقي وكل ذوي الضمائر الحية للتصدي لهذه الظاهرة المرضية، وتبني المقاربة التشاركية لأنها الأكثر نجاعة في تدبير الملك العام والتصرف فيه.
إن الإرادة السياسية تلعب الدور الكبير في تدبير الملك العام واستغلاله بالشكل العادل والذي يخدم كل مكونات المجتمع إذا توفرت لدى المسؤولين، وحضر الضمير الحي عوض الضمير المصلحي والانتهازي. ويتحمل النسيج الجمعوي المغربي الحقوقي والمدني المسؤولية التاريخية في المشاركة في تدبير الملك العام، على الرغم من أن الحركة الجمعوية المهتمة بحمايته الملك ومناهضة احتلاله لا زالت في بداية التأسيس.
غير أن المفارقة في تدبير هذه الظاهرة تبدو جلية في غياب الأحزاب السياسية، وغياب الجسم النقابي، في تأطير وتوجيه هذه الظاهرة نحو المصلحة العامة، علما بأن الخاسر الأكبر في هذه العملية هي الدولة. أما الطبيعي فهو ضرورة التواجد الفعلي لكل الأطراف المعنية لحماية الملك العام، والحد من السطو عليه بكل تجلياته سواء من طرف ذوي النفوذ أو حتى من طرف الباعة المتجولين.
وتقتضي عملية حماية الملك العام استحضار البعد الحقوقي في تدبير المجال والذي تتصارع حوله كل القوى الاجتماعية والسياسية كذلك. فالمجال هو موضوع تجاذب وتقاطب وتصارع أيضا بين كل من القوة والحق، بين القوي والضعيف، بين الذي يمتلك النفوذ السياسي والسلطوي وبين الذي يفتقده.
المجال الحضري قطب ثنائي الصراع: القوة والحق:
يعد مفهوم الحق أساسيا بالنسبة للإنسانية كما هو منصوص في القوانين الوضعية والشرعية، وكما هو ممارس في المجتمعات الحداثية والديمقراطية. وعلى اعتبار أن المجتمع المغربي هو بلد حداثي ودولة الحق والقانون، فإن كل إنسان مغربي يجب أن تصان حقوقه ويدافع عنها، كما يجب أن يلتزم بواجباته. أمام هذه الحقيقة، نتساءل عن حقوق المواطن المغربي في علاقته بالمجال الحضري؟ هل بالفعل يساهم القانون المغربي في توفير الحرية اللازمة للمواطن للانتفاع من هذا المجال؟ بعبارة أخرى هل يساهم القانون حقا في تثبيت النظام الاجتماعي العادل في الاستفادة من الأرصفة، والحدائق العمومية والشوارع والأزقة كأمكنة مجالية؟
إن امتلاك المجال، أو بالأحرى الحيز الاجتماعي، هو امتلاك للسلطة وللقوة على حساب الحق. وامتلاك السلطة والقانون هو امتلاك للمجال والاستفراد به وإزاحة الآخرين عنه. لذلك، فاحتلال المجال (الأرصفة، الحدائق، الشوارع، الفضاءات الخضراء...) هو في عمقه استقواء بالقوة من جهة، وبالقانون من ناحية. ويتضح ذلك بشكل ملموس على أرض الواقع: التنافس على المجال بين المحتلين أنفسهم سواء تعلق الأمر بالباعة المتجولين، أو بالساطين على المساحات الخضراء والبقع الأرضية، أو بين المترامين على محطات وقوف السيارات، أو بين مرتكبي الجرائم (العصابات الإجرامية). وتبقى السلطات المعنية متفرجة على ذلك دون أي تدخل يمكن أن يشفع لها أمام المواطن الذي يفقد ثقته فيها بفعل هذا الموقف السلبي. يحدث ذلك كله من منطلق أن المجال/المكان/الحيز هنا هو عماد الحياة وعصبونها وأساس الحركة التجارية والأنشطة ومورد للعيش، وهو كذلك أيضا لأنه فضاء للتفاعل الاجتماعي وأساس للتواصل اللفظي والجسدي وتأسيس لعلاقات اجتماعية تقرب الناس معا ولو تحت هويات معينة وتصنيفات اجتماعية متراتبة.
إن العلاقة مع المجال تساهم في الكشف عن الممارسين الحقيقيين للسلطة وعلى من يمارس عليهم فعل السلطة. وبالتالي يتم تصريف القوة لامتلاك المجال إما بشكل مباشر بين ممثلي الدولة (المسؤولون المحليون والمنتخبون) وبين محتلي المجال؛ وإما بشكل غير مباشر يتخذ شكل صراع حول المجال بين المحتلين له أنفسهم على مرأى ومسمع هؤلاء المسؤولين، أو بين هؤلاء وبين المواطنين؛ وكم من جريمة حدثت نتيجة هذا الصراع ذهب ضحيتها أبرياء. كما يشهد هؤلاء صراعات داخلية وصورا من العنف، وتظهر في أشكال من الصراع علي تقاسم المكان الذي لا يملكونه، وحول السيطرة علي أكبر جزء منه. ولكنهم عندما يواجهون المجتمع الخارجي (السلطات)، فإنهم يكونون يدا واحدة، وقوة جمعية لا يستهان بها .
تبدو هذه الفضاءات/الأمكنة في المتخيل الجمعي على أنها مجال للتنفيس عن الذات. بينما الحقيقة عكس ذلك كليا، إذ تتحول إلى أمكنة مرعبة حيث يسود الخوف وعدم الأمن والتظاهر بالسيادة والتملك لها وممارسة القهر على الآخرين وابتزازهم ماديا.
فالعلاقة بين القوة والحق حول المجال هي علاقة صراع وثنائية الأقطاب (المواطنون ومحتلو المجال)، أما ممثلو السلطة فهم يتقمصون شخصية الحكم الذي يتدخل لإخماد الصراع لحساب هذا الطرف أو ذاك حسب علاقات القوى، والبقاء للأقوى لأن التاريخ يبين بأن صاحب الحق هو المستقوي بالسلطة والنفوذ في وجه قوة أخرى تتميز بالضعف. وهكذا فامتلاك المجال بالقوة يوازي التحكم فيه وتستسلم القوة الضعيفة لذلك لأن القوة المهيمنة لا تمارس سلطتها إلا إذا كانت في علاقة جدلية مع قوة أخرى مهيمن عليها كما يقول نيتشه .
نتائج احتلال الملك العام:
بقدر ما لظاهرة احتلال الملك العام (والحديث هنا عن الباعة المتجولين والفراشة) من إيجابيات على مستوى تنشيط الحركة التجارية بالهوامش والأحياء الشعبية وتكثيف علاقات العرض والطلب بكونها الفضاءات التي تلجها عامة الناس للتبضع نتيجة الأثمنة المناسبة، إلا أن لها نتائج عكسية على منظومة الحياة بشكل عام في المدار الحضري التي يمكن تحديدها في الأفكار التالية:
- ترسيخ عملية الهجرة: لأن فرص الشغل تبدو منعدمة في القرى والبوادي، فإن عائلاتها وشبابها يضطرون إلى مغادرتها والتوجه نحو المدن. وينتج عنه تسييجها بجيوش احتياطية تستوطن هامشها في أحياء قصديرية تنعدم فيها الشروط الصحية للحياة، ويتم نقل أنماط العيش القروية إلى هذه المدن.
- إفقاد الطابع الحضاري للمدينة: تساهم هذه العملية (استيطان الجيوش الاحتياطية في ضواحي المدن) في إفقاد المدينة حضارتها ومعمارها، ولأن هذه الجيوش الاحتياطية من الشباب الذين يمتهنون البيع المتنقل التقليدي، فإنها تقضي على الفن المعماري للمدن، فما العربات والحمير والأمكنة المتسخة إلا مؤشرات تعمل على محو كل ما هو حضاري في المدينة. فهم في تجمعاتهم السكنية يخالفون القانون في المساكن والمرافق، ويخترعون من الآليات ما يجعلهم يتكيفون بشكل سريع مع ظروفهم الصعبة.
- بدونة المدينة Ruralisation de la ville: بحيث تلجأ الساكنة المهاجرة نحو المدن إلى نقل أنماط عيشها معها. فغالبا ما نجد أبناء هذه الأسر تقوم بالبيع المتجول بينما يتكفل الأب برعي بعض من الماعز والأغنام، أما الأم فهي تسهر على تربية الدواجن. ولعل ذلك من شأنه أن يجعل المدينة أمام أنماط حياة متنوعة (عصرية وبدوية). وهكذا يتحول نمط الحياة في المدينة إلى خليط مما هو قروي وحضري يفقدها خصائصها المعمارية والحضرية.
- ومن بين الآثار السلبية الناجمة عن ظاهرة احتلال الملك العام، خاصة عندما يتعلق الأمر بالباعة المتجولين والفراشة، الفوضى والسلوكات المشينة والعبارات النابية حتى أصبح معه المواطن يحس بنوع من التقزز من هذه التصرفات وهو ما يحرمه من ولوج هذه الفضاءات.
- انتشار الجريمة: تعريض المواطنين للآفات نتيجة بروز أفعال إجرامية ناجمة عن صراعات حول المجال وطغيان قوة القوي على الضعيف . تكثر هذه الظواهر المرضية في شهر رمضان حيث يتعرض المواطنون إلى التعنيف من قبل هؤلاء الباعة. وقد تحدث هذه الجرائم أيضا بين الباعة أنفسهم.
- ضرب القطاع المهيكل: وينتج عن هذه الظاهرة أيضا ضرب القطاع المهيكل، إذ يصل رقم معاملات القطاع غير المهيكل إلى 280 مليار درهم ، وهو رقم يثير الدهشة. فكيف يتأتى للدولة الاستغناء عن هذا الرأسمال في ظل حاجة البلد لإنعاش اقتصادي واجتماعي. أمام هذا الوضع، غالبا ما يخرج التجار المنظمون في جمعيات وإطارات يناشدون المسؤولين قصد التدخل لحماية تجارتهم، ويحتجون عن الظاهرة التي أصابتها في العمق. كما تفقد الاقتصاد المهيكل توازنه، وغالبا ما يترتب عن ذلك عرض هؤلاء لبضاعتهم في الشارع بدورهم، وبالتالي استفحال انتشار الظاهرة.
- يتخذ هذا الاحتلال والزحف على الملك العام صفة السرعة الجماعية بعد أن كان يتسم بالبطء والهدوء في بداية الأمر في ظل غياب تام للمسؤولين.
خاتمــة:
لا يمكن نكران أن ظاهرة احتلال الملك العام كظاهرة باثولوجية تنخر المدن المغربية لها جذور تاريخية وموضوعية ساهمت في انتشارها. إنها الحقيقة الموضوعية التي تحتاج إلى التفكير في كيفية التعامل معها. لذلك، فعوض نهج مقاربة أمنية لتدبير الملك العام وتحريره من محتليه، فإن المقاربة الاجتماعية والتشاركية تعتبران من الآليات الناجعة أيضا في التقليص منها والتخفيف من حدتها، لأن الأمر يتعلق بحرفة تمتهنها فئة اجتماعية محرومة من أبسط شروط العيش والحياة.
توصيــات:
لتحرير الملك العام يستلزم:
• التقيد بالقوانين وتطبيقها وتنفيذها خاصة بالنسبة لأرباب المقاهي.
• خروج السلطات المحلية عن صمتها والتدخل لتدبير الملك العام وتحريره.
• تجاوز المقاربة السياسوية الضيقة للظاهرة.
• تجاوز المقاربة الأمنية في التعامل مع الظاهرة.
• اعتماد المقاربة التشاركية وإقحام ممثلي تجار القطاع المهيكل وغير المهيكل والمجتمع المدني والحقوقي في تدبير الملك العام.
• تنظيم أيام تحسيسية حول أهمية معمار وعمران المدينة وخطورة الظاهرة عليها.
• تبني المقاربة الاجتماعية والتفكير في حلول للباعة المتجولين والفراشة بمعيتهم.
المصادر:
1. باكوش، عزيز، الحوار المتمدن، العدد 2748، بتاريخ 24-08-2009.
2. فريدريك نيثشه إرادة القوة : محاولة لقلب كل القيم، ت: محمد الناجي، إفريقيا الشرق، 2011.
3. المندوبية السامية للتخطيط، إحصائيات 2007.
4. لوطورنو، روجي، فاس قبل الحماية، ت: محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، 1986.
5. رالف داهرندورف، الطبقة وصراع الطبقات، ستامفورد، 1959 ".
6. الورياشي، قيس مرزوق، الكم والكيف في علم الاجتماع: أية علاقة؟ منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، سلسلة ندوات ومحاضرات، 2002.
7. زايد أحمد، الشارع لمن؟ : التوترات الاجتماعية العنيفة في مراحل ما بعد الثورات، مجلة السياسة الدولية، عدد 186، 2011.



#عزيز_باكوش (هاشتاغ)       Bakouch__Azziz#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فاس والكل في فاس 299
- فاس والكل في فاس 298
- الهدر المدرسي بين هاجس التنمية وتضليل الأرقام
- إرساء بنية تحتية للاتصال شاملة قصد تدبير المعلومة عن قرب وتو ...
- الفضاء الحداثي للتنمية والتعايش المؤتمر الدولي الأول تحت شعا ...
- فاس والكل في فاس 297
- حوار مع الدكتور بوشعيب أوعبي استاذ العلوم السياسية بجامعة مح ...
- فاس والكل في فاس 296
- فاس والكل في فاس 295
- الدكتور محمد البقصي في إصدار تربوي وتشريعي جديد
- فاس والكل في فاس 294
- كيف تقضي مصداقية الإعلام المغربي على عدو اسمه الجزائر ووهم ا ...
- فاس والكل في فاس 293
- فاس والكل في فاس 292
- ما الفرق بين اليسار السياسي واليسار الإلكتروني في الصحافة وا ...
- السمعي البصري والتربية أية علاقة ؟
- - المسألة الاجتماعية والفاعل السياسي والنقابي والحقوقي -موضو ...
- فاس والكل في فاس 291
- فاس والكل في فاس 290
- فاس والكل في فاس 289


المزيد.....




- الخارجية الروسية: واشنطن ترفض منح تأشيرات دخول لمقر الأمم ال ...
- إسرائيل.. الأسرى وفشل القضاء على حماس
- الحكم على مغني إيراني بالإعدام على خلفية احتجاجات مهسا
- -نقاش سري في تل أبيب-.. تخوف إسرائيلي من صدور أوامر اعتقال ب ...
- العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة بذخائر أمريكية ...
- إسرائيل: قرار إلمانيا باستئناف تمويل أونروا مؤسف ومخيب للآما ...
- انتشال 14 جثة لمهاجرين غرقى جنوب تونس
- خفر السواحل التونسي ينتشل 19 جثة تعود لمهاجرين حاولوا العبور ...
- العراق.. إعدام 11 مدانا بالإرهاب في -سجن الحوت-
- السعودية ترحب بالتقرير الأممي حول الاتهامات الإسرائيلية بحق ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عزيز باكوش - تحديات تدبير ظاهرة احتلال الملك العام بالحواضر ذ. إدريس مقبوب