|
قراءة في كتاب : مارغاروش ( ومضات من حيفا )
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 4455 - 2014 / 5 / 16 - 12:39
المحور:
الادب والفن
هذا كتاب قديم للكاتب د. ماجد الخمرة ، صدر عام 2004 ، أهداني صديقي مؤلف الكتاب نسخة منه قبل أيام معدودة فقط ، قرأته بعناية فائقة ، وأجد الأن رغبة شديدة للكتابة عنه بعد فترة طويلة من صدوره ، لأنه من الكتب التي قرأتها مؤخراً وتركت في نفسي أثراً ، لما فيه من ومضات ساحرة من حيفا مدينتي التي أنسبُ لها ، وأشك في قيمة الحياة بعيداً عنها .
يؤكد هذا الكتاب على صحة العلاقة الجدلية التي تؤسس مع الأيام ما بين الإنسان والمكان ، علاقة حب أسطوري تتضح مع بداية كل يوم جديد ، تجعل صلته بالعالم عميقة ، واحساسه بالناس والوجود رحيبا ، يرى مدينته التي يعيش فيها من خلال كوة واسعة باتساع فضاءات الكون كله ، ينسج من خلالها لوحات مرئية متآلفة متصلة عن كل شئ فيها ، عن الناس وحركاتهم وخطواتهم وعن البيوت والاشجار وحتى عن ذرات التراب ذرة تلو ذرة .
تستوعب لغة ماجد الخمرة الأدبية تلك العلاقة الجدلية مع حيفا بعاطفة عميقة أصيلة ، يعقد في تشابكاتها أواصر قربى حميمة مع مدينته بنفسية حية ، ويتحسس فيها ماضيها قبل النكبة ، يستمده من ذاكرة مليئة بالأحداث والصور والشخصيات والحكايا والعلاقات الإنسانية ، ينتقيها من خبايا واقع الأمس بدقة وعمق ، ويُسطرها على بياض الورق بكلمات ساخرة سخرية سوداء ، واضحة ومنظورة بتفاصيل وجزئيات كثيرة ، يسيطر عليها إحساس كاتبها بالحزن وتداعيات مآسي النكبة المريرة ، ورغبته الدائمة بادخال عنصر الفكاهة في حشايا السطور كلما اشتدت حدة المآساة .
في إطارهذا الخط الذي التزم به المؤلف ، يضم الكتاب بين دفتيه مجموعة مقالات نُشرأغلبها في جريدة الإتحاد من قبل ، تعتمد في حبكها على اتساع الذهن والعاطفة ، لتعريف المتلقي من الزمن الحالي بحيفا كما كانت بالأمس، قبل النكبة والهزيمة ، وهذا ماعبر عنه الشاعر الكبير حنا أبو حنا في تقديمه للكتاب بتأكيده على مساهمة المؤلف في الجهود الساعية إلى " تأثيث الوجدان الفلسطيني بالذكريات الحيفاوية الحية " .
وضمن هذا التصور ، يجد القارئ نفسه وجهاً لوجه مع حيفا في علياء عرشها ، تدفع به الكلمات إلى أفاق مزدحمة بنصوص تُلامس الواقع على امتداد فصول الكتاب ، أراد بها المؤلف " التأكيد على ثلاثة أمور اساسية ، هي : محاولة إعادة صياغة الذاكرة والتذكير والتذكر ، و إعطاء جيل النكبة حقه من التاريخ ( الجيل الذي ما زال يعيش نكبته يوميا داخل مدينة حيفا المختلطة ) ، ودعوة الأجيال القادمة لأخذ دورها قدر المستطاع لاستنطاق من يحمل الذاكرة " .
يستهل الكتاب نصوصه بسياق سردي في بُعدين ، أولهما البعدالمكاني وثانيهما البعد الزماني ، وفي إطارهما يعطي المؤلف مشاهد كثيرة عن الحياة في حيفا ما قبل النكبة ، ينقلها عن أمه أقرب الناس اليه ، التي دأبت منذ يفاعته على التحدث معه بقالب حكائي عن الناس والأحياء والشوارع والبنايات والعائلات ، وعن التآخي الأسلامي المسيحي ، وعن أهوال المجازر والمعارك وسقوط حيفا والهجرة القصرية لأغلبية السكان .
هأنذا أتجول مع المؤلف في مختلف أحياء ومواقع وأسواق حيفا ، إنها تحمل أسماءً جديدة في الزمن الحالي ، حيث تبدلت الأسماء التي كانت تحملها لكنها بقيت كما كانت من قبل في نفس المكان : ساحة الخمرة ( التي تحمل اسم عائلته ) وحارة الكنائس والوادي والسعادة والقشلة والحليصة ووادي الصليب والخضر وبوابة الدير والشوافنة وسوق الشوام ونزلة الكلداوي وشارع البرج الذي تقع فيه مدرستي ( مدرسة البرج ) التي أغلقت أبوابها في نيسان 1948 وما زالت تنتظر طلابها حتى الأن .
في سياق ذكره للبيوت القديمة يتحدث المؤلف عن أطلال وادي الصليب المهدوم ، وعن بيت آل الخوري الواقع في حي درج الأنبياء مقابل بيوت آل توما والخمرة وحبيب وبدران ، وفي سياق هذا التجوال بين البيوت المهجورة ، تثيره حجارة البيوت ، وفي لحظة لا يحتمل رؤية الواقع المحيط ، وينتهي به الأمر بدافع إثبات حقه ووجوده ومظاهر حياة أهله في حيفا قبل النكبة ، إلى الصراخ بصوت عالٍ : " انطق ايها الحجر " !!
ومن ثم وجه المؤلف انتباه القارئ الى نتيجة مفصلية مؤداها : " حجارة المباني تجعلك ملحاحاً لتستنطقها لتأتيك بالأخبار من سفر الدهور ، أخبار ظاهر العمر الزيداني ، رشيد الحاج ابراهيم ، الزعبلاوي ، عبد الرحمن الحاج ، صنبر ،عوض ،الحجار ، القط ، حوا ، عابدي ، مصطفى الخليل ، و القسام ، وغيرهم من الاسماء التي تعجز ذاكرة الجيل الثاني بعد النكبة عن احتوائهم ، وتزودك الحجارة بكل حدث وتؤكد لك أحداث نيسان من ذلك العام - 1948 " .
لم يقف الأمر في حدود استنطاق الحجارة فحسب ، بل تم استنطاق الأموات أيضاً ، من خلال رسالة وصلت المؤلف عبر الانترت من جده الراحل قاسم بن ديب ، ورسالة منه الى جده أيضاً ، يؤكد له جده في رسالته أنه يحمل نكبته على كتفيه في الدار الأخرة ، ويحمل حيفا معه ، وأنه ما زال على معرفة بكل حجر في بيوتها ، ويخبره في جانب آخر من الرسالة عن أسماء كثيرة من أهل حيفا الراحلين الذي يلتقي معهم ، ونجد في رسالة الحفيد الى جده كلمات مثيرة في أخر رسالته ، مفادها : " أطلب منك يا جدي أن تقف يوم الحساب على قدميك متيناً شامخاً أمام الملاكين الرحومين اللذين سيسألانك : ما اسمك وما دينك ؟ فقل لهما بلا جزع أو خوف : حيفا مدينتي ، وحاراتها مرتعي ، جوامعها أذاني ، وكنائسها أجراسي ، أناسها إخوتي ، كرملها جبلي ، وإنني ولدت وعشت ومت على أنني باقٍ في حيفا " .
وفي إطار الحديث عن الراحلين يأتي ذكر المرحوم رشيد الحاج ابراهيم ، وهو من كبار رجالات حيفا ، كان رئيس " اللجنة القومية في حيفا " ومسؤولاً عن الدفاع عن المدينة في عامي 1947و1948، تمكن المؤلف بالصدفة البحتة أثناء تجواله في البيوت القديمة أن يحصل على وثائق كثيرة كانت مخبئة في بيت الراحل الكبير ، تفيض بكم هائل من المعلومات حول مقومات حيفا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، وصفها بكونها أقرب ما تكون إلى " نصب ٍ تذكاري لجيل النكبة وجيل ما بعد النكبة " تشتمل على " كتب مدرسية باللغتين العربية والتركية كالجغرافيا والرياضيات ، وتقارير مالية وصفقات مالية كان يديرها رشيد الحاج ابراهيم ، بالإضافة إلى سجلات عمل ممن عملوا في حيفا يظهر فيها أسماء العمال وأسماء قراهم ومدنهم ، مثل بيروت وصيدا وصوروالناصرة وطرعان وكفر كنا ونابلس وجنين والعديد من القرى الأخرى التي لم يعد لها ذكر ."
هكذا نطق الحجر في بيت رشيد الحاج ابراهيم ، وأظهر ما كان مخبوءاً خلف الجدران من وثائق حيفاوية ثمينة ، وفي سياق ذكره لهذه الوثائق يُعبر المؤلف عن فرحه بهذا الكنز الثمين ، بقوله : " نعم هذا هو بيتك يا رشيد الحاج ابراهيم ، هذا هو برجك ، هذه وثائقك بخط يدك التي لم تعد ملكاً لك ولنكبتك ، بل أصبحت لنا ولنكبتنا ، هذه حياتك التي أصبحت حياتنا ، فاعلم أن جيلنا يعرف كيف يدافع عن حقوقه... فنم قرير العين في أرضك وسمائك لأننا سنكمل الكفاح ."
والافت للانتباه أن المؤلف إلى جانب اهتمامه برجالات حيفا الكبار ، يهتم أيضاً بنماذج أخرى من عامة الناس ، تم ذكرهم في كتابه في سياق حكايا متشابكة بإيقاع سردي جميل ، منهم : " فاطمة الزعرة " و " زينب القرعة " و " زينب الهدروس " وماري الشورا " و " مدام كلير " و "الشيخ نايف " وزوجته " حليمة "و " أبو جميلة " وشخص مجهول الإسم كان يحث المارة في ساحة الخمرة ( الحناطير ) على السفر " ع الناصري " بسيارات الأجرة ، كما خصص فصلا مهما عن الجن الشهير " مارغاروش " وحكايات أهل حيفا الخرافية عنه وعن شروره ، كل ذلك من أجل ان تبقى تلك الحكايا عالقة بنفوس قرائه ، تحفر في ذاكرتهم لقطات تذكارية من حيفا قبل النكبة ، تشكل بمجموعها لوحة بانورمية لكل ما كان فيها من مآثر، وتزيدهم تعصباً للجذور والإنتماء .
وخلاصة القول ، هذا كتاب نادر في عمق تناوله لحيفا ماقبل النكبة ، تألق وأجاد فيه مؤلفه ، فأمتع وانعش نفوس أهل حيفا المتعطشة إلى معرفة ماضي مدينتهم ، بتفاصيل دلالات كثيرة عن إرثها الأصيل .
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المتشائل بين المسرح والرواية
-
كلمات عن شعر حزين
-
الأخوة بين أبناء الشعب الواحد
-
مأساة الهنود الحمر
-
قصيدة للرصافي في افتتاح الجامعة العبرية
-
قصيدة غير وطنية للشاعر معروف الرصافي
-
كتاب : رؤية معاصرة لحياة وأعمال المطران غريغوريوس حجّار
-
أيام في جبال الأوراس
-
من حيفا أستمد حروفي
-
سيدة القصة القصيرة
-
القاصة الكندية أليس مونرو
-
الموسيقى حلالٌ حلالْ
-
حيفا يا عشقي الأزلي
-
أيامٌ في حيفا
-
لماذا فشل حكم الإخوان في مصر ؟
-
في ذكرى رحيل الشاعر محمود درويش
-
مريضة الغرفة 72
-
رواية دروز بلغراد ... حكاية حنا يعقوب
-
على ضفاف البحر الميت
-
الإسلام السياسي
المزيد.....
-
اختتام أعمال منتدى -الساحة الحمراء- للكتاب في موسكو
-
عثمان 164 الاعلان 3 مترجم.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 164 الم
...
-
فيلم مغربي -ممنوع على أقل من 16 سنة-.. ونجمته تؤكد: -المشاهد
...
-
نمو كبير في الطلب على دراسة اللغة الروسية في إفريقيا
-
الحرب والغرب، والثقافة
-
-الإله والمعنى في زمن الحداثة-.. رفيق عبد السلام: هزيمتنا سي
...
-
مصر.. قرار من جهات التحقيق بخصوص صاحب واقعة الصفع من عمرو دي
...
-
والد الشاب صاحب واقعة الصفع من عمرو دياب يكشف عن حالة نجله ب
...
-
تابع الحلقة الجديدة 28 .. مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 28
...
-
تابع عرض مسلسل قيامة عثمان الحلقة 164 مترجمة عبر ترددات القن
...
المزيد.....
-
أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة
/ ريتا عودة
-
صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس
...
/ شاهر أحمد نصر
-
حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا
/ السيد حافظ
-
غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا
...
/ مروة محمد أبواليزيد
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
المزيد.....
|