أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صلاح الصادق الجهاني - قراءات في ظاهرة الاسلام السياسي















المزيد.....



قراءات في ظاهرة الاسلام السياسي


صلاح الصادق الجهاني

الحوار المتمدن-العدد: 4454 - 2014 / 5 / 15 - 14:48
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أولا - حركات الإسلام السياسي ومعضلة الخطاب السياسي:
من خلال فحص أدبيات الكتابة في الإسلام السياسي نصل الى حقيقة مفادها أن "حركات الإسلام السياسي العربي" في المشرق والمغرب العربي المعاصرة منها والتقليدية فكراً ومنهجاً عرفت حالة زخم سياسي متواصل منذ تهاوي المد القومي العروبي إثر نكبة 1967م، فغدت خلال ستة عقود من الزمن إحدى أهم حقائق المشهد السياسي في العالم العربي بمشرقه ومغربه، كما حظيت باهتمام دولي بالغ مع انخراطها في الصراع الدولي والإقليمي في ظل الحرب الباردة، لصالح المشروع الرأسمالي الغربي.
وإذا فشلت حركات الإسلام السياسي في قيادة عربة التحولات السياسية والاجتماعية في العالم العربي عموما وفى مناطق الربيع العربي، وفقا للمنظور الغربي، فإن الغرب لا ينام فهو منشغل ايضا بالبديل لحركات الإسلام السياسي، فهو يسعى حثيثاً وفى الظل لا عادة تسيس حركات التصوف الإسلامية بعدما خرجت الادبيات في الفترة الاخيرة تصف حركات التصوف الإسلامي بالليبرالية وبالاعتدال وبُعدها عن التطرف وقبول الثقافة الغربية.
بيد أن تسييس حركات الإسلام السياسي وانخراطها في العمل العام وفق ما تسمح به ظروف الدول التي تنشط فيها، وإن كان قد منح لبعض حركات الإسلام السياسي فرصة الولوج إلى السلطة والمشاركة في الحكم، بأقدار متفاوتة، إلا أنها كشفت فيما بعد عن أزمة حقيقية تعيشها حركات الإسلام السياسي، تتعلق ابتدأ بالبرنامج العام الذي يكتنفه الغموض، وتحيط به الشكوك وعلامات التعجب، وطبيعة اجاباتها عن قضايا العصر مثل الحرية وفصل الدين عن السياسة وتوطين معالم الحضارة الغربية وكيفية التعامل مع الحداثة وقضايا المرأة وشكل الدولة وموضوع تطبيق الشريعة ومعضلة وولاية الفقيه وحاكمية الله.
ومن المآخذ الكبرى على حركات الإسلام السياسي كما أفصحت عنها أدبيات الدراسة، أنها تتعامل مع الديمقراطية من منطلق برغماتي لا يدل على التزام حقيقي بالقيم الملازمة للديمقراطية الليبرالية أو قبول نتائجها، وإن كان بعضها قد قطعت خلال العشرية الأخيرة خطوات مهمة على صعيد التكيف مع الديمقراطية والقبول بآلياتها المتعلقة بطريقة الوصول إلى السلطة، وإمكانية تداولها سلمياً، والصعود لحركات الإسلام السياسي في مصر وتونس والمغرب مؤشرات لا ينبغي تجاوزها.
كذلك فإن الزخم الذي رافق الإسلام السياسي، واعتبره البديل لأنظمة الحكم الاستبدادية في مشرق الوطن العربي ومغربه، دخل حالة من الارتباك والتراجع إثر الحادي عشر من سبتمبر 2001م الحدث التاريخي الذي فرض على معظم حركات الإسلام السياسي حالة دفاعية تتبرأ فيها من التطرف ورفض الآخر.
طوال العقدين الماضين كانت كل المؤشرات التي ادركتها الدراسة، تذهب إلى تراجع حركات الإسلام السياسي مع تصاعد القبضة الاستبدادية لأنظمة الحكم في العالم العربي، ولم يتنبأ أحد بالربيع العربي الذي أعاد الروح لحركات الإسلام السياسي المعتدلة والمتطرفة مبشراً بانتصار القيم الديمقراطية وتصدرت حركات الإسلام السياسي المشهد السياسي في دول الربيع العربي.
فرضت تداعيات الحادي عشر من سبتمبر لسنة 2001 وثورات الربيع العربي لسنة 2011 على حركات الإسلام السياسي خطاباً دفاعياً، يتنصل من أية علاقة لها بالإرهاب، ووفقاً للخطاب الذي تتبناه بعض حركات الإسلام السياسي ، باتت الحركات المصنفة بالاعتدال، كما أشارت الدراسة وأدبياتها أقرب إلى تفهم سياسات الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما، التي نسجت بدورها علاقات منظورة وغير منظورة مع عدد من حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، حيث تزامنت هذه العلاقات مع النجاح المضطرد للتجربة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية، الذي غدا ملهماً لحركة الإخوان المسلمين في العالم العربي.
ففي مصر، مثلاً، اضطرت حركة الإخوان المسلمين العريقة، كحركة معتدلة كما صنفتها الدراسة إلى تجديد آليتها السياسية، بالإعلان عن حزب الحرية والعدالة المنبثق عن الجماعة، و هو الحزب الذي أشارت اليه النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية لسنة 2012 أن الأخوان في مصر على موعد مع أول تجربة لهم في السلطة منذ نحو ثمانين عاماً، كنموذج لحركات الإسلام السياسي المعتدل.
الثورات العربية المعاصرة التي انخرطت فيها حركات الإسلام السياسي بزخم لافت للنظر رفعت شعار الحرية والدولة المدنية وحقوق الانسان، في الوقت الذي لا يزال موقف الإسلام السياسي غامضاً و ملتبساً بشأن الحريات و حقوق المرأة وغير المسلمين وسؤال الشريعة والدولة ، كما عززته أدبيات الدراسة، لذا سارع حزب النهضة في تونس إلى طمأنة الداخل والخارج بخصوص علمانية المجتمع التونسي، وفعل حزب العدالة والتنمية في المغرب الشيء نفسه، عندما أكد احترام الحريات الشخصية للمواطنين المغاربة، وينتظر من إخوان مصر مواقف مماثلة.
وحال نجاح حركات الإسلام السياسي في العالم العربي فإن تجربتها ستنعكس بسرعة على حالة دول أخرى تعيش مأزق الاختيار بين "العلمانية" و"الإسلاموية"، كما في العراق وفلسطين والأردن والجزائر وليبيا والبحرين.
قد تسجل الدراسة رايا معنويا ان لبعض حركات الإسلام السياسي المعتدل كثير من الإيجابيات التي يمكن الاستفادة منها والبناء عليها مستقبلاً، ذلك أنها أعادت الاعتبار للهوية الدينية للمجتمع العربي، وبشرت بنهوض جديد على أنقاض انتكاسة القومية العربية وأكان الدولة الأبوية التسلطية، وعلى هامشها بزغ فكر إسلامي تجديدي يحأول ان يواكب العصر وينفض غبار التقليدية التي يعاني منها الخطاب الديني السائد التقليدي والمتطرف وكما أن حركات الإسلام السياسي المعتدل قد لامست هموم الناس من خلال الدور الاجتماعي الذي تضطلع به مؤسساتها، فإنها منحت معارضة الاستبداد في شقه السياسي بعداً شعبياً ورفضها للدولة التسلطية، يستند إلى رؤية دينية تناهض "الظلم" وتحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلتزم الوسائل السلمية في النضال والتغيير!!
التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها مصر وتونس التي رفعت شعار الدولة المدنية اضطرت معها حركات الإسلام السياسي إلى القبول بالخيار الشعبي، والإفصاح في برامجها السياسية والانتخابية عن أجندة تلبي طموحات المواطنين في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، في انتصار ( إسلامي) للقيم الليبرالية إن جاز التعبير، هنا يمكن القول إن الليبرالية انتصرت في ثوب الإسلام السياسي وإن فشل الليبراليون.
والجدير بالذكر أن حركات الإسلام السياسي ليست وجهاً واحداً، فالحركات التي اقتاتت في خطابها على تعبئة عامة عنوانها محاربة التغريب و الغزو الفكري و الحفاظ على السلفية الماضوية، اضطرت هي الأخرى للتقدم نحو المربع السياسي الشعبي، فانخرطت في التعددية الحزبية والانتخابات النيابية ( حزب النور السلفي المصري نموذجاً)، الأمر الذي سيلقي بظلاله على أداء بقية حركات الإسلام السياسي السلفي في بقية دول العالم العربي.
وبالمشاركة السياسية لحركات الإسلام السياسي وبوصول بعضها إلى سدة الحكم سوف تدخل مرحلة جديدة تلفها تحديات تتعلق بإدارة الدولة و تنمية المجتمع الذي ينتظر حلولاً عملية لمشاكل متفاقمة و متزامنة أحالت نسبة كبيرة من أبنائه إلى دائرة الفقر ودياجير البؤس والتخلف.
لن تسعف حركات الإسلام السياسي المعتدل أو المتطرف الشعارات التي لامست عواطف شعوب متدينة ترى في دعمها لما هو إسلامي قارب نجاة في الدنيا والآخرة، ذلك أن “الحل الإسلامي” على المحك و الفشل هنا يعني النجاح لقوى أخرى تقدم نفسها كبديل أفضل في ظل اللعبة الديمقراطية و تدأول السلطة سلمياً.
إلا أنه قد تجد حركات الإسلام السياسي المنتصرة على الشارع في التجربة التركية نموذجاً يحاكونه ويسيرون على ضوئه، لكن المجتمع العربي غير المجتمع التركي، ما يعني أهمية ابتكار طريق عربي جديد بالاستفادة من تجارب الذات وتجارب الآخرين، مع مراعاة أن المنطقة العربية تتعرض لحالة تجاذب إقليمي/ دولي لن تكون مجتمعاته بمأمن من مخاطرها، ما لم يبرز من داخلها مشروع نهضوي جديد، تصبح حركات الإسلام السياسي – بثوبها الجديد- أحد مكوناته الفاعلة ولمتفاعله معه.

ثانيا - حركات الإسلام السياسي ومعضلة الدمقرطة:
لقد توقعت الدراسة من خلال صياغة مشكلتها وفرضياتها المركزية أن حركات الإسلام السياسي تختلف باختلاف مؤشرات اعتداليتها وتطرفها، وهذا ما ثبت في متن الدراسة من خلال قياسها لبعض أدبياتها بدون التأكد من المصداقية النهائية والكاملة نظرا للثوب المشترك الذى يكتنف حركات الإسلام السياسي أن معتدلاً أو متطرفاً وهو الإسلام، إن صلاح الحالة العربية للسلطة والحكم والديمقراطية سوف يحدث عندما تنجح حركات الإسلام السياسي في التخلص من التراث الشمولي داخلها وتظل مسألة مؤسسة الدمقرطة أهم تحدياتها في الواقع العملي وعندما تتخلي جماعات الإسلام السياسي وفى طليعتها الاعتدال والتطرف وأشكالها الحزبية في مشرق ومغرب العالم العربي عن فكرة "الدولة الدينية" التي تدمج بين الدين والدولة فيفسد كلاهما للآخر، وبينما كانت الأحزاب الحاكمة السابقة في الدولة التسلطية على استعداد للتحرك نحو اقتصاد السوق الحرة فإنها كانت أكثر بطئاً عندما تعلق الأمر بتداول السلطة في السوق السياسي..
ورغم بعض الزخم الذى أضافته حركات الإسلام السياسي الى المشهد الثوري العربي الذى صور أن حركات الإسلام السياسي قد استوعبت الخطاب الديمقراطي وأضفت عليه مسحة ذاتية من خلال مفاهيم (الشورى) و(الإجماع) و(الاجتهاد) و"النهى عن المنكر والعمل بالمعروف"، وأن الديمقراطية موجودة بالفعل في العالمين العربي والإسلامي"، سواء أكانت كلمة ديمقراطية بحد ذاتها مستخدمة وموجودة أو غير موجودة في الثقافة العربية والإسلامية.
فأنه إذا كان ما تتبناه حركات الإسلام السياسي قابلا للتطبيق والاعتراف به، فلماذا لا تظهر الديمقراطية بوضوح و جلاء في مشرق ومغرب الوطن العربي ؟ ولكن يظل الجدال دائراً حول عموم حركات الإسلام السياسي وخطاباتها نحو الديمقراطية التي أصبح لها نفوذ وتأثير في العمل العام في العالم العربي، فلديهم القوة السياسية، ولديهم الفكرة الدينية، ولديهم التجارب السابقة.
واذا ما ذهبنا إلى إعادة فحص خطاب حركة الاخوان المسلمين مثلا وبرنامجهم المعلن الذي يقع في 128 صفحة، فإن فيه كثيراً عن المبادئ والسياسات، ولكن ما يهمنا في المقام الأول مفهوم "الجماعة للدولة" و"أصول الحكم فيها". ورغم أن البرنامج يقول بوضوح أن “الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بالضرورة” فإنه يعرف هذه الدولة المدنية بأنها تلك الدولة التي تكون الوظائف فيها على أساس «الكفاءة والخبرة الفنية المتخصصة والأدوار السياسية يقوم بها مواطنون منتخبون، تحقيقا للإرادة الشعبية الحقيقية، والشعب مصدر السلطات». ولكن هذا النص لا يمكن فهمه في برنامج الإخوان إلا على ضوء فهمهم للدستور وفهمهم له هو أساس أو مصدر التشريع، وإنما الشريعة الإسلامية التي تصبح وظيفة الهيئات المنتخبة - المعبرة عن الشعب مصدر السلطات،- مجرد تفسيرها أي تنتفي الوظيفة التشريعية للمجالس النيابية وتحل محلها وظيفة الفتوى"."
ومن هنا تظل معضلة الدولة المدنية والديمقراطية تواجه حركات الإسلام السياسي المعتدل أو المتطرف لأ نها تمزق إربا كل المفاهيم المتعلقة بالدولة المدنية التي يتحدث عنها الإسلام المعتدل أو المتطرف، لأن خطاب الإسلام السياسي هذا وبلا مواربة قد يقيم مكانها دولة دينية صريحة، وهذا يمثل تراجعاً إلي الوراء في فكر حركات الإسلام السياسي الشائع، والذي يحاول أن يؤسس لقاعدة جديدة من الخطاب المرتبك.
ان "الدولة المدنية" هي أساس الدولة التي يريدوا إقامتها، وأن "المواطنة" بكل ما تعنيه في الفكر السياسي الحديث هي جوهر خطاب حركات الإسلام السياسي، وقد جاء هذا التراجع في الوقت الذي بدا فيه أن التجربة التركية، ومن بعدها التجربة المغربية، تمثل معملاً لاستخدام المرجعية الإسلامية في دولة حديثة وعصرية ومتصالحة مع عالمها ومحيطها، ولكن ما حدث لدى الإسلام السياسي في الحالة المصرية كان خطوة واسعة إلى الوراء.
وهناك معضلة أخرى مصاحبة للتفعيل الديمقراطي بشأن السماح للتيارات السياسية الشمولية بالمشاركة في العملية السياسية والخوف من انقضاضها عبر صناديق الانتخابات على الديمقراطية، ولذا فإن المعضلة التي تواجه الإسلام السياسي المعتدل أو المتطرف -مثلا- تتمثل في كيفية التوفيق بين توسيع دائرة التمثيل السياسي وفرصه من ناحية وضمان عدم استخدام آليات التحول الديمقراطي لوقف هذا التطور أصلا. فالاستقرار السياسي ينبع من مدي تمثيل المؤسسات والأحزاب للقوي الفاعلة الاجتماعية، ومدي قبول تلك القوي للنظام العام الذي يتحقق من خلال اشتراكهم في عملية التحول الديمقراطي وفي التأثير على مسار السياسة العامة.
وتتجسد تلك المعضلة تحديداً في بعض حركات الإسلام السياسي التي قد تلجأ إلي استخدام العنف والإرهاب كأداة في العمل السياسي، أو تلك التي تلوح به أو تباركه، فاستخدام العنف يكون من شأنه عدم إتاحة الفرصة للمواطنين للتعبير عما يعتنقونه بحرية ويمثل أداة لقهر الآراء المخالفة، وتوجيه المواطنين في مسارات معينة دون غيرها..
من ناحية أخرى فإن خبرات عملية التحول الديمقراطي في دول أخرى تبين أنه كلما كان التنافس على سياسات وبرامج لا على اختبارات شمولية مطلقة أمكن لآليات الديمقراطية أن توطد أركانها. ويشير ذلك إلى أهمية توسيع دائرة الاتفاق بين القوي الرئيسية لجماعات الإسلام السياسي حول قواعد العمل السياسي وإجراءاته وحدوده.

ثالثا - الإسلام والإسلام السياسي ومصادر التطرف ومواقعه:
ينبغي الادراك المحايد لمدي التداخل الوثيق ، خاصة في السنوات الأخيرة بين مسألتي الدين الإسلامي وعالم اليوم وأسس معرفية علاقة أتباع الدبن الإسلامي المتوترة مع الشعوب الأخرى إذ إن المسألة الأولي تطفو علي السطح متصدرة خطاب غير المسلمين كحصيلة لتفاصيل توترات الثانية، تبدو كما لو انها الأكثر إلحاحا منها إل التناول من أجل حصول نقلة نوعية تساهم في مد جسور التفاهم أو التوصل إلى صيغة تعامل مرضية بين المسلمين وبقية شعوب العالم، في الواقع لا يبتعد عن الدقة من يهتم بإبراز نسب الإسلام إلى عصر نحن عنه بعيدون، بل ويقترب من الصواب أكثر حينما يقول بضرورة إجراء إصلاح في الخطاب الديني الإسلامي على غرار ما حصل في الأديان الأخرى كي يصبح الإسلام متناسباً ومتماشياً، مع متطلبات العصر ومستلزماته (مع العلم أن عوائق الإصلاح الديني في الإسلام كثيرة حالياً)، بيد أن الوجه الحقيقي للمشكلة ليس فقهياً متأصلاً في تعاليم الإسلام بقدر ما هو اجتماعي وسياسي يتعلق بواقع المسلمين..
لعل التناقض بين رؤيتي المعنيين خارج الدائرة الإسلامية وبين المسلمين في قراءة علاقة الدين الإسلامي بالتطرف يلقي بعض الضوء على المشكلة المطروحة، ففي حين يرى البعض أن الدين الإسلامي مصدَر للتطرف يشدد المسلم على أن دينه يدعو للسلام وعدم التطرف، ويتعقد الأمر عند تناول نصوص قرآنية معينة أو مفردات كـ”القتال” و”الجهاد” ، وولاية الفقيه وحاكمية الله، على سبيل المثال، فتعني لأصحاب الرأي الأول آنف الذكر غير ما تعنيه للمسلمين الذين يرفضون الدلالة الحرفية والمعجمية للكلمة والنص ويظهرون عوضاً عن ذلك تفسيرات تنحصر في دائرة العبادة والفروض الدينية والعلاقة بين المؤمن وربه. إلا أن الأمر يصبح أكثر إثارة للجدل حين يظهر التناقض في فهم ذات النص وذات التعابير بين مسلم يلجأ إلى التطرف (لأسباب اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية) فيُكيّف مفاهيمه لتتناسب مع خطواته ومسلم آخر يُبقي على فهمه ونهجه بأن الإسلام ليس مصدراً للتطرف..
لا نحتاج للفحص الدقيق لإدراك أن وضع المسلمين أفراداً كانوا أم جماعات ليس هو الأفضل وخاصة في أيامنا هذه، إذ إنه آخذ في التدهور من سيء إلى أسوأ في ظل الأنظمة التسلطية الحاكمة وخطابات الإسلام السياسى المتنوعة إلى أمد لا تلوح نهايته في الأفق بفعل استماتتها للحفاظ على أنفسها وتوريث كراسي الحكم، وغياب الديمقراطية وانعدام الحريات العامة، ناهيك عن سوء توزيع الثروة وانتشار الفساد والفقر والجهل والبطالة، إضافة إلى ما يواجهونه من نزاعات وصراعات إقليمية تبدو حلولها أكثر من مستعصية.
وسط هذا المناخ المحمل بالضغوط والكبت والقمع واليأس من عدم حصول تغيير، لا يبقى للفرد أو للجماعة إلا البحث عما يمكنهم الاستناد إليه والتعبير من خلاله عن امتعاضهم وتذمرهم مما هم فيه، فمن الواضح أن جدار الاستناد وتسجيل الاحتجاج يصبح، في معظم الحالات الدين والدين، بهذا السياق، ما هو إلا بُعد رمزي لعمل اجتماعي والالتفات إليه لا يعني بأي شكل من الأشكال الهروب من المعضلات الوجودية للحياة عامة إلى عوالم سماوية مجردة من عواطف الدنيا بل إنه وعلى العكس تماماً انخراط في وسطها والدين يغدو الأداة التي يطورها الإنسان وهذا التطوير يتحدد، كما ذكرنا أعلاه، طبقاً للوضع السياسي والاقتصادي والنفسي للمطوِّر وبالتالي للشكل الذي سيأخذه “دينه”، فإما أن يأخذ منحى إيجابياً يتعامل بموجبه مع بقية البشر، ما يجعل مسلماً يرى المسيحي واليهودي “أهل الكتاب” فيُجيز التعامل والتزاوج معهم ومنهم وإما أن يكون سلبياً وعدائياً يصل حد التطرف تجاههم، ما يجعله يرى في المسيحي واليهودي أعداء “كفاراً” يتوجب “الجهاد” ضدهم. من الناحية النفسية يحمل اللجوء إلى الدين لتبرير التطرف شيئاً من مواساة الذات. ولهذا فإن الدين هنا موقع للتطرف وليس مصدَراً له..
بمعنى آخر، تحمل نظرتنا كثيراً من الاعتباطية وتغريباً للواقع حين نميل إلى رؤية الدين الإسلامي (أو أي دين آخر) كعلم اجتماعي قائم ونبحث عن قوانين ومعان في ذلك العلم اعتقاداً منا أنها المحددة لسلوك ونهج معتنقيه، على العكس تماماً، فإن “القوانين” و “المعاني” ليست مثبتة وجاهزة وإنما تُكتَسَب وفقاً للمكان والزمان ومجمل الشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها هذا الإنسان العالق بشبكات مفاهيم أهميتها كانت بالمطلق من نسجه واستنباطه، والدين يصبح بالتحديد منظومة مفاهيم مكتسبة وليس علماً تُحدِّد قوانينه أنماط سلوك معتنقيه.
أخيراً، إن المشكلة تكمن في أن التمترس بالدين كملاذ أخير يفرض تناقضاً بل وانفصاماً لا يمكن تجاهله بين المرء ذي الوضع الساكن (إذا جاز التعبير)، في الشكل الذي عرضنا له أعلاه، وبين العالم دائم الحركة، ما يُبرز الأسئلة التي تتمحور حول تشخيص الحالة وطرق إيجاد الحلول لها! فنرى من العلمانيين من يلجأ لأسلوب الصدمة، ليس فقط عبر محاولة إبراز العلاقة بين التطرف والنص الذي اتخذه المتزمت كموجّه لآليات عمله وبالتالي الطلب بتغيير النص الديني والمناداة بضرورة إيجاد إصلاح ديني، بل بمواجهة الشخص المعني بفداحة نهجه. إلا أن الحل الحقيقي يكمن في تحديد مواقع الغبن والظلم والعمل الحثيث على إزالتها لتكون النتيجة تهيئة أفراد وجماعات تنتمي إلى الدنيا وتوازن بطيب خاطر ما بين دينها ودنياه..

رابعا - ظاهرة الإسلام السياسي المتطرف:
في العقود القليلة الماضية، وكما أشارت أدبيات الدراسة في فصلها الثالث، وعلى تخوم القرنين العشرين والحادي والعشرين، شهد العالم نشاطاً غير مسبوق من قبل حركات الإسلام السياسي المتطرف وأنشطه واسعة وإشاعة الفكر غير المعتاد لدى غالبية المسلمين، وقد نجحت هذه الحركات في استقطاب من هم في سنّ الشباب، وبالتالي تجنيدهم في جماعات لمواجهة حالات التنوير والعلمانية في العالم العربي ومنها منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، كل ذلك ألقى بظلال قاتمة على الرؤية المعتدلة للإسلام ، فتحولت هذه الحركات أخيراً إلى منتج ومصدر لما يسمى بظاهرة "الارهاب الإسلامي" ، وعقدة مستعصية لبعض الدول والشعوب في كيفية التعامل معها، وجاء الرد من الغرب ان تلك الظاهرة "تشكل خطرا عالميا، فينبغي إذن مواجهتها عالميا".
السؤال الذي وقفت عنده الدراسة من أي مكمن يستمد الإسلام السياسي المتطرف مدّهُ؟، وما هي حججهم وكيفية قدراتهم لإقناع الشارع العربي به وتجنيده، وبالتالي القيام بعمليات التطرف واقتناع هؤلاء بتلك الأهداف؟، ولماذا استوطنت حركات الإسلام السياسي المتطرف بين أهل السنة أكثر؟، وهل في القرآن الكريم ما يؤيد خطابهم الفكري ومنهجه؟، ومن جعلهم خلائف الله في الأرض وما هي الجهة التي تمدهم بالمال والسلاح.؟ أسئلة كثيرة تطرح.. ويبقى التصدي لهذه الاسئلة محفوفا بكثير من الحذر والإحراج وربما المخاطر.
تقر هذه الدراسة وبعد مراجعتها لأدبيات تطور الإسلام السياسي في العالم العربي بأن التطرف عموماً له سوابقه في الثقافة العربية وفى صدر الإسلام، وانه سمة قائمة في كل الثقافات الانسانية، فإن لم يكن له وجود أو سند عند المسلمين الأوائل، فقد ظهر وشاع بعد حرب صفين على أيدي الخوارج ومن نسجهم، وفيما بعد عند فرقة الإباضية التي بقيت محصورة في بعض القبائل العربية معزولة في مناطق من عمان.
يقول السيوطي إن "الهادي الخليفة العباسي قد قتل خمسة آلاف فيلسوف في بغداد وحدها بدعوى التطرف ومن أجل اقتلاع ما سمي بالعلوم العقلية"، فتخيل هذا "العداء للفكر الحر" النشط في المركز بدار الخلافة عند الأسلاف، لأدركنا أسباب هذا النشاط المتطرف لدى حركات الإسلام السياسي في عالم اليوم، وفي هذا السياق نجد أن التطرف كان ظاهرة واضحة عند بعض طوائف المسلمين الذين نادوا بحاكمية الله ودولة ولاية الفقيه، وهؤلاء ظهروا اليوم ليؤسسوا لمثل هذا التطرف ظنا من هذه الحركات أنها تخدم الدين الإسلامي الحنيف، والآمر كذلك نجده لدى بعض الطوائف الدينية في المسيحية واليهودية ومدارسهم في الغلو والتطرف.
أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وثورات الربيع العربي واستمرار زوال معالم الدولة التسلطية في الوطن العربي تظلّ علامات فارقة في مسيرة حركات الإسلام السياسي المتطرف فيعدون الديمقراطية بدعة، كما هم ضد الشكل البرلماني في التمثيل، فالحاكمية لله وحده وهم خلائف الله في الأرض، وبالتالي هم مخوّلون للحكم بما أنزله تعالى وبما شرّعت به سنة رسوله، دون أن يكون بمقدور حركات الإسلام السياسي ان تقدم مشروعاً سياسياً، أو برنامجاً في كيفية إدارة الحكم، أو النهوض بالبلاد تنموياً، وما هي قراءاتهم للنصوص القرآنية وبالتالي تفسيرهم للآيات المختلف على دلالاتها ومقاصدها.
يرى قادة حركات الإسلام السياسي المتطرف أن نشر الدين في الديار الإسلامية، وتأسيس دولة الخلافة الإسلامية، يقتضي من المسلمين بداية مواجهة "اليهود والصليبيين"، ومن هنا جاءت شرعنه ثقافة التطرف، وغاب عن تلك الحركات أن الإسلام لم يفرض شكلا معينا من الحكم السياسي للدولة المسلمة، وهذا الأمر متروك لشعب البلد لكل زمان ومكان، لاختيار شكل إدارة شؤون البلاد والعباد، وان الإسلام في نصوصه القرآنية قدم فقط المبادئ العامة والقواعد التي ينبغي ان تؤسس عليها الدولة والحكم هي قواعد العدل والحرية والمساواة والتسامح والشورى، دونما الخوض في تفاصيلها .
ثمة عامل آخر لانتشار ثقافة التطرف، كما يتصورها الغرب، وهي المناهج الدراسية ومركز العلوم الدينية المتخصصة في بعض الدول، فمنها ما تكفر بعض حركات الإسلام السياسي المعتدل، ومعظم هذه الحركات يتم تمويلها غالبا من دول الخليج، وكانت ثمة جمعيات خيرية تمدّ هذه الجماعات بالمال، وكانت هي بالذات مع تعزيز ثقافة التطرف، وبحجة الجهاد ودعوات التطرف ، حيث يكون لهم حضور كثيف في أفغانستان وفى مصر وتونس والمغرب وليبيا، بالمقابل يلاحظ كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية مارست ضغوطات على بعض الدول سواء بشأن تحسين المناهج التعليمية، أو تجفيف منابع التمويل لتلك الاتجاهات المتطرفة دينياً، فكانت الاستجابة النظر في المناهج، والحظر على الجمعيات الخيرية لوقف عملها على الجوانب الخيرية فحسب، كما جرت لقاءات من خلال عقد ندوات حوارية بين الديانات السماوية الثلاث كون منطلقاتها إلهية مستقاة من مصدر واحد.
"يرى بعض الدارسين أن المدارس الدينية هي أهم بؤر نشر الفكر الديني المتطرف، لاسيما في السعودية وباكستان وأفغانستان، فجاء استثمار واستغلال هذه المدارس الدينية خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي باعتبار هذه المدارس بيئة خصبة لإنبات الفكر الديني المتطرف لمواجهة مدّ الفكر الشيوعي ، بتمويل سخي من الولايات المتحدة والسعودية ومن دول أخرى لاسيما الدول الخليجية، فبدلاً من أن يبرز هؤلاء الجانب المتسامح في الإسلام، حاولوا إبراز الجانب الفكري الأحادي من الدين، فكل طرف يلجأ للاستشهاد بسور من القرآن كقرائن قوية لما يقومون به، وهنا السياسة لا السماحة الدينية هي التي تأخذ طريقها في التعليل أو اختيار ما يؤيد نزعاته المتطرفة"( )".
بمعنى آخر، يقومون بتفسير آيات من القرآن الكريم دون التدقيق في أسباب النزول، أو السماح في التأويل عندما يخالف نزعاتهم وبالتالي إعطاؤها تفسيرات أحادية الجانب، ويمكنهم رصد الجوانب المخالفة في سلوك الآخرين حسب رؤيتهم الدينية، وقراءتهم للنصوص القرآنية، وهذا دأبهم على أيّ حال في تكفير حركات الإسلام المعتدل..
إن التطرف بفحواه المعاصر الذي يتخذ من الإسلام مظلة ليس له مستقبل أمام العلم والنانو- تكنولوجي والتكنولوجيا والعولمة والحداثة والحرية والديمقراطية، وسوف تذروها رياح التطوير والتغيير كما عصفت من قبل بدعوات وبرامج عديدة لم تلائم لغة العصر فتوارت واختفت.







#صلاح_الصادق_الجهاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النص الإبداعي بين القيمة المضافة والمحكمة
- الوطن بين المصالحة الوطنية والعزل السياسي
- انتلجنسيا الزيف
- تقرير عراب الثورات العربية
- الخونة والابطال الجدد
- فرضية قابلة للتصديق
- انضمو الي اعتصام ميدان الشجرة
- الاسلام السياسي في السلطة بعد الاتتخابات
- العولمة والهوية .... علاقة متبادلة
- نبعاث القومية الاندلسية
- أول ثمار الربيع العربي
- اشكالية اعتراف الصين بالمجلس الانتقالي
- البعد الاقتصادي للأزمة المالية العالمية وانعكاساتها علي النظ ...
- ملخص دراسة للحصول علي درجة مجستير بعنوان ظاهرة الاسلام السيا ...
- االامازيغ الأرث العظيم
- الموقف التركي من الثورة في ليبيا
- سر الثورات العربية
- الجماعات المتميزة والاقليات في ليبيا ( من مظور الامن القومي ...


المزيد.....




- بالفيديو.. فيضانات تغمر كنيسة الروح القدس في كورغان الروسية ...
- السيد الحوثي: عداء اليهود الشديد للمسلمين يأتي للسيطرة على ا ...
- فرنسا: ترحيل إمام جزائري مدان قضائيا بـ-التحريض على الكراهية ...
- الحكومة المصرية تصدر قرارا يتعلق بالكنائس
- فرنسا ترحل إماما جزائريا بحجة -التحريض على كراهية اليهود-
- أحباب الله.. نزل تردد قنةا طيور الجنة الجديد 2024 وفرحي أولا ...
- حدث أقوى أشارة لتردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات وعر ...
- هذا ما ينتظر المسجد الأقصى خلال عيد الفصح اليهودي الوشيك
- حامل ومعها 3 أطفال.. انقاذ تلميذة اختطفتها جماعة بوكو حرام ق ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف موقع اسرائيلي حيوي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - صلاح الصادق الجهاني - قراءات في ظاهرة الاسلام السياسي