أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - من وهج البحث عن الراحة















المزيد.....

من وهج البحث عن الراحة


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 4432 - 2014 / 4 / 23 - 15:02
المحور: الادب والفن
    


ما أروع أن تحمل أسمال روحك المدافة بالسأم ، لتهرب وإياها الى حيث يضع لك جسدك قبل عقلك ، موضعاً تحاول ان تلقي فيه بعضاً من هموم النفس .. هكذا فعلت وأنا أشعر بانقباض شديد يحبس في عروقي قدرتها على إمدادي بدماء الحياة .. فكل شيء من حولي بدا لي داكناً حينما حلت ساعات العصر .. تلك الساعات التي تفقدني أحياناً الاحساس بالشبع والجوع معاً ، النعاس واليقظة ، الفرح والحزن ، الشعور بارتداد حوامض المعدة لتخدش مجرى المريء بلا رحمة .. انه الحصار بكل صوره ذلك الذي يداهمني في الكثير من اللحظات التي تقترب بي من أوقات الغروب .
ثمة حديقة عامة ، عثرت عليها عن طريق الصدفة ، وانا انتظر ابنتي عند عيادة طبيب الاسنان ، فدورها للخضوع الى الفحص لم يحن بعد ، ولدي الوقت في أن اتحرك ضمن دائرة لا تبعدني عنها عندما يحين ذلك .
سرت بجانب السياج الخارجي للحديقة ، وكانت اصوات الاطفال وهم يسعون لسرقة أوسع ما تمكنهم قواهم من سعادة قد لا يحضون بها مرة ثانية ، دليل يأخذني لمعرفة بقية التفاصيل ..
سوف أكون هنا يوم الغد .. وسوف اقتحم هذا العالم الجميل ، رغم صرامة اليافطة المعلقة على الباب الرئيسي وهي تعلن .. ( يمنع الدخول لغير العوائل ) .
هكذا أنا أريد ، منفرداً دون ان يصحبني أحد من العائلة .. وحيداً تتحرك حواسي جميعها ، وبكل حرية ، بين خيوط لوحة رسمتها ريشة فنان لم يزعجه رقيب ..
لم يكن من السهل اجتياز عتبة الباب الرئيسية للحديقة وأنا منفرداً عكس ما ورد بالتعليمات .. لابد لي أن أدخل .. لاحظت وجود شابين يرتديان بدلتي عمل ، كانا يتسامران وملامح السرور بادية عليهما وبدون أي تكلف .. يجلس بالقرب منهما رجل مسن ، وقد نشر امامه بعضاً من انواع الحلوى الرخيصة الثمن ، وعدد من أكياس لب زهرة الشمس ، واصناف من العلكة ، بهدف بيعها للاطفال على ما يبدو .. تحركت بهدوء صوب الشابين وكان لي حوار معهما :
- كيف حالكما ؟
- بخير .
- هل تعملان في الحديقة ؟
- نعم .
- ارجو ان لا يزعجكما لو سألتكما كم تتقايضان من أجور ، وهل انتما أجيرين أم على الملاك الدائم ؟ .
- نتقاضى 375 الف دينار شهرياً ، ونحن نعمل باجور يومية .
وشجعتني دعوة احدهما أن أجلس على كرسي قريب منهما ، لأبدأ مناورتي التالية بالزحف الى داخل الحديقة وبهدوء ..
مشاعية المكان ، ووحدة مصادر الاصوات فيه ، جعلاني انتمي وبسرعة الى الفضاء المحيط ، ولم يخالجني حينها أن أحداً سيطلب مني المغادرة ..
الأطفال هم ابطال الحركة في عموم الحديقة .. تلوح بأجسادهم أرجوحات راح بعض الآباء يشغلون وقتهم بتحريكها حسب الطلب ، في حين بقيت أمهاتهم وأخواتهم البالغات سن الرشد كما يسمونه في بلادنا ، يشكلن حلقات غير منتظمة ، تتوسطهن صحون وقناني مياه الشرب وأشياء اخرى غير واضحة المعالم .
صحون .. عصائر .. قدور تمتليء بها أطعمة لابد وان تكون غنية بالدهون ، هي عدة أية سفرة يقوم بها عربي مع أسرته ، وحينما يعود الى بيته ، سوف لن يتذكر أحد من المسافرين غير أن هذا الطعام كان مالحاً زيادة ، والاخر معتدل ولكنه ينقصه الطعم الحامض .
لا أدري بالضبط ، لماذا تأخذني دائماً عزلة امرأة في مكان مزدحم ما ، فأطير على عجل ، محاولاً السباحة في بحر صمتها ، علني أرى ذاتي خلف ذلك الصمت المهيب .. انها وحيدة هناك ، وقد اختزلت كل الاصوات وكل منابع الضجيج الطفولي المنبعث من حولها ، لتبدو ساهمة في اللامكان ، وقد طوت زمناً لا يعرف مقداره أحد ، محاولة بلوغ أحلام ضاعت منها على ما يبدو ، وهي في تلك اللحظات ، راغبة في العودة اليها رغم المستحيل ..
من لي يا ترى ، بقوة تقربها مني لأرى تقاسيم وجهها القلقة وبوضوح أكثر ، حينها سأعرف ، وبقدرة جميع العرافين في العالم ، من تكون ، وسأعرف وجهة سفرها ، وما الذي جعلها تنزوي وراء تلال الحزن ..
ان بكاء الروح ، هو أشد انواع البكاء تأثيراً في النفس ، وليس ثمة من مشهد يحرك في نفسي الرغبة بالبكاء ، أكثر من مشهد لطفلة لم تتعدى من عمرها غير حفنة قليلة من السنين ، تكتفها أدوات الخوف من ركوب أهوال الرذيلة ، وهي لم تعرف بعد ، أية صورة واضحة الالوان ، غير انها تواقة للجري والنط وسط أقرانها من الصغار .. طفلة تركض ، أو تحاول الركض لتلحق بكرة رفسها طفل آخر على أرض الحديقة ، فتعرقل فيها القدرة على الحركة الحرة عباءة سوداء ، وشال أسود ، وجوارب تغطي قدميها الغضتين ، لمنع الكبار من شذاذ الافاق ، من ان تكون تلك الطفلة قبلة لشهوا تهم الجنسية المنطلقة بقوة عربية مسلمة مؤمنة بربها ، لا تفرق بين الطفولة والكبر .. بالمقابل ، يربض جلف بهيئة بشر ، هو ابوها ليراقبها من بعيد ، لا تحمل ملامح وجهه غير صرامة أجداده من ابناء الصحراء ، التي اراد الله لها ان تكون غير ذي زرع ، وليس فيها ما يمت لطراوة الحياة من شيء .
أحد العاملين اللذين صادفاني عند البوابة الرئيسية ، مر من أمامي وهو يحمل جردلاً لم استطع تمييز ما بداخله ، وقد رمقني بطرف عينه ، وابتسامة خفيفة على وجهه ، وكأنه يقول لي ( لماذا خالفت تعليمات الدخول ؟ ) ..
انتشار واسع للطفولة من حولي ، ومع كونها طفولة ينقصها الاكتمال ، لكنها كانت مدعاة للشعور بالراحة .. تلك الراحة التي افتقدها عندما تحل ساعات العصر من كل يوم ..
- لقد فقدت هاتفي المحمول قبل دقائق ، وكنت جالساً هنا في نفس مكانك .
قال احدهم وهو يحملق في وجهي ، وقسماته تقطر بالشك .
أجبته وقد شعرت بالخوف منه لو استمر الشك في نفسه :
- لم أعثر على شيء هنا ، بل ولم افتش في المكان .
- كم أمقت اولئك الذين يشيعون بأن حالنا نحن العرب قابل للتحسن ، لم يفصلني عن فقدي لهاتفي غير دقائق ، أين يا ترى قد ذهب ؟ ..
- لا أدري .. هل ترغب بمساعدتك بالتفتيش عنه في اركان الحديقه ؟
- ومن تكون انت حتى تقوم بهذه المهمة ؟ .. سوبرمان مثلاً ؟ ..
كانت ملامح الشر بادية عليه وهو يرمقني بحدة ، فسارعت الى البدء بمحاولة لتغيير مسار افكاره خشية حدوث ما ليس لي تجربة فيه ، لو قرر الرجل ان يسحبني لساحة عراك يحاول من خلاله استرداد ما فقد .. فوقفت في مكاني ، رافعاً كلتا يدي الى الاعلى ، معلناً استعدادي للخضوع للتفتيش .. حينها تحرك بعيداً تاركاً في مخيلتي بقايا من مدنية هي الفاصل بين الانسان والحيوان ، لتقودني الى الاحساس بالأمان .
لم أستطع أن البي رغبتي بالتجوال في المكان ، خشية اكتشاف أمر وجودي وبدون عائلة .. لا بأس .. فأنا متأكد من قدراتي الذاتية على السفر ضمن أوسع المساحات مهما بعدت أطرافها بواسطة عيون تديرها مخيلة لا يصيبها الملل .. الاطفال لا زالت أراجيحهم تهتز ، وثمة سكون بين الحين والاخر ، لم اجد تفسيراً له حتى انني يخالجني شعور بان حاسة السمع لدي قد تكون على غير ما يرام .. وجوه الكبار جميعها مكفهرة ، لا تريد أن تعلن عن استبشارها بشيء .. كل الاجساد الموجودة من حولي ، عدا الاطفال ، أتخيلها مصابة بواحد من الامراض المزمنة ، السكري أو ارتفاع الضغط ، أو هشاشة عظام المفاصل .. وفي الايام الاخيرة شاع بين العراقيين مرض آخر هو التهاب الغدة الدرقية ، والغريب أن أكثر الادوية التي يقررها الاطباء لمعالجة هذه الامراض ، لها صفة ( تهدئة الاعصاب ) .
التفت الجميع من حولي باتجاه هرج حدث في الركن البعيد من الحديقة .. فهمت بعدها بان صاحب الهاتف المفقود ، قد تعلق بجلابيب شاب متهماً إياه بسرقة هاتفه ، فما كان مني الا أن أفر على عجل ، مغادراً مسرح راحة وهبتني إياه زيارة عابرة لطبيب أسنان .













#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثقافة النخبوية ، وحقوق المرأة .
- ويبقى النفط العربي .. هو المصير
- أفواه ... ودخان
- النهاية المحزنة اقتربت .. فهل ثمة من يسمع ؟؟
- رائحة القبور ..
- الهجرة المعاكسة للفلاحين .. هي الحل .
- اليابان .. وآمال شاكر الناصري
- مرة أخرى .. من أجل يسار موحد .
- حصار الثقافة .
- منظمات المجتمع المدني في العراق .. والدائرة المغلقه
- الأستاذ برهان غليون .. انه النبأ اليقين
- حقوق المرأة في اقليم كرستان .. الى أين ؟
- الحرب الطائفية في سورية .. وكذبة الأمة الواحدة
- حقيقة التدخل الدولي في سورية ( مداخلة مع الاستاذ سلامة كيلة ...
- فراشاتي الثلاثه
- هجرة الارياف الى المدن ، واحدة من الاسباب المهمة لظاهرة البط ...
- بذور عباد الشمس
- رمية في بحيرة الربيع العربي .
- كنت في القاهره ( تجربة في طيات مخيلة ممنوعة من السفر )
- داء الوعي


المزيد.....




- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد حمودي عباس - من وهج البحث عن الراحة