صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1255 - 2005 / 7 / 14 - 13:04
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
وصلتني بالبريد الالكتروني من السيد مفيد الجزائري مذكرة المثقفين العراقيين, الموجهة الى اعضاء لجنة اعداد الدستور, تدعوا الى توقيعها ونشرها.
ورغم ان اقتراح التوقيع ليس اقتراح "مناقشة" كما يفترض برأيي, فاني سأناقش بضعة تفاصيل من المذكرة, التي هي بلا شك ايجابية بشكلها العام, شاكرا السيد مفيد الجزائري ومن عمل لانجازها لجهودهم الطيبة.
لفت انتباهي بشكل خاص النقطة (اولا), وما جاء فيها : ".... ويهمنا ، على نحو خاص ، أن نؤكد الحقوق والحريات في العمل والأمن والصحة والسكن والتعليم والضمان الاجتماعي والبيئة النظيفة السليمة.
ولا تخضع هذه اللائحة إلى أي تعديل دستوري في المستقبل ينتـــقـص منها."
اود التنبيه هنا الى اهمية هذه النقطة الاساسية, والتي لو دخلت الدستور بشكل سليم محمي بشكل محدد وواضح, وتم تنفيذها, فلربما يكون الانسان العراقي سعيدا بها وحدها, لانها تشع الفائدة على جميع النقاط الاخرى!
لكني اخشى ان هذه النقطة بالذات, خاصة ان وضعت بشكل يصعب الإلتفاف عليه, ستواجه اقوى معارضة من الحكومة الامريكية (ليس بشكل مباشر بالطبع). ففكرة "السوق الحرة", التي تتبناها الحكومة الامريكية وكل المقربين منها في العالم, تنطلق من الغاء الدعم الحكومي على كل الخدمات.
ف "الحق بالعمل", وهو من الحقوق المذكورة في لائحة حقوق الانسان, واجه منذ زمن طويل سخرية علنية و هجوما قاسيا صريحا من قبل الساسة الامريكان, جعل الناس في امريكا ينسون انه حق. فامكانية الشركات الامريكية لفصل موظفيها وعمالها, لا تجاريها اية امكانية اخرى في بلدان العالم الغربي. اما الصحة والسكن والتعليم والضمان الاجتماعي فحقوق هي في اميركا الاقل والاسرع تدهورا من اي من الدول الصناعية (هناك ضمان اجتماعي بسيط وقاس, هو ايضا اسوأ ما هو موجود في الغرب), ولايوجد ضمان صحي (لمن لايتمكن من دفع ثمنه كاملا, وبالتالي فهو ليس ضماناً), رغم محاولات كلينتون الكثيرة. اما قصة "البيئة النظيفة" فمعروف عداء ادارة بوش لها منذ الغاء توقيع اميركا على اتفاقية كيوتو.
من الخطأ التصور ان اميركا لن تحاول فرض اتجاهاتها على العراق, ولنا في الضغط المتزايد على دول اوروبا الغربية لإتباع طريق امريكي لا اجتماعي (حرية السوق مرة اخرى), ومن خلال اقرب الاحزاب السياسية الى اميركا, دليل واضح.
ما اقوله ان هذه النقطة ان شاء لها القدر ان توضع في الدستور العراقي فلتكن واضحة محددة يصعب الالتفاف حولها, لان الحرب عليها قادمة لامحالة.
للتمكن من انجاز ذلك, تحتاج الحكومة الديمقراطية المنتخبة ان تبقي ثروات البلاد الطبيعية تحت تصرفها. لكن الوثيقة لاتذكر اي شيء عن ذلك بل تكتفي بالاشارة الى المادة 25 من قانون ادارة الدولة والتي تحدد توزيع الثروة بين اقاليم العراق حسب حاجتها.
الصراع على ثروة العراق برأيي لن يكون بين اقاليم العراق, بل بين العراق والشركات الامريكية ومن يمثلها, ويجب وضع مادة دستورية تحرم البيع المسبق للثروات وخصخصتها تماما مثلما تحرم الدساتير على الحكومات بيع اراضي البلاد الى الاجانب.
كذلك لم يبذل مايكفي من جهد لصياغة شروط تعديل الدستور. فالنقطة 16- أ تشير ببساطة الى " - مرونة الدستور بما يتيح إدخال تعديلات عليه على وفق ما تتطلبه حركة الواقع ." وهي عبارة غامضة قد تصلح لاساءة الاستعمال, بضمن ذلك الغاء النقاط الاخرى المحددة للتعديل بقدر ما تصلح للاستعمال الايجابي. فيمكن التحجج ب " ما تتطلبه حركة الواقع " لتغيير اية مادة, بضمنها المادة 16 – ب, والتي تشترط انقضاء دورة انتخابية قبل تقديم اي مشروع تعديل.
الاشارة الى "الاستفتاء العام" كشرط لتعديل الدستور كان غامضا هو الاخر. ففي الاستفتاءات يتوجب دائما ذكر الحد الادنى لعدد او نسبة المشاركين, اضافة الى الحد الادنى لنسبة المصوتين على اقرار موضوع الاستفتاء, وهو ما لم تشر اليه الوثيقة.
والحقيقة ان الاستفتاء العام بحد ذاته موضوع كان يستحق اهتماما اكبر مما اعطي, وليس فيما يتعلق بالتصويت على تعديل دستوري. فالاستفتاء اداة ديمقراطية في غاية الاهمية, رغم بعض اشكالاتها. فهي الاداة التي تحد من صلاحيات الحكومة المنتخبة لاتخاذ قرارات مضادة لارادة الشعب (وهو ما يحدث بدرجة او اخرى حتى في اكثر الدول ديمقراطية, بسبب الضغوط من القوى الخارجية واصحاب الاموال في الداخل), كما انها تذكر الحكومة المنتخبة دائما بانها وجدت لخدمة الشعب وانها يجب ان تحترم رأيه حتى بعد انتهاء الانتخابات.
اشير هنا الى مقالة لي بعنوان "الدستور الديناميكي" تحدثت فيها عن امكانية شروط موجهة ومتغيرة للتعديلات الدستورية:
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=39112
تشير النقطة هاء ايضا الى ان على الجمعية الوطنية ان تنظر في مشروع تعديل الدستور اذا قدمته الحكومة او عضو واحد من الجمعية الوطنية او ما يعادل ناخبي عشرة اعضاء. هنا يثير الاستغراب ان يحق لعضو واحد في الجمعية ما يحق للحكومة او ناخبي عشرة اعضاء. كما ان تحديد عدد الاعضاء بالعدد غير مناسب, لان عدد اعضاء الجمعية ليس ثابتا بالضرورة ويفضل استعمال النسب.
اخيرا اشير الى المادة الخاصة بالاعلام والتي تقول :
6 ـ فصل الإعلام عن الحكومة وضمان استقلاله ، وبضمنه الإعلام المموَّل من الميزانية العامة للدولة.
هذه المادة تصب في نفس الاتجاه المتحمس الذي ظهر ايام مجلس الحكم "لفصل الحكومة عن الاعلام." الاسباب والمقاصد الطيبة من ذلك واضحة, لكن هناك مسألة مهمة. ففي مثل هذه الاتجاهات تختلط على الكثيرين على ما يبدوا المخاوف (المبررة) من عودة دكتاتورية الحكومة, وحرمان الحكومة الديمقراطية من امكانية الدفاع عن نفسها امام القوى غير الديمقراطية. ففي خضم الحماس لوضع حدود لسلطة الحكومة, نقيد الحكومة المنتخبة ونجعلها عرضة للابتزاز من قبل القوى الاخرى. قد يبدوا هذا الكلام غريبا بالنسبة لشعب عاش دائما تحت سلطة حكومة مستبدة القوة, لكن الامر مختلف مع الديمقراطيات.
فاذا اتفقنا ان درجة ديمقراطية اية مؤسسه تحسب بمقدار سلطة الشعب عليها وامكانه التأثير بها, تبين ان الحكومة التي تحقق الحد الادنى من الديمقراطية, اكثر ديمقراطية بما لايقاس من الشركات. فالشركات ذات شكل هرمي تنزل فيها الاوامر من الاعلى الى الاسفل, دون ان يكون هناك اتجاه معاكس يذكر, وهي مواصفات النظام الفاشي. وللشركات الكبرى خاصة تأثير كبير حتى على الناس الذين لايعملون بها, والذين ليس لهم اية سلطة على شكل اتخاذ القرار فيها. لذا, فان توجب الخيار بين سلطة حكومة منتخبة وسلطة شركة, يفترض تفضيل الحكومة.
فجميع المتحمسين لحرمان الحكومة من الإعلام, لايقدمون تصورا عن البديل الذي سيكون حرا بالتصرف بذلك الاعلام. قد يقول قائل: لا احد له ان يتحكم بالاعلام, فللجميع الحق بانشاء جريدة او تأسيس محطة تلفزيونية, وهكذا لاتمنع الحقيقة من الوصول الى الناس.. ورغم اني اقر بضرورة حرية كل شخص او مؤسسة بتأسيس جهازه الاعلامي, لكن الامر على غير ذلك في الواقع. فالمؤسسات الاعلامية مؤسسات اقتصادية (في السوق الحرة خاصة) ومثلها مثل غيرها, ستكون خاضعه لسلطة المال واصحابه.
ان التصور ان الجميع سيحصل على الحق بالوصول الى الاعلام ان ترك للسوق وحدها دون تدخل, مثل التصور باننا اذا تركنا الحرية لكل شخص ان يبيني مصنعا, فسيكون هناك مصانع لكل الناس.
ان تجارب الدول الديمقراطية, تبين لنا ان الاعلام في النهاية سيكون تحت سلطة الشركات وليس الناس. فبضعة شركات في اميركا, ومردوخ في بريطانيا تسيطر على معظم ما يصل الى سمع الناس وبصرهم فيها. اما في دولة يزيد فيها الفساد اكثر, مثل ايطاليا, فيسيطر مجرم مرتبط بالمافيا ومتهم برشوة القضاة على 93% مما يصل الى الناس من اعلام. لقد نجحت سلطة برلوسكوني الاعلامية في حمايته من المحاكمة, بل اوصلته رغم كل ما قام به الى رئاسة حكومة ايطاليا. والفساد في ايطاليا ما زال بعيدا عن مستواه في العراق!
#صائب_خليل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟