الزحف إلى مدريد (2)

عذري مازغ

الحوار المتمدن-العدد: 4408 - 2014 / 3 / 29 - 15:43
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    

تنطيم مظاهرات عارمة بمدريد يوم 22 مارس ليس بالأمر الهين خصوصا أمام قوة الإحتواء الإعلامية الضخمة التي تتوفر عليها الحكومة الإسبانية ومعها الحزبين القويين كما يبدوا في الإعتقاد، إن دور المسيرات لا يخلو من أهمية كبرى كونه تظاهرة رياضية صرفة، لو ان الأمر تعلق بالتحديد برياضة المشي بشكل مفروغ من مضمونه السياسي لكانت وسائل الإعلام صاخبة ومتنافسة في نقل كل خطوة من خطوات المتسابقين ولكانت أيضا عبارة عن حفاوات ومهراجانات تمجد الفراغ عند بداية كل مرحلة أو عند نهايتها، لكنها أن تكون ذات هدف سياسي يرمي أساسا إلى التحسيس بخطورة السياسات التي تنهجها البلاد، أن تكون العروض التلقائية بشكل تطوعي وفارغة عن أية منافسة ترمي إلى تمجيد البطولي للأفراد أو التمييز الجنسي أو ما إلى ذلك مما تنتجه الثقافة الفردانية، أن يكون الهدف ليس بطولة فردية بل هو هدف جماعي فالأمر يختلف كثيرا عنه عما للمسابقات الرياضية، تكرس المسابقات الرياضية مبدأ تقديس الفرد وترفع سعره إلى مستوى مسرف للغاية، وتافه لأقصى الحدود، تصبح الرياضة ترفا يعبر عن انحطاط أخلاقي حين تقارن بالمردود النفعي، حين يصبح المتسابقون بكل كيانهم البشري علامات تجارية مرصعة يتحول القن فيها من عبد سبارتاكوسي (من سبارتاكوس ) إلى عبد اللوكس (esclave du luxe).
لا أدري هل كان لمنظمي حركة 22 مارس موقف ما من رياضة المشي ولا هم طرحوا شيئا في حقها اثناء جولاتهم التنظيمية إلا ماكانوا يذكرونه بخصوصها، كونها تظاهرات للتحسيس السياسي ويبدو أيضا أن آليات التنظيم اعتمدت على المبادرات الطوعية، لم تستلزم شيئا أو شرطا ما في المشاركة بالنسبة للعمر أو الجنس أو الهياة الجسمانية، لحكمة ما اعتمدو لضبط اتزان السير وكذا ضبط إيقاعه على أن يتقدم المسيرة شخصين مسنين أحدهم عمره 76 سنة والثاني 62 سنة، ومع ذلك كان السير سريعا أكثر مما توقعنا، فالشيخين الهرمين مشاؤون أكثر مما يتوقع، وربما لو كانا شابين هما متزعما المسيرة لكانت أبطأ نظرا لولوع الشباب بالإلتفات حوله، بالحديث، بالأنسة وما إلى ذلك، أما الشيخين فكانا جديان، ويبدو ايضا إضافة إلى ضبط الإيقاع وفق سير محدد أن لمشاركة الشيوخ قيمة معنوية أكثر، لنتذكر الحركة الدينامية لمجموعة من الشيوخ تكتلوا في جمعية خاصة دفاعا عن مستقبل الأحفاد(yayoflaota)، أذكر كلمة ألقيت في تظاهرة بغرناطة باسم هذه الجمعيةدفاعا عن معتقلي النقابة الأندلسية للعمال بمناسبة محاكمة محتلي مزرعة وحقول التوركيا التي تستعملها جينيرالات العسكر الإسباني في رياضة الفروسية بدل استغلالها في الإنتاج، حيث تكلم مندوب هذه الجمعية عما يفاد أنهم كجمعية للشيوخ لم يعد لهم مايناضلون لأجله سوى النضال لأجل مستقبل أحفادهم، أي أن حركتهم تهدف إضافة إلى الإقتطاعات في المعاش، تهدف اساسا للدفاع عن حقوق ابنائهم ومستقبل أحفادهم باعتبار سياسة التقشف مستهم بشكل خاص من خلال احتضان أسر أولادهم في هذه الازمة المزمنة..
لن أتطرق في هذه الكتابة إلا إلى المسيرة التي شاركت فيها في هيكلية الأندلس نظرا لقلة المعلومات حول المسيرات الأخرى التي انطلقت من مناطق أخرى، فالإخبار عادة عنها ليس أكثر من إخبار حول مراحلها ونقط وصولها وعدد المنخرطين فيها ويمكن اعتبار مسيرة الأندلس المسيرة التي فيها شاركت مائات من المتطوعين وهي الأقل صعوبة من المسيرات الأخرى التي انطلق بعضها في يوم ممطر. مسيرة الأندلس شارك فيها ممثلين من كل إقليم من أقاليم الأندلس، ليس هناك إلزام معين بتحديد عدد معين من المشاركين من كل إقليم، كما أنه ليس هناك تميز حزبي أو نقابي أو تكتلي خاص، ليس هناك إلزام بعدم إبراز لون وهوية المشاركين الإيديولوجية. وطبعا هناك شروط تستلزمها ظروف المسيرة كأغطية النوم والحاجات الخاصة التي يحتاجها الفرد في سفرية أما بالنسبة للأكل والشرب والمبيت وحالات المرض فقد أعد لها فيما يسمى بالإعداد اللوجيستي..
اختيرت نقطة الإنطلاق الأندلسية من أقرب نقطة في الأندلس بالنسبة لمدريد وهي مدينة سانتا إلينا (Santa Elena)تابعة لإقليم "خاين" وتقع جنوبا على حدود أقاليم كاستيا دي لامانتشا، تاريخ الإنطلاقة كان هو يوم 16مارس وه اليوم الذي يلي تنظيم مظاهرة عارمة بقرطبة كآخر نشاط تحسيس حول المسيرة إلى مدريد، أغلب من شاركو في المسيرة شاركوا أيضا في مظاهرة قرطبة وانتقلو صباحا إلى سانتا إلينا، وهي مدينة صغيرة تقع على ارتفاع 742 م من سطح البحر في سلسلة جبال sierra morena وتبعد عن خاين ب78 كلم، عدد سكانها حوالي 1000 نسمة وتعتمد في اقتصادها على الفلاحة (جني الزيتون) وتربية الماشية وكذا القطاع الغابوي وبعض السياحة الجبلية..
كان وقت انطلاق المسيرة هو الساعة التاسعة ونصف، حضر إلى نقطة الإنطلاقة أكثر من الف شخص من مختلف الاقاليم، كان الجو صحوا، الناس يتبادلون بعض صور التذكار، بعضهم يتناول وجبة الفطور بالمقاهي، أعضاء اللجنة التنظيمية في حركة ديناميكية لشرح طرق سير المسيرة وبتلقين بعض الشعارات التنظيمية منقحة طبعا بالسياسة (dos por dos ··· Rajoy cabron) ليس هناك مايربط بين الجملتين الإسميتين سوى إخراج لرمز الساسة: "دوس بور دوس" ترمي إلى تنظيم المسيرة على شكل صف مزدوج، وبطول مريح لا يعرقل حركة سير العربات ووسائل الشحن في الطرقات، اما راخوي كابرون فترمي إلى أن المسيرة تتجه لإسقاط راخوي، أي أن الجملتين لا ترتبطان إلا بحركية وأفق المسيرة)، هناك دورية خاصة لرجال الأمن ستصاحب المسيرة لضمان سلامتها وهو امر تتيحه قوانين التجمع والتظاهر في إسبانيا، حضرت إلى عين المكان بعض وسائل الإعلام المحلية التابعة لسانتا إلينا وقناة كنال سور الأندلسية وطبعا حضر الإعلام الذاتي، حضر Sanchez Gordillo للمشاركة في المسيرة وهو رمز نضالي بالأندلس وعمدة مدينة ماريناليدا المثيرة للجدل رغم إصابته بمرض الزهايمر.
عمليا انطلقت المسيرة على الساعة العاشرة والنصف، أي ساعة بعد ماكان مقرر لها نظرا لما احتاجه الأمر من ترتيبات ضرورية. امضينا كيلومتيرن لتلتحق بنا شاحنة حاملة لمهاجرين قادمة من إلخيدو بإقليم ألميريا، لينضافوا إلى المسيرة، كانت الطريق إلى كاستيا دي لا مانتشا حافلة بالمنحدرات والمنعرجات تتخللها أودية وخطوط غابوية خضراء، المساحة كانت فارغة تماما من السكان عكس المناطق الساحلية أو المجاورة للمدن الكبيرة المزدخمة بالسكان، على رأس المسيرة ناقلة لقنينات الماء وناقلة أخرى حاملة لأربعة من مكبرات الصوت ذات الحجم الكبير، كما أن في مؤخرة الصف أيضا ناقلة أخرى تقوم بتجميع قنينات الماء سواء الفارغة منها أو التي تحتوي بعض الماء حيث سيتم إعادته مرة أخرى كلما شعر المارة بالعطش، هناك أيضاشاحنة لحمل الأثاث والأمتعة، ثم ناقلة أخرى لحمل المعطوبين من جراء المشي أو المرضى أو المتعبين..
عند تلة من الدخول إلى هضبات لا مانتشا رفع شعار يرمز لوجود شخصين مشكوك فيهما ثبت بعد ذلك أنهما من رجال الحرس المدني في لباس مدني، كان اكتشافهما غاية في السهولة، فهما غير مندمجين، ولباسهما لا يعبر في شيء عن اي رمز ينتسب إلى مكون من مكونات حركة 22 مارس، لا قميص، لا ملصق، لا لون ولا أي شيء يحدد هويتهما .. ثم إن وجودهما بشكل معزول وغير اندماجي سهل مأمورية اكتشافهما، مع العلم أن كل شخص يعرف تماما كل العناصر التي جاءت من إقليمه ولو معرفة بالوجه، عند اكتشافهما، أحدهما انسحب فورا أما الآخر فلم ينكر هويته كرجل أمن، بل قال للمسؤولين عن المسيرة بأن وجوده كان لضمان الشروط الأمنية (لحماية المسيرة..!) بإحدى محطات الإستراحة في الطريق السيار يربط مدريد بالأندلس مررنا على أحد رموز العهد الفرونكي، مقهى (Casa Pepe) معروف صاحبه لدى الإسبان، مقهى مملوء بالرموز والزخرفة الفرانكوية إضافة إلى صور فرانكو وصور جنيرالات الفتك الفاشيست، أمام المقهى تكتلت مجموعة من الحرس المدني لحماية المقهى مما حدى بالمتظاهرين إلى رفع شعار "لم يمت فرانكو..” مع الإشراة إلى المقهى، وهو امر مثير حتى لدى زبائن المقهى الذين أعتقد أنهم لم ينتبهو للأمر، شخصيا وفي مناسبات سفرياتي إلى مدريد، وقوفا عند هذا المقهى بالتحديد لم أنتبه يوما للأمر، وربما الأمر أيضا يرجع إلى الجو الدينامي المتنامي في قتل الأحاسيس الوطنية (مصاب بموت الإحساس الوطني حيث ثقافتنا لم تنتج رموزا تاريخية تحيي الذاكرة الجمعية بالنفور تجاه ما يرمز مثلا لسنوات الجمر، أو ما يرمز للخونة في الفترة الإستعمارية أو أو... عادة في المغرب كل الخونة والفاشيست تترصع اسماؤها في شوارعنا ويحتقر فيها كل رمز ينم بصلة إلى هويتنا . في المساء عند الساعة السادسة أنهينا الطواف الأول عند ثلة تسمى بأدمورادييل حيث تناولنا أكلة من الخبز الحافي: تسمى ميكاس وهي قطع مفتتة من الخبز مع خليط من الزيت وقطع من "الصوصيط". بعدها ولغياب مكان للمبيت تنقلنا عبر حافلات النقل إلى مدينة كانيافينيا للمبيت في مركب رياضي مغطى، عند وصولنا إلى المدينة ، حظينا باستقبال فعاليات المجتمع المدني بالمدينة كما أتيح لنا أن نقيم جمعا جماهيريا مع سكان المدينة بالمسرح البلدي حول أهداف وحيثيات التحرك والتظاهر ضد سياسات التقشف المتبعة...

#عذري_مازغ (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات