أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي المسكيني - لماذا يجلس ذلك الأب وحيدا ؟...














المزيد.....

لماذا يجلس ذلك الأب وحيدا ؟...


فتحي المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 4365 - 2014 / 2 / 14 - 11:17
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




صورة أخرى غير بطولية أبدا ولا مريحة أبدا تلك التي رسمها ذلك الأب الذي وجد نفسه فجأة ملعونا ووحيدا، ..كانت الكراسي حوله فارغة كقلبه المحفور بحزن لا يشرّف أحدا والجدار الاسمنتي العاري يقف وراءه في شماتة كلبية. كان جدارا فقيرا وفقد شهوة النظر الى العابرين. وأمامه رصيف قريب كأنّه يوحي بقصر كل شيء أمامه. لقد تصاغر كل شيء فجأة: ماذا يمكن أن يقول عن ابنه الملعون؟ ومن يمكنه أن يسمع ما لا يمكن أن يُقال؟ صغرت الدولة فجأة وانسحب المستقبل ولم يستطع أن يأتي الى العزاء المستحيل الا الفراغ. كان الفراغ كريما جدّا.. أحاط به تماما ومنع الوحدة من أن تغلق المشهد وتطرد الغائبين.
كان يظنّ أنّه أنجب “كمالا” ما لنفسه المعدمة سلفا دونما حاجة الى أيّة محاكمة اضافية. وكان يزعم في أعماق روحه التي امتنعت عن الكلام أنّه يمكن يوما ما أن يتعكّز على نجاح ابنه الباهر كي يضع حدّا لتلك “القضقضة” التي يتركها الفقر على أجساد الفقراء دون أيّ اعتذار يُذكر. وكان…
لكنّ الطريق الى الحلم قد انكسر وغاص في صوت الموت الذي أصبح الصديق المفضّل لجيل من سكّان الآخرة يحملون الشهائد كتهم حديثة ضدّ دولة تصنع الذكاء و تلقي به في سلّة المهملات البشرية. وحين عاد حمل الآخرة معه وأصبح أكبر من حضن أمّه ومن أحلام أبيه. لقد تحوّل الفقر الى ثقافة الموت وانقطع حبل المودّة مع الألم وصار هذا الجيل المجنون يحبّذ المقبرة على المدينة.
ربّما رأى جثّته ملقاة كعود كبريت على رصيف الدولة… وربّما ودّ لو كان قد اشتعل وتسلّم رماده البارد في صمت. لكنّ ما وقع كان يدمّر كل المشهد ويحوّل الأب الى غريب في جسمه وليس فقط في وطنه. كان ينظر الى الأرض كأنّما يلحّ عليها أن تُسارع بابتلاع كل شيء وغسل كل مساحة العار التي استقرّت في عينيه الغائرتين… لا أحد تجرّأ على أن يشاركه كل هذا المدى من العزاء الفارغ من الإنسان. أين ذهب الآخرون.. الجيران.. الأصدقاء.. الأقرباء.. كان الموت أخفّ وطأة من أقدام ذلك الغياب الفظيع الذي تتركه اللعنة وراءها حين يمرّ.
ما أفظع هذا الارث : الأب الذي يرث الطاعون من ابنه الذي ينتظر منه أن يأتي له بالعالم في باقة من المستقبل. لكنه لم يظفر إلاّ بجثّة مشحونة بالآخرة تحت حزام ناسف. ماذا؟ هل كان الله على علم بكل ذلك؟ هل يمكن لأحد أن يحبّ الله الى حدّ القتل، قتلنا كأنّنا تهمة أو عبء على المؤمنين أن يتخلّصوا منه؟ من زرع هذا الخفّاش اللعين بين جنبينا؟ ومن كان ينتظر منا مجيء هذا الجيل من الموتى المدمنين على قتلنا؟ أم أنّنا قد أسأنا تقدير موعد اللقاء مع التنّين؟ كم كان هوبز على حقّ إذن؟ الدولة الالاه الفاني لا يحبّ إلاّ الأجساد الطريّة التي تعبق برائحة الأبرياء. ولكن هل يوجد أبرياء أصلا؟
كيف أصبحنا قادرين على دفن أبنائنا كأنّهم قدموا من كوكب آخر؟ من علّمهم كرهنا إلى حدّ القتل المقدّس؟ وهل كان بإمكان ذلك الأب، الذي يجلس وحيدا في مجلس عزاء لن يأتي إليه أحد، أن يتبرّأ من ابنه الملعون؟ هل عليه أن يتحمّل أبوّته على الإرهاب إلى النهاية؟
جلسةُ ذلك الأب المستحيل… الخاشع كحجرة من الحزن، الأبكم كقبر فارغ، الذي يوشك أن يصبح لا مرئيّا، من فرط شعوره بعار وطني لا يغسله أيّ اعتذار مهما كان صادقا،… والذي لم ينل من الوطن غير صداقة الفقر سابقا، ورداء اللعنة لاحقا،… تلك الجلسة تسمّرت في مخيّلة كل الذين رأوه… وعلى الرغم من أنّه لا أحد لعنه أو سعد بأيّ شماتة ما تجاهه،… فهو لم يجد مكانا كافيا للعزاء حوله… وجلس على حافة الجحيم ينتظر… كأنّه ينتظر أن يزوره الموت شخصيّا بنفسه… معزّياً.
فقراء الشمال الغربي من تونس الحديثة… شكري.. مقتولا… والقضقاضي قاتلا.. يا لهذه المساهمة الأخلاقية في بناء الوطن…الفقر الذكي يقتل نفسه بنفسه… تارة هو يصرخ في وجه الدولة التي لا تراه، وتارة هو يفجّر الآخرة في وجهها.
ولكن هل فهمنا المشهد؟ هل قال لنا كلّ شيء ؟ أم أنّ القاتل الأصلي لم يظهر بعد في الصورة. وكلّ ما وقع أو ظننّا أنّه وقع هو مجرد انتظار، على الدولة أن تملأه بأيّ قصّة مناسبة ؟
هل يكفي أن نقتل القاتل حتى نتخلّص من الجريمة ؟ أم أنّ إرهاب الحقيقة لا يقلّ قتلا عن حقيقة الإرهاب؟ إلى متى سوف ينتظر الشهداء أن نصارحهم بالقصة الحقيقية لموتهم؟ من المسئول عن ثقافة الموت؟ أم أنّ المجرم أو الإرهابي هو في النهاية إرث عائلي زائد عن الحاجة سوف تساعد الدولة على إزالته بالوسائل المناسبة. ويعود الجميع إلى حياته اليومية… إلاّ ذلك الأب الذي حُرم منها بلا رجعة.



#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضحك الفتيات من هيبة الدولة
- مانديلا الباسق...ينحني ليقطف الأرض،،،
- فشل الحوار بين الهويات...أو هل نحن هوية بلا ذات ؟
- قتل الطلبة أو... في هزيمة الدولة
- الثقوب السوداء
- الأمنيّون... بعد الدكتاتورية
- نداء الصامتين... أو تأريخ مشطّ لغضب لا يحبّ المؤرّخين
- مديح الغربان...أو هجاء الداخل
- أخونة الموت
- إذا مات بعضُك...لا تتأخّر
- في انتظار دولة الفقراء
- الفلاسفة و العفو ..تمارين في الغفران
- هيدغر والديمقراطية أو زعامة الرعاة
- الرهطيّون
- شكري عاد وحيدا...أو ما يبقى يؤسّسه الشهداء...
- القتل ليس وجهة نظر... أو ما هو الاغتيال الهووي ؟
- صولجان الذئاب...أو إذا متّ سأشرب وحدي
- المركزيون...أو في المواطنة المشطّة
- الأنا الأخير...في الشرق
- الكينونة تتكلم العربية أو هيدغر في زماننا


المزيد.....




- مقترح مُحدّث لوقف إطلاق النار في غزة: -تقدم- في المفاوضات و- ...
- في شمال قطاع غزة.. موقع إسرائيلي -سرّي- لصدّ -هجوم محتمل- من ...
- فرنسا تفرج عن جورج عبدالله رغم تحفظ إسرائيل، فمن هو؟
- السعودية تسير جسراً جوياً إغاثياً لدعم المتضررين من حرائق ال ...
- الاتحاد الأوروبي يفتح لأول مرة إجراء تحكيميا رسميا ضد الجزائ ...
- موريتانيا: قائد أركان الجيش يدعو الضباط للابتعاد عن حسابات ا ...
- سلوفينيا تقرر حظر الوزيرين الإسرائيليين بن غفير وسموتريتش من ...
- سوريا: ماذا بعد السويداء؟
- رحيل عادل الترتير.. صاحب صندوق العجب وأيقونة الحكواتيين
- تحول مثير في نتائج التحقيق بقضية الطائرة الهندية المنكوبة


المزيد.....

- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي
- ذكريات تلاحقني / عبدالاله السباهي
- مغامرات منهاوزن / ترجمه عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فتحي المسكيني - لماذا يجلس ذلك الأب وحيدا ؟...