|
القطيعة الأبستمولوجية مع التراث في الفكر الإسلامي المعاصر
محمد هاشم البطاط
الحوار المتمدن-العدد: 4360 - 2014 / 2 / 9 - 11:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بغض النظر عن مديات الإختلاف بين المفاهيم التي أُريد منها إماطة اللثام عن التراث كمصطلح ، فإن موضوعة العلاقة بين الحاضر المعاش و الماضي المُستحضر تبقى ملقية بظلالها على الممارسات المعرفية للمفكرين و هم بصدد تحديد الأطر اللازمة لصناعة توليفة معرفية هادفة إلى بناء المستقبل المنشود ، و مما لا شك فيه أن تحقيق مثل هذه التوليفة ستقود إلى مواجهة مع التراث ، مما سيُنتج إما قطيعةً أو تمسكاً أو تشذيباً . لعل من اللازم تقديم إيضاح توصيفي للتراث بعيداً عن إستحالات المفهوم الجامع / المانع له ، يمكن القول أنه يُمثل ذلك الموروث العام و المتكون من البناءات و النتاجات الفكرية و المعنوية و المادية لجماعة معينة من الناس و التي قد وشجتها أكثر من خصيصة و جمعها أكثر من رابط مشترك فأورثتها لمن لحقها ، فالتراث كمفردة يأتي ليكشف عما ورثه اللاحقون ممن سبقهم ، و يبقى الموروث ذلك الإطار الذي يحدد بقوة الذات الموحِدة للجماعة و المبيّنة لخصائصها ، فالقوة الفكرية و البنية المعرفية للجماعة ( بالمعنى البسيط لمفردة المعرفية ) ظلّت و تظل المسيطر الأساسي على العقل الجمعي للأفراد الذين قد ورثوا عن سابقيهم نتاج يقبلونه و يؤطرون حياتهم تبعاً له . إن جدلية علاقة القطيعة مع التراث بتمظهراتها كافة ، ألقت بثقلها على الوعي العام للعقل الجمعي المسلم ، فالعلاقة بين التراث الإسلامي الذي يُشكل الإطار المرجعي للمسلمين ، و بغض النظر عن التثليث البنيوي للعقل الإسلامي تبعاً لتحليل محمد عابد الجابري ( البيان – البرهان – العرفان ) ، و بين الحداثة الغربية التي وثبت لمسافات متسعة و أخذت تتسع أكثر لتشمل ما بعد الحداثة ، ما زالت في رهان المناصرة و المنابذة ، الأمر الذي لم يُسهم للان في تقديم منتَج فاعل يحل المعضلة ، و كيما تتم معالجة القضية ضمن واقعها التداولي تم تقسيم البحث الى مبحثين : • المبحث الاول : إشكالية السؤال عن القطيعة : إذا كانت هنالك ثمة ممارسات تُعبر عن وجود حالة من الإنفصام للعُرى الإدراكية بين الذات السابقة و الذات اللاحقة لأي عقل معرفي موجودة و مستحضرة منذ غير قليل من الزمن فإن المسار الذي إتجهت فيه القضية قد نحى في أفق آخر بعد التنظير القطيعي بين المعارف السابقة و اللاحقة الذي طرحه ( غاستون باشلار ) في ( القطيعة المعرفية ) ، فلقد ( إعتمد غاستون باشلار على القطيعة المعرفية كقاعدة في دراسة ( تاريخ العلم ) إذ يرى أن تطور العلوم يخضع لثورات و نقلات تجب [ تُقاطع أو تلغي ] كل مرحلة متقدمة ما يسبقها من مراحل الإرتقاء ، تضمن إيجابيات المراحل السابقة بحيث تستغني عنها )(1) إذ يعتقد باشلار أن البنية الإدراكية و العلوم و المعارف بإمكانها أن تُمارس قطيعة مع البنية السابقة عليها ، أو لنقل تُغير مسارها عما كان معهوداً سلفاً ، فالقطيعة المعرفية تعني إمكانية حصول إنقطاع بين المعارف السابقة و اللاحقة بشكل يجعل من اللاحقة تنسخ السابقة لتُنتج إدراكاً ، فمعرفة ، فسلوك ، لا يتماشى مع الأسس و المرتكزات التي كانت موجودة ومعمولاً بها سابقاً . بيد أن القطيعة المعرفية ليست بالضرورة أن تكون ممارسة قطيعية ( بالمعنى الحاد للمفردة ) كما يرى ( محمد آركون ) إذ ( لا تعني القطيعة المعرفية الإنفصال النهائي عن الماضي و التراث أو الدعوة لإهمال ما أنتجه القدماء من أفكار و معارف و نظريات و فنون و أساليب ، بل إن القطيعة نتيجة حتمية للتطور التاريخي العام في مجتمع ما أو بيئة معينة )(2) ، و لكن هل من الممكن الحديث عن وصال معرفي ، لا سيما ضمن سياق التباعد المعرفي الذي حصل و يحصل في الغرب ، خلال القطيعة إنطلاقاً من كونها تُبقي على الموروث السابق لكن وفق التطور الحتمي للتاريخ و القاضي بإلزامية تجاوز إما طريقة تفكير أو منهجية سلوك أو كلاهما ؟ إن ( إشكالية السؤال ) المرتبط بالقطيعة و الذي أُريد أن أحدده يتمثل في أصل ( ثبوت و إثبات ) القطيعة المعرفية داخل العقل الإسلامي ، فهل من الممكن الحديث عن شيء أسمه قطيعة معرفية مع التراث الإسلامي الذي يكشف عن ذاته من خلال منهجية الإدراك الإسلامية و السلوك المنتهج في الحيزين ( الشعوري و اللا شعوري ) ؟ لقد عّبرت التجربة الغربية ، في إنتاجها لعقلٍ جديد يقوم على آليات تقاطعت مع ما كان سائداً ، عن تهديم شامل و جذري للعُرى التي كانت تقوم عليها ممارسة البناء الإدراكي للعقل الجمعي الغربي ، و ربما يمكن تحديد منهجية ( الكوجيتو ) الديكارتية و ما تأسس عليها ، كبداية تمفصلية لإنطلاق الحداثة كــ ( حركة )(3) للإنتاج الجديد المتقاطع مع الإعتمال الإدراكي و الأعمال العقلية السابقة سواءاً في التجربة السابقة على منهجية التفكير ( السكولاتية ) أو حتى على هذه المنهجية التي شكّلت المجابه المباشر للقطيعة الجديدة المبتدأة بالشكل الديكارتي و بداية هيكلة عقل غربي جديد . إذ يُلاحظ أن حتى مسألة إرتكان بُناة الحداثة الغربية إلى إقرار ( منزلة الإنسان في فكر أفلاطون ) من خلال مقولاته في محورية الإنسان في الوجود ، تلك المقولات التي إعتمدها دُعاة الحداثة و بُناتها ، لم في تكن في حقيقتها مانعاً من الذهاب إلى أن التجربة الغربية كانت قطيعة معرفية شاملة بكل ما تنطوي عليه دلالات الشمول من إكراهات ( الكُلية ) ، فإفلاطون لم يكن أقرب إلى الحداثة من تلميذه أرسطو ، بل على العكس كان الأخير أقرب من حيث إعتماده أساسية العقل في الإدراك و التلقي الإنساني ، في حين كان الأول أكثر ميلاً إلى الإشراق و البناء الباطني العرفاني للذات المُدرِكة و إدراكاتها ، بيد أني أعتقد أن الحداثيين الغربيين لم يأخذوا بمقولات أفلاطون إيماناً بــ ( تحجيم القطيعة ) و مد شبه جسر مع السابق اليوناني ، و إنما أرادوا إيجاد نوع من الجذور الجنينية لتأسيس نزعة ( الأنسنة ) في الفكر الغربي و بالتالي إيجاد موروث يوناني - أفلاطوني يمكن إستحضاره للتدليل على وجود سوابق لهذه النزعة داخل العقل الغربي و هذا سيمّكن من تحقيق ما يمكن تسميته بــ ( طمأنة العامة ) ، فالأخيرة أكثر ما تخشاه هو الوافد الغريب !!! كما أن هنالك سببٌ آخر هو أن العقلانية الارسطو طاليسية كانت قد أُعتمدت كمنهج فكري عند الفكر السكولاتي الكنسي ، و من ثم كان على الحداثيين أن لا يلجأوا إلى أرسطو طاليس و متبنياته المنطقية في التأسيس لمبغاهم المعرفي . إن القطيعة المعرفية الغربية كانت قطيعة شاملة و كلية ، بالخصوص إبان المرحلة التأسيسية للحداثة ، قطعت كل الجسور التي تمد إلى الفكر السابق ، و لم تترك المجال لتجسير أية هوة بينها و بين تراث الأسلاف ، لأن الحداثيين إعتقدوا أن المشكلة الجوهرية في العقل الغربي و أُس تأزماته تكمن في آلية التفكير السائدة و التي تعتمد على منهجية لاهوتية ميتافيزيقية غير معتمدة على شرعة العقل في الإيمان بقضايا الوجود بقدر الإعتكاز على الإيمان و توكيل الأمور كافة إلى بعد غيبي ، المشكلة هنا لا تعود إلى أن الفكر الميتافيزيقي ( بشكله غير الكنسي ) لا يُقر بالتسببات العلمية و حقيقة أن الوجود دقيق تركيباً و سيراً و إنما المشكلة في أن الكنيسة رفضت كل نتاج علمي يتنافى مع ما كانت تؤمن هي به حتى و إن كان خاطئاً و مخالفاً للثوابت العلمية . إن التوضيح أعلاه كان من أجل بيان أن إشكالية سؤال القطيعة يكمن في إمكانية ( الثبوت و الإثبات ) للقطيعة في الحيز الإسلامي ، إذ أنها للان ، و في سياقات الطرح ، لا ترتبط في مديات القطيعة هل أنها شاملة أم جزئية ؟ بقدر تعلقها في إمكانيتها من عدمها ، أي في ( إشكالية السؤال عنها ) معرفياً ، من هنا يمكن القول أن كل وافد(4) معرفي يأتي من حيز غريب على الحيز الإسلامي ، لا سيما فيما يرتبط بالحداثة و إشكالية سؤالها القطيعي في البنية المعرفية ، يُنتج ثلاثة إصطفافات : الأول : يتمثل في التلاقف السريع و التلقي غير العقلاني للوافد ، فما أن يحدث أي إحتكاك بوافد حتى يتم تبنيه و إعتقاده كأيديولوجية ، و يبدو أن هذه الحالة نابعة من عقدة ( النقص و إحتقار الأنا ) و الرغبة العارمة في التماهي مع ( الآخر ) المختلِف و إنكار أي خصوصية ثقافية . الثاني : يتمثل في الرفض الشامل و الكُلي للوافد لأنه يعد غريباُ عن البيئة الإسلامية و بالتالي فهو مرفوض البتة بغض النظر عن مديات الحسن و المعقولية فيه . الثالث : يتمثل في الموقف ( التوفيقي ) الساعي إلى عدم التبني اللامعقول للوافد و إلى عدم المعارضة و المقاطعة الشاملة و الكُلية له ، أي أن هذا الموقف يتوسط الإصطفافين أعلاه ، فيأخذ من عقلانية الوافد و إيجابياته و يهجر ما إنطوى عليه من مثالب و سلبيات . المهم في هذه الإصطفافات هنا هو الثاني منها ، أي الذي يقف على الضد من كل وافد ناظراً إليه على انه منتَج غربي / كافر ، فهو لا يُقر بأن النتاج الحضاري عبارة عن ثمار لحضاراتٍ شتى إشتركت في صناعته و تزاوجت إبداعاتها في إخراجه النهائي ، فلا يمكن الحديث عن نتاج للحضارة الغربية بمعزل عن الحضارات الأخرى ، فلماذا التنكر لكل وافدٍ بغض النظر عن معقوليته و إيجابياته ؟ أليست أوربا نفسها قد إستثمرت الوافد إليها من الشرق / المسلم في بناء تطورها الحضاري ؟ تبرز عقلية الغلو الفكري التي تنسجم مع تطرف في التعامل مع النص الديني في تفسيراتها المبتسرة للاخير ، فهي لا تُقر إلا بالنقل التراثي الحرفي للسابق و تستبعد كل إمكانات التلاقي مع الآخر و ربما يصح القول أن ( المنطق النقلي التراثي الماضوي إستبعد أي تفاعل بينه و بين مكتسبات الحضارة الغربية بوصفها حضارة ( نقيضة و معادية ) و قد إنعكس هذا الموقف المعادي ... على فهم ما كان من تفاعل و تأثير سابقين بين العقل العربي المسلم و موروث الفلسفة اليونانية و الاشراقية الفارسية طاول مرحلة التأسيس العقلي الأول )(5) ، فلقد تم التعاطي مع الوافد اليوناني متمثلاً بالمنتج اليوناني من منطق أرسطو طاليسي و فلسفة مشائية و إشراقية في بدايات الإحتكاك على أنها فكر دخيل و غريب عن البيئة الإسلامية ، بيد أن التلاقح تم بعد حين و تمت عملية إعادة قراءة الفكر اليوناني ( الغربي ) ليتم لاحقاً تبنيه و الدفاع عنه ، فبرز ( أبو نصر الفارابي ) كمعلم ( ثاني ) خلفاً لـ ( الأول ) و هو ( أرسطو طاليس ) ، و تمتزج رؤى الاثنين مضافاً إليها تلقيحات ( بن سينا ) لتُعلن ولادة المدرسة ( المشائية ) في الفلسفة ، في حين راح ( شهاب الدين السهروردي ) ليُنتج فكراً إشراقياً مع شيخ إشراق اليونان ( أفلاطون ) ممزوجة بلقاحات الغنوصية الفارسية ، و هكذا ..... إن تجربة التعاطي الإسلامي – العربي مع الوافد الغربي ( اليوناني ) و الشرقي ( الفارسي ) تكشف عن إمكانية التعاطي مع الوافد الغربي اليوم بشرط أن تتم عملية الموائمة بين الحيزين الذاتي ( الأنا ) مع الوافد من ( الآخر ) بشكلٍ دقيق و واضح ليُنتج توليفة جديدة تُمثل نتاج عقلين لكل منهما آليات معرفية خاصة . لكن السؤال المهم في هذا المقام يرتبط في أن القطيعة المعرفية ، كما حصل في التجربة الغربية ، قامت على أساس الإنفصام التام مع التراث و هذا ما يصعب – إن لم يكن يستحيل – إقامته في الحيز الإسلامي لأسباب ليست بالخافية ، فكيف يمكن تحقيق ( ثبوت ) للقطيعة و من ثم الحديث عن ( إثباتها ) ؟ إن ما يزيد صعوبة الإجابة على هذا السؤال ، مضافاً إلى التيار المتشدد الذي يرفض كل تلاقي مع الآخر / الغربي ، هو أن مشاريع القطيعة المعرفية مع التراث ، و بالتالي الحداثة ، لم تقدم للان إجابات مقنعة بخصوص آليات القطيعة المعرفية من حيث علاقتها بالموروث الإسلامي المؤثر بفاعلية كبيرة في العقل الجمعي المسلم ، إذ من غير الممكن نسخ التجربة الغربية في قطيعتها مع التراث داخل الحيز الإسلامي بذريعة الوصول إلى ما حققه الغربيون !! ، لا سيما و أن مشاريع القطيعة العملية ( و ليس النظرية ) لم تنجح لحد الآن من تقديم توليفة جديدة تمنع حدوث تصادمات بين حُماة التراث و دُعاة الحداثة . ربما يمكن ذكر التجربة التركية في قطيعتها مع التراث الإسلامي منذ عام 1923 م كشاهد على فشل مشروع القطيعة الشاملة و الكُلية مع التراث ، فمنذ أن أطلق ( كمال أتاتورك ) مشروعه العملي القطيعي مع كل الارتباطات بالتراث الإسلامي و كل ما يُذَكّر به و إلى الآن لم تتمكن تركيا من أن تعالج جدلية ( الدين – الدولة ) في بنيتها الفكرية و الاجتماعية ، و بالرغم من أنها حظرت على الأتراك حتى تسمية أحزابها بأسماء توحي بالانتماءات الأخرى ، من قبيل القومية و الدينية و المذهبية ... ، فإنها لم تستطع أن تمحي النزعة الدينية و القومية لدى ساستها فضلاً عن الجماهير ، و هذا ما ينكشف بين فينة و أخرى من خلال أزمة سياسية أنبئت في غير مرة عن عاصفة سياسية و شعبية ، بل إن ردة الفعل الواضحة تبرز من خلال صعود التيار القريب من التدين – إن لم يكن متديناً فعلاً – إلى قمة الهرم السياسي و تعاظم أزمة الحجاب و ... !!! إن الحديث عن قطيعة مع التراث في الإسلام اليوم ، مع لِحاظ فشل المشاريع الفكرية و العملية للحداثة ، يأتي من وجهة نظري في إطار الحديث عن المستحيلات ، ما لم يتم الإهتداء بإطار منهجي يُمّكن من إيجاد التوليفة المطلوبة ، و هذا لن يتأتى إلا بأخذ الأنساق الفكرية و المعرفية للكيان المسلم في نظر الاعتبار ، فـ ( إشكالية سؤال ) القطيعة تتمظهر بأزمات الجدلية ( القديمة – الجديدة ) في الإسلام بين ثنائيات ( التقدم – التأخر ) ( الأصالة – المعاصرة ) – مع الإقرار بثقل الحداثة و خطورتها عن التحديث و التقدم و المعاصرة -.... ، فما أن تحدث أزمة في العقل الجمعي المسلم ، سواءاً في داخله المحيطي أو من خلال الإحتكاك بـ ( الآخر ) حتى تبرز إشكالية السؤال القطيعي إلى سطح التفكير الإسلامي ، و هذا ما يُلاحظ في موضوعة ( المعتزلة ) التي أعتقد أنها تكشف عن بروز الإشكالية لسببٍ داخلي يكمن في آلية التفكير المنهجي عند وحدات تشترك في تكوين العقل الإسلامي ، في حين أن ( الوافد الفكري اليوناني و .. ) و ( الإحتكاك الإسلامي – الغربي في زمن محمد علي باشا ) و ( نكسة حزيران 1967 م )(6) تُمثل ظهوراً للإشكالية لأسباب الاحتكاك بالآخر / الغربي . و أياً يكن السبب في حمل العقل المسلم على إعادة صياغة البناء الفكري من خلال منهجية إعادة قراءة الذات ، فإن من غير الممكن الحديث عن مديات القطيعة ، أي عن ( السؤال الإشكالي ) في القطيعة ، من دون إيجاد حلحلة توفيقية لـ ( إشكالية السؤال ) القطيعي مع التراث ، و إذا كان هنالك من قام بعملية الوثب هذه متجاوزاً العقبة العملاقة بإسقاطاتها الكثيرة فإن نتاجه و تجلياته بائت و ستبوء – للآن – بفشلٍ كبير . • المبحث الثاني : سؤال القطيعة الإشكالي : تعددت المشاريع الفكرية التي أراد بها منظّريها التأسيس لعقل حداثي جديد في الحيز الإسلامي ، و قد تأتى هذا التعدد بفعل جملة من العوامل يأتي من أهمها : تباين المنطلق الذاتي للتأسيس الحداثي ، فمنه من يُعبر عن إنطلاقة معرفية بحتة ، و منه من يكشف عن أخرى أيديولوجية صرفة ، و منها ما عبّر عن تمازج بين الإنطلاقتين المعرفية و الأيديولوجية . كما أن تباينات النظرة إلى المنظومة الإسلامية من لحاظ ( مديات التداخل بين الدين و السياسة ) و ( جدلية التعاضد بين الأحكام الإسلامية كمشروع فعلي / سلوكي متكامل أم كمجرد طقوس عبادية – كهنوتية جزئية ) ، و أيضاً ، إختلاف المناهج و الآليات الوافدة من الآخر الغربي و التي يعزم أرباب المشروع القطيعي في الحيز الإسلامي ممارستها ، إذ أن كل مشروع حداثي يريد إنشاء قطيعة معرفية مع التراث العربي – الإسلامي قد أخذ عن ذات فكرية معينة منهجاً معيناً و آليات محددة ، و بطبيعة الحال فإن المناهج و الآليات تختلف فيما بينها و تتباين و هذا ما سيُلقي بظلاله على الناتج المعرفي القطيعي في الحيز المُراد قيام حداثته ، إن هذه الأسباب و غيرها أسهمت و تُسهم في تعدد المشاريع الفكرية التي تبغي القطيعة مع التراث بعد أن شخصّت وجود إشكالية كبيرة في البنية المعرفية الإسلامية من حيث إنتاج المعرفة و السلوك المترتب عليها ، ما يعني إلزامية السعي في إتجاه تجاوزها . إن السؤال الإشكالي الذي يبرز في مقاربة القطيعة المعرفية ، كوافد غربي إلى حيز آخر ، يكمن في مديات القطيعة مع التراث الإسلامي ، فما هي حدود هذه القطيعة و ما هي ضمانات و تأكيدات دُعاة القطيعة من عدم تسبب القطيعة في تصدع البنية الأساسية للمسلمين لا سيما و إن العالم الغربي قد بلغت به القطيعة حد الذروة لتشمل ابعاداً كبيرة وصلت إلى حد أن المجتمع الحداثي – فضلاً عما بعد الحداثي – قد تباين جذرياً من حيث العقيدة و السلوك عن مجتمع ما قبل الحداثة ؟ لقد أنجز المفكرون المنشغلون بالإجابة على السؤال الإشكالي للقطيعة ، العديد من المشاريع القطيعية ، و يظهر مشروع ( عبد الله العروي ) كأحد هذه المشاريع التي دعت إلى بناء قطيعة ( كبرى ) مع التراث(7)، فهو يرى أن الحل الأمثل للعرب و المسلمين هو أن يديروا ظهرهم إلى منجزهم الموروث و الارتكان إلى المنجز الغربي الأكثر قابلية – كما يعتقد – لقيام حداثة فاعلة ، بيد أنه يُدرك تماماً أن الغربيين تمكنوا من تقديم أكثر من منجز واحد ، لذا فهو يحبذ المنهج ( التاريخي ) بل ( التاريخاني ) في التطور الصيروري للأمم و المجتمعات ، فالقراءة الماركسية بديالكتيكيتها التاريخية هي الأنفع للعقل العربي – الإسلامي كإجابة على سؤال القطيعة الإشكالي ، و يقترب ( العروي ) من ( طه حسين )(8) في لحاظات التعامل الإنفصامي مع الموروث بأشكاله المختلفة ، و إن كانا يختلفان في تحديد الحل الأنجح ، فطه حسين كان يرى أن الأخير يكمن في اللجوء إلى الإنموذج الديمقراطي الغربي في ممارسة القطيعة ، غير انه جعل نوع من الخصوصية للبيئة المصرية التي رأى إنها تنتمي إلى المحيط الغربي و إن كان تموضعها الجغرافي داخل المحيط العربي - الإسلامي ، و بالتالي فإنه لم يتعامل مع الحيز العربي – الإسلامي على انه بنية معرفية و سلوكية واحدة تشترك فيها الصفات و تتشابه بها الخصائص ، بيد أن القطيعة الكبرى مع التراث لم و لن تتمكن من إيجاد حل ملائم للقطيعة المعرفية مع التراث و ذلك لكونها تنطلق من منطلق عقدة النقص في الذات و الرغبة في التماهي الكلي مع الآخر ، بغض النظر عن طبيعة و كينونة الآخر ، الأمر الذي أسهم – و لمديات واسعة – في إنتاج ردة فعل عنفية من قبل البعض الذين نظروا إلى هذه المشاريع على أنها ترجمة ذاتية لمعطى إستشراقي – سياسي ، و حتى مع غض الطرف عن ردة الفعل هذه ، فإن التجربة التركية التي ذكرتها سابقاً ، تأتي لتكشف عن ممارسة عملية للقطيعة الكبرى ، و هي لم تتمكن للان من تقديم إنموذج قطيعة كفيل بأن يُحتذى من قبل المنتمين إلى المحيط الإسلامي . و عموماً فإن تحديد ( إدريس هاني ) مشروع العروي على انه واحد من المشاريع ( الكبرى ) في الحيز الإسلامي يبدو مبالغاً فيه إلى حدٍ معين ، فمع عدم الإنتقاص من الجهد الذي بذله العروي ، فإن مشروعه لا يأتي ضمن متوازيات سياق المنتج المعرفي الذي قدّمه ( محمد أركون ) و ( محمد عابد الجابري ) ، أتمنى أن لا يكون هاني قد تحرك في هذا التحديد من هاجس القطيعة بين العربيين ( المشرق و المغرب ) التي ذهب إليها الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي ، و بالتالي سعى إلى تسطيح الأطروحات الفكرية لمفكري المشرق ( و لستُ هنا بصدد إيراد مشاريعهم في القطيعة الكبرى ) بغية تعظيم الأخرى إلى طرحها مفكري المغرب ، ربما يمكن القول أن مشروع العروي لا يعدو كونه دعوة لممارسة قطيعة كبرى مع التراث من خلال إنتهاج الفكر التاريخاني و النظر إلى المنجز الحضاري للتجربة الإسلامية على أنه فاعل تاريخي أخذ مكانه ضمن التطور التاريخي و من ثم صار لِزاماً هجره إلى ما بعده و النظر إليه على انه مرحلة تاريخية عفى عنها الدهر مع الأخذ ببعض الموارد الضيقة جداً التي تصح كإستثناءات جاءت بفعل عامل الخصوصية . و إذا كان مشروع العروي و غيره جاءت في إطار دعوة قطيعية كبرى مع التراث لحل السؤال الإشكالي ، فإن مشروع ( محمد عابد الجابري ) يأتي كإجابة قطيعة ( صغرى ) مع التراث ، إذ يبذل الجابري جهداً معرفياً كبيراً و يوظف قدرته البنيوية بغية الرجوع إلى التراث العربي و تقسيم مساراته الإدراكية و عملية صنع البناء المعرفي إلى ثلاثية ( البيان – البرهان – العرفان ) و محاولة تحليل آليات الاعتمال الداخلي للعقل العربي من خلال الاستعانة بمناهج و آليات غربية أيضاً ، يقف على رأسها منهج ( غاستون باشلار ) ، و آليات تقوم على الارتكان إلى حيز واحد أو أكثر ، و من ثم التوصل الى ان الحل يكمن في إنعاش و تطوير ( البرهان ) في سياقه ( الرشدي ) – نسبة إلى إبن رشد – الذي سيُمكن من توسيع نطاق العقلنة العربية في إنتاج المعرفة و هذا ما سيتضمن القطيعة مع ( البيان ) و ( البرهان ) . إن مشروع الجابري بقدر ما كان أكثر تصالحاً مع التراث من مشروع العروي و غيره من دعاة القطيعة الكبرى ، إلى درجة انه تنكر للعلمانية بعدها منتجاً غربياً لا يمكن تبيئته في الحيز العربي فقَبِلَ فقط بالديمقراطية و العقلانية(9)، بقدر ما انه رزح تحت وطأة الضاغط الأيديولوجي للإحياء العربي بنزعة عقلانية تقترب ، بل تتجاوز ، الإنتعاش المعرفي للفكر العربي الإسلامي إبان مرحلة بن رشد و غيره من كبار الاعتزال ، فلقد ألقى الضاغط الإيديولوجي على الجابري بظلاله من خلال طريقة التحليل الجابرية للتراث و دراسته البنيوية لمكونات العقل العربي ، إذ لم يكن فقط الهاجس المعرفي وحده محركاً للجابري في بناء مشروعه القطيعي ، و إنما كان للإيديولوجية العربية دور المحرك الملهم و المُفعِل للنتاج الجابري ، و هذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن هذه الإيديولوجية بقدر ما شكّلت عنصر قوة في المشروع لدلالته ( في بعض الموارد ) على أن صاحبه قد دفعه الواقع المتقهقر للأمة العربية للبحث عن إجابة السؤال الإشكالي للقطيعة بغية إقامة حداثة في المحيط العربي ، بقدر ما جعلته يرزح تحت ضرب من ضروب الدوغمائية الفكرية التي تحجب عن الذات المفكِرة ما قد لا يتلائم كلياً معها جاعلاً إياها تتعامل بنظرة قبلية – عكس بعدية – لما تقوم بدراسته . كما و يبرز مشروع ( محمد أركون ) كواحد من أهم مشاريع القطيعة في العقل الإسلامي ، فـ ( الإسلاميات التطبيقية ) التي أراد أركون ممارستها في سعيه الدؤوب للتأسيس لمشروع حداثي ، تكشف عن رغبة كبيرة في بناء إنموذج معرفي جديد للعقل الإسلامي ، مع الإشارة إلى انه قام بإستعارة واضحة لمناهج و آليات غربية النتاج و البيئة ، ربما أكثرها ممارسةً ( تفكيكية ميشيل فوكو ) ، فأركون يأتي ليمارس منهجية ما بعد حداثوية ممتزجة بأخرى حداثوية في قطيعته مع التراث ، بيد انه يدرك تماماً أن القطيعة لا يمكن أن تُأتي أُكلها إلا بالرجوع إلى الوراء و إعادة قراءة النص الديني قراءة جديدة تعتمد حفرية العقل الجمعي بأشكاله المتعددة ( الرسمي و غير الرسمي _ المكتوب و الشفوي ) أو لنستخدم تعبيراته ( المُفكر فيه – اللا مفكر فيه ) فهو يسعى إلى تشخيص آلية إنتاج الوعي داخل البنية الإسلامية بغية إعادة منهجتها و من ثم إصدار إنموذج حداثي جديد . يبدو أن الكاتب المغربي ( إدريس هاني ) أجاد حينما ذهب إلى أن مشروع أركون يعبر عن ضرب من ضروب ( القطيعة الوسطى ) مع التراث ، إذ أن هذه القطيعة تتموضع بين القطيعتين ( الصغرى ) و ( الكبرى )(10) ، إن أركون ينطلق من منطلق التناول الشمولي / الكلي للتراث من حيث الأسس التي قامت و تقوم بإنتاج المنجز المعرفي و السلوكي للمسلمين ، لذا سعى إلى القيام بأركيولوجية ( حفرية ) داخل العقل الإسلامي من اجل بناء تراتبية جديدة للبنية المعرفية لهذا العقل ، لكن المناهج و الآليات التي إتبعها أركون و مارسها في قطيعته ( الوسطى ) كانت غربية صرفة ، فهي أتت من داخل حيثيات و سياقات التطور الذي حصل بالغرب ، فزمكانية المنهج و الآلية ، مضافاً إليها الوضع الخاص ( الحال ) ، تأثر إلى حدٍ كبير بالبيئة الغربية التي دعت ظروفها الخاصة إلى اللجوء إلى الحل القطيعي مع تراث أضحى غربياً يصعب – إن لم يكن يستحيل - التماشي معه و الرزوح تحت وطأته . إن أركون ، و مع الإقرار بما إنطوى عليه مشروعه من جهد علمي كبير و من توظيف عملاق لمناهج و آليات معرفية ، لم يتمكن من تشخيص الحل الموضوعي للسؤال الإشكالي للقطيعة مع التراث ، إذ أنه تعامل مع التراث الإسلامي بوصفه حالة كيميائية ( مختبرية / مادية ) صرفة ، و إن كان اظهر ذلك في دراساته بوجهها الكُلي المعرفي ، إذ من غير الممكن نقل تجربة ( معرفية – سلوكية ) من محيطها و خصائصها إلى محيطٍ آخر دون الأخذ بنظر الاعتبار أوجه الاختلاف بين المحيطين ، يبدو أن الإجابة الاركونية للقطيعة ستعتمد على عملية إعادة القراءة و التحليل لمنظومة العقل الإسلامي و أنها لم تغفل أوجه الاختلاف و التباينات بين المحيطين ، غير أن هذا الكلام ربكا قد يصح في مشروع الجابري لكنه لا يصح مع أركون ، أو لنقل بعبارة أكثر حذراً ، أن مشرع الأول اقرب إلى أخذ اللحاظات الاختلافية بين المحيطين الغربي و الإسلامي منه إلى مشروع الثاني . إن مشاريع القطيعة المعرفية التي أرادت أن تقدم إجابة منهجية للسؤال الإشكالي بشأن القطيعة ، لم تتمكن لحد الآن من تقديم تلك الإجابة المقنعة للسؤال الذي لم أُطلق عليه بــ ( الإشكالي ) إعتباطاً ، فهو إشكالي بكل ما تحمله هذه المفردة من صعوبات التحقق للإجابة التامة و المُقنعة(11) ، إن ظاهرة العجز الفكري عن الإجابة المقنعة و الفاعلة للسؤال االإشكالي تحيل إلى صعوبة – إن لم تكن إستحالة - حصول قطيعة مع التراث الإسلامي ، فالأخير ما زال يحظى بفعالية كبيرة سواءاً من خلال حيثية التفكير و الإنتاج المعرفي أم من لشحاظ حيثية الناتج الفعلي / السلوكي في المجتمع ، و هذا يحدد أن المقاربات المعرفية للمفكرين شكّلت مجازفة معرفية على صعيد إعادة بناء العقل الإسلامي بناءاً يُتيح التأسيس لحداثة في حيز ما زال لا يوافق على الحداثة بقدر ما يقبل و يرضى بالتحديث . لقد إختلفت مديات القطيعة في المشاريع الفكرية بغية ممارسة قطيعة معرفية مع التراث ، فمن ( الكبرى ) إلى ( الصغرى ) بتوسط ( الوسطى ) و هي على إختلافها لم تُنتج حداثة مقنعة و فعالة في الحيز الإسلامي ، و بالرغم من أن هذا الإختلاف الذي يكشف عن أكثر من رؤية و منهجية حل ، فإنه ما زال يرزح تحت وطأة المختبرات الفكرية و صالونات التباين الإيديولوجي ، و هذا ربما سيقود إلى سؤال مهم : هل أن المشكلة تكمن في العلاقة مع التراث و مقاربة القطيعة منها أم في أزمة العقل المسلم الذي لم يتمكن لحد الآن لا الاستفادة من التراث و توظيفه في تحسين الحاضر المأزوم بأزمات الماضي لبناء مستقبل راغد ، و لا حتى من القطيعة التي إدعى دُعاتها بأنها الحل الأمثل و الإجابة المقنعة للوضع المتردي للحال الإسلامي ؟ إن العقل الإسلامي ما زال يعاني الخلل في ميكانزمات الوعي المؤسس لذات مفكِرة تجمع بين الحسنيين ( الرفاه في الدنيا ) و ( السعادة في الآخرة ) ، اعتقد أن المشكلة قد تتجاوز رهانات القطيعة مع التراث ، التي تذهب الى أن المشكلة مرتبطة في العلاقة مع الموروث المأزوم و المؤّزِم للحاضر فالمستقبل ، فهي تكمن في طريقة التفكير و منهجية إنتاج المُدرَك المعرفي ، فللآن لم يتمكن الداعي إلى الوقوف على الأطلال من إقناع الجماهير بان الحل يكمن في الماضي و الرجوع إلى خلفيات الزمن السعيد و البُكاء على ماضٍ رغيد ، كما أن دُعاة التنكر للماضي بكل ما فيه من إيجابيات و نقاط قوة لم يستطيعوا أن يكونوا أكثر إقناعاً من سابقيهم ، إنما العكس ما تحقق ، إذ تسببوا في خلق ردة فعل لم يُحمد عقباها ، لعل أبرزها تنشيط الفكر التشددي السلفي الذي لم ينظر إلى التراث الإسلامي إلا بعده مجرد طقوس كهنوتية و تكفير فكرية و سلوكي فتنصل من كل دعوة تسامح أطلقها الإسلام في مسيرته الحضارية . أما دُعوة المزاوجة بين الإثنين فهي لست بأوفر حظاً ، فهي عاجزة – لأسباب كثيرة – عن تقديم توليفة تزاوجية مقنعة ، فهي إما مثّلت مشاريع قطيعة كشفت في محصلتها الأخيرة عن مناهج و آليات غربية أُخذت بملازماتها كافة حتى بمحيطها الاجتماعي ( الغربي ) ليُأتى بها إلى محيط آخر يختلف عنه بأكثر من وجه ، أو مثّلت تيار توفيقي يكتفي بإيجاد حلول مرحلية – آنية ، و ليس حلول أستراتيجية تتمتع بمرونة عالية في تجاوز معوقات التطور الزمكاني + الحال ، و بالتالي بقيت القضية عالقة بين هذه التوصيفات لأبرز المطروح فكرياً على الساحة ، و بتعبير أكثر حيادية أقول إن ثمار التيار التوفيقي ، مع كل إيجابياته و معقوليته ، لم يتم التعامل معه كمُستحضر فكري و عامل حيوي جيد يجب تفعيله و إنما تُرك ليكون مجرد حل آني . إن علاقة جدلية بمكانة تلك التي يُمثل طرفيها ( الحداثة ) و ( التراث ) في سياقها القطيعي ، يصعب الحديث عن إيجاد ضرب من الحلول الآنية لها ، لا سيما في خضم الوضع الفكري المتأزم الذي يرزح تحت وطأته العالم الإسلامي ، و تداعيات الإحتكاك الإسلامي – الغربي الذي لم يُعبّر عنه إلى الآن إلا في إطار النزعة الاستعلائية للآخر الغربي مضافاً إليه عقدة نقص ( الأنا ) تجاه ذاتها و الآخر و عجزها عن تقديم البديل الحضاري المتكامل عن الوافد المطروح . لكن من المؤكد أن جدلية العلاقة لا يستحيل الخروج لها بتوليفات استراتيجية تفي بان تكون مشروعاً تحديثياً ( و ليس حداثياً ) للعقل الإسلامي بدرجة تجعله يُقدم توليفة حضارية بين التراث الإسلامي و بين المُنتج الغربي في أصعدة العلم و التطور التكنلوجي و .... و بقدر تعلق الأمر بما تفرضه مناخات التعامل المؤدلج في تأطير بنيوية الفعل السلوكي المرتبط بعقل ما يزال يُعاني إشكالية التعامل العقلاني مع النص الديني الذي يُشكل أهم دعائم التراث ، بقدر ما يمكن التنبؤ بإمكانية – مع صعوبة ليست بالقليلة – تحصيل تجانس معرفي / سلوكي بين أكثر من مُنتج و معطى ينتميان لأكثر من حضارة ، إذ على الرغم من كون الحضارة الغربية بقيت في إطار أزمتها الاستعلائية و إزدرائها لكل أشكال المشاركة التاريخية في تحصيلها للمنجز المتحقق عندها، و أيضاً ، إستنكاف الحضارة الإسلامية عن تلقي الوافد من الآخر و تنكرها لشراكتها الحضارية في منجزه التاريخي ، فأن كلا الحضارتين تتفقان و لو على صعيد ( اللا شعور الجمعي ) – نسبياً طبعاً – بوجود هذه الحقيقة التي بالإمكان توظيفها في تحقيق مستقبلٍ أفضل . ليس بالضرورة أن يُعمد في تحديث العقل الإسلامي و إعادة بناء بنيته الفكرية إلى قطيعة معرفية مع التراث ، إذ لا يمكن القفز على الموروث ، بما ينطوي عليه من إيجابيات و حسنات ، و تحقيق طفرة غير مُمّهَدة - تتجاوز نسقية الطفرة بالفكر الماركسي - بغية تقديم مشروع قطيعي ، فهذا لا يمكن أن يتحقق على ارض يحتل فيها التراث موقعاً مهماً و مؤثراً ، بل يمكن الحديث الآن عن تحديث كبير في العقل الإسلامي يُسهم في تغيير بعض ميكانزمات إنتاج الوعي المعرفي و المنهج السلوكي الخاطئة و التقليدية و إبدالها بنظير حديث متماشي مع روح العصر و منهجية التطور لعالم اليوم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش:
(1)محمود إسماعيل ( القطيعة الإبستمولوجية بين المشرق و المغرب حقيقة أم خرافة ) ورقة بحثية مقدمة إلى ( التراث بين القطيعة و التواصل ) أبحاث المؤتمر الرابع لإقليم شرق الدلتا الثقافي في مصر ) إعداد : محمد عبد الله الهادي ، نشر في 2005 على الانترنت : http://www.nashiri.net (2)محمد أركون ( من فيصل التفرقة إلى فصل المقال ، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر ) ترجمة و تعليق : هاشم صالح ، الطبعة الثانية 1995 م ، نشر دار الساقي – بيروت ، ص 7 . (3)أعتقد أن دراسة التطور التدريجي للفكر ، و بالخصوص ذلك الذي يرتبط بالحِراك الإجتماعي – السياسي ، يجب أن تتم في ثلاثة مسارات : المسار الأول : دراسة جذور الفكر : أي دراسة الجذور الجنينية للفكرة و التي قد تطرحها ذات ما ( فرد أو جماعة ) دون إخراجها كمنتج ناضج يصح أن يُعتبر محدد لحِراك الذات في سبيل التطبيق . المسار الثاني : دراسة الفكر كحركة : المُراد بهذا المسار هو أن الفكر يسير و يتطور في إطار كونه حركة ( الحركة وفقاً لفهم علم الإجتماع و التي تعني تحول الفكر إلى أداة تحرك فاعلة يسعى المؤمنون بها إلى تغيير الطريقة السائدة و جعل بديلهم مكانها دون ( أو قبل ) أن يتحقق مرادهم . المسار الثالث : دراسة الفكر كنظام : المُراد بهذا المسار هو تحول الفكر من الحركة ( أداة للتغيير ) إلى نظام ( منهج ممارس بعد نجاح عملية التغيير ) . و في سبيل توضيح المسارات الثلاثة لنأخذ ( الديمقراطية ) كمثال ، فالملاحظ أنها تُدرس كجذور من خلال ( دولة المدينة ) اليونانية و غيرها من الأطروحات و الممارسات الجنينية لها ، ثم تُدرس كــ ( حركة ) ، إذ يسعى المؤمنون بها إلى تغيير آلية ممارسة السلطة السياسية ، و اخيراً تُدرس كــ ( نظام ) بعد أن نجح المؤمنون بها من تحقيقها كممارسة للسلطة السياسية . و بعد هذا السرد الضروري كما أعتقد ، أقول إن منهجية ( ديكارت ) كانت تمفصل جديد لإنطلاق المسار الثاني في تطور الفكر و الذي عبّر عن تهيكل الحداثة الغربية كحركة تسعى للقضاء على ما هو سائد و تأسيس ( نظام ) عقلي جديد . (4)إن القطيعة مع التراث التي يُدعى إليها الآن تعتبر وافد على الحيز الإسلامي ، لا لأن الأخير يخلو من الابنعاثات العقلية أو من الإنفصام المعرفي مع السابق ، بقدر ما أن دُعاة القطيعة فيه يعتمدون على مناهج و آليات غربية قد تلائمت مع ظروفها و ملازماتها . (5)محمد أبو القاسم حاج حمد ( أبستمولوجية المعرفة الكونية ، إسلامية المعرفة و المنهج ) الطبعة الأولى 1425 هـ / 2004 م ، نشر مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد ، ص 18 . (6)لقد مثّلت نكسة حزيران 1967 م واحدة من أهم الإخفاقات العربية – الإسلامية العسكرية و التي أدت إلى صدمة فكرية جعلت العقل المنتكس يعيد برمجة منظومته الفكرية بحثاً عن الأسباب ، و هذا ما لا ينكره الكثير من أرباب المشاريع النهضوية ( و بالذات القطيعية ) في العقل العربي – الإسلامي كـ ( محمد عابد الجابري ) و غيره . (7)إدريس هاني ( كيف جرى مفهوم القطيعة مع التراث ) على الانترنت : http://www.hesspress .net (8)لم يكن عبد الله العروي و طه حسين وحيدان في قطيعتهما الكبرى التي تتنكر كلياً للتراث ، إذ هنالك الكثير غيره كــ ( شبلي شميل ) و ..... ، أعتقد أن مثل هذه الأطروحات هي أقرب إلى كونها دعوات منها إلى مشاريع معرفية كبرى ، لهذا لم أوافق أعلاه على تحديد ( إدريس هاني ) (9)يُنظر كتابه ( الدين و الدولة و تطبيق الشريعة ) . (10)إدريس هاني ( كيف جرى مفهوم القطيعة مع التراث ) على الانترنت : http://www.hesspress .net. (11)يقول ( جورج طرابيشي ) : ( إن الإشكالية هي كل مسألة أو مجموعة مسائل تكتنف الإجابة عنها صعوبات و تبدو قابلة لإجابات متعددة ، بل متناقضة ، هذا إن لم تستوجب أصلاً تعليق الحكم بإنتظار توفر شروط أفضل للإجابة ، سواءاً من منظور وضوح الرؤية لمضمون الإشكالية ، أم من منظور تقدم وسائل المعرفة ، أم من منظور الممارسة التاريخية التي من شانها أن تُسهل ما كان يبدو معقداً أو أن تُحل عملياً ما كان يبدو غير قابل للحل نظرياً ) المصدر : جورج طرابيشي ( هرطقات عن الديمقراطية و العلمانية و الحداثة و الممانعة العربية ) الطبعة الأولى 2006 م ، نشر دار العقلانيين العرب – بيروت ، ص 9 .
#محمد_هاشم_البطاط (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النقد في الخطاب الاسلامي المعاصر
-
لماذا لانكتب للاطفال
-
اتمنى.. ان لا اتمنى
-
حدود الذات واوهام العنى
-
قد ياتي القمر
-
لعنة التاريخ
-
القراءة
-
العراق من الديمقراطية الى الديمعراقية
-
العربية سبعة وعشون حرفا
-
النصوص المطلقة
-
الديمقراطية بين المناخ سياسي والحاضنة الشعبية
-
صراع القوى بين سلطة العشيرة وسلطة الدولة
-
هل كنا مخطئين
المزيد.....
-
-هل وضع النبي محمد حجر الأساس لدولة سياسية دينية؟-- في صحيفة
...
-
منع ناشط يهودي من دخول إسرائيل إثر لقائه وزير خارجية إيران
-
تطبيع جديد.. مشايخ من الجاليات الإسلامية بـ5 دول أوروبية تلت
...
-
تحدث عن المذهب الجعفري.. رغد صدام حسين تثير تفاعلا بفيديو لو
...
-
هآرتس تنشر تقريرا صادما حول معاملة الأسرى الفلسطينيين بسجن إ
...
-
مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى
-
الإسلاميون في دائرة الاستهداف.. ضغوطات الواقع وضرورات الانفت
...
-
إسرائيل تعتزم إصدار 54 ألف إشعار استدعاء لرجال من اليهود الم
...
-
بيبي بالطريق جايينا..استقبال تردد قناة طيور الجنة على نايل س
...
-
بفيديو دعائي..-حسم- الإخوانية تهدد بعمليات إرهابية في مصر
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|