أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد هاشم البطاط - القطيعة الأبستمولوجية مع التراث في الفكر الإسلامي المعاصر















المزيد.....



القطيعة الأبستمولوجية مع التراث في الفكر الإسلامي المعاصر


محمد هاشم البطاط

الحوار المتمدن-العدد: 4360 - 2014 / 2 / 9 - 11:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بغض النظر عن مديات الإختلاف بين المفاهيم التي أُريد منها إماطة اللثام عن التراث كمصطلح ، فإن موضوعة العلاقة بين الحاضر المعاش و الماضي المُستحضر تبقى ملقية بظلالها على الممارسات المعرفية للمفكرين و هم بصدد تحديد الأطر اللازمة لصناعة توليفة معرفية هادفة إلى بناء المستقبل المنشود ، و مما لا شك فيه أن تحقيق مثل هذه التوليفة ستقود إلى مواجهة مع التراث ، مما سيُنتج إما قطيعةً أو تمسكاً أو تشذيباً .
لعل من اللازم تقديم إيضاح توصيفي للتراث بعيداً عن إستحالات المفهوم الجامع / المانع له ، يمكن القول أنه يُمثل ذلك الموروث العام و المتكون من البناءات و النتاجات الفكرية و المعنوية و المادية لجماعة معينة من الناس و التي قد وشجتها أكثر من خصيصة و جمعها أكثر من رابط مشترك فأورثتها لمن لحقها ، فالتراث كمفردة يأتي ليكشف عما ورثه اللاحقون ممن سبقهم ، و يبقى الموروث ذلك الإطار الذي يحدد بقوة الذات الموحِدة للجماعة و المبيّنة لخصائصها ، فالقوة الفكرية و البنية المعرفية للجماعة ( بالمعنى البسيط لمفردة المعرفية ) ظلّت و تظل المسيطر الأساسي على العقل الجمعي للأفراد الذين قد ورثوا عن سابقيهم نتاج يقبلونه و يؤطرون حياتهم تبعاً له .
إن جدلية علاقة القطيعة مع التراث بتمظهراتها كافة ، ألقت بثقلها على الوعي العام للعقل الجمعي المسلم ، فالعلاقة بين التراث الإسلامي الذي يُشكل الإطار المرجعي للمسلمين ، و بغض النظر عن التثليث البنيوي للعقل الإسلامي تبعاً لتحليل محمد عابد الجابري ( البيان – البرهان – العرفان ) ، و بين الحداثة الغربية التي وثبت لمسافات متسعة و أخذت تتسع أكثر لتشمل ما بعد الحداثة ، ما زالت في رهان المناصرة و المنابذة ، الأمر الذي لم يُسهم للان في تقديم منتَج فاعل يحل المعضلة ، و كيما تتم معالجة القضية ضمن واقعها التداولي تم تقسيم البحث الى مبحثين :
• المبحث الاول : إشكالية السؤال عن القطيعة :
إذا كانت هنالك ثمة ممارسات تُعبر عن وجود حالة من الإنفصام للعُرى الإدراكية بين الذات السابقة و الذات اللاحقة لأي عقل معرفي موجودة و مستحضرة منذ غير قليل من الزمن فإن المسار الذي إتجهت فيه القضية قد نحى في أفق آخر بعد التنظير القطيعي بين المعارف السابقة و اللاحقة الذي طرحه ( غاستون باشلار ) في ( القطيعة المعرفية ) ، فلقد ( إعتمد غاستون باشلار على القطيعة المعرفية كقاعدة في دراسة ( تاريخ العلم ) إذ يرى أن تطور العلوم يخضع لثورات و نقلات تجب [ تُقاطع أو تلغي ] كل مرحلة متقدمة ما يسبقها من مراحل الإرتقاء ، تضمن إيجابيات المراحل السابقة بحيث تستغني عنها )(1) إذ يعتقد باشلار أن البنية الإدراكية و العلوم و المعارف بإمكانها أن تُمارس قطيعة مع البنية السابقة عليها ، أو لنقل تُغير مسارها عما كان معهوداً سلفاً ، فالقطيعة المعرفية تعني إمكانية حصول إنقطاع بين المعارف السابقة و اللاحقة بشكل يجعل من اللاحقة تنسخ السابقة لتُنتج إدراكاً ، فمعرفة ، فسلوك ، لا يتماشى مع الأسس و المرتكزات التي كانت موجودة ومعمولاً بها سابقاً .
بيد أن القطيعة المعرفية ليست بالضرورة أن تكون ممارسة قطيعية ( بالمعنى الحاد للمفردة ) كما يرى ( محمد آركون ) إذ ( لا تعني القطيعة المعرفية الإنفصال النهائي عن الماضي و التراث أو الدعوة لإهمال ما أنتجه القدماء من أفكار و معارف و نظريات و فنون و أساليب ، بل إن القطيعة نتيجة حتمية للتطور التاريخي العام في مجتمع ما أو بيئة معينة )(2) ، و لكن هل من الممكن الحديث عن وصال معرفي ، لا سيما ضمن سياق التباعد المعرفي الذي حصل و يحصل في الغرب ، خلال القطيعة إنطلاقاً من كونها تُبقي على الموروث السابق لكن وفق التطور الحتمي للتاريخ و القاضي بإلزامية تجاوز إما طريقة تفكير أو منهجية سلوك أو كلاهما ؟
إن ( إشكالية السؤال ) المرتبط بالقطيعة و الذي أُريد أن أحدده يتمثل في أصل ( ثبوت و إثبات ) القطيعة المعرفية داخل العقل الإسلامي ، فهل من الممكن الحديث عن شيء أسمه قطيعة معرفية مع التراث الإسلامي الذي يكشف عن ذاته من خلال منهجية الإدراك الإسلامية و السلوك المنتهج في الحيزين ( الشعوري و اللا شعوري ) ؟
لقد عّبرت التجربة الغربية ، في إنتاجها لعقلٍ جديد يقوم على آليات تقاطعت مع ما كان سائداً ، عن تهديم شامل و جذري للعُرى التي كانت تقوم عليها ممارسة البناء الإدراكي للعقل الجمعي الغربي ، و ربما يمكن تحديد منهجية ( الكوجيتو ) الديكارتية و ما تأسس عليها ، كبداية تمفصلية لإنطلاق الحداثة كــ ( حركة )(3) للإنتاج الجديد المتقاطع مع الإعتمال الإدراكي و الأعمال العقلية السابقة سواءاً في التجربة السابقة على منهجية التفكير ( السكولاتية ) أو حتى على هذه المنهجية التي شكّلت المجابه المباشر للقطيعة الجديدة المبتدأة بالشكل الديكارتي و بداية هيكلة عقل غربي جديد .
إذ يُلاحظ أن حتى مسألة إرتكان بُناة الحداثة الغربية إلى إقرار ( منزلة الإنسان في فكر أفلاطون ) من خلال مقولاته في محورية الإنسان في الوجود ، تلك المقولات التي إعتمدها دُعاة الحداثة و بُناتها ، لم في تكن في حقيقتها مانعاً من الذهاب إلى أن التجربة الغربية كانت قطيعة معرفية شاملة بكل ما تنطوي عليه دلالات الشمول من إكراهات ( الكُلية ) ، فإفلاطون لم يكن أقرب إلى الحداثة من تلميذه أرسطو ، بل على العكس كان الأخير أقرب من حيث إعتماده أساسية العقل في الإدراك و التلقي الإنساني ، في حين كان الأول أكثر ميلاً إلى الإشراق و البناء الباطني العرفاني للذات المُدرِكة و إدراكاتها ، بيد أني أعتقد أن الحداثيين الغربيين لم يأخذوا بمقولات أفلاطون إيماناً بــ ( تحجيم القطيعة ) و مد شبه جسر مع السابق اليوناني ، و إنما أرادوا إيجاد نوع من الجذور الجنينية لتأسيس نزعة ( الأنسنة ) في الفكر الغربي و بالتالي إيجاد موروث يوناني - أفلاطوني يمكن إستحضاره للتدليل على وجود سوابق لهذه النزعة داخل العقل الغربي و هذا سيمّكن من تحقيق ما يمكن تسميته بــ ( طمأنة العامة ) ، فالأخيرة أكثر ما تخشاه هو الوافد الغريب !!! كما أن هنالك سببٌ آخر هو أن العقلانية الارسطو طاليسية كانت قد أُعتمدت كمنهج فكري عند الفكر السكولاتي الكنسي ، و من ثم كان على الحداثيين أن لا يلجأوا إلى أرسطو طاليس و متبنياته المنطقية في التأسيس لمبغاهم المعرفي .
إن القطيعة المعرفية الغربية كانت قطيعة شاملة و كلية ، بالخصوص إبان المرحلة التأسيسية للحداثة ، قطعت كل الجسور التي تمد إلى الفكر السابق ، و لم تترك المجال لتجسير أية هوة بينها و بين تراث الأسلاف ، لأن الحداثيين إعتقدوا أن المشكلة الجوهرية في العقل الغربي و أُس تأزماته تكمن في آلية التفكير السائدة و التي تعتمد على منهجية لاهوتية ميتافيزيقية غير معتمدة على شرعة العقل في الإيمان بقضايا الوجود بقدر الإعتكاز على الإيمان و توكيل الأمور كافة إلى بعد غيبي ، المشكلة هنا لا تعود إلى أن الفكر الميتافيزيقي ( بشكله غير الكنسي ) لا يُقر بالتسببات العلمية و حقيقة أن الوجود دقيق تركيباً و سيراً و إنما المشكلة في أن الكنيسة رفضت كل نتاج علمي يتنافى مع ما كانت تؤمن هي به حتى و إن كان خاطئاً و مخالفاً للثوابت العلمية .
إن التوضيح أعلاه كان من أجل بيان أن إشكالية سؤال القطيعة يكمن في إمكانية ( الثبوت و الإثبات ) للقطيعة في الحيز الإسلامي ، إذ أنها للان ، و في سياقات الطرح ، لا ترتبط في مديات القطيعة هل أنها شاملة أم جزئية ؟ بقدر تعلقها في إمكانيتها من عدمها ، أي في ( إشكالية السؤال عنها ) معرفياً ، من هنا يمكن القول أن كل وافد(4) معرفي يأتي من حيز غريب على الحيز الإسلامي ، لا سيما فيما يرتبط بالحداثة و إشكالية سؤالها القطيعي في البنية المعرفية ، يُنتج ثلاثة إصطفافات :
الأول : يتمثل في التلاقف السريع و التلقي غير العقلاني للوافد ، فما أن يحدث أي إحتكاك بوافد حتى يتم تبنيه و إعتقاده كأيديولوجية ، و يبدو أن هذه الحالة نابعة من عقدة ( النقص و إحتقار الأنا ) و الرغبة العارمة في التماهي مع ( الآخر ) المختلِف و إنكار أي خصوصية ثقافية .
الثاني : يتمثل في الرفض الشامل و الكُلي للوافد لأنه يعد غريباُ عن البيئة الإسلامية و بالتالي فهو مرفوض البتة بغض النظر عن مديات الحسن و المعقولية فيه .
الثالث : يتمثل في الموقف ( التوفيقي ) الساعي إلى عدم التبني اللامعقول للوافد و إلى عدم المعارضة و المقاطعة الشاملة و الكُلية له ، أي أن هذا الموقف يتوسط الإصطفافين أعلاه ، فيأخذ من عقلانية الوافد و إيجابياته و يهجر ما إنطوى عليه من مثالب و سلبيات .
المهم في هذه الإصطفافات هنا هو الثاني منها ، أي الذي يقف على الضد من كل وافد ناظراً إليه على انه منتَج غربي / كافر ، فهو لا يُقر بأن النتاج الحضاري عبارة عن ثمار لحضاراتٍ شتى إشتركت في صناعته و تزاوجت إبداعاتها في إخراجه النهائي ، فلا يمكن الحديث عن نتاج للحضارة الغربية بمعزل عن الحضارات الأخرى ، فلماذا التنكر لكل وافدٍ بغض النظر عن معقوليته و إيجابياته ؟ أليست أوربا نفسها قد إستثمرت الوافد إليها من الشرق / المسلم في بناء تطورها الحضاري ؟
تبرز عقلية الغلو الفكري التي تنسجم مع تطرف في التعامل مع النص الديني في تفسيراتها المبتسرة للاخير ، فهي لا تُقر إلا بالنقل التراثي الحرفي للسابق و تستبعد كل إمكانات التلاقي مع الآخر و ربما يصح القول أن ( المنطق النقلي التراثي الماضوي إستبعد أي تفاعل بينه و بين مكتسبات الحضارة الغربية بوصفها حضارة ( نقيضة و معادية ) و قد إنعكس هذا الموقف المعادي ... على فهم ما كان من تفاعل و تأثير سابقين بين العقل العربي المسلم و موروث الفلسفة اليونانية و الاشراقية الفارسية طاول مرحلة التأسيس العقلي الأول )(5) ، فلقد تم التعاطي مع الوافد اليوناني متمثلاً بالمنتج اليوناني من منطق أرسطو طاليسي و فلسفة مشائية و إشراقية في بدايات الإحتكاك على أنها فكر دخيل و غريب عن البيئة الإسلامية ، بيد أن التلاقح تم بعد حين و تمت عملية إعادة قراءة الفكر اليوناني ( الغربي ) ليتم لاحقاً تبنيه و الدفاع عنه ، فبرز ( أبو نصر الفارابي ) كمعلم ( ثاني ) خلفاً لـ ( الأول ) و هو ( أرسطو طاليس ) ، و تمتزج رؤى الاثنين مضافاً إليها تلقيحات ( بن سينا ) لتُعلن ولادة المدرسة ( المشائية ) في الفلسفة ، في حين راح ( شهاب الدين السهروردي ) ليُنتج فكراً إشراقياً مع شيخ إشراق اليونان ( أفلاطون ) ممزوجة بلقاحات الغنوصية الفارسية ، و هكذا .....
إن تجربة التعاطي الإسلامي – العربي مع الوافد الغربي ( اليوناني ) و الشرقي ( الفارسي ) تكشف عن إمكانية التعاطي مع الوافد الغربي اليوم بشرط أن تتم عملية الموائمة بين الحيزين الذاتي ( الأنا ) مع الوافد من ( الآخر ) بشكلٍ دقيق و واضح ليُنتج توليفة جديدة تُمثل نتاج عقلين لكل منهما آليات معرفية خاصة .
لكن السؤال المهم في هذا المقام يرتبط في أن القطيعة المعرفية ، كما حصل في التجربة الغربية ، قامت على أساس الإنفصام التام مع التراث و هذا ما يصعب – إن لم يكن يستحيل – إقامته في الحيز الإسلامي لأسباب ليست بالخافية ، فكيف يمكن تحقيق ( ثبوت ) للقطيعة و من ثم الحديث عن ( إثباتها ) ؟
إن ما يزيد صعوبة الإجابة على هذا السؤال ، مضافاً إلى التيار المتشدد الذي يرفض كل تلاقي مع الآخر / الغربي ، هو أن مشاريع القطيعة المعرفية مع التراث ، و بالتالي الحداثة ، لم تقدم للان إجابات مقنعة بخصوص آليات القطيعة المعرفية من حيث علاقتها بالموروث الإسلامي المؤثر بفاعلية كبيرة في العقل الجمعي المسلم ، إذ من غير الممكن نسخ التجربة الغربية في قطيعتها مع التراث داخل الحيز الإسلامي بذريعة الوصول إلى ما حققه الغربيون !! ، لا سيما و أن مشاريع القطيعة العملية ( و ليس النظرية ) لم تنجح لحد الآن من تقديم توليفة جديدة تمنع حدوث تصادمات بين حُماة التراث و دُعاة الحداثة .
ربما يمكن ذكر التجربة التركية في قطيعتها مع التراث الإسلامي منذ عام 1923 م كشاهد على فشل مشروع القطيعة الشاملة و الكُلية مع التراث ، فمنذ أن أطلق ( كمال أتاتورك ) مشروعه العملي القطيعي مع كل الارتباطات بالتراث الإسلامي و كل ما يُذَكّر به و إلى الآن لم تتمكن تركيا من أن تعالج جدلية ( الدين – الدولة ) في بنيتها الفكرية و الاجتماعية ، و بالرغم من أنها حظرت على الأتراك حتى تسمية أحزابها بأسماء توحي بالانتماءات الأخرى ، من قبيل القومية و الدينية و المذهبية ... ، فإنها لم تستطع أن تمحي النزعة الدينية و القومية لدى ساستها فضلاً عن الجماهير ، و هذا ما ينكشف بين فينة و أخرى من خلال أزمة سياسية أنبئت في غير مرة عن عاصفة سياسية و شعبية ، بل إن ردة الفعل الواضحة تبرز من خلال صعود التيار القريب من التدين – إن لم يكن متديناً فعلاً – إلى قمة الهرم السياسي و تعاظم أزمة الحجاب و ... !!!
إن الحديث عن قطيعة مع التراث في الإسلام اليوم ، مع لِحاظ فشل المشاريع الفكرية و العملية للحداثة ، يأتي من وجهة نظري في إطار الحديث عن المستحيلات ، ما لم يتم الإهتداء بإطار منهجي يُمّكن من إيجاد التوليفة المطلوبة ، و هذا لن يتأتى إلا بأخذ الأنساق الفكرية و المعرفية للكيان المسلم في نظر الاعتبار ، فـ ( إشكالية سؤال ) القطيعة تتمظهر بأزمات الجدلية ( القديمة – الجديدة ) في الإسلام بين ثنائيات ( التقدم – التأخر ) ( الأصالة – المعاصرة ) – مع الإقرار بثقل الحداثة و خطورتها عن التحديث و التقدم و المعاصرة -.... ، فما أن تحدث أزمة في العقل الجمعي المسلم ، سواءاً في داخله المحيطي أو من خلال الإحتكاك بـ ( الآخر ) حتى تبرز إشكالية السؤال القطيعي إلى سطح التفكير الإسلامي ، و هذا ما يُلاحظ في موضوعة ( المعتزلة ) التي أعتقد أنها تكشف عن بروز الإشكالية لسببٍ داخلي يكمن في آلية التفكير المنهجي عند وحدات تشترك في تكوين العقل الإسلامي ، في حين أن ( الوافد الفكري اليوناني و .. ) و ( الإحتكاك الإسلامي – الغربي في زمن محمد علي باشا ) و ( نكسة حزيران 1967 م )(6) تُمثل ظهوراً للإشكالية لأسباب الاحتكاك بالآخر / الغربي .
و أياً يكن السبب في حمل العقل المسلم على إعادة صياغة البناء الفكري من خلال منهجية إعادة قراءة الذات ، فإن من غير الممكن الحديث عن مديات القطيعة ، أي عن ( السؤال الإشكالي ) في القطيعة ، من دون إيجاد حلحلة توفيقية لـ ( إشكالية السؤال ) القطيعي مع التراث ، و إذا كان هنالك من قام بعملية الوثب هذه متجاوزاً العقبة العملاقة بإسقاطاتها الكثيرة فإن نتاجه و تجلياته بائت و ستبوء – للآن – بفشلٍ كبير .
• المبحث الثاني : سؤال القطيعة الإشكالي :
تعددت المشاريع الفكرية التي أراد بها منظّريها التأسيس لعقل حداثي جديد في الحيز الإسلامي ، و قد تأتى هذا التعدد بفعل جملة من العوامل يأتي من أهمها : تباين المنطلق الذاتي للتأسيس الحداثي ، فمنه من يُعبر عن إنطلاقة معرفية بحتة ، و منه من يكشف عن أخرى أيديولوجية صرفة ، و منها ما عبّر عن تمازج بين الإنطلاقتين المعرفية و الأيديولوجية .
كما أن تباينات النظرة إلى المنظومة الإسلامية من لحاظ ( مديات التداخل بين الدين و السياسة ) و ( جدلية التعاضد بين الأحكام الإسلامية كمشروع فعلي / سلوكي متكامل أم كمجرد طقوس عبادية – كهنوتية جزئية ) ، و أيضاً ، إختلاف المناهج و الآليات الوافدة من الآخر الغربي و التي يعزم أرباب المشروع القطيعي في الحيز الإسلامي ممارستها ، إذ أن كل مشروع حداثي يريد إنشاء قطيعة معرفية مع التراث العربي – الإسلامي قد أخذ عن ذات فكرية معينة منهجاً معيناً و آليات محددة ، و بطبيعة الحال فإن المناهج و الآليات تختلف فيما بينها و تتباين و هذا ما سيُلقي بظلاله على الناتج المعرفي القطيعي في الحيز المُراد قيام حداثته ، إن هذه الأسباب و غيرها أسهمت و تُسهم في تعدد المشاريع الفكرية التي تبغي القطيعة مع التراث بعد أن شخصّت وجود إشكالية كبيرة في البنية المعرفية الإسلامية من حيث إنتاج المعرفة و السلوك المترتب عليها ، ما يعني إلزامية السعي في إتجاه تجاوزها .
إن السؤال الإشكالي الذي يبرز في مقاربة القطيعة المعرفية ، كوافد غربي إلى حيز آخر ، يكمن في مديات القطيعة مع التراث الإسلامي ، فما هي حدود هذه القطيعة و ما هي ضمانات و تأكيدات دُعاة القطيعة من عدم تسبب القطيعة في تصدع البنية الأساسية للمسلمين لا سيما و إن العالم الغربي قد بلغت به القطيعة حد الذروة لتشمل ابعاداً كبيرة وصلت إلى حد أن المجتمع الحداثي – فضلاً عما بعد الحداثي – قد تباين جذرياً من حيث العقيدة و السلوك عن مجتمع ما قبل الحداثة ؟
لقد أنجز المفكرون المنشغلون بالإجابة على السؤال الإشكالي للقطيعة ، العديد من المشاريع القطيعية ، و يظهر مشروع ( عبد الله العروي ) كأحد هذه المشاريع التي دعت إلى بناء قطيعة ( كبرى ) مع التراث(7)، فهو يرى أن الحل الأمثل للعرب و المسلمين هو أن يديروا ظهرهم إلى منجزهم الموروث و الارتكان إلى المنجز الغربي الأكثر قابلية – كما يعتقد – لقيام حداثة فاعلة ، بيد أنه يُدرك تماماً أن الغربيين تمكنوا من تقديم أكثر من منجز واحد ، لذا فهو يحبذ المنهج ( التاريخي ) بل ( التاريخاني ) في التطور الصيروري للأمم و المجتمعات ، فالقراءة الماركسية بديالكتيكيتها التاريخية هي الأنفع للعقل العربي – الإسلامي كإجابة على سؤال القطيعة الإشكالي ، و يقترب ( العروي ) من ( طه حسين )(8) في لحاظات التعامل الإنفصامي مع الموروث بأشكاله المختلفة ، و إن كانا يختلفان في تحديد الحل الأنجح ، فطه حسين كان يرى أن الأخير يكمن في اللجوء إلى الإنموذج الديمقراطي الغربي في ممارسة القطيعة ، غير انه جعل نوع من الخصوصية للبيئة المصرية التي رأى إنها تنتمي إلى المحيط الغربي و إن كان تموضعها الجغرافي داخل المحيط العربي - الإسلامي ، و بالتالي فإنه لم يتعامل مع الحيز العربي – الإسلامي على انه بنية معرفية و سلوكية واحدة تشترك فيها الصفات و تتشابه بها الخصائص ، بيد أن القطيعة الكبرى مع التراث لم و لن تتمكن من إيجاد حل ملائم للقطيعة المعرفية مع التراث و ذلك لكونها تنطلق من منطلق عقدة النقص في الذات و الرغبة في التماهي الكلي مع الآخر ، بغض النظر عن طبيعة و كينونة الآخر ، الأمر الذي أسهم – و لمديات واسعة – في إنتاج ردة فعل عنفية من قبل البعض الذين نظروا إلى هذه المشاريع على أنها ترجمة ذاتية لمعطى إستشراقي – سياسي ، و حتى مع غض الطرف عن ردة الفعل هذه ، فإن التجربة التركية التي ذكرتها سابقاً ، تأتي لتكشف عن ممارسة عملية للقطيعة الكبرى ، و هي لم تتمكن للان من تقديم إنموذج قطيعة كفيل بأن يُحتذى من قبل المنتمين إلى المحيط الإسلامي .
و عموماً فإن تحديد ( إدريس هاني ) مشروع العروي على انه واحد من المشاريع ( الكبرى ) في الحيز الإسلامي يبدو مبالغاً فيه إلى حدٍ معين ، فمع عدم الإنتقاص من الجهد الذي بذله العروي ، فإن مشروعه لا يأتي ضمن متوازيات سياق المنتج المعرفي الذي قدّمه ( محمد أركون ) و ( محمد عابد الجابري ) ، أتمنى أن لا يكون هاني قد تحرك في هذا التحديد من هاجس القطيعة بين العربيين ( المشرق و المغرب ) التي ذهب إليها الجابري في مشروعه لنقد العقل العربي ، و بالتالي سعى إلى تسطيح الأطروحات الفكرية لمفكري المشرق ( و لستُ هنا بصدد إيراد مشاريعهم في القطيعة الكبرى ) بغية تعظيم الأخرى إلى طرحها مفكري المغرب ، ربما يمكن القول أن مشروع العروي لا يعدو كونه دعوة لممارسة قطيعة كبرى مع التراث من خلال إنتهاج الفكر التاريخاني و النظر إلى المنجز الحضاري للتجربة الإسلامية على أنه فاعل تاريخي أخذ مكانه ضمن التطور التاريخي و من ثم صار لِزاماً هجره إلى ما بعده و النظر إليه على انه مرحلة تاريخية عفى عنها الدهر مع الأخذ ببعض الموارد الضيقة جداً التي تصح كإستثناءات جاءت بفعل عامل الخصوصية .
و إذا كان مشروع العروي و غيره جاءت في إطار دعوة قطيعية كبرى مع التراث لحل السؤال الإشكالي ، فإن مشروع ( محمد عابد الجابري ) يأتي كإجابة قطيعة ( صغرى ) مع التراث ، إذ يبذل الجابري جهداً معرفياً كبيراً و يوظف قدرته البنيوية بغية الرجوع إلى التراث العربي و تقسيم مساراته الإدراكية و عملية صنع البناء المعرفي إلى ثلاثية ( البيان – البرهان – العرفان ) و محاولة تحليل آليات الاعتمال الداخلي للعقل العربي من خلال الاستعانة بمناهج و آليات غربية أيضاً ، يقف على رأسها منهج ( غاستون باشلار ) ، و آليات تقوم على الارتكان إلى حيز واحد أو أكثر ، و من ثم التوصل الى ان الحل يكمن في إنعاش و تطوير ( البرهان ) في سياقه ( الرشدي ) – نسبة إلى إبن رشد – الذي سيُمكن من توسيع نطاق العقلنة العربية في إنتاج المعرفة و هذا ما سيتضمن القطيعة مع ( البيان ) و ( البرهان ) .
إن مشروع الجابري بقدر ما كان أكثر تصالحاً مع التراث من مشروع العروي و غيره من دعاة القطيعة الكبرى ، إلى درجة انه تنكر للعلمانية بعدها منتجاً غربياً لا يمكن تبيئته في الحيز العربي فقَبِلَ فقط بالديمقراطية و العقلانية(9)، بقدر ما انه رزح تحت وطأة الضاغط الأيديولوجي للإحياء العربي بنزعة عقلانية تقترب ، بل تتجاوز ، الإنتعاش المعرفي للفكر العربي الإسلامي إبان مرحلة بن رشد و غيره من كبار الاعتزال ، فلقد ألقى الضاغط الإيديولوجي على الجابري بظلاله من خلال طريقة التحليل الجابرية للتراث و دراسته البنيوية لمكونات العقل العربي ، إذ لم يكن فقط الهاجس المعرفي وحده محركاً للجابري في بناء مشروعه القطيعي ، و إنما كان للإيديولوجية العربية دور المحرك الملهم و المُفعِل للنتاج الجابري ، و هذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن هذه الإيديولوجية بقدر ما شكّلت عنصر قوة في المشروع لدلالته ( في بعض الموارد ) على أن صاحبه قد دفعه الواقع المتقهقر للأمة العربية للبحث عن إجابة السؤال الإشكالي للقطيعة بغية إقامة حداثة في المحيط العربي ، بقدر ما جعلته يرزح تحت ضرب من ضروب الدوغمائية الفكرية التي تحجب عن الذات المفكِرة ما قد لا يتلائم كلياً معها جاعلاً إياها تتعامل بنظرة قبلية – عكس بعدية – لما تقوم بدراسته .
كما و يبرز مشروع ( محمد أركون ) كواحد من أهم مشاريع القطيعة في العقل الإسلامي ، فـ ( الإسلاميات التطبيقية ) التي أراد أركون ممارستها في سعيه الدؤوب للتأسيس لمشروع حداثي ، تكشف عن رغبة كبيرة في بناء إنموذج معرفي جديد للعقل الإسلامي ، مع الإشارة إلى انه قام بإستعارة واضحة لمناهج و آليات غربية النتاج و البيئة ، ربما أكثرها ممارسةً ( تفكيكية ميشيل فوكو ) ، فأركون يأتي ليمارس منهجية ما بعد حداثوية ممتزجة بأخرى حداثوية في قطيعته مع التراث ، بيد انه يدرك تماماً أن القطيعة لا يمكن أن تُأتي أُكلها إلا بالرجوع إلى الوراء و إعادة قراءة النص الديني قراءة جديدة تعتمد حفرية العقل الجمعي بأشكاله المتعددة ( الرسمي و غير الرسمي _ المكتوب و الشفوي ) أو لنستخدم تعبيراته ( المُفكر فيه – اللا مفكر فيه ) فهو يسعى إلى تشخيص آلية إنتاج الوعي داخل البنية الإسلامية بغية إعادة منهجتها و من ثم إصدار إنموذج حداثي جديد .
يبدو أن الكاتب المغربي ( إدريس هاني ) أجاد حينما ذهب إلى أن مشروع أركون يعبر عن ضرب من ضروب ( القطيعة الوسطى ) مع التراث ، إذ أن هذه القطيعة تتموضع بين القطيعتين ( الصغرى ) و ( الكبرى )(10) ، إن أركون ينطلق من منطلق التناول الشمولي / الكلي للتراث من حيث الأسس التي قامت و تقوم بإنتاج المنجز المعرفي و السلوكي للمسلمين ، لذا سعى إلى القيام بأركيولوجية ( حفرية ) داخل العقل الإسلامي من اجل بناء تراتبية جديدة للبنية المعرفية لهذا العقل ، لكن المناهج و الآليات التي إتبعها أركون و مارسها في قطيعته ( الوسطى ) كانت غربية صرفة ، فهي أتت من داخل حيثيات و سياقات التطور الذي حصل بالغرب ، فزمكانية المنهج و الآلية ، مضافاً إليها الوضع الخاص ( الحال ) ، تأثر إلى حدٍ كبير بالبيئة الغربية التي دعت ظروفها الخاصة إلى اللجوء إلى الحل القطيعي مع تراث أضحى غربياً يصعب – إن لم يكن يستحيل - التماشي معه و الرزوح تحت وطأته .
إن أركون ، و مع الإقرار بما إنطوى عليه مشروعه من جهد علمي كبير و من توظيف عملاق لمناهج و آليات معرفية ، لم يتمكن من تشخيص الحل الموضوعي للسؤال الإشكالي للقطيعة مع التراث ، إذ أنه تعامل مع التراث الإسلامي بوصفه حالة كيميائية ( مختبرية / مادية ) صرفة ، و إن كان اظهر ذلك في دراساته بوجهها الكُلي المعرفي ، إذ من غير الممكن نقل تجربة ( معرفية – سلوكية ) من محيطها و خصائصها إلى محيطٍ آخر دون الأخذ بنظر الاعتبار أوجه الاختلاف بين المحيطين ، يبدو أن الإجابة الاركونية للقطيعة ستعتمد على عملية إعادة القراءة و التحليل لمنظومة العقل الإسلامي و أنها لم تغفل أوجه الاختلاف و التباينات بين المحيطين ، غير أن هذا الكلام ربكا قد يصح في مشروع الجابري لكنه لا يصح مع أركون ، أو لنقل بعبارة أكثر حذراً ، أن مشرع الأول اقرب إلى أخذ اللحاظات الاختلافية بين المحيطين الغربي و الإسلامي منه إلى مشروع الثاني .
إن مشاريع القطيعة المعرفية التي أرادت أن تقدم إجابة منهجية للسؤال الإشكالي بشأن القطيعة ، لم تتمكن لحد الآن من تقديم تلك الإجابة المقنعة للسؤال الذي لم أُطلق عليه بــ ( الإشكالي ) إعتباطاً ، فهو إشكالي بكل ما تحمله هذه المفردة من صعوبات التحقق للإجابة التامة و المُقنعة(11) ، إن ظاهرة العجز الفكري عن الإجابة المقنعة و الفاعلة للسؤال االإشكالي تحيل إلى صعوبة – إن لم تكن إستحالة - حصول قطيعة مع التراث الإسلامي ، فالأخير ما زال يحظى بفعالية كبيرة سواءاً من خلال حيثية التفكير و الإنتاج المعرفي أم من لشحاظ حيثية الناتج الفعلي / السلوكي في المجتمع ، و هذا يحدد أن المقاربات المعرفية للمفكرين شكّلت مجازفة معرفية على صعيد إعادة بناء العقل الإسلامي بناءاً يُتيح التأسيس لحداثة في حيز ما زال لا يوافق على الحداثة بقدر ما يقبل و يرضى بالتحديث .
لقد إختلفت مديات القطيعة في المشاريع الفكرية بغية ممارسة قطيعة معرفية مع التراث ، فمن ( الكبرى ) إلى ( الصغرى ) بتوسط ( الوسطى ) و هي على إختلافها لم تُنتج حداثة مقنعة و فعالة في الحيز الإسلامي ، و بالرغم من أن هذا الإختلاف الذي يكشف عن أكثر من رؤية و منهجية حل ، فإنه ما زال يرزح تحت وطأة المختبرات الفكرية و صالونات التباين الإيديولوجي ، و هذا ربما سيقود إلى سؤال مهم : هل أن المشكلة تكمن في العلاقة مع التراث و مقاربة القطيعة منها أم في أزمة العقل المسلم الذي لم يتمكن لحد الآن لا الاستفادة من التراث و توظيفه في تحسين الحاضر المأزوم بأزمات الماضي لبناء مستقبل راغد ، و لا حتى من القطيعة التي إدعى دُعاتها بأنها الحل الأمثل و الإجابة المقنعة للوضع المتردي للحال الإسلامي ؟
إن العقل الإسلامي ما زال يعاني الخلل في ميكانزمات الوعي المؤسس لذات مفكِرة تجمع بين الحسنيين ( الرفاه في الدنيا ) و ( السعادة في الآخرة ) ، اعتقد أن المشكلة قد تتجاوز رهانات القطيعة مع التراث ، التي تذهب الى أن المشكلة مرتبطة في العلاقة مع الموروث المأزوم و المؤّزِم للحاضر فالمستقبل ، فهي تكمن في طريقة التفكير و منهجية إنتاج المُدرَك المعرفي ، فللآن لم يتمكن الداعي إلى الوقوف على الأطلال من إقناع الجماهير بان الحل يكمن في الماضي و الرجوع إلى خلفيات الزمن السعيد و البُكاء على ماضٍ رغيد ، كما أن دُعاة التنكر للماضي بكل ما فيه من إيجابيات و نقاط قوة لم يستطيعوا أن يكونوا أكثر إقناعاً من سابقيهم ، إنما العكس ما تحقق ، إذ تسببوا في خلق ردة فعل لم يُحمد عقباها ، لعل أبرزها تنشيط الفكر التشددي السلفي الذي لم ينظر إلى التراث الإسلامي إلا بعده مجرد طقوس كهنوتية و تكفير فكرية و سلوكي فتنصل من كل دعوة تسامح أطلقها الإسلام في مسيرته الحضارية .
أما دُعوة المزاوجة بين الإثنين فهي لست بأوفر حظاً ، فهي عاجزة – لأسباب كثيرة – عن تقديم توليفة تزاوجية مقنعة ، فهي إما مثّلت مشاريع قطيعة كشفت في محصلتها الأخيرة عن مناهج و آليات غربية أُخذت بملازماتها كافة حتى بمحيطها الاجتماعي ( الغربي ) ليُأتى بها إلى محيط آخر يختلف عنه بأكثر من وجه ، أو مثّلت تيار توفيقي يكتفي بإيجاد حلول مرحلية – آنية ، و ليس حلول أستراتيجية تتمتع بمرونة عالية في تجاوز معوقات التطور الزمكاني + الحال ، و بالتالي بقيت القضية عالقة بين هذه التوصيفات لأبرز المطروح فكرياً على الساحة ، و بتعبير أكثر حيادية أقول إن ثمار التيار التوفيقي ، مع كل إيجابياته و معقوليته ، لم يتم التعامل معه كمُستحضر فكري و عامل حيوي جيد يجب تفعيله و إنما تُرك ليكون مجرد حل آني .
إن علاقة جدلية بمكانة تلك التي يُمثل طرفيها ( الحداثة ) و ( التراث ) في سياقها القطيعي ، يصعب الحديث عن إيجاد ضرب من الحلول الآنية لها ، لا سيما في خضم الوضع الفكري المتأزم الذي يرزح تحت وطأته العالم الإسلامي ، و تداعيات الإحتكاك الإسلامي – الغربي الذي لم يُعبّر عنه إلى الآن إلا في إطار النزعة الاستعلائية للآخر الغربي مضافاً إليه عقدة نقص ( الأنا ) تجاه ذاتها و الآخر و عجزها عن تقديم البديل الحضاري المتكامل عن الوافد المطروح . لكن من المؤكد أن جدلية العلاقة لا يستحيل الخروج لها بتوليفات استراتيجية تفي بان تكون مشروعاً تحديثياً ( و ليس حداثياً ) للعقل الإسلامي بدرجة تجعله يُقدم توليفة حضارية بين التراث الإسلامي و بين المُنتج الغربي في أصعدة العلم و التطور التكنلوجي و ....
و بقدر تعلق الأمر بما تفرضه مناخات التعامل المؤدلج في تأطير بنيوية الفعل السلوكي المرتبط بعقل ما يزال يُعاني إشكالية التعامل العقلاني مع النص الديني الذي يُشكل أهم دعائم التراث ، بقدر ما يمكن التنبؤ بإمكانية – مع صعوبة ليست بالقليلة – تحصيل تجانس معرفي / سلوكي بين أكثر من مُنتج و معطى ينتميان لأكثر من حضارة ، إذ على الرغم من كون الحضارة الغربية بقيت في إطار أزمتها الاستعلائية و إزدرائها لكل أشكال المشاركة التاريخية في تحصيلها للمنجز المتحقق عندها، و أيضاً ، إستنكاف الحضارة الإسلامية عن تلقي الوافد من الآخر و تنكرها لشراكتها الحضارية في منجزه التاريخي ، فأن كلا الحضارتين تتفقان و لو على صعيد ( اللا شعور الجمعي ) – نسبياً طبعاً – بوجود هذه الحقيقة التي بالإمكان توظيفها في تحقيق مستقبلٍ أفضل .
ليس بالضرورة أن يُعمد في تحديث العقل الإسلامي و إعادة بناء بنيته الفكرية إلى قطيعة معرفية مع التراث ، إذ لا يمكن القفز على الموروث ، بما ينطوي عليه من إيجابيات و حسنات ، و تحقيق طفرة غير مُمّهَدة - تتجاوز نسقية الطفرة بالفكر الماركسي - بغية تقديم مشروع قطيعي ، فهذا لا يمكن أن يتحقق على ارض يحتل فيها التراث موقعاً مهماً و مؤثراً ، بل يمكن الحديث الآن عن تحديث كبير في العقل الإسلامي يُسهم في تغيير بعض ميكانزمات إنتاج الوعي المعرفي و المنهج السلوكي الخاطئة و التقليدية و إبدالها بنظير حديث متماشي مع روح العصر و منهجية التطور لعالم اليوم .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:

(1)محمود إسماعيل ( القطيعة الإبستمولوجية بين المشرق و المغرب حقيقة أم خرافة ) ورقة بحثية مقدمة إلى ( التراث بين القطيعة و التواصل ) أبحاث المؤتمر الرابع لإقليم شرق الدلتا الثقافي في مصر ) إعداد : محمد عبد الله الهادي ، نشر في 2005 على الانترنت : http://www.nashiri.net
(2)محمد أركون ( من فيصل التفرقة إلى فصل المقال ، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر ) ترجمة و تعليق : هاشم صالح ، الطبعة الثانية 1995 م ، نشر دار الساقي – بيروت ، ص 7 .
(3)أعتقد أن دراسة التطور التدريجي للفكر ، و بالخصوص ذلك الذي يرتبط بالحِراك الإجتماعي – السياسي ، يجب أن تتم في ثلاثة مسارات :
المسار الأول : دراسة جذور الفكر : أي دراسة الجذور الجنينية للفكرة و التي قد تطرحها ذات ما ( فرد أو جماعة ) دون إخراجها كمنتج ناضج يصح أن يُعتبر محدد لحِراك الذات في سبيل التطبيق .
المسار الثاني : دراسة الفكر كحركة : المُراد بهذا المسار هو أن الفكر يسير و يتطور في إطار كونه حركة ( الحركة وفقاً لفهم علم الإجتماع و التي تعني تحول الفكر إلى أداة تحرك فاعلة يسعى المؤمنون بها إلى تغيير الطريقة السائدة و جعل بديلهم مكانها دون ( أو قبل ) أن يتحقق مرادهم .
المسار الثالث : دراسة الفكر كنظام : المُراد بهذا المسار هو تحول الفكر من الحركة ( أداة للتغيير ) إلى نظام ( منهج ممارس بعد نجاح عملية التغيير ) .
و في سبيل توضيح المسارات الثلاثة لنأخذ ( الديمقراطية ) كمثال ، فالملاحظ أنها تُدرس كجذور من خلال ( دولة المدينة ) اليونانية و غيرها من الأطروحات و الممارسات الجنينية لها ، ثم تُدرس كــ ( حركة ) ، إذ يسعى المؤمنون بها إلى تغيير آلية ممارسة السلطة السياسية ، و اخيراً تُدرس كــ ( نظام ) بعد أن نجح المؤمنون بها من تحقيقها كممارسة للسلطة السياسية .
و بعد هذا السرد الضروري كما أعتقد ، أقول إن منهجية ( ديكارت ) كانت تمفصل جديد لإنطلاق المسار الثاني في تطور الفكر و الذي عبّر عن تهيكل الحداثة الغربية كحركة تسعى للقضاء على ما هو سائد و تأسيس ( نظام ) عقلي جديد .
(4)إن القطيعة مع التراث التي يُدعى إليها الآن تعتبر وافد على الحيز الإسلامي ، لا لأن الأخير يخلو من الابنعاثات العقلية أو من الإنفصام المعرفي مع السابق ، بقدر ما أن دُعاة القطيعة فيه يعتمدون على مناهج و آليات غربية قد تلائمت مع ظروفها و ملازماتها .
(5)محمد أبو القاسم حاج حمد ( أبستمولوجية المعرفة الكونية ، إسلامية المعرفة و المنهج ) الطبعة الأولى 1425 هـ / 2004 م ، نشر مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد ، ص 18 .
(6)لقد مثّلت نكسة حزيران 1967 م واحدة من أهم الإخفاقات العربية – الإسلامية العسكرية و التي أدت إلى صدمة فكرية جعلت العقل المنتكس يعيد برمجة منظومته الفكرية بحثاً عن الأسباب ، و هذا ما لا ينكره الكثير من أرباب المشاريع النهضوية ( و بالذات القطيعية ) في العقل العربي – الإسلامي كـ ( محمد عابد الجابري ) و غيره .
(7)إدريس هاني ( كيف جرى مفهوم القطيعة مع التراث ) على الانترنت : http://www.hesspress .net
(8)لم يكن عبد الله العروي و طه حسين وحيدان في قطيعتهما الكبرى التي تتنكر كلياً للتراث ، إذ هنالك الكثير غيره كــ ( شبلي شميل ) و ..... ، أعتقد أن مثل هذه الأطروحات هي أقرب إلى كونها دعوات منها إلى مشاريع معرفية كبرى ، لهذا لم أوافق أعلاه على تحديد ( إدريس هاني )
(9)يُنظر كتابه ( الدين و الدولة و تطبيق الشريعة ) .
(10)إدريس هاني ( كيف جرى مفهوم القطيعة مع التراث ) على الانترنت : http://www.hesspress .net.
(11)يقول ( جورج طرابيشي ) : ( إن الإشكالية هي كل مسألة أو مجموعة مسائل تكتنف الإجابة عنها صعوبات و تبدو قابلة لإجابات متعددة ، بل متناقضة ، هذا إن لم تستوجب أصلاً تعليق الحكم بإنتظار توفر شروط أفضل للإجابة ، سواءاً من منظور وضوح الرؤية لمضمون الإشكالية ، أم من منظور تقدم وسائل المعرفة ، أم من منظور الممارسة التاريخية التي من شانها أن تُسهل ما كان يبدو معقداً أو أن تُحل عملياً ما كان يبدو غير قابل للحل نظرياً ) المصدر : جورج طرابيشي ( هرطقات عن الديمقراطية و العلمانية و الحداثة و الممانعة العربية ) الطبعة الأولى 2006 م ، نشر دار العقلانيين العرب – بيروت ، ص 9 .



#محمد_هاشم_البطاط (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النقد في الخطاب الاسلامي المعاصر
- لماذا لانكتب للاطفال
- اتمنى.. ان لا اتمنى
- حدود الذات واوهام العنى
- قد ياتي القمر
- لعنة التاريخ
- القراءة
- العراق من الديمقراطية الى الديمعراقية
- العربية سبعة وعشون حرفا
- النصوص المطلقة
- الديمقراطية بين المناخ سياسي والحاضنة الشعبية
- صراع القوى بين سلطة العشيرة وسلطة الدولة
- هل كنا مخطئين


المزيد.....




- ماذا نعرف عن قوات الفجر الإسلامية في لبنان؟
- استمتع بأغاني رمضان.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على ا ...
- -إصبع التوحيد رمز لوحدانية الله وتفرده-.. روديغر مدافع ريال ...
- لولو فاطرة في  رمضان.. نزل تردد قناة وناسة Wanasah TV واتفرج ...
- مصر.. الإفتاء تعلن موعد تحري هلال عيد الفطر
- أغلق باب بعد تحويل القبلة.. هكذا تطورت أبواب المسجد النبوي م ...
- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...
- موعد وقيمة زكاة الفطر لعام 2024 وفقًا لتصريحات دار الإفتاء ا ...
- أسئلة عن الدين اليهودي ودعم إسرائيل في اختبار الجنسية الألما ...
- الأحزاب الدينية تهدد بالانسحاب من ائتلاف نتنياهو بسبب قانون ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد هاشم البطاط - القطيعة الأبستمولوجية مع التراث في الفكر الإسلامي المعاصر