أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - خالد الحروب - تونس: عبقرية التوافق وروح خير الدين باشا















المزيد.....

تونس: عبقرية التوافق وروح خير الدين باشا


خالد الحروب

الحوار المتمدن-العدد: 4346 - 2014 / 1 / 26 - 09:21
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    


آن لروح المصلح الدستوري الكبير خير الدين تونسي (١٨٣٠ - ١٨٨٩) أن تهدأ، ذلك أن التونسيين الذين حلم بأن يمارسوا حياة سياسية عصرية قائمة على الانتخاب الحر والدستور وبما يقرر مبادئ العدل والمساواة والحرية ويرسخها، يقرون اليوم دستوراً عصرياً ومدنياً بروح توافقية حرة. خير الدين باشا كان مهجوساً بالإرادة الحرة، يكتب ويؤكد أن الرجال الاحرار هم وحدهم من يبنون مجتمعات ودولاً قوية. التهم التونسي، القوقازي المولد، العثماني التوجه، التنويري الثقافة، الباريسي القراءات، افكار عصره، وأدرك ان «أقوم المسالك في احوال الممالك» يتأتى من انتمائها إلى زمنها، واستيعابها لما انتجته الشعوب والحضارات. وترجمة ذلك كله على صعيد جماعي عريض لا تتم إلا من خلال التعليم، وهناك كان هاجسه التقني الاكبر. تماماً كما كان مجايله المشرقي رفاعة رافع الطهطاوي مهجوساً ومهموماً بالتعليم، كان خير الدين صاحب قناعة تقترب من القناعات الدينية بأولوية تنوير الاجيال وتعليمها. لا يبنى الاقتصاد المتين، ولا الجيش القوي إلا على التعليم. هذا ما كان مترسخاً في وعيه ووجدانه. بيد ان الاقتصاد والجيش القويين ليسا سوى مناخ الحماية لما هو اهم: العدل والمساواة والحرية، وهي ما يلهج به السياسي الناشط آنذاك، وهي الروح التي كان يبثها في مستقبل تونس.

دستور تونس ما بعد الثورة الذي صاغه المجلس التأسيسي «فصلاً فصلاً» هو ارقى وثيقة دستورية مدنية تضبط الاجتماع السياسي في فضاء عربي منذ دستور المدينة في العهد النبوي. جوانب اهميته عدة، بعضها وربما اهمها يتعلق بالتمرين والممارسة السياسية والديموقراطية الطويلة التي خاضها الاطراف والخصوم بهدف الوصول إليه. والجوانب الاخرى تكمن في النص المُنتج ذاته وسماته القانونية والمدنية المتفوقة. هذا الدستور انتاج توافقي يمثل خلاصة جدل وسجال وخلاف ووفاق وتنازلات مُتبادلة من جانب الشرائح الاوسع تمثيلاً للتونسيين، وليس وثيقة فوقية صاغها شخص او سلطة ديكتاتورية وفرضها على الجميع. يمكن بكل ثقة القول ان الدستور هو وثيقة الشعب التونسي وثورته. بالتأكيد هناك ما يمكن نقده في الدستور الجديد واقتراح صيغ لمواد افضل، لكن الافضل الذي يؤدي الى خلاف لا معنى له او فائدة منه، ويبزّه الأقل فضلاً لكن الذي يتم التوافق عليه.

هنا بالضبط تكمن احدى فضائل الديموقراطية، وهي التمرين الصعب والمرير والمديد على الحوار والتنازل للأطراف الوطنية الاخرى للوصول إلى المساحات المشتركة الوسطى حيث يلتقي الجميع او معظمهم على قاعدة المشاركة في الحكم وليس الاستئثار به. وهذه الممارسة الديموقراطية التي شهدناها في تونس، على اختلالاتها وبطئها وما بثته من احتجاج بل وحتى حنين للعهد البائد بسبب غموض مساراتها وتعثر انجازاتها الآنية، هي الجوهر المهم في عملية انتاج الدستور والتوافق عليه. في هذه العملية الطويلة صارت الغالبية السياسية تدرك بالممارسة والمعايشة، وليس بالتنظير الترفي، معنى السياسة الديموقراطية، حيث تتكبل أيدي كل طرف عن البطش بالأطراف الاخرى وعدم إمكانية فرض ما يريد عليهم. تتحرك الكتلة السياسية الاهم والنخب في قلبها إلى الأمام، ببطء ممل، لكنه مترسخ على مبدأ جوهري هو «حتمية التعايش» مع الخصوم السياسيين، وهو الامر (المرير ربما) لكن الذي لا مناص منه.

التجربة التونسية تنتزع الإعجاب في وسط عواصف الفشل العربي والإقصاء والتشنج والدم المُراق في التجارب المشرقية، والتي أحالت «ربيعها» إلى خريف باهت. الفرادة الكبيرة والمُلهمة في التجربة التونسية تكمن في عبقرية التوافق وكبح جماح شبق الاستئثار بالسلطة او القرار. لم يتم ذلك من خلال مسيرة هادئة ووئيدة، بل على العكس كانت صاخبة ومتوترة، وشهدت فصولاً صعبة، جرتها إلى حوافي الهاوية في اكثر من مفصل زمني. لكن عقلانية أو وسطية التوانسة ظلت هي الظافرة، تسحب الجميع من تلك الحوافي وتعيدهم الى الوسط. في قلب الوسط كان حجر الزاوية متمثلاً بفكرة ضرورة اللقاء بين «الاسلاميين المعتدلين والعلمانيين المعتدلين»، وتكوينهم كتلة مستقرة تقوم عليها المسيرة السياسية، وتتمثل حزبياً ومؤسساتياً بـ «ترويكا» حزب «النهضة» وحزب «المؤتمر من اجل الجمهورية» و «التكتل الديموقراطي». مثّل هذا الوسط السياسي الإطار العريض للتوافق والاعتدال التونسي والسد الذي وقف في وجه التطرف الديني الاصولي من جهة والتطرف الحداثي العلماني من جهة اخرى. في التمسك بهذا الوسط، كان على الرموز السياسية والقيادية ان تقدم تنازلات كبيرة وأحياناً صعبة. كان على راشد الغنوشي ان يدين بالفم الملآن إرهاب السلفية الجهادية التي انتقلت من التكفير إلى التقتيل في تونس. وكان على المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر ان يدينا الخطاب والممارسة المتطرفين لأصوليي الحداثة والعلمنة في تونس، وهي مواقف لم يكن من السهل تبنيها واجتراحها.

خلال مسيرة السنوات الثلاث الماضية رأينا كيف يمكن ان تشتغل السياسة الديموقراطية في فضاء عربي، وكيف بإمكانها القيام بترويض الايديولوجيا والمواقف المُسبقة. في هذه المسيرة واجهت الثورة بقايا النظام السابق وكان عليها ان تتعامل معهم. بل واجهت الثورة وقواها ونظامها السياسي قيد التشكل التحدي الكبير المتمثل في حزب «نداء تونس» والذي اعتبرته قوى ثورية عدة، من اسلاميين وعلمانيين، إعادة انتاج لنظام بن علي. ثم رأينا كيف آلت المقاربة التونسية إلى التوافق والاحتواء عوض اعلان الحرب والإقصاء، وقد تجسدت النقطة القصوى في تلك المقاربة في اللقاء بين راشد الغنوشي والباجي قايد السبسي. المزاج التونسي والخبرة التونسية والتجربة المدنية للمجتمع منذ عهد التأسيس البورقيبي، كل ذلك وفر للتجربة إمكانات نجاح نسبية افضل من غيرها في المشرق، تماماً كما في الحالة التركية حيث وفرت البنى الدولتية والمؤسساتية الناجزة ظروف نجاح سهلت على حزب «العدالة والتنمية» الاسلامي النجاح في قيادة البلد. اظهر التوانسة، علمانيوهم وإسلاميوهم، نضجاً عبقرياً في الالتقاء وفي ممارسة المساومة والتنازل للخصوم السياسيين في المربع الوطني، على خلاف ما نرى في مصر وليبيا. اختلفوا وتصارعوا وتشاتموا، لكن بعيداً من إراقة الدماء في الشوارع، وبعيداً من منطق الإقصاء والتدمير. المهم هنا هو ان التجربة التونسية تعطينا الامل الكبير وتنقض بالممارسة والشاهد الناجح اية مقولات استشراقية حول الاستبداد الشرقي المقيم، او مقولات الخصوصيات الثقافية التي يتلحف بها الاستبداد العربي إزاء عدم ملاءمة الديموقراطية للمجتمعات العربية.

فضلاً عن الآلية والتجربة والسياسة التي عكست نضجاً متطوراً بإطراد، هناك النص الدستوري نفسه وروحه المدنية المتميزة. الدستور التونسي الجديد يتشرب معاني المواطنة والمساواة والمدنية والحرية الفردية. يعكس انهماكاً بحرية الأفراد وكرامتهم والمساواة بينهم، ولا يعكس خوفاً وتوتراً لا حاجة لهما حول الهوية وتعريف الذات. منذ منتصف القرن التاسع عشر وسؤال الهوية و «من نحن» يطرق رؤوس المفكرين والمنظّرين والأحزاب الايديولوجية وصاغة الدساتير المسلوقة، وينهكهم ويضيع جهودهم. ثم اصبح هذا السؤال المفتعل وغير العملي، «من نحن»، الهاجس الاكبر للحركات الاسلامية التي طغت على الساحة منذ نصف قرن تقريباً. وإحدى المشكلات الكبرى في هذا السؤال المفتوح والذي لا يمكن غلقه لأنه متعلق بالهويات المتغيرة فردياً وجماعياً، ان تناوله دستورياً وقانونياً لا بد من ان يقود إلى قوننة العنصريات الإثنية او الطائفية ودسترتها. الإجابة الوحيدة الفعّالة عليه هي «المواطنة الدستورية»: كل فرد في الدولة المعنية هويته تتمثل في مواطنته وانتمائه الى الدولة وفق تعريف دستوري يحدد الحقوق والواجبات، وليس الانتماءات الإثنية او الدينية او الهوى الايديولوجي. كل الدساتير العربية بلا استثناء تورطت في سؤال «من نحن» وبدأت به، ثم ارتبكت، وأدى ارتباكها إلى تقسيم مواطنيها وفق دينهم او عرقهم. في الدستور التونسي الجديد ليس هناك غرق في هذا السؤال، بل تشديد على مدنية الأفراد ومواطنتهم. وفيه تحييد للدين بطريقة إيجابية وإناطة مسؤولية حماية المعتقدات والحريات إلى الدولة، بما في ذلك حرية «الضمير»، اي الاعتقاد والايمان بأي معتقد. ينص الدستور ايضاً، في واحد من اهم اوجه الفرادة في السياق العربي والاسلامي، على حظر استخدام المساجد للأغراض السياسية. ومناط الفرادة هنا يتمثل في قناعة حزب «النهضة» الاسلامي بهذا النص وإقراره له، وهو ما يُسجل لإسلاميي تونس، وهو للإنصاف ليس موقفاً انتهازياً، بل هو قناعة لديهم تمثلت في عدم توريطهم المساجد في الدعاية الحزبية، وفي تخييرهم لأحد أئمة المساجد التابعين لـ «النهضة» بين استمراره في موقعه كإمام مسجد، او الترشح للانتخابات النيابية، لأنهم لم يسمحوا له بالجمع بين الموقعين: النيابة، وهي السياسة، وإمامة المسجد وهي الدين.

لعلنا سنرى على ارض تونس ما كان قد كتبه وحلم به وزيرها خير الدين باشا على الورق قبل اكثر من قرن!



#خالد_الحروب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف العربي: تناسل المآزق, وأفول التأثير
- فلسطينيو سورية: مآس مزدوجة وخذلان عربي ودولي فاضح
- ساقان اصطناعيتان فلسطينيتان تتسلقان كليمنجارو
- ما هو تاريخ الحاضر؟
- هل الدم والحرب طريق العقلانية؟
- لماذا تغيب فلسطين عن الأجندة الإيرانية مع الغرب؟
- مكارثية العقل الأيديولوجي والكتابة الهوجاء
- لم يصل -نجم- امستردام ... تجازوها
- أنتهاك ثوابت الدين بمتغيرات السياسة
- ضد المكارثية العربية إزاء «الإخوان» أو غيرهم
- أين فلسطين في اتفاق ايران مع الغرب؟
- اوجاع اريترية: الحب والحرب والاغتراب
- مستنقع الطائفية: الغرق جميعاً ام النجاة جميعاً
- انفلات غول الطائفية
- الحداثة وعبقرية النقد الذاتي
- دول الخليج و «الصفقة الكبرى» بين اميركا وإيران
- من حق المرأة السعودية سواقة السيارة ولنغلق هذا الملف!
- مواجهة الاسلاموفوبيا: نموذج بريطاني ناجح
- جدل النص والواقع
- درس ديمقراطي من كردستان


المزيد.....




- هل كان بحوزة الرجل الذي دخل إلى قنصلية إيران في فرنسا متفجرا ...
- إسرائيل تعلن دخول 276 شاحنة مساعدات إلى غزة الجمعة
- شاهد اللحظات الأولى بعد دخول رجل يحمل قنبلة الى قنصلية إيران ...
- قراصنة -أنونيموس- يعلنون اختراقهم قاعدة بيانات للجيش الإسرائ ...
- كيف أدّت حادثة طعن أسقف في كنيسة أشورية في سيدني إلى تصاعد ا ...
- هل يزعم الغرب أن الصين تنتج فائضا عن حاجتها بينما يشكو عماله ...
- الأزمة الإيرانية لا يجب أن تنسينا كارثة غزة – الغارديان
- مقتل 8 أشخاص وإصابة آخرين إثر هجوم صاروخي على منطقة دنيبرو ب ...
- مشاهد رائعة لثوران بركان في إيسلندا على خلفية ظاهرة الشفق ال ...
- روسيا تتوعد بالرد في حال مصادرة الغرب لأصولها المجمدة


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - خالد الحروب - تونس: عبقرية التوافق وروح خير الدين باشا