أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائدة زقوت - انحدار















المزيد.....

انحدار


رائدة زقوت

الحوار المتمدن-العدد: 4340 - 2014 / 1 / 20 - 09:59
المحور: الادب والفن
    


كان لا بد لي من تنفيذ خطتي، الألم الناتج سيكون أخف وطأة من الألم الذي تربى في داخلي وتعمق، وأنا أعيش معه هنا حيث العالم غير العالم، وأنا غيري بالمطلق، لست أعاني من أمراض، أقصد لم أكن أعاني سابقاً من أمراض نفسية تورثني القهر والذل، وأنا أرقب سقوطي في هاوية الحب من خلف زجاج مصقول.
توارثنا الألم كابراً عن كابر، وجع الحياة ووجع الجسد نتيجة حتمية لأوجاع الحياة ذات الوجه الواحد الممتقع ... الشاحب، أمي تلك المرأة التي قادتنا لنكون الأفضل والأجمل، نسيت أن الحظوظ وراثة وأن الجينات تتغلب على العلم والقيادة الحكيمة، وأن تحسين الوضع المادي لن يصب بالضرورة لصالح تعديل خريطة الجينات والخروج من معتقلات الألم المتوارث، في حياكتها المستمرة للملابس شاهدت أول دفقة دم يتسبب فيها رأس دقيق ورفيع حد التلاشي.
منهمكة في حياكة الملابس التي تخيطها لتدريسنا وإخراجنا من مستنقع الفقر حسب رأيها بالشهادة الجامعية، سلاحاً في وجه الحاجة وجلباً للأزواج المقتدرين مادياً على فتح بيت الأحلام الذي فاتها أن تفتحه سابقاً برفقة أبي الذي استغل مهارتها في الحياكة؛ ليرمي بكل عجزه ومسؤولياته عليها ويهرب تاركاً إياها مع ثلاثة أطفالٍ أكبرهم أنا التي كنت وقتها في تمام حاجتي لهما معاً.
في بحر انشغالها و إثر نوبة شرود لم تفطن إلا وإبرة ماكنة الخياطة تخترق إبهامها، تنساب قطرات الدم بثقل متصنع، أو لأن مجرى الدم لا يزال مغلقا بتلك الإبرة صاحبة الحظوة بإحداث هذا الوجع، الوجع الذي سبب لوجه أمي اصفراراً باهتاً حد البياض، قبل أن نبدأ في الصراخ أنا وأختي رفعت سبابة اليد الحرة ووضعتها على شفتيها بعد أن زمتهما وقد غادرهما اللون الأحمر من ألم الإبهام، في إشارة لإجبارنا على السكوت وعدم الصراخ، أذعنّا لطلبها و عيوننا فارغة مشدودة ليدها العالقة تحت رحمة الإبرة والماكينة العاقة، سحبتها على مهل فتدفق الدم بسخاء، لفّتها بقطعة قماش كانت بجوارها، وذهبت لغسلها ثم غطتها بالملح على سبيل التعقيم، أو على سبيل استيلاد الألم ليتناسب مع حجم ألمها الداخلي.
من تلك اللحظة عرفت ألم الرؤوس الرفيعة الشاحبة، عرفت أن الوجع الداخلي يحتاج لوجع خارجي يتساوى معه بعدد قطرات الدم على أقل تقدير، حتى لا تظلمه وتتركه يعششّ داخلك وأنت معافى خارجياً، كما يبدو لغيرك قطعاً، وليس لك.
لم أكن أحتاج لأكثر من هذه الوخزة التي خرجت من عمق الذاكرة؛ لأبتكر طريقتي الخاصة لعقاب نفسي على ما فعلت وما انزلقت له، أحضرت دبوساً برأس أغلظ قليلاً من تلك الإبرة التي فعلت فعلها في إبهام أمي، استجمعت قواي كلها يدفعني وجع تغلغل في عمق الروح، أعدت تشغيل جهاز حاسوبي المحمول، دخلت لكل المواقع التي جمعتني به، السكايب... الفيسبوك ... وغيرها الكثير، فتحت صفحات المحادثة وأشعلت الضوء الذي يعلن عن حضوري، أضحك باكية من إعلان الحضور بإضاءة تبدو للمتمعن نقطة صغيرة في صفحة بيضاء، ولكنها كبيرة ... كبيرة جداً بحجم الغرف السرية التي تضاء بالأحمر لضمان عدم دخولها تحت طائلة العقوبة، بحجم إشارة خطر كبيرة حفرت على صخرة نصبت على طرف واد شديد الانحدار لتنبه السائق، قف أمامك منحدر، لم يضعوا أمام إشارة إثبات الوجود في هذا العالم المتنامي الصغر، إشارة تحذيرية للمنزلقات الموجودة خلفها، فكانت النتيجة أنني سقطت في قعر الواد.
أمسكت الدبوس وثبته بيدي واقفاً ... منتصباً ينتظر ضحيته، غرست سبابتي فيه وأنا أكتم صرختي، تماماً مثلما فعلت أمي سابقاً مع الإبرة، كان جسدي يرتعش، وكل خلية فيه تصرخ من الألم، دخلت لحسابه في الفيسبوك، نعم ... حسابه هو لأعاقب نفسي، بالدبوس المغروس بسبابتي رحت أضغط على زر الإعجاب على كل جملة نشرها، فهنا كانت بداية انزلاقي نحوه بتهورٍ لم أسعَ له يوماً، مدفوعةً بالبحث عن فارس الأحلام الموعود، فارس الأحلام الذي أضاع عنوان بيتي وطريقه، المخلص الذي انتظرته أربعين عاماً، قضيتها أتجهز وأعد العدة لحضوره، تأخر كثيراً، فقررت البحث عنه بنفسي، بعد أن لفني الحياء وعزة النفس عن استجدائه على أرض الواقع، دخلت للبحث عنه هنا في العالم الموجع حد الموت، وجدته أو هكذا خيل إلي! بصورته وحرفه العذب جذبني نحوه كما يجذب المغناطيس العملاق المسمار الحديدي النحيل، منحته كل الحواس، وكل خلايا جسدي، لم أبخل عليه بشيء ... أي شيء مهما عظم أو صغر، بدءا من الكلام وانتهاءً بالجسد، كنا نتقابل هنا كل ليلة لنعيش حياتنا الأخرى بكل تفاصيلها، زوجاً وزوجة افتراضيان، لن أقول عشاق، فقد تجاوز ما بيننا العشق، أقنعني أو أقنعت نفسي بقبول فكرة أن نتزوج هنا، تماماً مثل فكرة الزواج بالدم أو الزواج بالهاتف بالعهد والوعد لا بالمواثيق والحجج، تزوجنا بالعهد ... تعهد لي بالسعادة هنا وتعهدت له بالحب والوفاء، غاب عن عقلي كل شيء إلا هو، سيطر على تفكيري كاملاً، بت فتاة قاصرة بعمر الأربعين أعتاش على علاقة افتراضية وجنس افتراضي يغذي أو هيئ لي أنه يغذي حاجة جسدي المصاب بلعنة العنوسة والحاجة لمن يشعل فيه الحياة.
كنت قد أدمنته حد اللارجعة، أتلهف لمقدمه وأتجهز كل ليلة مثل عروس في ليلة زفافها، كان في البداية يتلهف لقدومي ويعاتبني بقوة إن تأخرت، كان يغار من أي حرف أخطه تعليقاً لأي صديق على صفحته، ابتعدت وأنا أطير سعادة عن الجميع، اختصرت العالم فيه، بات هو عالمي الكامل، حتى كان ذلك اليوم الذي انتظرته طويلاً وعندما جاء الضوء الأخضر ليعلن عن قدومه فتحت الكاميرا وإذ بوجه صديقه يطل علي من خلالها، ارتعبت وفقدت القدرة على التصرف، أصبت بالشلل من هول الصدمة، أغلقت " اللاب توب " دون أن أغلق أي حساب، ارتجفت كثيراً وتعرقت أكثر، هربت للحمام، غسلت وجهي عسى أن يكون هذا الأمر حلماً.
كان الألم يعتصر دموعي فتنساب مختلطة بقطرات الدم التي كانت تخرج متحدية الدبوس لتتكور أمامي على لوحة المفاتيح معلنة نهاية كذبة كبرى أقنعت نفسي بأنها حقيقة مسلَّم بها، عشتها بكل انجراف كمراهقة طاردت أول من رماها بابتسامة عند سور المدرسة، قبل أن تكتشف بأنه كان يبتسم للمدرّسة التي تسير خلفها.
بعد أن انتهيت من الفيس دخلت للسكايب وضغط على كل كبسة وجدتها أمامي، السكايب ناقل الصورة والآهة التي كانت تخرج من حشاشة حاجتي له، لتصب في قلب اعتياده على الترنم بالزواج عبره من كل أنثى هربت من واقعها لتسقط في واقعه، وفي بحره المليء بالشباك، وكذا فعلت مع كل حساب بريد امتلكه حتى الحساب الرسمي الذي استقبل عبره أمور العمل.
بعد أن انتهيت كانت يدي على وشك أن تشّل بالكامل، سحبت الدبوس وحبات العرق تنساب لتشكل مع نقاط الدم و الدمع ثلاثية ترفع نعش روحي على أكفها لتدفنها في مثوها الأخير, لم أعمد للملح كما فعلت أمي سابقاً، الملح أطهر من أن أدنسه، الملح علاج لجروح من كدوا وتعبوا ليعينهم على مواصلة المسيرة، وأنا لم أٌتعب سوى قلبي وجسدي المنهك من الوحدة،
بتجبر لم أملكه يوماً أخرجت قلم الكحل ووضعت رأسه وأنا أحركه بكل ما في جسدي من وجع في ثقبي الدبوس من الطرفين، هكذا يكتمل العقاب، و لن أنسى ما حدث لو التأم مكان الثقب، ستبقى النقطة السوداء على الوجهين تذكرني دوماً بخطيئتي الكبرى، عدت لجهاز الحاسوب، عمدت لحذف كل حضور لي في مرابع العالم الافتراضي وأغلقته، لملمت المشيعين معي ودخلت لغرفتي وأقفلت الباب خلفي.



#رائدة_زقوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رأس العصفورة
- هل سنشهد تناغم ثالوثي للنكوص ؟؟
- بين زمن ولادة بنت المستكفي وزمننا : دعوة للتأمل
- مسافة سفر / قصة قصيرة
- اللفافة السوداء
- البلهاء
- مُعقد ....قصة قصيرة


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائدة زقوت - انحدار