أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - أمل وحرية بحجم السماء














المزيد.....

أمل وحرية بحجم السماء


جواد بولس

الحوار المتمدن-العدد: 4324 - 2014 / 1 / 2 - 12:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




وكأنّني في حلم، أجلس في بيتي وحيدًا. فجر القدس يفيض وجعًا سميكًا والسماء منبسطة، بعض الغيوم العالية كانت ترحل ببطء، لم أعرف وجهتها، تابعتها بعيون حيرى، وتمنّيت كالصغار أن أصير وردةً أو عصفورًا. على كنبتي، التي صارت بعد الخمسين حضنًا أليفًا أستعذب فيه الكسل، أمضيت وقتا في مشاهدة ما ينقله تلفزيون فلسطين من وقائع عملية الإفراج عمّا عرف بالدفعة الثالثة من أسرى فلسطين القدامى. حاولت بكل جوارحي أن أعيش تلك اللحظات، وأن أغضَّ الطرف عن بعض ممّا يستفز منطقي، وامتثالا لنزعة ورثتها عن آبائي حرمتني "نعمة" التملّق والمداهنة.

كاميرات تنقل فرح أمّهات/ زوجات/ بنات وأبناء، يعيشون على نبض لحظات يتدافعون كالفراش، ويرقصون كما في الحكايا للممكن الذي يبعث فيهم الأحمر لونًا لحياة كانت ناقصة ولأكثر من عقدين كانت لديهم بلا نكهة، جموع  ستمارس اليوم طقوسًا غير رائجة يضبطها فقه الفقراء البسطاء؛ النصر صبر دهر، الغلبة لمن يحب، والظلم حتى لو طال ففوق كل ظالم صاحب حق وساعة أو غيب، سراب و"خارطة طريق".  

ساحة المقاطعة تمتلئ بآلاف جاءوا ليستقبلوا من سيكونون فرسان هذه الليلة الرحومة، كثيرون يعرفون "المحرّرين"، وقلّة جاءت لكونها تتقن أدوار الكومبارس في استعراضات أناشيد الزحف والتطبيل. في كلّ مرّة توجّه المذيع لواحد من هذه الجوقة، وما إن يفتح هذا نيران خطبته، سارعت  لإخماد صوت التلفزيون والتجأت للذي رافقتني كلمات كتابه على تلك الكنبة؛ إنّه "شلومو زَند" مؤرّخ يهودي كتب للعالم ولأبناء "شعبه" معلنًا وشارحًا متى وكيف توقّف هو عن عدِّ نفسه يهوديًا؟

كم كانت المفارقة غريبة؟ أجلس في بيتي في القدس، في حيٍّ تركته إسرائيل خارج جدارها، "فأنعمت" عليه  بحريّة حرمت منها نظراءه من الأحياء التي حبسها الجدار وأبقاها في فلسطين المحتلة.

من خلفي وعلى بعد أمتار تقبع قيادة المنطقة الوسطى لجيش احتلال إسرائيل التي منها أديرت وتدار مئات العمليات العسكرية في المنطقة، أمامي تلفزيون فلسطين وفضائيات عربية أخرى، تستعرض من خلال عشرات المقابلات آراء فلسطينيين في الحدث المتصدّر لأخبار تلك الليلة الباردة الماطرة. أصوات المقابَلين تختلف باختلاف المكان والفصيل والفصيلة؛ فمن غزة يأتي النداء متباكيًا مناشدًا الرئيس محمود عبّاس لكي يسعى إلى تحرير جميع الأسرى من سجون الاحتلال، وعلى هامش الغمزة يطلق هؤلاء الإخوة زغرودة خجولة مبحوحة لستة وعشرين فلسطينيًا كادوا يقضون على "برش" وليس على تراب وطن.

في رام الله تأتينا هتافات الفتح المنتصر لرئاسة وفصيل وقيادة في حساباتها يرصَد، وبحق، ريع هذا الإفراج والنصر حتى وإن جاء ملتبسًا عليلا. خطاب كل متحدّث يشي بلونه وفصيل دمه، فما بين تبجيل مقدّس لقيادة أبلت في هذه المسألة بلاءً مرضيًا، وبين خطاب يجهد بإخفاء دور تلك القيادة، بانت فلسطين بسقمها؛ عارية، عظام صدرها هشة  ناتئة، لتتركنا، بعض المتابعين، بقلوب كسيرة على نصر كاد يكون ناصعًا أبيض.

في مثل هذه المقامات لا يعني الوقت شيئًا، فمتى كان في الشرق للوقت حساب؟ بشر يصاحبون الليل لتبدو أعمارهم مفتوحة بلا نهايات.

الانتظار سيّد. ما أقبحها إسرائيل، تحاول أن تفسد علينا رعشة الفجر.  تتجبّر، ما أغباها، هي لا تعلم أن اليأس ترف للأغنياء وخيار متاح للمتغطرس، أمّا نحن، أصحاب الرمل وصنّاع ساعاته، نحن بناة الوهم وهدّام قلاعه، مؤمنون بأن "للحرية الحمراء بابًا" وهذا بإصرار الأحرار يدكّ.

تعبت من عبث الشاشات رغم إسكاتي لها، صار تكرار المشاهد ممجوجًا، تركت الكتاب على الكنبة. وقفت أمام نافذتي. أضواء خافتة تسرّبت من نوافذ بيوت بعيدة بدت وادعة. كان الضوء بلون البرتقال، ترنح من فوق الجدار، لم ينجح الاسمنت بخدشه، فجاءني صافيًا سالمًا. أدخلته بيتي، خبّأته خشية أن يصادره الجيش. من بعيد كانت أصواتهم تعربد وتأمره بالتوقف. في السماء غيمتان. واحدة صارت تشبه جدتي، على وجهها تجاعيد زادتني احترامًا لها. كانت تنظر إلي وتتحرك ببطء ومهابة. تفرّست فيها، فلاحظت بسمتها المطمئنة، وقرأت تمتمة تشبه دعاءً لطالما رددته في ساعات فرح دافق وتقول: "الله ينجينا من اللي جاي".

كان الهواء باردًا، لكنني استنشقت منه ما ملأ رئتيّ وأنعش عقلي. لا أعرف لماذا لم أذهب الى المقاطعة لأستقبل مع من حضر قافلة "أبو العوض كميل"ورفاقه. ربما لأنني أحسست أن كل شيء في هذه الليلة كان عابرًا وزائلًا،  تمامًا كالغيمتين اللتين انقشعتا من فوقي. أو ربما لأنني حزنت مما قرأته عند "زند"، وشعرت كيف تحيل العنجهية بشرًا إلى هياكل تدمن القهر وتمتهن السطوة، فها هي إسرائيل تعبث بقلوب طافحة  وتعربد. تنثر كثيرًا من الضباب والوجع كي لا يصير الفرح الفلسطيني الصغير مثارًا للطمع وفاتحًا لشهوات محظورة. إسرائيل صاحبة تلك العيون الزرق تمعن ليبقى عالم الفلسطيني عديم اليقين إلا من يقين  الوجع والخوف والحزن.

"هذا الرجل الذي يجلس في المقعد أمامنا يهودي" قال الوالد لابنه. "من أين لك هذا"؟، سأل شلومو أباه الذي أصر على أنه يستطيع التعرف إلى اليهودي من منظره الخارجي فقط. استغرب شلومو ذلك، ولم يصدّق والده الذي جاء لزيارة ابنه في باريس. بعد لحظات تبيّن أن الرجل المسن كان يهوديًا.

"من عينيه" أجاب الوالد: "لكنّها زرقاء شائعة في أوروبا" حاججه شلومو: "إنها النظرة وليست العين  يا ولدي، نظرة متهرّبة، حزينة وفيها خوف وتوجس شديدين" قال الوالد، وأردف "لا تخف يا بني لا يمتلك الإسرائيليون الشباب اليوم مثل هذه النظرة".  

عدت لأقرأ "زند". انتظرت حتى تمام التعب. لا أعرف متى نمت وكيف. فلقد صحوت وكانت الشاشة تخبرني أن صباح فلسطين كان شهيًا وبهيّا وسماءها صافية كصفاء الحرية. لم تتحدث الأنباء عن حال القلوب في ذلك النهار، ولا عن لغة العيون التي حتمًا غلب عليها التعب من طول السهر. 



#جواد_بولس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صمت الغنائم
- لماذا يخافون شجرة الميلاد؟
- دندنة شمعون بيرس: -أنا زي مانا وإنت بتتغير-
- -عوفر-..سجنٌ أم مرجُ غزلان؟
- أصوات وبنادق
- هذا هو شعبي الذي به سررت
- -إلى فلسطين خذوني معكم-
- انتخابات المجالس ويهودية الدولة
- -يهودية الدولة- بين الواقع والخيال
- كفاية!
- الناصرة أختٌ لبيت لحم
- المال السياسي زينة الحياة السفلى
- رسالة عن أبي حنين أحمد قطامش
- وطن شيخ ومطران
- أصالة
- ما هكذا تورد الإبل
- يسار يوك!
- بالطول بالعرض
- عربٌ ونَكَب
- حرّاس التبويل


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة إسرائي ...
- وزير الخارجية الأيرلندي يصل الأردن ويؤكد أن -الاعتراف بفلسطي ...
- سحب الغبار الحمراء التي غطت اليونان تنقشع تدريجيًا
- نواب كويتيون يعربون عن استيائهم من تأخر بلادهم عن فرص تنموية ...
- سانشيز يدرس تقديم استقالته على إثر اتهام زوجته باستغلال النف ...
- خبير بريطاني: الغرب قلق من تردي وضع الجيش الأوكراني تحت قياد ...
- إعلام عبري: مجلس الحرب الإسرائيلي سيبحث بشكل فوري موعد الدخو ...
- حماس: إسرائيل لم تحرر من عاد من أسراها بالقوة وإنما بالمفاوض ...
- بايدن يوعز بتخصيص 145 مليون دولار من المساعدات لأوكرانيا عبر ...
- فرنسا.. باريس تعلن منطقة حظر جوي لحماية حفل افتتاح دورة الأل ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جواد بولس - أمل وحرية بحجم السماء