|
بهنس .. التقاطٌ خاطئ لوحي ٍ صحيح
محمد رفعت الدومي
الحوار المتمدن-العدد: 4311 - 2013 / 12 / 20 - 20:22
المحور:
الادب والفن
"كانت هاجرة حلوب ، تحلب العرق ، تحلب الذاكرة بمواقيت ، كنتُ كمن كان مهيأ لاستقبال أمر عظيم ، كانت حركة الشارع أمامى من خلال زجاج الباب ترجعنى برهة لحركة النمل قبل حلول الشتاء ، وكانت الشمس تحدق بقسوة كمن تبحث عن شىء عزيز ، كان ذلك اليوم الغامض والذى غير مسار حياتي .." !!
هكذا التقط إملاءَ كاتب وحيه ، متعددُ الأبعاد ، الروائي والشاعر والفنان التشكيلي وعازف الجيتار والمطرب والسودانيُّ ، وآخر خناجر ديسمبر في قلب "أبولو" ، في روايته "راحيل" ، ولعلها "رحيل" ، التي كانت بمجرد ظهورها ذريعة لائقة لإتهامه الصريح بالتغبير في وجه فحول الرواية من الماء إلي الماء ، ومنحت السودان وعداً بقامةٍ ممتازة تهرول صوب رهانها بـ "الطيب صالح " بنكهة الشاب "محمد حسين بهنس" ..
ومن الواضح أنَّ الروائي الكبير أخطأ في التقاط أصابع كاتب وحيه بشكل صحيح ، ولعله قد استهان بعرق الشتاء الذي جعله لا مهيأً لاستقبال أمر عظيم فقط ، بل جعله تماماً ، محور الأمر العظيم الذي يشغل الآن قلب القاهرة القاسية القلب ، عقب ذاك الموت الغامض الذي جرف مسار حياته تماماً ..
وهو في التقاطه الخاطئ هذا لوحيه يغرد من قلب السرب الوطني ، ويعكس التقاطنا الخاطئ لكلِّ ما تواطأ الآخرون ، والأرقي ، علي اعتماده أسلوباً أنبل للحياة ..
موتٌ كهذا الموت المتأخر يعكس في ذاكرتي موتاً صائب الموسم ، يتفق مع وحي شاعر "ألبيرو" الكبير "قيصر باييخو" ، والذي يقال أنه تنبأ بموته وطقوس موته بحذافيرها ، وإن كنت لا أصدق عادة مثل هذه الروايات ، لولا أن القصيدة أقدم عمراً من موته في فرنسا ، وفي يوم خميس خريفيٍّ أيضاً ، يقول "قيصر باييخو" :
سَأَموتُ في باريسَ تَحتَ وابلٍ منَ المَطر/ في يوم لديَّ منذُ الآنَ ذكرى عَنْه / سأموتُ في باريسَ ولسْتُ مُسْتَعِجلاً / ربَّما في يومِ خَميسٍ خَريفي / مثلِ هذا اليوم سيكونُ خَميساً لأنَّ هذا اليومَ خميسٌ / وفيه أنثرُهذهِ الأشعارَ / وعظامُ العَضُدِ في أسوأ حال / ولمْ أرَ نفْسي قطّ وَحيداً مِثلَما أنا اليوم / قَيْصر باييخو قَد مات / وهُم جَميعاً يركلونَه دونَ أن يَفعلَ لَهم أيَّ شَيء / يضربونَه بالهَراوات وبِقَسوَة / بالحبالِ يَسوطُونَه / تشهدُ على ذلك أيامُ الخَميسِ وعظامُ العَضُد والعُزلةُ والأمطارُ والدروب ..
الغريب أن "محمد حسين بهنس" مات يوم خميس أيضاً ، وظلَّ بلا هوية في مشرحة "زينهم" حتي تعرف عليه بعض أصدقائه !!
لقد ظفرت برؤية الشاعر "محمد حسين بهنس" مرة واحدة في أحد مقاهي وسط القاهرة ، وبالرغم من أنه كان أليفاً للجميع ، لم يترك في ذاكرتي هذا الحضور الذي الآن يؤلمني ، لكن تلك السيولة في نظراته كانت تمنحه بالفعل لقب مجنون مؤجل ، ومن الغريب أنني لم أر وقتها في تسوله الأنيق ما يدعوني إلي الدهشة ، ولعله هو أيضاً ، ربما لأنني أعرف ، وهو يعرف ، أن التسول أحد التقاليد التي استراح لها بعض المطبوعين من الشعراء ، حتي أن الشاعر "أبا فرعون الساسيّ" ، استعاض عن الذهاب إلي بلاط الملوك والأمراء بالمسالك التي يمر بها الحجيج ، ليتسول بشعره ما يعوله مما يجود به ركاب "الراقصات إلي مني" !!
عرفت فيما بعد أن "بهنس" قد انزلق في شرخ الاكتئاب الصارم تعقيباً علي جحود زوجته الفرنسية ، وأم ابنه ، وترحيله القسريِّ من فرنسا !!
إن مشكلة "محمد حسين بهنس" الحقيقة ، كما أنها مشكلة الكثيرين في سياقه ، هي أنه مبدعٌ حقيقيٌّ يلمس جسامة الفجوة بين واقعه وبين ما يجب أن يكون عليه واقع من يملك ما يملك هو من أوسمة ، وهي لعمري كثيرة ، فضلاً عن التجاهل المتعمد لكل صوت يغرد خارج أفق البلاط ، وترتيب الضوء المدبر لمبدعين أقل لمجرد أنهم يضبطون علي الدوام أصابعهم المبتلة ، ونجمة الشمال ، مع اتجاه رياح البلاط !!
هناك اشكالية أخري محيرة ، كما تكاد تكون عرفاً دارجاً ، يضخم هذه الفجوة بشكل عصبيٍّ ، وهي أن تكون صناعة الإبداع تعبيراً محمياً علي فقراء القوم أو تكاد ..
اسمح له أن ينتابك قليلاً ، ألم مبدع متعدد الأبعاد كـ "بهنس" لا يجد قوت يومه ، وهو يري علي شاشة خليجية ، قاعةً هائلة تزدحم بذوي العطور المتضاربة ، علي مقاعد مستوردة أنيقة ، وزجاجات المياه المعدنية ، ومنبر مذهب ، يجلس خلفه شاعر محلِّيٌّ الصنع يصرخ في الحضور منفعلاً : "واش تاخد من حنين القلب وخلاجه" !!
سخرية رديئة تتابع ترهلها من خلال لعبة الزمن النبطيِّ الردئ ..
سأقول ما سأقول لأنني أؤمن أن الموت قبل كل شئ قرارٌ داخليّ ..
دهم عطر الشاب "محمد حسين بهنس" القاهرة منذ عامين وبعض العام ، ليقيم معرضاً تشكيلياً فيها ، ويقيم في شقة في وسطها ، كم كان يلزمه من الوقت ليدرك أنه أكمل دائرة الغبار ، قبل أن تتدهور أوضاعة المالية ، ويترهل اكتئابه ، ويعيش علي الأرصفة ، ويشكلُّ في النهاية لوحته الأخيرة ، الفنان نفسه علي رصيف قذر ، في وضع الجنين ، يحتضن الفراغ البارد ، قد هربت روحه إلي المراعي الغامضة ؟
أيُّ اسم يصلح لهذه اللوحة سوي "اللعنة علي كلِّ شئ " ؟!!
لماذا رضي أن يعيش رهين الغربتين ، غربة "محمد حسين بهنس" الإنسان عن وطنه ، وغربة الشاعر "محمد حسين بهنس " في الكون الكبير ، فهل الشاعر فوق غريب في الكون لا يرجي له إياب ؟ بالإضافة إلي هذا إدراكه التام لغربته هذه ، فهو القائل : "أهديك الغربة ، هتاف الموتى وصمت التربة ، أهديك إحباطي حديث عابر في مركبة عامة" ..
يبدو أن العام (2013) كان منذ بداياته عاقداً العزم بشكل مروع علي أن يودع في الروح الجمعية ، قبل أن ينزلق في شرخ الماضي ، عذابات ٍ لها ما بعدها ، وحنيناً أسود لعابرين وأشياء ..
2013 .. إلي الجحيم مصحوباً بغابة من اللعنات ..
#محمد_رفعت_الدومي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غيمةٌ من أبسط الفراشات
-
ذلك أفضل جداً
-
السقوط في حفرة الببر
-
غيرةً علي قوس قزح
-
الآلهة يجب أن تكون سوداء
-
الناشطة بيبسي
-
شيفرة الشيخة موزة
-
قصيدة الفاجومي الأخيرة
-
الفاجومي مات !
-
الله ، المعسكر ، الفسيخ !!
-
مريم الثيِّب .. وشِباك الآباء الأوائل*
-
لا مرحباً بمواسم الزحف الحرام
-
السيسي .. والرقص في درجة الغليان
-
-إسهار بعد إسهار- كتاب جديد ل -محمد رفعت الدومى-
-
اسهار بعد اسهار الدومي .. سيرة تتجاوز الذاتية
-
ذَبحْتُكِ جومانا أخيراً بشرياني
-
روعة
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|