أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد الأزرقي - غرباء مألوفون















المزيد.....



غرباء مألوفون


محمد الأزرقي

الحوار المتمدن-العدد: 4240 - 2013 / 10 / 9 - 16:51
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


صدر عن دار النشر بجامعة واشنطن كتاب بعنوان (غرباء مألوفون: ألمسلمون في شمال غرب الصين)، للدكتور جوناثن لپمن. يفتح الكتاب نافذة على تاريخ ما يقارب 40 مليون مواطن صيني مسلم وثقافتهم، ويقع في مقدمة وستة فصول إضافة للمراجع والتعليقات. يقول المؤلف في مقدمة كتابه إن الغرض منه هو إثارة الإهتمام من أجل القيام بدراسات أعمق واشمل للمسلمين الصينيين وتناول الخلافات والصراعات التي وردت في قصصهم. ويضيف انه أعده ليكون مصدرا لطلبة التاريخ في المرحلة الجامعية أو الدراسات العليا. ولذلك فإن الكتاب جاء زاخرا بالمصادر التوثيقية والخرائط والملاحظات التوضيحية حول القضايا التي يتناولها بالتفصيل ليمكن أولئك الطلبة من قراءة تاريخ الصين قراءة متمعنة، وليتلمسوا طريقهم في معرفة ما أنزلته الدولة من الجرائم بالمسلمين، وما أوقعوه المسلمون، الصوفيون خاصة، في بعضهم البعض من الجرائم المماثلة الرذيلة والتسبب في بشاعات يومية بتشجيع من الدولة أو بدونه. ورغم بعد المسافة والزمن، فإني وجدت في جانب من الكتاب استشرافا للزمن العربي الحالي الرديء في ربيعه المدمر المتقلب، حيث شهدت عدة مزارات ومقامات صوفية منذ قرابة السنتين اعتداءات تراوحت بين تخريب هذه الأماكن وحرقها والتي يُشتبه بقيام السلفيين بتنفيذها. ناهيك عن حملات التصفية الدموية الرهيبة والمذابح التي يوقعها التكفيريون والجهاديون في ضحاياهم من المواطنين الأبرياء، المسلمين وغير المسلمين، مما شهدتها وتشهدها كل من ليبيا وتونس واليمن والعراق وسوريا والجزائر ومصر، ولربما دول عربية أخرى في المستقبل القريب، حيث يجري الذبح مع التكبير والقتل مع التنكيل! يطلعون علينا كل يوم باسم جديد، فتارة باسم "طليعة الجهاد" وتارة "جبهة النصرة" وأخرى "جماعة التكفير والهجرة" ورابعة باسم "التيار السلفي الجهادي" وخامسة "الموقعون بالدم" وسادسة "كتيبة الملثمين" وأخرى "فتح الإسلام"، وهلم جرا. وجميعها بلا شكّ من بنات "القاعدة"، حاضنة الإرهاب والتفجيرات الدموية. هذه التنظيمات لا تحتقر الفرد ولا تحفل للحياة الإنسانية فحسب، بل إن أسلوبها المفضل هو الإبادة الجماعية بالشاحنات المفخخة والإنتحاريين في الأسواق والمصلين يوم الجمعة، من التي ينفذها المصابون بسعار الجنس. فهذه الحركات تجمع بين وعي سلفيّ غارق في العتم، ونهج إرهابيّ غارق في الجريمة، وضعف متعدّد الأسباب في الوطنيّة، لا يجوز أن تُحسب على الثورة كائناً ما كان حساب الأرباح والخسائر المباشرة. فهي لا تعد إلاّ بإرساء استبداد ربّما كان أشرس من استبداد الأنظمة القائمة، وها هي الانتقامات ترفع عقائرها، كسَقَر لا تُبْقِي وَلا تَذَر!
يغطي الكتاب فترة تمتد منذ لحظة وصول الإسلام الى الصين في القرن السابع، عن طريق التجار والدعاة، حتى قيام جمهورية الصين في القرن العشرين. تتابعت خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة على حكم البلاد سلالات متعددة شملت التانگ ثم سلالة السونگ، التي تلتها فترة حكم سلالة اليوآن المنغول. سقطت سلطة اليوآن على يد سلالة المنگ التي سقطت هي الأخرى بدورها على يد المنشوريين الذين أسسوا سلالة التشينگ. ذاق المسلمون الأمرين خلال فترة حكم هذه السلالة بالذات. فقد سُفكت دماء الآلاف منهم وأحرقت بيوتهم وممتلكاتهم وأجبروا على النزوح الى مناطق أخرى، ولعبت سلطة الإمبراطورية دورا قذرا في ضرب بعضهم البعض لأنهم أبدوا مقاومة لإجراءاتها الغاشمة وحملوا السلاح دفاعا عن وجودهم. بقيت هذه السلالة في الحكم حتى بداية الحرب العالمية الأولى حين قام الحكم الوطني. لم يتغير واقع المسلمين في المجتمع الصيني كثيرا خلال حكم تلك السلالات وبقيت صورتهم اسيرة للأفكار العنصرية النمطية الظالمة والمعتقدات الراسخة في اذهان سكان البلاد من جميع الأجناس. وفي اعتقادي ان استعراض تاريخ المسلمين الذي يطرحه الكتاب يظهر قدرا كبيرا من التحيز الثقافي والتمييز العنصري، مما يجعل الصين حقا نموذجا صارخا للإسلاموفوبيا.
فخلال فترة سلالة التانگ (618 – 916)، وفي مدينتي تشانگئان وگوانگجو وغيرهما من المدن الكبرى، كان يتعين على الأجانب المسلمين ألسكن في مناطق معينة خاضعة لمراقبة السلطة، وأن ينحصر نشاطهم الإقتصادي على أسواق بعينها بغية الحدّ من احتكاكهم بالصينيين. كما إتخذت حكومة التانگ اجراء يقضي بمنع زواج الرجال الأجانب من الصينيات، وحتى ارتداء الزي الصيني. وهكذا بقي المسلمون تحت الإقامة المؤقتة وفق تعليمات الحكومة السرية منها والعلنية، وكذلك تصرفات المجتمع الصيني من حولهم. لقد مُنحوا قدرا من الحقوق المدنية والإستقلال الإداري ضمن مناطق تجمعهم، ولكن حُضر عليهم الإختلاط بالسكان المحليين.غير أن اجراءات من هذا القبيل لم تمنع بعض المسلمين من تعلم اللغة الصينية والزواج من الصينيات والبقاء لفترة طويلة في الصين. ورغم انه يمكن للشخص الحدس بمدى علاقتهم بالسكان المحليين، فليس هناك شكَ بأن البعض منهم قد استقروا واستطاعوا أن يجدوا زوجات مسلمات أو تحولن الى الإسلام من بين الجماعات المهاجرة الأخرى والسكان المحليين، وخلقوا مجتمعا خليطا يوحده الإسلام، وكونهم "أجانب" وربما استخدامهم اللغة الفارسية كلغة للتعامل بينهم.
في فترة حكم سلالة السونگ (960-1279) كان تجار الإستيراد والتصدير ذوو الشأن مسلمين، وكانوا يتمتعون بالإقامة الدائمة ولهم ممثلوهم في مدن تشانگئان وتشانجو وخانگجو وكايفنگ ويانگجو وگوانگجو وربما غيرها من المدن الأخرى. كانت تجارتهم تشمل سلعا مختلفة وكان عددهم غير قليل. فمثلا قتل جنود تيان شنگونگ الآلاف من المسلمين العرب الجاشي والفرس البوسي في مدينة تسانگجو خلال معركة التانگ ضد الثوار المحليين. ويقول المؤلف إن المصادر العربية تشير الى انه عندما سيطر جيش المتمردين بقيادة تشاو خوانگ على مدينة گوانگجو عام 879 فإنه قام بإهراق دم عشرات الالاف من التجار الأجانب، أغلبهم من المسلمين.
كانت الحارات التي يسكنها المسلمون تُسمى "حارات الأجانب" (بالصينية فانگ فانگ)، وكان ذلك يمثل نوعا من المساومة التي فُرضت عليهم. كان على المسلمين في تلك المناطق أن يخضعوا لسلطة محاكم اسلامية إذا ما اقترفوا ذنبا ضد المسلمين الآخرين، وكان القاضي مُعترفا به من قبل الدولة. أصبح القليل من المسلمين قبل نهاية فترة السونگ مواطنين عاديين. ولكن حسب رأي المؤلف فإنهم من جهة والحكومة من جهة أخرى لم يكونوا راغبين حقا في هذا التبادل الثقافي والتكيف.
سمحت سلطة السونگ للمقيمين بأن يلبسوا ويأكلوا ويؤدوا صلواتهم كما يحبون.كما تركت لهم أن يحافظوا على لغتهم، شرط أن يتعلموا الصينية ويستخدموها في ميداني العمل والتجارة. كما تُرك لهم أن يمارسوا طقوسهم وشعائرهم شرط ألا يقوموا بالتبشير لدينهم. وتمكن عدد قليل من هؤلاء المقيمين ممن حصل على ثقافة كلاسيكية من الحصول على وظائف لتدوين تاريخ الإمبراطورية، وحصل واحد منهم فقط على شهادة قانونية امبراطورية! وحتى منتصف حكم سلالة السونگ اعتبر جميع المسلمين انفسهم في نظر الصينيين مقيمين بشكل مؤقت ولا يتمتعون بحق الإقامة الدائمة.
في أواخر القرن الثاني عشر تقريبا، كان بعض المسلمين يعيشون في الصين لعدة أجيال واستطاعوا أن يشغلوا مواقع هامة. كان من بين المولودين لعائلات أجنبية، أو ما يسمى ووشي فانكي (الجيل الخامس لوالدين أجانب) ممن سُمح لهم بالزواج من الصينيات وأن يشتروا أراضي لغرض بناء المساجد أو استخدامها كمقابر في مدن الثغور. سمحت سلالة السونگ في جنوب البلاد (1127- 1279) للتجار الأجانب تولي مناصب رسمية، إذا كانت عائلاتهم قد عاشت في البلاد لثلاثة أجيال. كما سُمح للأجنبي أن يتزوج احدى أميرات القصر الإمبراطوري إذا كان هو أو أحد أفراد عائلته قد حصل على منصب حكومي عالٍ!
يضيف المؤلف أن التجار العرب والفرس هم الذين ادخلوا التكنولوجيا الى الصين مثل تصنيع الأقطان وصناعة الزجاج، وانهم أخذوا عنها مهارات صناعة الخزف والورق ونقلوها الى الشرق الأوسط. كما تمت عمليات أكثر تعقيدا ولم تحظ بالتغطية خصوصا ما كان يتعلق منها بالطب. فقد جلب الفرس والعرب العقاقير الطبية الى البلاد وساهموا في تطوير أساليب الشفاء والصيدلة.
جلبت قوة التحول الحضاري في القرن الثالث عشر تحت ظروف الحكم المغولي (1279 – 1368) الى الصين مدّا من المسلمين ذوي المهن المختلفة والثقافات المتعددة، ليس فقط كتجار ورجال أعمال بل كقضاة ومعماريين وعلماء وحرفيين ومزارعين. ولكي يبسطوا نفوذهم على المناطق المفتوحة قام أوگدي ومونگي وقُبلاي بتأسيس ادارات ثانوية جديدة واستثنوا الصينيين منها. كما أسسوا اتحادات للتجار سموها السيمو گوان. ومن الجدير بالذكر أن ماركو پولو الكاثوليكي القادم من فيينا أصبح واحدا من المسؤولين، لكن أغلبهم كانوا مسلمين من وسط آسيا وغربها.
لقد أنيطت بهم مهام حفظ السلام وجمع الضرائب وتوزيع البضائع، الأمر الذي جلب على هؤلاء الأجانب شهرة بغيضة اخلاقيا بين صفوف الصينيين. غير انهم استطاعوا من تثبيت اقدامهم كمقيمين دائميين. ولكي يضمنوا لأنفسهم وللسيمو المناصب العليا قام أمراء اليوآن بتولي مناصب الحكام المحليين. وكذلك حظي عدد من المسلمين باشغال وظائف بدرجة وزير خلال فترة حكم اليوآن المبكرة، تميز منهم السيد آجال شمس الدين (بالصينية سي ديانتشي) الذي سمح له منصبه كحاكم لمقاطعة يوننان بعد أن شغل مناصب عليا قبلها، أن يُثبّت وجود المسلمين الدائم في جنوب غربي الصين.
إستطاع المسلمون أن يبسطوا نفوذهم على الميدانين الأكاديمي والإقتصادي داخل بيروقراطية اليوآن. فالدوائر المسؤولة عن اختصاصات الفلك والطب وصناعة الأسلحة، خاصة المنجنيق وأسلحة الحصار الأخرى، واللغات الأجنبية، كان على رأسها عدد من العلماء والتقنيين المسلمين. فالفارسي جمال الدين مثلا قد أحضر التصاميم لأحدث أدوات علم الفلك من بلاد فارس، وقام في العاصمة بكين بتأسيس أول مرصد فلكي لمراقبة الأجرام السماوية. فأصبح بذلك العالم المفضل لدى القُبلاي لما يتعلق بأمور التقويم السنوي. أضحى علماء الفلك المسلمين، خاصة الفرس، جزء من حياة البلاط منذ أواخر القرن الثالث عشر حتى أفول نجمهم بوصول المبشرين اليسوعيين بعد ثلاثة قرون. حين جاء هؤلاء كان فكرهم محملا بذكريات هزائم الحروب الصليبية، فعززوا الصور النمطية الكريهة عن المسلمين. كما يتوجب القول، ثمة تلك الأمثولة القديمة، المتكررة والمكرورة، عن الكيل بمكيالين. فالكنيسة اعتذرت، في مناسبات شتى، عن مواقف الصمت أو التواطؤ أو المباركة الضمنية، التي اتخذتها بعض المؤسسات إزاء بعض الجرائم. ولكنها ما تزال تلتزم الصمت المطبق إزاء عمليات الإبادة الجماعية التي مارسها الفاتحون الإسبان ضدّ الأقوام المختلفة الأصلية الأمريكية وسط لامبالاة الكنيسة، ولكن أيضاً وسط مباركتها للمذابح في أمثلة عديدة. والتاريخ يسجّل أنّ المبشّر ورجل الدين كان العمود الرابع في تنفيذ الفتح، بعد الملاّح، والكاتب المؤرّخ، والفاتح العسكري. في كتابه الشهير "دموع الهندي"، يشرح الأب الدومينيكاني بارتولوميو لاس كاساس الفظائع الرهيبة التي سكت عنها الآباء والمبشّرون، بل شجّعوها تحت دعوى التنصير الإجباري لتلك "الأقوام الهمجية". وفي موازاة دفاع الأب لاس كاساس عن المساواة بين البشر، اندفع الفقيه الإسباني خوان دي سيبولفيدا، فدافع عن التمييز الصريح بين البشر، وتساءل بوقاحة: "كيف يمكن لأحد أن يعتبر غزوهم، وإبادتهم في حالة الضرورة، أمراً غير مبرر وهم على ما هم عليه من همجية وبربرية ووثنية وكفر ودعارة؟"
خلال الغزو الناجح لشمال الصين على يد جيش قوامه من المغول والسيمو الصينيين، استطاع رجلان مسلمان بناء منجنيق، الأمر الذي مكّن المغول من السيطرة على شيانگيانگ ثم خينان، التي تُسمى الآن خوبي. وفي عاصمة سلالة اليوآن تمّ تأسيس كليات لتدريس اللغة الفارسية وغيرها من لغات آسيا الوسطى. وكغيرهم من الإجانب المقيمين بشكل مؤقت خلال فترات حكم السلالات السابقة، فإن السيمو والأورتاق من المسلمين في عهد اليوآن كانوا يرومون البقاء في الصين. وبعد مرور جيلين أو ثلاثة تعلموا اللغة الصينية وأصبحوا معروفين بجودة أسلوبهم عند الكتابة بها. وبرز من بينهم عدد من الشعراء والرسامين والموظفين المدنيين الذين أجادوا اتباع تعاليم كونفوشيوس واحتلوا مكانتهم في النشاط الثقافي منذ منتصف فترة اليوآن حتى نهايتها. وحتى الحرفيين الذين تمّ جلبهم من وسط آسيا استقروا في مناطق قريبة من سكنى الصينيين ولكن على شكل مدن أو مستوطنات "مختلفة". وبغض النظر عمّا إذا كانوا قد درسوا تعاليم كونفوشيوس بشكل كلاسيكي أم لا، فإن عددا كبيرا من المسلمين الذين عاشوا في الصين كان لهم من التصميم ما دفعهم لخدمة السلالة المغولية من خلال المهن والوظائف المتنوعة، وهي التي مهدت الأجيال القادمة منهم لاستيعاب الثقافة الصينية والتشرب بها.
ومن الغريب قول المؤلف إن كل من أرخ لفترة اليوآن، وصف المسلمين بأنهم يفتقدون الى النواميس الأخلاقية وآداب السلوك ويتصفون بالقذارة. فاستنادا الى ما صرح به تسانگ "إن للخيويخيوي رائحة كريهة جدا حتى لو استحم." هذا وكان تاو قد أشار الى قصيدة هجاء جاء فيها "إن انوف فيالهم أصبحت مفلطحة وعيون قططهم توحي بالغباء وكل آمالهم بحياة طويلة قد ذهبت أدراج الرياح .... ياللأسف! عندما تسقط الأشجار تتبعثر القردة،" لكي يوضح مصير مسلمي السيمو الهمج عند اندحار أسيادهم المغول الذي ما كان منه مفرّ. وهنا نجد مرة أخرى أن المسلمين يشار اليهم بأنهم الآخرون الذين لا رجاء في إصلاحهم، ليس وفق نزعة الخير الكونفوشية نحو الكائنات الأقلّ درجة، بل تعبيرا عن نفس من العنصرية الواضحة. كما نجد اقوالا تدل على السخرية من قبيل انهم لا يمكن أن يكونوا أندادا لنا لأنهم غير قادرين على استيعاب ونخوا (الثقافة الأدبية الصينية)! ومن الجدير بالذكر ان مثل هذه الأحكام قد ازدادت قسوة بتزايد اعداد المسلمين الذين تشبعوا بالثقافة الصينية.
إن وجود المسلمين- رغم قلة عددهم تحت قيادة عسكريين غير مسلمين- في الجيوش الصينية التي دحرت المغول ودفعت بهم شمالا كان نذيرا بتغير تدريجي ملحوظ في ظروف المسلمين في أواخر فترة اليوآن وبعدها المنگ في الصين. فالأجانب الذين كانوا يُسمّون فنكه ثم سيمو أصبحوا الآن خيويخيوي، غرباء مألوفين جاءوا اليوم ومكثوا للغد ثم أصبحوا مواطنين عاديين ولكنهم مختلفون. ساور القادة الجدد بعض القلق حول العلاقة بالناس والولايات التي تمتد على طول الحدود الشمالية والغربية. حاول حكام المنگ (1368 – 1644) أن يؤثروا على تثقيف المقيمين "الأجانب" نتيجة خوفهم من الآخرين وثقتهم بقوة الحضارة الصينية وقدرتها على التأثير. فالجنرال جو يوانجانگ قد ضمّ الى قيادة جيشه عددا من الضباط المسلمين وربما قد تكون له زوجة مسلمة. غير أن السلالة التي أنشأها لم تؤثر أولا على مواطنيها من المسلمين ثقافيا، وثانيا لم تقض على التمييز ضد المسلمين في الصين.
وظف أباطرة المنگ بعض المسلمين في مواقع عالية منها عدد كبير من العلماء في مختلف المؤسسات الحكومية التي تعنى بشؤون التنجيم والتقويم السنوي وتفسير الشواهد. ونظرا لنجاح جمال الدين مثلا وخدمته تحت عدد من امراء اليوآن فإن مكتب الفلك كان فيه قسم خاص لدراسة التقويم العلمي الإسلامي وكتاب علم النجوم الإسلامي اللذين حافظا على وجودهما. وإضافة الى تعيين وحدات عمل علمية "إسلامية"، فإن العلماء من مسلمي الصين قد اشاروا الى الأصول الإسلامية لعدد من مسئولي المنگ الكبار والمفكرين المشهورين من أمثال خاي روي وما ونشنگ وما تشيانگ والأديب الكبير لي جي الذي يعود اصله الى محافظة تشوانجو. إن ذكر مثل هذه المنجزات يمكن أن يثير في انفسنا الشك بأن نعد مثل هؤلاء مسلمين أو تعتبر القضية برمتها مسألة دينية لأن الحكم بحد ذاته راجع الى أسماء الأشخاص أو أصولهم التي انحدروا منها، أو في الحقيقة اعتبار الخيوي جزء من هيكل المنتسو. إن الكثير من هؤلاء الرجال، خاصة لي جي، لم يترك اشارة الى اصولهم كمسلمين ولم يكن الدين موضوعا مذكورا في كتاباتهم ولا في سير حياتهم الشخصية. ولذلك فإن نسبة صفة الخيوي قد أظهرت في القرن العشرين ادعاء يشير الى مفارقة تاريخية تظهر رغبة الطبقة العليا في فترة المنگ لربط انفسهم بالمتدينين وبالذين اظهروا تشبعهم بالثقافة الصينية.
لم تضع امبراطورية المنگ قيودا على الإسلام، ولكنها كانت تشكّ أن يتحول المسلمون الى طابور خامس محتمل يعمل لمصلحة الغزاة القادمين من وسط آسيا. كما تمّ اتهام المسلمين بأنهم "يحاولون التحايل على الأنظمة التجارية قصد عدم دفع الضرائب، أو التخطيط لمهاجمة المستوطنات في مناطق الحدود الصينية." ولذلك فهم يمثلون خطرا داخليا. أما المسلمون خارج الصين فإنهم کانوا يسعون الى توطيد علاقاتهم على جانبي حدود دولة المنگ مع آسيا الوسطى.
ومع ذلك فقد تمّ تعيين قائد مسلم للأسطول البحري الصيني. إن قوة السلطة التي تمتعت بها الصين بفعل قيادة جنگ خي في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي وصولا الى البحر الأحمر قد جلبت للصين والبلاط ثروة طائلة وموارد متنوعة وسلعا نادرة وحيوانات غريبة. وأكثر أهمية من ذلك، فإن الحملات البحرية قد خلقت في داخل الصين شعورا عميقا في شرعية حكم الإمبراطور يونگل. أرسل الحكام الأجانب، بما فيهم العرب والفرس على امتداد طرق التجارة، ممثليهم الى بلاط الإمبراطور في نانجينگ ثم بكين، التي جعلها يونگل عاصمة للبلاد عام 1421، وهم محملين بالهدايا الغالية مقابل استلام "الخمس" من المسلمين. وبالإضافة الى الثروة والأشياء الغريبة التي عادت بها حملات جنگ خي، فقد حملت معها المعرفة والإقتناع بأن أعدادا هائلة من سكان العالم يؤمنون بديانة الخيويخيوي. إن الإنطباعات الثانوية عن جنوب آسيا وغربها، التي سجلها المسؤولون في فترتي حكم سلالة التانگ، قد حلت محلها تقارير اصلية كتبها رجال صينيون ممن سافروا حقا الى تلك المناطق وتاجروا وتفاوضوا واشتركوا في حروب تبعد عن سواحل الصين. لقد وجدوا أن المسلمين يعيشون في مناطق تمتد من مدينة تشوانجو الى مدينة عدن، بل أبعد من ذلك. وأدى بحارة حملات جنگ مناسك الحج في مكة وكتبوا وصفا للكعبة وقبر النبي محمد وبئر زمزم وغيرها من الأماكن المقدسة عند المسلمين.
أما الزواج فكان يعني دائما أن يتزوج الرجال المسلمون من نساء صينيات تحولن الى الإسلام واصبحن عضوات في المجتمع المسلم. ونادرا ما كان يُسمح بزواج المرأة المسلمة من رجل غير مسلم لأن الشريعة والضغط الإجتماعي يمنعان "خسارة" امرأة لكي تقترن بشخص "خارجي". كما سُمح للمسلمين بتبني الأطفال وكان للنساء المسلمات الصينيات دور كبير في دفع عملية التشبع الثقافي. وهذا بالضبط ما نوته حكومة المنگ بجعل الصينية لغة الحوار في بيوت المسلمين في الصين. وكانت العملية الثالثة متمثلة بتحول الصينيين الراشدين الى الإسلام الذي زاد من عدد المسلمين كما زاد في التداخل الإثني في مكونات المجتمع الصيني. لا بدّ من الإشارة الى أن عملية تحول الرجال الى الإسلام لم تكن بقوة حركتي الزواج والتبني. كان دافع بعض أولئك الرجال هو زيادة فرص نجاحهم في التجارة في بعض المناطق التي تسكنها أغلبية مسلمة، وكذلك الإنتفاع عن طريق الإنضمام الى شبكة التجار والقوافل التجارية. وهكذا أصبح الصينيون مسلمين وانضموا الى طبقة الخيويخيوي. وتجدر الإشارة الى أن آخر عوائل المنگ المسلمة قد دونت ان نسبها القبلي يعود الى كونفوشيوس من أجل تكريم اسلافهم على الطريقة الصينية. وبلا شكّ فإن مثل هذه الوثائق توضح تشبع المسلمين بالثقافة الصينية ووصول علاقتهم بالعالم الإسلامي خارج الصين الى الحضيض.
رغم أن المسلمين قد عاشوا في الصين منذ أيام التانگ وأن الكثير منهم أصبحوا مفكرين مرموقين في الثقافة الصينية، ألا انه لا أحد منهم قد كتب نصا إسلاميا واحد بلغته الأمّ، الصينية. قد يبدو هذا الأمر مريبا وغريبا في نفس الوقت انه بعد ثمانية أو تسعة قرون من وجودهم هناك لم يُكتب نصّ واحد على الإطلاق! بقيت الفارسية والعربية دون استثناء اللغتين الفاعلتين في الدين الإسلامي. ولذلك فإن القيام بكتابة نصّ بلغة اخرى كان يتطلب شجاعة شخصية وروحا خلاقة للقيام بتلك المهمة. وخلال الفترة الوسطى من حكم المنگ حتى نهايته كان القلق حول امكانية استمرار الإسلام كدين في الصين قد بلغ أوجه، وخلق للنخبة منهم الظروف المواتية لسبر غور تلك المهمة على أن يكون من يقوم بها قد وصل الى قدر من الكفاءة اللغوية في كلتي اللغتين ليكون بمقدوره ترجمة النصوص والأفكار والحكم. غير أن ذلك لم يكن متوفرا في المدن الشرقية في مقاطعة يوننان.
منذ بداية تولي السلطة على الصين، حاول حكام سلالة التشينگ (1644 -1912 ) أن يبسطوا نفوذهم على التجار في طرفان وهامي لكي يتعاملوا مع عدد من التجار الصينيين الذين يتم اختيارهم من قبل المسئولين في منطقتي لانجو أو بكين. كما حاول الحكام المنشوريون إعادة العمل بتجارة الخيول مقابل الشاي التي احتكرتها دولة المنگ منذ بداية حتى أواسط فترة حكمها. قوبلت مثل هذه التدخلات في شؤون تجارة آسيا الوسطى بسخط التجار في شمال غرب البلاد وزادت من تردي الوضع الإقتصادي ودفعت بعض المسلمين لاستخدام العنف، خاصة في منطقة ممر گانسو وهو حلقة طرق المواصلات بين گانسو وتركستان. لربما كان المسلمون على علم بأن الحكم المنشوري يواجه مقاومة في كل ارجاء الصين، الأمر الذي أدى الى تبعثر قواته العسكرية، وهو الذي دفعهم ليستغلوا ذلك لصالحهم.
إن تهدئة الوضع كان يجب أن يُخطط لها كي لا تتكرر أعمال العنف، غير أن معالجة مشاكل العامة ومكافأة القوات المؤيدة التي أبدت بسالة في القتال لا يمكن أن تحلّ مشاكل السيطرة المبالغ فيها على النشاطات التجارية والفقر التي كانت وراء قيام الإنتفاضات أصلا. إن جيشي ميلاين ودنگ گودونگ لم يضما ثوارا مسلمين فقط، بل كان معهم آخرون من الصينيين والتبتيين. غير أن عملية التهدئة التي قام بها المسؤولون قد أفردت المسلمين باعتبارهم عنيفين بالفطرة. وكما أن اقتراح خو بي، وهو مسؤول مدني، قد جسد سياسة التمييز العنصري ضد المسلمين دون سواهم من الآخرين، مما ترك لتلك السياسة أثرا بعيدا لأنهم متوحشون بطبيعتهم ولا بد من "ترويضهم" عن طريق اخضاعهم لعملية "التدجين" السلمية! وافق البلاط على قبول هذا الرأي فأقرّ سياسة توطين المسلمين في ممر گانسو بعيداعن المدن والحاميات العسكرية. وإضافة الى ذلك قُطعت التجارة مع مدينة هامي لمدة خمس سنوات، وحتى اللحظة التي أرسل فيها حاكم المدينة مبعوثا يعتذر عن دورها في التمرد. إن سقوط المنگ المنغوليين وانتصار التشينگ المنشوريين لم يغير واقع المجتمع المسلم ويجعله خاضعا أو متكيفا. كان للبعض منهم أصدقاء في هامي وكانوا على استعداد للقتال الى جانبهم. ومن المثير للسخرية أنه برغم التعميمات السلبية عنهم، فإن المسلمين قاتلوا كصينيين تأييدا لمنگ كان يطالب بالحصول على العرش الإمبراطوري في بكين.
بحلول منتصف القرن الثامن عشر جاءت من وسط آسيا تشكيلات دينية واجتماعية جديدة متمثلة بالطريقة الصوفية التي حركت اهتماما قويا بالنشاطات السياسية والقوانين الإسلامية وتضامن المجتمع مع الإبقاء على روح التنافس التي يسمح بها الدين. وهكذا وعن طريق دمج نفسها بالأفكار الصينية حول التوريث اجتماعيا وفكريا، أصبح للمينخوان الصوفية مؤسسات اقتصادية نشطة. إن مجيء الصوفية من الغرب قد عزز روابط مسلمي گانسو مع مراكز دينهم في مناطق وسط وغرب آسيا، فتوسعوا في بناء المساجد والمقامات والمزارات والزوايا الصوفية. غير أن تكيفهم قد حصل ضمن اطار ثقافي صيني الهوية. وخلال فترة حكم التشينگ تعرضت المنطقة الى ضغط قادم من المدن الكبيرة الواقعة شرق البلاد حيث توجد تيارات قوية نامية لشد ارتباط هوية المسلمين بأرضهم الصينية لغويا وفكريا وثقافيا.
كانت هناك محاولات للتوفيق بين الإسلام والكونفوشية بقصد اقناع الصين ان الإسلام ليس خطرا يهددهم. يقول ليو جي في مقدمة كتابه تيانفانگ ديانلي "إن أساليب الخوي (الإسلام) ورو (الكونفوشية) تأتي من نفس المنبع، وإن مبادئ كل منهما تتشابه مع الآخر." ولأنه يعرف جيدا تأكيد الكونفوشية على الناموس الأخلاقي ويعرف أن نصوصه الإسلامية تركز بشكل شديد على اللاهوت والعلاقة بين الإنسان والخالق، فإن ليو قسّم الداوية الى قسمين وادعى أن الإسلام قد وضّح تياندو (الطريق الى الجنة) في حين أن راندو (طريق الإنسانية) يمكن أن يوجد في كتب الكونفوشية وممارسات اتباعها. ومثله مثل وانگ دايّو، قال ليو جي إن فروض الإسلام الخمسة موازية للمبادئ الصينية الخمسة، التي تشكل أساس المبادئ الأخلاقية للكونفوشية. وعن طريق خلق هذا التوازي الأخلاقي، وضع ليو جي الإسلام والكونفوشية على قدم المساواة، إذ قال، "إن الكتاب المقدس ... هو الكتاب المقدس لدى المسلمين، لكن مبدأ Li هو نفس المبدأ الذي يوجد في كل مكان تحت الشمس. تنتقل الفصول الغنية لكتاب تيانفانگ ديانلي من النظري الى الفلكي ثم الى الواقعي، وذلك في الأقسام حول التعاليم الأصلية الى حقيقة الفروض الخمسة والعلاقات الخمسة وصلاة الجمعة ودورة الحياة. غالبا ما انتـُـقِد الكتابُ من قبل علماء المسلمين وغير المسلمين واعتبروه متأثرا جدا بالكونفوشية وشديد الإسترضاء لهيمنة الفلسفة الصينية. ويقول المؤلف أن ليو نحا منحى وسطا بين الدفاع المستميت عن الإسلام الفريد في طبيعته، وكتابات بعض العلماء المُتشبعين بالثقافة الصينية من العائلات التي كانت مسلمة في السابق، والتي لا يمكن تمييزها عن كتابات غير المسلمين.
عندما وصلت الصوفية الى الصين أول مرة، عارض المسلمون المحليون تلك الموجة الجديدة التي تقوم على التأمل وتنحو نحو طريقة سرية لا يمكن مقارنتها بديانتهم الإسلامية التقليدية التي يسمونها القديمو. غير ان البعثات التبشيرية الصوفية من وسط آسيا والصين بقيادة شيوخ مثل هداية الله وما لايتشر وما منگشين والخوجه عبد الله كانت لهم امتيازات رمزية وشخصيات قوية وأنهم جاءوا أو درسوا في قلب أرض الإسلام. درس أغلبهم في مكة وادعى اثنان منهما على الأقل بأنهما من سلالة النبي محمد، وهما الأمران اللذان ضمنا لهم مكانة خاصة بين المجتمعات الإسلامية في امبراطورية التشينگ. كانوا يجيدون العربية والفارسية اللتين لم يجيدهما رجال الدين القديمو، لأن ثقافتهم وتحصيلهم انحصرا على المدارس المحلية. إن تملك الصوفية لمصادر "نقية" من غرب آسيا، وإن قدرتهم على ترجمة تلك المصادر قد أضافتا الى تأثيرهم على الذين تحولوا الى الطرائق الصوفية. كما أن البعض منهم كان ميالا الى الإنتقال من مكان الى آخر مما زاد في تحول الناس الى طرائقهم عن طريق الإتصال المباشر أو الأصوات العالية "لزخرفة" هذا التيار الديني وانتقاله بين الناس كانتشار الإشاعات!
غيرت الصوفية شخصيتها خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر على امتداد العالم الإسلامي. امتدت حركات التجديد من غرب افريقيا الى الصين ودعت الى تنقية الإسلام مما علق به من الأمور الثقافية نتيجة المفاسد الإجتماعية والإقتصادية والدينية التي يمكن أن تكون قد تمّت في صفوف الحركة الصوفية. وعندما يُهيمن الإسلام السياسي، أي التدين الحزبي على اختلاف عناوينه، ليس لديه أكثر من الطائفية يطلقها فهي الأخصب لإيجاد حزب ديني. وفي العديد من الأقطار الآسيوية كانت النقشبندية في طليعة هذه الحركة الجديدة. وصلت حركة التجديد الصوفية الى شمال غرب الصين في شخص عزيز ما منگشين (1719 – 1781) صاحب الجهرية، وهو نقشبندي من گانسو والذي حاله حال ما لايتشير صاحب الخفية، درس في مكة واليمن لعدة سنوات.
من أشد الصراعات تقسيما، هي التي دامت مدة طويلة وأدت الى خسائر فادحة بين صفوف المسلمين في شمال غرب البلاد. لم تكن الصراعات بين الطرائق الصوفية والقديمو، بل كانت بين الخفية والجهرية، متمثلة في صراع شخصي بين قائديهما اللذين كان كل منهما يدعو مسلمي گانسو الى اتباع خطاه. كان المسلمون هناك يستمعون الى رسالتين مختلفتين تدعوان لممارسة شعائر مختلفة عن بعضها البعض وتتبنيان مفاهيم اجتماعية وسياسية متغايرة. فأتباع الصوفية الخفية إدعوا أن الجهرية تمارس شعائر خرافية على حافة اللأخلاقية، خاصة في حلقات الذكر وما فيها من الرقص الإيقاعي الصاخب. كما اهتمت الجهرية بتثقيف المرأة في وقت كانت فيه المؤسسة الدينية المتشددة اجمالا تناهض حقوق المراة في مجتمع يتمسك بقيم اجتماعية محافظة جدا. ومن جهة اخرى انتقد ما منگشين التبرعات العالية التي كان يطالب بها اتباع ما لايتشر مقابل خدماتهم الدينية وتأكيدهم على فرض المهابة والوقار على قبور الأولياء وجعلهم مشيخة الخفية قضية وراثية. إحتلت هذه القضية موقعا رئيسيا بدأ من ما لايتشر نفسه الذي أحلّ البركة وأجاز نقلها من الآباء الى الأبناء، وهي مسألة كانت لها اهميتها الإقتصادية والإجتماعية. قاد موضوع الوراثة الى ما سُميّ مينخوان، واصبح ما لا يتشر هواسي هو أول مينخوان.
يقول مؤلف الكتاب "وهكذا أمكننا أن نجد اتجاها نحو نزعة المجابهة العسكرية عند ما منگشين وجماعة الجهرية من جهة، وإذعان ما لايتشر وجماعة الخفية من جهة اخرى، في وجه القوة العسكرية الجبارة لحكومة التشينگ ونفوذها السياسي." ومن هذا يبدو تقبل الخفية للأمر الواقع حين اعترفت بالسيطرة الجلية لسلالة التشينگ، ووجدت فيها فرصة للإزدهار، في حين طالبت الجهرية بالإصلاح وتجديد الإسلام للوقوف في وجه اجتياح تلك السلالة، التي عنت السيطرة الكاملة لغير المسلمين. فبدأت حرب ضروس استمرت مدة قرن ونصف.
يذكرنا المؤلف بقسوة المسلمين على بعضهم البعض ويورد على ذلك مثالا حين وقعت قوات تانگ يانخي في الفخ وتمّ دحرها في شوانگتشنگ. هرب الضابطان المسلمان الأخوان ما فولو وما فوشيانگ جنوبا بصحبة قائدهما، ثم رجعوا جميعا الى لانجو. قام يانگ تشانگجون بتكريمهما لإخلاصهما المتفاني للإمبراطور، وتمّ ارسالهما الى خيجو برفقة الجنرال دونگ فيوشانگ. حصل الإثنان على المديح من الجنرال لنجاحهما في استعادة المناطق القريبة من مدينتهم ولمساهمتهما في ايقاع المذابح التي حلت بالمسلمين في ماينگ وميلاگو ومدن خيجو الأخرى، إذ قدما لقادتهما سلالا ملأى بالآلاف من رؤوس ضحاياهم من المسلمين وآذانهم! واستنادا الى تقرير نُسب الى مصادر ما تونگ أن مسلمي خيجو قالوا عن ولدي تشيانلينگ إن مركزي ما فولو وأخيه ما فوشيانگ قد بُنيا بجماجم المسلمين، وإن قبعة ما أنليانگ الحمراء قد صُبغت بدماء المسلمين!
كما يورد المؤلف مثالا آخر عندما تمكن ما يونگلين من المناورة وعبور نهر تاو في مطلع شهر أغسطس. لكن تقدمه أوقف بسهولة على يد فرقة من فرسان جيش التشينگ بقيادة المسلم ما أنليانگ الذي صمد في الميدان وقاد هجوما معاكسا متوجها الى خيجو. ورغم أن ما أنليانگ كان يكن شعورا للتضامن مع المسلمين الآخرين، لكن ذلك لا يشمل قطعا ما يونگلين الذي فعل ما فعله في قاعدة ما أنليانگ الرئيسية. من الواضح أن دوافعه كانت بقصد الإنتقام. قامت كتيبة الفرسان بقيادة ما أنليانگ بدحر مقاومة المسلمين عند سفوح جبال أوشهارت وكسرت بعد اسبوع من القتال العنيف الحصار المفروض على خيجو وحررت المدينة بتاريخ 4 ديسمبر. تمّ القاء القبض على 400 من قادة المسلمين وجرى اعدامهم على وجه السرعة. أعدم ما ويخان قائد قوات المفتي في ديداو بصحبة ما جانئوالمساعد السابق لجو تيشي، وابيدت أسرة ما يونگلين بكاملها. وهكذا انتهت انتفاضة خيجو، التي كلفت عشرات الآلاف من الأرواح وجلبت الخراب والدمار على بافانگ، بانتصار كامل لدولة التشينگ. وما دام القائد المسلم ما أنليانگ في موقع المسؤولية فإن باستطاعة الإمبراطورية أن تنعم باستتباب سلطتها على جنوب گانسو للمدة المتبقية من حكمها والبالغة 15 عاما.
من مفارقات القدر أنه تدخلت بعض الأمور الأساسية التي لولاها لكانت حركة ما وانفو الأصولية المتمثلة بالإخوان المسلمين قد عاشت لوقت قصير في شمال غرب الصين. كان ما تشي واحدا من الجنرالات المسلمين الذين تحالفوا لبعض الوقت مع ما أنليانگ لغرض تأسيس قاعدة مستقلة له في شينينگ التي تقع على حافة التقاء الثقافة الصينية مع ثقافة التبت على الطريق الحيوي الموصل بين منغوليا والتبت. وبعد سقوط امبراطورية التشينگ، تمكن ما تشي من بسط نفوذه على شينينگ وبدأ يبني نفوذ عائلته المتمثل بالقوة والثروة في تلك المنطقة المعزولة المعروفة بغناها النسبي. وبالرغم من نجاحاته، لم يكن ما تشي ندّا مساويا لقوة ما أنليانگ العسكرية ولا علاقاته الدينية والسياسية. لكن ما تشي وجد الفرصة مواتية للإستفادة من نفوذ الإخوان والإستعانة بهم لمنافسة ما أنليانگ ومينخوان خواسي التابع له.
أرسل ما تشي قوة عسكرية عبر ممر بياندو باتجاه الطريق العام، وتمكن أفرادها من السيطرة على حرس الإخوان وجلبوا قائدهم ما وانفوالى شينينگ، حيث قضى بقية حياته معتمدا على حماية ما تشي ومن خلفَهُ. ومن جهته أعلن ما تشي أن مبادئ الإخوان المسلمين هي مبادءه. فمثلا أصدر أوامر مشددة ضد الأفيون وأضعف نفوذ المينخوان في المنطقة. غير انه لم يتقبل برنامج ما وانفو بأن يعزل المسلمين عن المجتمع الصيني. استمر في المشاركة في النظام العسكري الصيني مما خلق له الحلفاء والأعداء بين الجنرالات المسلمين وغير المسلمين، كما انه شارك في حركة الصراع الوطني في البلاد خلال الفترة من 1916 - 1930. وهكذا يتبين أن ما تشي بدأ عملية تغيير الإخوان المسلمين من حركة أصولية راديكالية الى جماعة لا تتبنى التفريق والعزلة وتركز على انها حركة إصلاح صينية.
ومع أن حركة الإخوان قد استرعت انتباه رجال الدين الراغبين في اعادة النظر في النصوص الدينية، الا انها لم تنجح في تغيير مشاعر ولاء المسلمين لمؤسساتهم القائمة. وحتى بين صفوف القديمو في شانشي حيث أمضى ما وانفو السنوات العديدة يعمل بينهم، لم تصبح المنطقة مركزا للحركة الأصولية. لم ينجح الإخوان الأصوليون الى أية درجة تُذكر في المجتمعات التي تعتبر نفسها صينية محترمة، وأن أغلب المجتمعات المسلمة في شمال غرب البلاد لم تكن ترغب أو تريد الظهور بأنها غير صينية. أضف الى ذلك أن شبكة نشاطات المينخوان القائمة لعدد من القرون وفق أفكار القديمو كانت تتمتع بالقوة بين صفوف المسلمين الصينيين. إن قيادة رجال مثل ما أنليانگ وما تشي قد أرسيَت على قدرتهم على حماية مجتمعاتهم من تسلط دولة التشينگ ومن العنف الذي ارتكبه اخوانهم في الدين ضدهم ومن العنف المتولد من عداوات الجماعات الأثنية الأخرى مثل التبتيين والصينيين غير المسلمين. لم يستطع ما وانفو ولا مريدوه أن يحلوا محل أولئك القادة المعروفين مما اضطرهم الى الإنخراط تحت راية ما تشي ودعوته للسلطة المدنية بدلا من السلطة الدينية من أجل حماية أهدافه ونفوذه. كان لا بدّ لهم من الإبتعاد عن الشعارات التي تدعو الى العزلة، وأن يساندوا برنامجا ذا طبيعة محافظة. وعندما تمّ لهم ما أرادوا، وجد الإخوان أن من مصلحتهم أن يدعوا الى وحدة المسلمين التي أصبحت أكثر وضوحا. وعلى الطرف الآخر وبسبب العداوات المتواجدة بين المينخوان ضد بعضهم البعض، فإنهم عجزوا عن تحقيق توحيد المسلمين، وأن مساجد القديمو كان ينقصها ارساء العلاقات وتطويرها بين الجماعات المسلمة. وهكذا استطاع الإخوان أن يسدّوا الفراغ في حياة مسلمي الصين بعد عام 1917 ليدعوهم للتوحيد والتضامن. وبفضل ذلك اختفت تدريجيا دعوتهم لعزلة المسلمين عن واقعهم الحياتي. كان نجاح ما تشي للإستعانة بالإخوان ودفع برنامجهم للتوحيد بدون الإنفصال قد اقنع عائلة ما فوشيانگ في نينگشيا من الإنضمام اليه بهدف الإستفادة من الدعوة لوحدة المسلمين. ورغم انهم استمروا في عضوية مينخوان العائلة الأصلي فإن ما فوشيانگ وابنه ما خونگكوي وإبن أخيه ما خونگين قد عملوا على مساعدة انتشار فكر الإخوان في مناطقهم التي تمتد من صحراء منغوليا حتى وادي نهر وي.
هنالك تعليق للكاتب علاء الأسواني نُشر حديثا فحواه، أن المجموعات الدينية تتأثر بالأوضاع السياسية السائدة في بعض البلدان. ولا يُعتبر الاضطهاد الديني نتيجة للرؤى الدينية المغالية فقط، بل ينتج كذلك عن أنظمة سياسية تصادر الحريات الدينية وتضطهد الأديان المخالفة للتوجه الرسمي. والصين بتقديري هي النموذج الأمثل لمثل هذا الموقف. عندما تفرغ من قراءة هذا الكتاب ستصل الى استنتاج يتلخص في أن تكون مسلماً فى الصين معناه أن تدرك مبكرا أنك مختلف ومتخلف في آن واحد. أنت قبيح وشرير ولك رائحة مثيرة للإشمئزاز. يعنى أن كثيرين لا يحبون ديانتك ولا يعترفون بها، وبالتالى ما إن تنطق باسمك الذى يدل على دينك حتى تصفعك غالبا ردود فعل سلبية تتراوح بين المعاملة الباردة والكراهية الصريحة. أن تكون مسلما معناه أنك إضافي، هامشي، زائد عن الحاجة. أنت مشكوك فى أمرك، نادرا ما ينتبه أحد إلى حقوقك وكرامتك، ومعناه أن تتعود على سماع إهانات لدينك فى كل مكان. سوف تشاهد رجال دين الأغلبية وهم يؤكدون أن دينك ضلال وكفر ويحذرون أتباعهم من التعامل معك والاختلاط بأسرتك. وبعض رجال دين الأغلبية يعتقدون أنه يجب تحريم تعيينك فى المناصب العليا بسبب دينك، كما أن الدولة لا تثق بك أصلا. أنت فى نظر الدولة مشروع خائن قد يتصل بالأعداء فى أية لحظة لأن الأعداء لهم دينك نفسه. أن تكون مسلما فى الصين معناه أن تعانى بشدة من أجل بناء مسجد تمارس فيه دينك. وكما يجري هذه الأيام في الغرب عامة، سوف تمنعك الدولة والمتطرفون من بناء المساجد. الدولة تضع قوانين مقيدة تجعل بناء المساجد مهمة صعبة للغاية تتطلب أخذ موافقات عديدة من السلطات. أضف إلى ذلك، أن المتطرفين يعتبرون بناء أي مسجد اعتداء صارخا على دينهم وكرامتهم. ما إن تشرع فى بناء المسجد حتى يهب مئات المتطرفين ليهاجموه ويحرقوه ويعتدوا عليك وعلى أهلك وأولادك وهم يلعنونكم لأنكم كفار. كل هذا سيحدث لأنك تريد بناء مكان لعبادة الله وسوف يتركهم رجال السلطة يفعلون ما يريدون، ثم يصلون متأخرين ليكتبوا محضرا بعد فرار الجناة! أن تكون مسلما معناه أنك معرض فى أية لحظة للتهجير من الحي الذى تسكنه، لأن سكان الحي يعتقدون انك عنيف بالفطرة وستنقلب عليهم وتنكل بهم، إذا ما أتيحت لك أقرب فرصة. وهذه جميعا مظاهر التمييز العنصري والإسلاموفوبيا في أقبح أشكالهما وصورهما، القديم منها والحديث.

كلية ماونت هوليوك
مونتگيو، ماساتشوست، الولايات المتحدة



#محمد_الأزرقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التملص من جرائم التعذيب في السجون الأمريكية
- الأمل الوهم - أوباما والصراع العربي الصهيوني (الحلقة الثالثة ...
- الأمل الوهم - أوباما والصراع العربي الصهيوني (الحلقة الثانية ...
- الأمل الوهم - أوباما والصراع العربي الأسرائيلي (الحلقة الأول ...
- الأمبراطورية الصهيونية الأمريکية- الحلقة الرابعة
- الأمبراطورية الصهيونية الأمريکية - الحلقة الثالثة
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث - الحلقة الأولی
- الأمبراطورية الصهيونية الأمريکية
- ألأمبراطورية الصهيونية الأمريکية
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث -الحلقة الرابعة
- 3-ألمرأة في الدخيل الجائر من التراث
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث - الحلقة الثانية
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث-الحلقة الثانية


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمد الأزرقي - غرباء مألوفون