أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - محمد الأزرقي - التملص من جرائم التعذيب في السجون الأمريكية















المزيد.....



التملص من جرائم التعذيب في السجون الأمريكية


محمد الأزرقي

الحوار المتمدن-العدد: 3421 - 2011 / 7 / 9 - 17:53
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


التَّملُّص من مسؤولية جرائم التعذيب
الحكومة السرية وجرائم الحرب وحكم القانون
تأليف: الدكتور كرستوفر پايل، أستاذ العلوم السياسية في كلية ماونت هوليوك
ترجمة: الدكتور محمد جياد الأزرقي، أستاذ الأدب واللغة العربية في كلية ماونت هوليوك
GEETING AWAY WITH TORTURE
Secret Government, War Crimes and the Rule of Law
By Christopher H. Pyle
Translated by: Mohammed Jiyad





الى ضحايا التعذيب من الأبرياء في السجون الأمريكية حول العالم
الفصل الأول
سياسة التعذيب
لا أحد من رؤساء الولايات المتحدة قد عمل من أجل حقوق الأنسان
مثل الذي فعلته. جورج دبليو بوش (1)

في الثامن والعشرين من شهر نيسان عام 2004، خلال مناقشة جرت حول احتجاز المشتبه بهم من الأرهابيين، كانت عضوة المحكمة العليا روث بندر جنسبرغ تبحث عن وسيلة للحد من طلب الأدارة الأمريكية بأن يكون لها مطلق اليد في أوقات الحرب. تساءلت بالقول "دعونا نفترض أن البيت الأبيض قد أقر اللجوء الى استعمال مستوى من التعذيب المعقول لاستحصال بعض المعلومات، " كما يفعل البعض من الحكومات في هذا الصدد. رد پول کلمنت، نائب المدعي العام (2) على مثل هذا التساؤل بقوله "حسناً. إن البيت الأبيض لن يطلب مثل هذا الأمر." وبعد ثماني ساعات من هذا التأكيد ظهرت على شاشات التلفزة الوطنية الصور الأولى عن إساءة معاملة المعتقلين في سجن أبي غريب في العراق.(3)
إن الفكرة بحد ذاتها قد صدمت المشاهدين في كل مكان، من الذين لم يكن يدر بخلدهم أن الجنود الأمريكيين يعذبون المعتقلين لديهم ويذلونهم ويحطون من قدرهم. ولكن الأمر لم يبدُ مفاجئاً إذ أن التزام افراد القوات المسلحة بالانظباط الكامل توقع في غير محله، خاصة وهم يحتلون بلداَ ويخوضون حرباً مع المتمردين فيه. ولا بد من التذكير هنا بأن مذبحة قرية (ماي لاي) في الفيتنام قد حدثت منذ زمن ليس ببعيد، وما زالت ذكراها ماثلة في الأذهان.
بعد يوم واحد من نشر صور التعذيب من قبل محطة تلفزيون سي بي سي لاحظ الجنرال جيمس ماتيس مجموعة من جنود مشاة البحرية يتجمعون حول جهاز التلفزيون خارج خيمتهم في مخيم (سعد) في العراق، فبادرهم بالسؤال "ماذا يجري؟" ردّ عليه نائب العريف بالقول "إن بعض الحمير قد تسببوا لنا في أن نخسر هذه الحرب."(4) إن القليل من الأمريكيين قد أدركوا بمثل تلك السرعة اهمية تلك الصور كما فعل نائب العريف هذا. وقد قال الجنرال ماتيس معقبا "عندما تفقد المبررات الأخلاقية العالية، تكون قد فقدت كل شيء."(5)
أما وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد فقد أدرك هو الآخر أن أمامه مشكلة علاقات عامة، وهو السبب الذي دعاه الى كتمان سر تلك الصور لمدة تقرب من أربعة شهور، واضطر أن يفصح عنها أخيرا بعد بثها على شاشة محطة تلفزيون سي بي سي. لقد حاول في بادىء الأمر أن يقلل من أهمية المسألة بالقول أنها محدودة واستثنائية.(6) وحاول الرئيس بوش هو الآخر أن يعمل نفس الشيء عند تعليقه على صور التعذيب "بأنه سلوك مشين لقلة من الجنود خلال نوباتهم أثناء الليل."(7)
غير أنه لم يرد شيء من هذا القبيل على لسان أيّ من مسؤولي الأدارة الأمريكية قبيل افتضاح صور جرائم التعذيب في أبي غريب. وكما سنوضح في الصفحات التالية فإن منظمة الصليب الأحمر الدولية كانت قد أشارت في تقارير لها عن سوء معاملة المعتقلين كقضية معروفة منتشرة ولا تقتصر على العراق فقط، بل تتعداه إلى أفغانستان والقاعدة البحرية الأمريكية في گوانتانامو في كوبا، وكذلك الحال في السجون السرية التي تشرف عليها وكالة المخابرات المركزية. كما أن مثل تلك الإنتهاكات قد مورست في مراكز الأعتقالات المؤقتة للمهاجرين عقب أحداث سبتمبر 11 "بأمر من المدعي العام جون آشكروفت."(8) وفي عام 2003 وقبل أن يُمارس أفراد القوات المسلحة أساليب التعذيب لأول مرة، كانت منظمة الصليب الأحمر الدولية قد أوردت ذكر 250 قضية اتهام تتعلق بسوء معاملة المعتقلين، وأوصلت تلك القضايا إلى القيادة العسكرية العليا (9). وكانت تقارير المنظمة المذكورة هذه قد حذرت ذوي المناصب الرفيعة في وزارة الدفاع بشأن الأساليب المتبعة في التحقيقات مع المعتقلين العراقيين بالذات،" وأنها تقوم أصلا على تجاوزات تستخدم القسوة وتهدر كرامة المعتقلين، للحد الذي يمكن اعتبارها جرائم تعذيب."(10)
هذا وكان وزير الدفاع الأسبق جيمس شلزنجر قد ترأس لجنة عام 2004 اعترفت بما يقارب 300 حالة اتهام بهدر كرامة المعتقلين في العراق وافغانستان وگوانتانامو.(11) ومنذ ذلك الحين فان عددا من المحاكم قد امر بكشف النقاب عما يقارب 100000 وثيقة تظهر عمليات تعذيب مباشرة واهدار لكرامة المعتقلين من قبل السلطات الأمريكية في افغانستان والعراق وكوبا، وفي داخل الولايات المتحدة ذاتها.(12) وفي نفس الوقت نشر عدد من الصحف أن وكالة المخابرات المركزية كانت قد اختطفت حوالي 100 شخص من المشتبه بهم وسلمتهم الى الأجهزة الأمنية في كل من مصر وسوريا والأردن والمغرب وأزبكستان والعراق وافغانستان لغرض استجوابهم.
في شهر نيسان من عام 2006 تمكنت منظمة مراقبة حقوق الأنسان من توثيق اكثر من 330 حالة لسوء معاملة المعتقلين شملت ما يقارب من 460 معتقلا و600 عسكريا ومدنيا من الذين تعاملوا معهم.(13) ومنذ شهر نيسان عام 2004 حيث تم الكشف عن جرائم ابي غريب، تم اجراء 800 عملية تحقيق عسكرية أسفرت عن ادانة أكثر من 250 من افراد القوات المسلحة، من بينهم 89 أدينوا من قبل محاكم عسكرية.(14) وكان التحقيق الذي جرى باشراف الميجر جنرال انطونيو تاگوبا قد وجد "حالات من التصرفات السادية الجائرة والواضحة للعيان لهدر كرامة المعتقلين، والتي خلافا لروايات الدوائر الرسمية، تصنف بـ"سوء المعاملة المنتظم واللاشرعي."(15) كما ان نفس التحقيقات قد كشفت أن ما لا يقل عن 98 معتقلا قد فارقوا الحياة وهم في عهدة حكومة الولايات المتحدة للمدة ما بين شهر اكتوبر 2001 وفبراير 2006. ومن مجموع الوفيات هذه وجد ان 34 منها قد تكون جرت بشكل مُتعمد.(16) وعلى الأقل فان 8 معتقلين قد فارقوا الحياة إثر إصابات قد حدثت لهم خلال عمليات التحقيق.(17) إن سجلات الجيش المتعلقة بأبي غريب تشير الى وجود 1325 صورة و 93 شريط فيديو تشمل صورا لكلاب استخدمت اثناء التحقيق لترعيب المعتقلين، وصور 546 شخصا قضوا نحبهم وهم بعهدة السلطات الأمريكية.(18) هذا غير حالات سوء معاملة النسوة واغتصابهن التي بقيت طي الكتمان.
إن تجاوزات على هذا المستوى من الأنتشار لا يمكن ارجاعها الى عدد قليل من "التفاحات الفاسدة" بين منتسبي القوات المسلحة، كما ان مسؤولية هذه الأنتهاكات يجب ان تلقى على عاتق أولئك الضباط الذين فشلوا بشكل أو بآخر في تدريب الأفراد الذين بأمرتهم لكي يلتزموا بالانضباط والقانون. وكما سنرى فان اشخاصا احتلوا مناصب عليا في ادارة بوش كانوا قد أعطوا الضوء الأخضر للمحققين واجازوا تلك التجاوزات وتوقعوها منهم ، وشجعوا على اقترافها ودافعوا عمن ارتكبها.
الحرب المجازية
إن اختطاف الطائرات وما ترتب عليه من جرائم لتقتيل الأبرياء يمثل عملا يدل على أكبر درجات التصميم لاقتراف العنف المشين والجنوني الذي ارتكبه متطرفون لا يكترثون لقيمة الحياة البشرية. وهم أعضاء في منظمة إرهابية غير واضحة المعالم، رغم ان دوافعها قائمة على الرغبة في الأنتقام للعمليات العسكرية والسياسات الأقتصادية التي يعرف القليل من الأمريكيين عنها. ونتيجة للغضب الذي اجتاح الشارع الأمريكي والخوف الذي لف عامة الناس قد جعلهم يرون تلك الجرائم حربا شنها الأعداء عليهم في عقر دارهم. ولكن لو تأملنا حقيقة تلك الجرائم من الناحية القانونية لوجدنا انها لا تختلف عن جريمة تموثي ماكفيه الذي فجّر مبنى الحكومة الفدرالية في مدينة أوكلاهوما عام 1995. أن الأشارة لمثل هذه الحقيقة قد تبدو لأول وهلة ورغم مرور الوقت مسألة قاسية نوعمّا، ولكن هذه الأشارة ضرورية لفهم الفوضى التي اعقبت جريمة سبتمبر11. علينا أن نتذكر أنه عقب هجمات القاعدة حضيت الولايات المتحدة بتعاطف وتأييد عالميين قويين. ولو أن الولايات المتحدة قد اكتفت بغزو افغانستان واسقاط حكومتها لكان التعاطف والتأييد قد حافظا على مستواهما، وكانا قد جعلا القاعدة تحضى بسخط أكبر إن تكرر فعلها الشنيع. غير أن إدارة بوش استمرت في غضبتها العسكرية مما شد ازر أعدائها وجعلها موضع احتقار عالمي واسع الإنتشار.
عبّرت مجازية الحرب بوضوح عن الرغبة في الانتقام التي طالب بها الأمريكييون إثر سبتمبر11. وهذا المسار قد جعل اختيار مسار آخر يقوم على العقلانية والمرحلية والواقعية أمرا بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلا. ففي زمن الحرب يجد المسؤولون أن الغاية تبرر الوسيلة، دون التفكير بأن وسائل مشينة كالتعذيب سيزيد الموقف سوء ويجعله أكثر تعقيدا. كما أن خطاب الحرب بالغ في وصف الصراع وأعطاه بعدا يمكن ايجازه بجملة واحدة هي "أمّا نحن أو هم". وخطاب كهذا يخلق الوهم بأن الأنتصار وشيك وممكن. لكن الأنتصار ممكن اذا كان هناك جيشان يتحاربان وقادة سيتولون التفاوض من أجل الإستسلام. غير أن صراعا يتخذ حرب العصابات اسلوبا سيجعل الأنتصار العسكري أمرا غير سهل. وكل ما يمكن تحقيقه في خوض صراع من هذا القبيل هو تقليل حدة العنف وتخفيض وتائره على أمل التوصل الى قناعات سياسية مغايرة لدى الجيل الجديد من الخصوم.
كان الجنرال ديفد بتراياس الذي انيطت به مهمة قيادة قوات الحلفاء في العراق عام 2007 قد بدا مرتبكا في بادىء الأمر، رغم انه يُعتبر من العسكريين النادرين الذين فهموا الطبيعة السياسية لصراعات من هذا القبيل. فخلال مراجعته للدليل العسكري لحرب مقاومة التمرد قد أدرك أن كلمة "حرب" ليست الوصف الملائم لما تواجهه القوات التي بأمرته. فالحرب تتطلب استخداما مفرطا للقوة، في حين ان تنفيذ عمليات لمواجهة المقاومة تعتمد على ما يسميه "القوة الناعمة" التي تقوم على استخدام الدبلوماسية والحوافز المالية التي غالبا ما تحقق نتائج أفضل.(19) ولكن في عام 2001 لا أحد من الذين في مواقع القوة كان قادراعلى استيعاب أو قبول رأي من هذا النوع. كان الغضب يطحن الجميع، بما فيه أعضاء الكونغرس، والرأي العام يطالب بالإنتقام.
"إركلوا مؤخراتهم!" حيث أخذت سياسة التعذيب شكلها المبدأي
ما من أحد كان أشد غضبا مما شعربه الرئيس جورج دبليو. يروي ريتشارد كلارك، الذي كان مسؤولا عن مقاومة الإرهاب، ما دار في اجتماع عُقد عشية سبتمبر11 عندما أعلن الرئيس الغاضب بقوله "كل شيء متوفر لشن الحرب. لقد ذللنا اي عائق في طريقكم." وعندما انبرى دونالد رامسفيد لتذكير الحضور أن القانون الدولي يسمح باستخدام القوة بغرض صد أية هجمات في المستقبل، وليس لغرض الأنتقام، قاطعه بوش صارخا " أبداً، لا يهمني ما سيقوله محامو العالم. إننا ذاهبون لركل مؤخراتهم بأحذيتنا!"(20)
إن عقلية "ركل المؤخرات" قد طغت أيضا على جو اجتماع مجلس الأمن الوطني الذي عُقد يوم 12 سبتمبر. وعندما حث مدير مكتب المباحث الفدرالية روبرت ميلر الحكومة على الامتناع عن استخدام وسائل الأكراه لاستحصال اعترافات بغرض إحالة الذين تعاونوا مع المهاجمين الى المحاكم، أنبرى المدعي العام جون آشكروفت للقول: "دعونا نتوقف عن المناقشة عند هذه النقطة بالذات ... إن المهمة الأساسية لقوى الأمن في البلد هو أن تجهض أية محاولة إرهابية أخرى وتلقي القبض على كل من يساهم فيها أو يدعمها. واذا لم يكن من الممكن ان نحيلهم الى المحاكم، فالأمر لا يهم."(21) لم يجرأ أحد من الحاضرين على طرح السؤال التالي: ماذا سيكون مصير المحتجزين إذا كانت اعترافاتهم غير مقبولة أمام محاكم القضاء؟
حتى بعد مرور خمسة أيام على هجوم سبتمبر 11 بدا الرئيس بوش غاضبا عندما تحدث مع الناجين من منتسبي البنتاغون، فيما كان الدخان لا يزال يتصاعد من أركان البناية. "أعرف أن الحرب قد أُعلنت ضدنا من قبل عدو غير مألوف لا يلتزم بقواعد الحرب المعروفة. سنلاحقهم في كل مكان، وسنعيد النظر في طريقة تفكيرنا. مطلبنا هو العدالة .... (إبن لادن) حيَا كان أم ميّتا."(22)
لم يكن نائب الرئيس رچرد چيني أقل حماسة: "يتوجب علينا أيضا أن نلجأ الى أساليب غير مألوفة." قال ذلك في مقابلة مع محطة تلفزيون أن بي سي (واجه الصحافة): "سيكون من الضروري أن نستخدم أية وسيلة تتوفر لدينا لنتوصل لتحقيق أهدافنا.... هنالك عدو شرس وخطير، ويجب علينا أن نكون على كامل الأستعداد لمنازلته في الساحة."(23) لقد أعطته هجمات سبتمبر11 الفرصة التي كان يتمناها منذ وقت بعيد، وهي إطلاق يد السلطة التنفيذية ممثلة بالرئيس ونائبه للجوء الى العمليات السرية. وهذه سلطة كان الكونغرس قد قلصها بشكل ملحوظ في فترة السبعينات. فچيني كان يعتقد أن تحقيق الكونغرس في فضيحة (ووتر گیت) "لم یکن سوى خطة سياسية تولاها خصوم الرئيس نكسون."(24) وبحسب هذا المنطق فان التحقيق في الفضيحة المذكورة لم يكن هدفه التوصل الى حقيقة عمليات السطو التي قام بها رجال الرئيس نكسون بغرض الحصول على معلومات يمكن للرئيس استخدامها ضد منتقدي سياسته. إن تحقيق لجنة الكونغرس في سوء استعمال اجهزة المخابرات لسلطتها بالتجسس على منظمة الحقوق المدنية والحركة المعارضة لحرب فيتنام لم تكن في رأي چيني إلاّ محاولات لاستغلال ضعف سياسة نكسون بهدف اعطاء الكونغرس قوة أكبر. وعندما عمل چيني عضوا في لجنة الكونغرس التي تولت التحقيق في (فضيحة ايران) وسط الثمانينات، كان رأيه أن العقيد أوليفر نورث بطل وليس مجرما عندما رتب صفقة لبيع الأسلحة الى ايران بطريق غير شرعي، حين كانت ايران تعتبر دولة راعية للأرهاب. ووفقا لخطة نورث فان ريع تلك الصفقة من الأرباح قد دُفع لتمويل المعارضة المسلحة ضد حكومة نيكاراغوا اليسارية. وكان نورث هذا قد أتلف كل الوثائق وزوّر العديد من السجلات بقصد اعاقة عملية تحقيق الكونغرس في الجرائم التي ارتبكها. ويبدو ان مثل تلك الممارسات لم تزعج الرجل الذي سيكون في المستقبل نائبا لرئيس الولايات المتحدة. ففي تقرير الأقلية الذي قدمه چيني مع عدد من الأعضاء المحافظين الجمهوريين، دافع الموقعون عن نشاطات نورث والقوا باللائمة على عاتق الكونغرس الذي تجاوز حدود صلاحياته عندما فرض قيودا على اطلاق التمويل للعمليات السرية.(25) ولجأ چيني الى نفس الأسلوب اثر هجمات سبتمبر11 لأطلاق يد السلطة التنفيذية المركزية على حساب الشرعية الدستورية والألتزام بها.
الزعم الخفي للسلطة غير المحدودة
في الوقت الذي كان فيه الرئيس بوش مترددا في اتخاذ القرار للعودة الى واشنطن أم لا يوم سبتمبر11، كان چيني ومستشاره القانوي ديفد ادنگتون قد ذهبا الى الى الغرفة المحصنة عميقا تحت الجناح الشرقي للبيت الأبيض. كانا يتناقشان حول سلطة الحكومة وقت حالات الطوارىء، وماذا يتوجب على السلطة التنفيذية عمله خلال تلك الأزمة. وكان ادنگتون هذا قد التحق بالدائرة القانونية لوكالة المخابرات المركزية بعد تخرجه من كلية الحقوق مباشرة. ثم انتقل الى لجنة المخابرات في الكونغرس، انظم بعدها الى چيني عندما حاول الأخير بصفته العضو الأقدم للأقلية، حماية الرئيس ريگن من أن تطاله لجنة التحقيق في فضيحة ايران، وتولى ادنگتون كتابة تقرير الأقلية في الكونغرس.
إثر هجمات سبتمبر11، إتصل ادنگتون بتموثي فلانگن، نائب المستشار القانوني للبيت الأبيض، الذي اتصل بدوره بالمدعو جون يو، وهو محام شاب في دائرة الأستشارات القانونية بوزارة العدل. ثم انظم اليهم أخيرا ألبرتو گونزالز. ووفقا لما قاله برادفرد پرنسن، الذي كان مساعدا قانونيا في البيت الأبيض حينه، فإن " ادنگتون وفلانگن وگونزالز، كانوا حقا الثالوث الرئيسي، فيما كان جون يو لاعبا هامشيا."(26) وقد تولى ادنگتون قيادة هذه الشلة، التي انظم اليها بعد ذلك وليام هاينز الثاني، المستشار العام لرامسفيلد.
إجتمعت هذه الشلة بشكل منتظم لتضع بعد أسابيع قليلة خطة قانونية تعمدت بشكل واضح عدم إشراك جون آشكروفت، المدعي العام، وكذلك جي بايبي، المشرف المباشر الأعلى للمحامي جون يو. كما تعمدت تجاهل منتسبي الدائرة القانونية لمجلس الأمن القومي، والمحامين العسكريين، اضافة لوليام تافت الرابع، وهو المستشار القانوني لوزارة الخارجية. أطلقت هذه الشلة على نفسها اسم "مجلس الحرب،"(27) وكان عملها يجري بمنتهى السرية. كما ان مكتب نائب الرئيس كان حريصا في حينه على ألاّ ينشر اسم أي من العاملين فيها.(28)
إن الحرب على الأرهاب بالنسبة لچيني وآشكروفت تعني إجهاض اية محاولة ارهابية اخرى، ولم يكونا معنيين إطلاقا بتقديم المشاركين بتلك العمليات للعدالة.(29) واصبح نائب الرئيس من أشد المتحمسين لاعتقال أي من يُشك فيه حتى ولو لسبب تافه، كما كان من المبالغين في قدرات الجماعات الأرهابية، وعدم الألتزام بمعطيات القانون الأمريكي، وتشجيع التحقيقات التي تجري بقسوة متناهية. ونظرا لأنه تحت امرته أقوى جهاز لنائب رئيس في التاريخ، فقد أصبح بمقدوره مراقبة حركة البريد الألكتروني وما يدور بين العاملين في مركز الأمن القومي. كل ذلك وضع چيني في موقف مثالي للتأثير على كل قرار يتم اتخاذه. كما كان بامكانه أن يعمل بشكل سري داخل البيت الأبيض نفسه لأن العاملين في مكتب الرئيس ليس في مقدورهم ألإطلاع على ما يدور بين العاملين في مكتب نائب الرئيس من الأتصالات.(30)
وكما هو متوقع فان وزير الدفاع رامسفيلد اتفق مع نائب الرئيس على جوهر هذه السياسة. ففي ديسمبر من عام 2001 بعث رامسفيد مقالة أقرّ خلاصتها بما يلي: "في النهاية، إذا كان علينا أن نتولى القيادة..... فيتوجب علينا أن نتصرف لنعطي الآخرين الأنطباع بأننا مجنونو العالم القادرون على فعل ما نشاء ..... وإذا كنا نسعى لتحقيق أغراض نبيلة فيتوجب علينا في مثل هذا الحال أن نتصرف بأقسى درجات الخسة والدناءة."(31)
لم يكن انتباه الأدارة الأمريكية منصبا على دحر الأرهاب عن طريق استمالة السكان في الشرق الأوسط للوقوف الى جانبها. فالرأي العام الذي يهم الرئيس بوش هو ما يسود داخل حدود البلاد، خاصة لدى القاعدة الأساسية للحزب الجمهوري. فعامة الناس الذين يطغى عليهم الغضب ويتحكم بهم الخوف كانوا يطلبون القيام بعمل مباشر، وان الأدارة لم تقدم لهم خطة لرد مدروس مبني على معلومات دقيقة بل غذت فيهم روح الرد المتهور وأوقدت في صدورهم جذوة غريزة الشجاعة بدافع زيادة غضب أولئك المواطنين ورغبتهم العارمة في الأنتقام. فالحقائق والمنطق والأدلة وما يترتب على ذلك من التحركات الدبلوماسية والتخطيط وضمان سلطة القانون، مثل هذه الخطوات كانت امورا غير ذات شأن بالنسبة لجورج دبليو بوش. وبدلا من ذلك فأن توقع استخدام القوة العسكرية المفرطة سيكون سيد الموقف.
لقد لخص أحد مستشاري الرئيس طريقة تفكير بوش للصحفي رون سسكند بالقول: "إن أحداث العالم لا تجري كما كانت عليه بطريقة مألوفة. نحن من الآن فصاعدا قوة إمبريالية. عندما نقوم بعمل ما، فاننا نخلق الحقائق لذلك العمل. وانه خلال تفحصنا لهذا الحقائق قانونيا كما تتوقع، فاننا نقوم بعمل آخر لخلق حقائق جديدة، بأمكانك أن تتفحصها أيضا. هكذا ستسير الأمور، نحن صانعو التاريخ ... وأنتم الصحفيون جميعا لكم الخيار لدراسة ما نعمله."(32)
إن إيمان بوش بقدرته على صياغة الحقائق يقوم الى درجة كبيرة على اطلاق حملة دعائية باستخدام التلفزيون حيث "يشكل نفاذ البصيرة تسعة اعشار الحقيقة". لقد أوضح موقفه كما يلي: "بالنسبة لشخص في مثل موقفي عليّ ان اقوم بتكرار عمل نفس الشيء المرة تلو الأخرى، كأي صنف من الدعاية الهادفة، حتى تتبلور الحقيقة التي أريدها." ونظرا لوجود جهاز واسع لخلق مثل هذه الحملة الدعائية، فان الرئيس بوش شعر بأنه قد حرر نفسه من مستلزمات الخطاب القائم على سلطة القانون أوالألتزام بها."(33) لقد انعكس هذا التفكير فيما قاله للصحفي المخضرم بوب وودورد: "أنا القائد. وما من شيء يلزمني ان اشرح للآخرين لماذا اقول ما اريد أن اقول. وهذا لعمري شيء رائع ان تكون في منصب الرئيس! ربما يحتاج الآخرون أن يشرحوا ويبرروا ما يقولون. ولكنني لا أشعر بانني مدين لأي أحد بالشرح أو التبرير."(34)
هذا وكان كوفر بلاك مسؤول قسم مكافحة الأرهاب في البيت الأبيض قد بسّط القضية أمام الكونغرس بقوله، "كان هناك عالم لما قبل سبتمبر11، وسيكون هناك عالم آخر لما بعد سبتمبر11. وفي عالم ما بعد سبتمبر11، أصبح من الضروري أن ننزع القفاز من أيدينا ونقبل التحدي."(35) وهكذا أصبح "نزع القفاز" هو "صيحة الحرب المقدسة" لأولئك الذين كانوا يديرون مراكز الأعتقال والباعث لتصرفاتهم، ليس الغرض استحصال المعلومات، ولكن معاقبة هذا العدو الشرس."(36)
وهكذا أصبح تعذيب من يُشك بكونه ارهابيا أمرا متوقعا بشكل تام. إن أي شخص خاض تجربة التدريب الأساسي للقوات المسلحة يعرف بالضبط كيف يمكن وبسهولة تحويل الرجال والنساء ذوي النزعة الأخلاقية الأعتيادية إلى قتلة، إلى درجة يصعب فيها أحيانا على قادتهم التحكم بنزعات هؤلاء للأنتقام الشخصي. ويعلق رئيس مكتب وزير الخارجية كولن پاول "وكما تعرف فأنه لو كنت رجلا عسكريا وسمحت ولو بشيء نزير من الأنحراف عن العرف العسكري المقبول، فأن البعض من الجنود سيستغلون ذلك الى أقصى حد."(37) وشيء من هذا القبيل سيكون مؤكدا لو كان الجنود يعانون من الضغط النفسي، ولا يفهممون اللغة التي يتحدث بها الناس من حولهم. ويترتب على ذلك انهم سيلومون السكان على ما يصيبهم من الخسائر. لقد كان كولن پاول قد خاض حرب العصابات في الفيتنام، وبالنسبة لرجال في مثل خبرته فان الألتزام بمعاهدات جنيف ليست قضية اخلاقية بالنسبة لقادة الوحدات، بل ضرورة عسكرية اذا كان هؤلاء القادة يريدون حقا تحاشي أي نوع من الأفعال الشنيعة التي تقود المدنيين الى الأنقلاب عليهم وحمل السلاح لمقاتلة قواتهم المحتلة.
ولكن ليس من الضروري ان يكون للأنسان تجربة عسكرية ليفهم كيف يمكن لأي شخص تـُناط به مسؤولية ما، أن يحوّل ناسا عاديين الى جماعة تستحوذ عليهم الرغبة في التعذيب. كان الاستاذ ستانلي ملگرام من جامعة ييل قد اوضح بعد تجربة قام باجرائها عام 1963، وذلك لسنوات قليلة قبيل التحاق جورج دبليو بوش بتلك الجامعة. لقد صمم ملگرام غرفة للقيادة واستخدم عددا من الاشخاص ليسألوا عددا من الناس (كانوا في الحقيقة ممثلي مسرح) بأن يستخدموا صعقا كهربائيا كلما فشل هؤلاء في اعطاء الجواب المطلوب. لقد كان غرضه من التجربة ما يلي:
إلى أي حد يمكن لأي شخص عادي أن يوقع الألم بحق شخص أخر لا يعرفه، لأنه مجرد طـُلب منه أن يشارك في هذه التجربة العلمية؟ وهي باختصار وضع السلطة المطلقة مقابل الواعز الأخلاقي القوي بعدم إيقاع الأذى بالآخرين. وعندما اخذت صراخات المُعذبين ترن في آذان مُعذِبيهم، أثبتت السلطة المطلقة بأنها سيدة الموقف. إن الأستعداد اللامتناهي للبالغين من الرجال للأستمرار في التعذيب الى مدى بعيد يتجاوز الخط الذي تخوله السلطة لهم هو الموضوع البارز في هذه التجربة، وهذا موضوع يتطلب التفسير. فالناس العاديين الذين لا تبدو في سلوكهم اية نزعة للعدوانية، يمكن أن يتحولوا الى محرضين ومساهمين في عملية بالغة التدمير. وأكثر من ذلك، فانهم لا يجدون حرجا في اظهار تلك النزعة. وعندما يُطلب منهم الأستمرار بأداء اعمال لا تتفق اطلاقا مع العرف الأخلاقي، فإن عددا قليلا منهم فقط أبدى أي اعتراض لما طـُلب منه أن يفعل.(38)
إن تجربة ملگرام قد أظهرت بشكل بيّن الحاجة الى تشريع لقوانين الحرب التي اعلنها بوش . ففي سبتمبر 17 اصدر الرئيس مذكرة خوّلت وكالة المخابرات المركزية تفويضا ليس لاغتيال زعماء القاعدة في اي مكان في العالم فقط، بل كذلك خولت اختطاف الناشطين في صفوف الحركات الارهابية وارسالهم الى اجهزة الأمن لحكومات اخرى تتولى التحقيق معهم وتعذبهم وفق اساليب مبتكرة في سجون الوكالة المذكورة الموزعة في مختلف مناطق العالم.(39) وكان مدير الوكالة جورج تينت قد أعد بنفسه تلك المذكرة.(40) وفي خطوة تالية انيطت نفس المهام بالقوات العسكرية التي تعمل بالتعاون مع رجال وكالة المخابرات المركزية.
يُعتبر هذا التخويل خطوة لا سابقة لها. فلم يحدث أن أجاز رئيس امريكي سابق تعذيب المعتقلين ومعاملتهم بطرق غير انسانية تنتقص من كرامتهم في مواقف لا حول لهم فيها ولا قوة. إن القوانين الأمريكية-الأنكليزية قد منعت ولقرون عديدة ظاهرة التعذيب. كما أن وزارة الخارجية الأمريكية كانت قد أدانت هذه الممارسات من قبل بعض البلدان كما تظهر ذلك تقاريرها السنوية. إضافة الى ذلك فان القانون العسكري الأمريكي يمنع التعذيب وان اتفاقيات عديدة قد تم التوقيع عليها بهدف ضمان المعاملة الأنسانية لأسرى الحرب. وإثر الحرب العالمية الثانية انظمت الولايات المتحدة الى الحلفاء، وحاسبت مسؤولي النظام النازي في محاكمات نورومبورغ، وكذلك قادة الجيش الياباني في طوكيو بسبب جرائمهم في قتل اسرى الحرب من العسكريين والمدنيين وتعذيبهم.
في سبتمبر 18 خوّل الكونغرس الرئيس السلطة لاستخدام القوة العسكرية ضد "أولئك المسؤولين عن الهجمات الحديثة." (42) ويبدو ان وضع عبارة "أولئك المسؤولين" كانت ردا على طلبه بسلطة واسعة في هذا الشأن. ولكن بوش وچيني قد تجاهلا مثل هذا التقييد. كانا يتطلعان لغزو افغانستان والعراق. وكغيرهما من الرؤساء والمسؤولين السابقين الذين فعلوا ما فعلوا خلال فترة الحرب الباردة، فان كلا من بوش وچيني كانا يرغبان في شن حرب سرية على كل شيء ينتهي بـ (ism).
إن الأرهاب، مثله مثل الشيوعية، قد أصبح شعارا يسهل على السياسيين التلويح به قصد اثارة الخوف وإرباك الناس حتى لا يركنوا الى استعمال المنطق. فالحرب على الأرهاب ليس لها أول ولا آخر، وان رفع درجة الخوف من الأرهاب سيمكن السلطات الرسمية من التوسع في عملياتها السرية لتصفية "الأعداء" بدون مراقبة او حساب. وفي نفس الوقت يكون بمستطاع تلك السلطات لجم المعارضين لهذه السياسة في الداخل. وهكذا حلّ الخوف من الأرهاب محل الخوف من الشيوعية. ولكن سيكون من الخطأ الأعتقاد بأن الجيش ومنتسبي وكالة المخابرات المركزية كانوا في حقيقة الأمر مدربين لتنفيذ تلك السياسة لمحاربة الأرهاب في كل مكان. ويبدو أن الكثير من الأمريكيين يحبون أن يتجاهلوا حقيقة ان كل الرؤساء من كلي الحزبين، كانوا وعلى مدى نصف قرن من الزمن، قد ساعدوا الحكومات التي كانت تمارس الأرهاب ضد مواطنيها، أضف الى ذلك بعض حركات التمرد من كل صنف. ومن بين هذه النشاطات العون الذي قـُدم للممارسات الأرهابية للحكومة البريطانية في حربها ضد ارهابيي ايرلندا الشمالية، والفرق الأرهابية في الجيش الفرنسي التي كانت تحارب الثوار الجزائريين في شمال افريقيا، وكذلك مساعدة اللاجئين الكوبيين ضد كوبا الشيوعية. ومن هذا النوع أيضا المساعدات التي قـُدمت لنظام پول پات ضد الفيتنام الشمالية. ولنا تاريخ طويل في مساندة جيوش الحكومات الأرهابية في الأرجنتين وچيلي وگواتيمالا وفنزويلا لمحاربة خصومهم من اليساريين. ومثل ذلك العون قدمته الحكومة الأمريكية، وبالذات تحت رئاسة ريگن لحركة تمرد الكونترا المناوئة لحكومة نيكاراغوا اليسارية. ويجب ألاّ یغیب عن بالنا طبعا إبن لادن ورفاقه من المسلمين الذين حاربوا بمساعدتنا الجيش السوفيتي في افغانستان، ومساعداتنا لأرهابيي جماعة الحلف الشمالي في افغانستان ضد مجاهدي حركة طالبان.
كما رفض الكونغرس اعطاء الرئيس سلطة مطلقة ليقوم بعمليات سرية ضد كل من يريد أن يُطلق عليه مسمى الأرهاب، ولكن ذلك لم يمنعه من ان يفعل ذلك بالضبط حسبما يريد. ففي خطابه أمام الكونغرس يوم 20 سبتمبر، أعلن بوش حربه العالمية على الارهاب:
إن حربنا على الأرهاب تبدأ بالقاعدة ولكن لن تنتهي عندها. لن تتوقف هذه الحرب حتى نقضي على كل مجموعة ارهابية يمكننا الوصول اليها في كل بقعة في العالم بغية تدميرها. وسنوجه كل ما يتوفر لدينا من المصادر التي تحت أمرتنا، كل وسيلة للتخابر أو لفرض القانون، وكل سلاح ضروري للحرب. سنجعل كل ذلك ميسرا لدحض شبكات الأرهاب العالمية. إن كل شعب في كل منطقة في العالم عليه ان يتخذ القرار أما أن يكون معنا أو في صف الأرهاب.(43)
بتاريخ 25 ديسمبر أصدر جون يو رأيا قانونيا مفاده بأن في متناول الرئيس، لكي ينتقم ممن قاموا بهجمات سبتمبر11، سلطة اكثر مما منحه إياها الكونغرس. لقد كتب هذا المحامي البالغ من العمر 34 عاما، بأنه ليس من المطلوب من بوش أن يحدّ من شدة هجومه المعاكس ضد القاعدة وطالبان في افغانستان، وأن من سلطته أن "يوجه الضربة ضد أي شخص أو منظمة ارهابية أو حكومة يَشكّ في مساهمتها بشكل مباشر أو غير مباشر في الهجمات الأرهابية ضد الولايات المتحدة." وكذلك "أية حكومة يُشك في إيوائها ومساعدتها لأية منظمة من هذا الصنف." وقد نصح جون يو الرئيس بأنه غير مطلوب منه العودة الى الكونغرس حتى في حالة الشك البسيط في اي نشاط ارهابي. إن من حقه ان يُعلن الحرب على أية حكومة أو منظمة خاصة في أي وقت وفي أي مكان من العالم.(44)
وليس من شك أن المحرك الأساسي لخلفية هذا التفويض الطائش والغير اعتيادي كان مكتب نائب الرئيس. لكن هذا التفويض قد حمل وزنا اضافيا لأنه صدر عن الدائرة القانونية لوزارة العدل (OLC) ، وقرارات هذه الدائرة ملزمة للسلطة التنفيذية (الحكومة والبيت الأبيض). وكان چيني قد تعلم كيف يستغل قرارات هذه الدائرة القانونية، لأضفاء الشرعية على خطة الرئيس عندما شغل منصب المدير الأعلى في مكتب الرئيس فورد وحين كان، عضو المحكمة العليا لاحقا، أنطوان سكاليا يترأس الدائرة القانونية ((OLC. وبحكم مركزه الحالي كنائب للرئيس بوش فانه أخذ يعتمد بشكل رئيسي على يو كاعتماده على سكاليا سابقا، رغم أن يو هذا محام ناشيء في مكتب المدعي العام. الا ان چيني وجد طريقة للافادة منه دون علم مرؤوسيه. وبالرغم من أن الكونغرس كان واضحا في الحد من سلطة الرئيس باعتباره القائد العام للقوات المسلحة اذا كان هدفه الأنتقام من القاعدة وطالبان، فإن جون يو ردّ وبطريقة سرية على استفسار من مكتب چيني أجاز فيها للرئيس "أن يحشد القوات العسكرية ويستخدمها لإجهاض أية محاولة من قبل المنظمات الأرهابية أو أي بلد يأوي تلك المنظمات أو يقدم لها العون، بغض النظر عما اذا كان لهذه المنظمات أو البلاد اية علاقة بهجمات سبتمبر11 أم لا.
إن يو لم يتحدث بشكل علني او يناقش حربا دفاعية أو ضربات وقائية ضد قوات أو جهات قد تضرب الولايات المتحدة. لكنه كما اسلفنا اعلاه قد وقف الى جانب الرئيس في شن حرب وقائية متى شاء، وهي قضية ليس لها سند قانوني، أمريكيا كان أم عالميا. هذا وكان يو قد صرح بأن الرئيس لا يحتاج الرجوع الى الكونغرس عندما يقرر بان حكومة ما ترعى الأرهاب حسب رأي المسؤولين في وزارة الخارجية. وتشمل القائمة التي اعدتها وزارة الخارجية كلا من كوريا الشمالية وايران وليبيا وكوبا والسودان وسوريا.
وعليه فإنه وفقا لتبرير جون يو بأمكان الرئيس ارسال وحدات من القوات الخاصة لوكالة المخابرات الأمريكية لقتل اعضاء اية منظمة ارهابية او اعتقالهم، حتى وإن كانوا في المانيا او اسبانيا او الفليبين او روسيا. وهذا ما عملته الوكالة بالضبط وفق برنامجها لملاحقة من يُشك فيهم والقاء القبض عليهم وتسليمهم الى الحكومات المعنية. كما اصبح بالمقدور مهاجمة "المناطق الآمنة للأرهابيين" في بلدان مثل گواتيمالا واليمن والشيشان، وحتى بالإمكان مهاجمة أماكن تواجد افراد المليشيا في ولاية أيداهو الأمريكية!
وفي مذكرة لا تزال سرية كانت قد صدرت بتاريخ 17 اكتوبر عام 2001، إدعى جون يو ان بإمكان الرئيس تطبيق نفس المعاملة على كل الأرض الأمريكية باعتبارها "ميدانا للمعركة" ضد الأرهابيين، والقيام بعمليات سرية شبه عسكرية ليس بهدف جمع المعلومات الاستخباراتية فقط، بل تتجاوز ذلك للقضاء على خلايا القاعدة المشكوك بوجودها أينما كانت. ويقول يو في هذا الصدد إن العمل بموجب قانون Posse Comitatus الصادر عام 1878 لا ينطبق على ما يجري حاليا. ومعروف ان هذا القانون لا يسمح للقوات العسكرية المسلحة فرض القانون المدني داخل الولايات المتحدة. وفي تفسير يو فان القانون المذكور غير قابل للتطبيق لأن الأمر هنا هو حرب وليس فرضا للقانون.(46) وذهب يو الى أبعد من ذلك عن طريق الإدعاء ان بأمكان الرئيس إبطال مفعول المادة الرابعة المعدلة من الدستور التي تحمي المواطنين، ليكون بمقدور اجهزة الدولة الأمنية القيام بتفتيش الأماكن الخاصة دون إذن المحكمة حتى تستطيع هذه الأجهزة افشال الهجمات الأرهابية واجهاضها داخل الولايات المتحدة.(47) وفي نفس الوقت وضع جون يو مسودة القانون الذي أطلق عليه اسم قانون مكافحة الأرهاب في الولايات المتحدة(USA PATRIOT) والذي احتوى على مواد تحِقّ للرئيس إبطال مبدأ حق اي معتقل في طلب "لائحة اتهام" ضمن فترة زمنية محددة- وهذا الحق القانوني يضمن للمعتقل بيان السبب في اعتقاله ومدة الاعتقال بموجب أمر القاضي لحين عرض القضية على المحكمة وحسن المعاملة خلال فترة الاعتقال-. إن التقاعس في تطبيق هذا القانون يجعل من الممكن احتجاز أي شخص أمريكيا كان أم أجنبيا لأجل غير مُسمّى.(48)
في عام 2006 عملت ادارة بوش وفق نصيحة جون يو الخاطئة، ومررت من خلال الكونغرس قرارا يخول الرئيس الحق له وحده في ان يقرر الظرف الذي يُعتبر تهديدا للسلامة العامة في اي ولاية، وبالتالي يجيز له استخدام القوات المسلحة الاتحادية للتعامل مع تلك الظروف، دون الرجوع الى حاكمية الولاية المعنية لاستحصال موافقتها على مثل خطوة كهذه، وفق القانون السائد في البلد منذ مئتي عام.(49) ومن خلال ممارسة هذه السلطة رغم معارضة مسؤولي الولاية، أصبح بمستطاع الرئيس أن يأمر بالقاء القبض على أي مواطن ووضعه رهن التوقيف لأجل غير مُسمى. كما أن بأمكانه ان ينكر حق المعتقلين في طلب النظر في أمرهم من قبل المحاكم عن طريق تعليق حق المواطن في طلب "لائحة الأتهام" ضده.
كما صاحبَ هذه السلطات الأستثنائية للحكومة تخصيص مبلغ قدره 385 مليون دولار لشركة (KBR) وهي احدى المؤسسات الفرعية التابعة لشركة هاليبرتن (التي كان چيني يرأسها قبل ان يصبح نائبا للرئيس). الغرض من هذا المبلغ هو قيام الشركة ببناء مركز اعتقال جديد في مكان ما من الولايات المتحدة ليُستخدم في "الحالات الطارئة لتزايد اعداد المهاجرين ..... أو ليكون جاهزا لأيواء المشتبه بهم نتيجة للتطورات السريعة في تطبيق البرامج الجديدة." (50) ولم يكلف أحد نفسه، سواء من الحكومة أو من الحزب الجمهوري أن يوضح لنا ماهية هذه "البرامج الجديدة".
في مذكرة اخرى منفصلة ناقش جون يو تفويض الكونغرس لاستخدام القوة العسكرية والذي صدر بتاريخ سبتمبر 18، ليقول ان التفويض المشار اليه يمنح الرئيس السلطة لمراقبة الأتصالات الهاتفية والألكترونية للمواطنين الأمريكيين دون ترخيص من المحاكم ذات الشأن. وهذا التفسير يتعارض مع قانون مراقبة المخابرات الأ جنبية الصادر ((FISA عام 1978. وكان هذا القانون قد شُرِّع بالذات لوضع حدّ لمثل هذا النوع من المراقبة التي كانت تقوم بها وكالة الأمن القومي ((NSA، كما ان القانون المذكور قد نص على ان القيام بمثل هذا النشاط يُعتبر جريمة عقوبتها السجن لخمس سنوات. وبالطبع فان الكونغرس لم يقصد بخطوته الأخيرة الغاء قانون ((FISA. وجدير بالذكر ان الغاء هذا القانون لم يكن مطروحا اطلاقا خلال جلسة الكونغرس، وحتى لم يُشرالى الغاء عقوبة الخمس سنوات سجن للمخالفين. غير ان ادارة الرئيس بوش مضت في خططها لمراقبة الأتصالات الهاتفية والألكترونية، وكما هو مُتوقع فان مذكرة جون يو وتعليمات الرئيس بوش القائمة عليها بقيت طي الكتمان حتى لا يعترض عليها أحد، مثل جون بلينگر الثالث، وهو مسؤول البيت الأبيض الذي كان مناطا به تطبيق قانون السلامة الوطنية.
لقد برر جون يو بأن بوسع الرئيس اللجوء لمثل هذه الأجراءات "لأن الآباء المؤسسين فهموا ان حق اعلان الحرب مسألة أضحت من طراز قديم." وهذا الأفتراض خاطيء أيضا، لأن الآباء المؤسسين أعطوا الكونغرس، والكونغرس فقط، السلطة لأعلان الحرب. وهناك رسائل كـُتبت وهي تتعلق بالسفن الحربية الخاصة- بطريقة تختلف عما كان متعارفا عليه في القرن الثامن عشر. فكما كتب جيمس ماديسون الى توماس جفرسون عام 1794 قائلا "إن الدستور يفترض كما كشف التاريخ ان السلطة التنفيذية لجميع الحكومات ميالة للحرب، واكثر رغبة بها. ويستطيع القاريء المتفحص للدستور ان يستنتج بان مسألة الحرب هي من اختصاص السلطة التشريعية."(52)
واذا اخذنا برأي جون يو فان حق اعلان الحرب هو من اختصاص الرئيس لأن المادة الثانية تنص على انه القائد العام للقوات المسلحة.(53) لكن المشكلة في هذا الرأي هي ان عبارة "إعلان الحرب" غير واردة في الدستور إطلاقا. وبدلا من ذلك نجد ان الدستور يشير الى صلاحيات خاصة "لشن الحرب، واصدار بيانات تتعلق بالثأر والأنتقام، وتضع قواعد للإستيلاء على مساحات من أراضي الغير، ومصادر المياه واعداد الجيوش، والمحافظة على جاهزية القوة البحرية، وكذلك تعليمات حول سلوك الحكومة وقيادة قوات الجيش والبحرية وتسليحهما وتقيدهما بالنظام، وسريان ذلك على قوات المليشيا" وأيضا "جعل كل القوانين الضرورية ملائمة وقابلة للتنفيذ." إن جميع هذه الصلاحيات هي في يد الكونغرس، وليس رئيس الجمهورية.
لقد ذهب جون يو الى ابعد من ذلك عند القول انه "لا تشريع يمكن ان يضع حدودا لعزم الرئيس على مواجهة أي تهديد ارهابي بأية طريقة يشاء. إن هذه القرارات بموجب دستورنا متروكة للرئيس وحده."(54) إن هذا الأدعاء يتناقض صراحة مع المادة المادة الأولى من القسم الثامن من الدستور، التي تعطي الكونغرس السلطة ليس فقط "وضع كافة القوانين وطريقة تنفيذها"، بل تحدد سلطات أية وزارة أو مسؤول له علاقة بهذا الشأن. ومن الملفت للنظر أن مذكرات جون يو ما أتت على ذكر قضية شركة يونغتاون للحديد والصلب ضد سوير (1952) الشهيرة، والتي رفضتها المحكمة العليا في عهد الرئيس هاري ترومان وسلطته الواسعة فيما يتعلق باعلان الحرب. قرر قضاة المحكمة حينها انه ليس بوسع وزير التجارة وضع يده على معامل الصلب حتى في ذروة الحرب الكورية ليمنع اضراب العمال. والهدف هو استمرار المعامل في الأنتاج، لأن الكونغرس قد وافق على قانون يجيز للرئيس أن يأمر بذلك في وقت الأزمة. أن الافتراض الذي ادعته الحكومة ضمن سلطة الرئيس خلال وقت الحرب قد قوبل باعتراض عضو المحكمة روبرت جاكسون الذي كتب قائلا "إن الضرورة لا تعترف بالقانون، وان مثل هذه السلطة ليس لها أول ولا آخر."(55)
كما ان جون يو قد اهمل تماما قرار المحكمة العليا في قضية لتل ضد بارم (1804)، التي قرر فيها القضاة بان الرئيس جون آدم قد خول بطريقة لا قانونية احتجاز سفينة خلال الحرب غير المعلنة مع فرنسا عام (1799). ان الكونغرس كان قد فوّضه ان يأمر باحتجاز السفن الذاهبة الى فرنسا، لكن آدمز تجاوز ذلك بتخويله البحرية الأمريكية احتجاز السفن القادمة الى الولايات المتحدة من فرنسا. إن تخويله هذا يُعتبر أمرا منطقيا. ولو كان الكونغرس قد امتنع عن اعطائه السلطة لذلك أصلا، لكان آدم قد حقق ما اراد. لكن الكونغرس اثار الموضوع مجددا، وحكم القضاة ان آدم قد اعطى لنفسه سلطة اضافية افترض ان الكونغرس قد خوّله إياها.(56)
إن ذلك القرار المبكر كان يتماشى مع قصد الآباء المؤسسين بان يجعلوا الكونغرس شريكا اساسيا فيما يتعلق بعملية اعلان الحرب. لقد رفضوا جملة وجهة النظر الملكية السائدة في بريطانيا العظمى خلال القرن السابع عشر، والتي اعطت الحكومة هذا الحق. إن دستورهم قد خلق عددا من الدساتير حول تقاسم السلطة، وليس مؤسسات منفصلة لها امتيازاتها الخاصة بها.
في تلك المرحلة من حياته المهنية، كان جون يو مجرد شخص غير معروف حصل على منصبه بقرار سياسي ليصبح عضوا في الدائرة القانونية لوزارة العدل، وكان مُعارا من كلية الحقوق في جامعة كاليفورنيا-بركلي. كان يو قبلها قد شغل وظيفة كاتب وعمل ضمن موظفي مكتب عضو المحكمة العليا كليرانس توماس، والقاضي لورنس سلبرمان في محكمة التمييز في العاصمة واشنطن، كما انه كان مستشارا عاما للجنة القضائية في مجلس الشيوخ برئاسة السناتور أورن هاچ (وهو جمهوري من ولاية يوتا). وكما يتضح فان لجون يو علاقة قوية بالمحافظين. وهو الذي تبنى رأيا يمكن اعتباره "ملكي الميل" فيما يتعلق بسلطة الرئيس كما يتبين من كتاباته الغزيرة.
كتب كاس سنشتاين الذي كان حينها استاذا في كلية الحقوق بجامعة شيكاغو ان جون يو "محام جيد، ولكن فقط فيما يتعلق بكتابة رأي متحيز "لتبرير استنتاجات كانت قد تقررت مسبقا."(58) بكلمة اخرى انه مستعد ان يقول لمرؤسيه ماذا يحبون ان يسمعوا، في الوقت الذي يتغاضى فيه عن آراء معظم الخبراء المتخصصين بدراسة الدستور وتفسيره. هذا وكان المدعي العام الرئيس المباشر لجون يو قد أطلق عليه لقب "السيد نعم."(59)
وفي مقابل جون يو ودوره في وزارة العدل كان هناك شخص آخر يدعى دوغلاس فايث، نائب وزير الدفاع في البنتاغون. وقد عُرف عن فايث هذا انه كان يختار ما يريده من التقارير الأستخباراتية غير الدقيقة وينشرها، عن العلاقة المزعومة بين العراق والقاعدة، وساهم بشكل فعال في اعداد "الطبخة" لغزو العراق. وبمثل الطريقة التي تمّ فيها التستر على التناقضات في رأي جون يو التي وردت في مذكراته، فان ادعاءات فايث كانت هي الأخرى غير قابلة للرد عليها بالحجة والبينة من قبل البعض في الأجهزة الأستخباراتية. وفي الحقيقة فان فايث كان في طليعة الداعين للألتفاف على مقررات معاهدة جنيف. ولما تعسّر عليه ان يُقنع المحامين العسكريين ليكونوا الى جانبه، تحوّل الى وزارة العدل، حيث كان جون يو من أشدّ المُتحمسين لمد يد العون له.(60)
كان واضحا منذ البداية أن نائب الرئيس مسؤول عن ردّ الأدارة الأمريكية على أحداث سبتمبر11، إذ عندما دُعي رئيسا لجنتي الأستخبارات في الكونغرس ونائبيهما الى البيت الأبيض للأستماع الى ملخص ما تنوي الأدارة فعله ردّا على ذلك الهجوم، فانهم اقتيدوا الى مكتب نائب الرئيس. وكان الرئيس بوش قد أخبر بوب گرام (وهو ديمقراطي من فلوريدا) أن "نائب الرئيس هو الشخص الذي يتعين عليك الإتصال به، إذا أردت أن تتصل بالبيت الأبيض، فهو الذي يُمسك بملف النشاطات الأستخباراتية."(61)
أن چيني هو الأختيار المنطقي لمثل هذه المهمة. لقد عمل مديرا أعلى لمكتب الرئيس فورد عام 1975، وكان قد عارض بحماس منقطع النظير التحقيقات التي طالبت بها لجنتا الأستخبارات في الكونغرس بصدد أية تجاوزات ارتكبتها اجهزة استخبارات الدولة.
چيني يبتدع محاكم عسكرية جديدة
في الوقت الذي بدأت فيه مذكرات جون يو تلقى الترحيب الكامل من قبل البيت الأبيض، فأن "مجموعة عمل" تشكلت وضمت عددا من المدنيين المُعينين من ذوي الميول السياسية المتطابقة. ترأس هذه اللجنة بيير رچارد پروسير، السفير فوق العادة لجرائم الحرب، والذي كان جل اهتمامه منصبا على ما الذي يفعله بمقاتلي القاعدة وطالبان الذين تمّ القاء القبض عليهم في افغانستان. وقد دعت هذه المجموعة ديفد ادنگتون، المستشار القانوني لنائب الرئيس چيني، ليشارك في نقاشاتها لكنه رفض. وبدلا من ذلك عمل مع تم فلانگان وبرادفورد پرنسن، المستشارين القانونيين للبيت الأبيض، وكذلك پاترك فلپن من (OLC) لوضع خطتهم الخاصة بهم. كانوا يريدون محاكمة الأشخاص المُشتبه بهم بأنهم ارهابيون أمام محاكم عسكرية، لها مطلق الحرية لوضع قواعد لما يُعتبر أدلة جرمية، لكل قضية على حدة.(62)
من الناحية القانونية، لم تكن هناك حاجة لأن تنشأ الأدارة الأمريكية محاكم خاصة لمحاكمة من القي القبض عليه في ساحة الحرب وهو يحمل سلاحا. يمكن الأبقاء على هؤلاء الأشخاص قيد الأعتقال باعتبارهم اسرى حتى نهاية الحرب، أو محاكمتهم كمجرمي حرب أمام المحاكم العرفية العسكرية المعمول بها. فالمحاكم التي لا تعمل على تقديم الادلة وفق المعايير القانونية لها هدف واحد فقط- وهو السماح بتقديم ادلة لا يمكن اعتبارها شرعية وفق مبدأ المحاكم الدستورية، من قبيل الأشاعات والأدلة السرية التي لا يمكن كشفها بحجة ان ذلك يُلحق ضررا بالأمن العام والأعترافات التي يُستحصل عليها عن طريق التعذيب.
لقد قدم چيني خطته للرئيس وهما على طاولة الغداء ظهر يوم نوفمبر 13 من عام 2001. وفي منتصف ما بعد ظهيرة ذلك اليوم كانت الأوامر قد أعدت وتمّ التوقيع عليها، دون أية مراجعة من قبل الموظفين المعنيين والوكالات ذات الشأن.(63) وهذه المحاكم العسكرية لا تعترف بالحقوق المكفولة للمواطنين الأمريكيين، بما فيه الأرهابيين المحليين مثل تيموثي ماكفيه الذي اُدين في شهر حزيران لتفجير بناية الحكومة الفدرالية في مدينة أوكلاهوما. وهذه المحاكم لا تسمح بتقديم الأعترافات التي لا يُستحصَل عليها عن طريق التعذيب فقط، بل تسمح بعدم الأفصاح عن بعض الأدلة بحجة انها تعتبر سرية أو تتعلق بالأمن العام. إن مبدأ "القناعة التامة باقتراف الجرم دون شكّ" قد وُضع على الرفّ، وإن صوتا أو اثنين من قبل اعضاء المحكمة كان كافيا لأصدار حكم بالأعدام. وإضافة الى ذلك فان قرارات هذه المحاكم غير قابلة للتمييز أمام المحاكم المدنية، كما هو متعارف عليه في المحاكم العرفية العسكرية.
إن خطة چيني تستند الى مذكرة جون يو بتاريخ 6 نوفمبر، والتي ادعى فيها ان الرئيس لا يحتاج الى موافقة الكونغرس لخلق محاكمه الشرعية الخاصة، ومحاكم الرئيس هذه لا تقتصر سلطتها على من القي القبض عليهم وفق تخويل الكونغرس له باستخدام القوة لملاحقة المسؤولين عن هجمات سبتمبر11، بل منح نفسه وفق خطة چينيٍ الحق في محاكمة من يُلقى القبض عليه في أي مكان من المعمورة ضمن حربه ضد الأرهاب العالمي.
أن المادتين الأولى والثالثة تنصان بشكل لا يقبل اللبس ان تأسيس محاكم جديدة هو من اختصاص الكونغرس، والمادة الثانية لا تعطي الرئيس اية صلاحية بهذا الشأن. لكن جون يو دافع عن استحداث هذه المحاكم العسكرية باعتبارها جزء من اختصاصات السلطة التنفيذية. وتجدر الإشارة انه لا وزارة الخارجية ولا مجلس الأمن الوطني ولا محاميّ وزارة الدفاع ذاتها قد تمت استشارتهم في فترة الأعداد لهذه المحاكم، التي تقوم على رأي فريد من نوعه، رغم ان الجيش قد عهد اليه بمسؤوليتها.
حتى ان المدعي العام جون آشكروفت قد ابدى استغرابه عندما علم خلال عطلة نهاية الأسبوع السابق للاعلان عنها، وقال ان خطة نائب الرئيس لم تعط وزارة العدل أي دور لتقرير مَن مِن الأرهابيين يمكن تقديمه للمحاكم العسكرية الجديدة. كما انه غضب عندما تناهى الى علمه أن جون يو قد تصرف بذلك الشكل دون علمه، خاصة فيما يتعلق بسلطات المحاكم الفدرالية. وحين حاول الإعتراض كان چينيٍ قد وصل قبله ليقابل الرئيس. ولم يمضِ وقت طويل على الإعلان عن تلك المحاكم حتى بادر چينيٍ لشرح الموجبات لها خلال حديثه عن موضوع الغاء الضرائب مع وفد من غرفة تجارة الولايات المتحدة. قال ما يلي:
إن الأرهابيين لا يستحقون أن يُعاملوا كأسرى حرب، ولا يستحقون الضمانات والحقوق المكفولة للمواطنين الأمريكيين أمام المحاكم الأعتيادية. إنهم سيلقون محاكمة عادلة، ولكن أمام المحاكم العسكرية ..... إننا نعتقد انه – يجب ضمان أن يكون بمقدورنا أن نقرر نوع المعاملة التي يلقاها هؤلاء الأشخاص كما نراها نحن.(64)
هذا وكان المعلق الصحفي المحافظ وليام سافاير، الذي عايش الظروف التي مرّ بها البيت الأبيض خلال أيام الرئيس نكسون، قد سارع لأدانة مثل تلك المحاكم وسماها ساخرا "محاكم كانگرو" (أي محاكم لا تـُراعى فيها مبادىء القانون والعدالة)، وتساءل بطريقة مجازية "على اية شريحة (لحم) قانونية يتغذى قيصرنا هذا؟"(65)
سياسة نزع القفافيز
بدأ التحول نحو سياسة الإفراط في التعذيب بالغزو الأمريكي لأفغانستان في شهر أكتوبر 2001. وفي شهر نوفمبر قدمت المخابرات الباكستانية "هدية ذات قيمة عالية" للمسؤولين الأمريكيين وذلك بتسليم مسؤول احد معسكرات تدريب القاعدة المدعو إبن الشيخ الليبي. بدأ موظفو مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) في كابل التحقيق مع الليبي بقراءة حقوقه المضمونة وفق القانون الأمريكي، واستطاعوا بعد وقت قصير ان يستحصلوا منه على معلومات عن رچارد ريد الذي حمل متفجرة في حذاءه وفشل في تفجيرها وهو في الطائرة، وكذلك معلومات عن زكريا الموسوي الذي كان يطمح للمشاركة في عملية اختطاف الطائرات.
غير ان وكالة المخابرات الأمريكية كانت قليلة الصبر. وبمساندة من البيت الأبيض استطاعت الوكالة ان تنقل الليبي الى عهدتها. حاولت على مدى اسابيع عدة ان تستحصل منه على معلومات هامة ولكن دون جدوى. وفي نهاية الأمر قيدوا يديه ورجليه بالسلاسل وعصّبوا عينيه ووضعوه على متن طائرة عسكرية. همس أحد الحراس بأذنه، "إنك ذاهب الى القاهرة، ولكن قبل أن تصل الى هناك سأجد أمّك وافعل بها الفاحشة!"(66)
وفي مصر اعترف الليبي بسرعة أنه زار العراق وتلقى هناك تدريبا على استخدام الأسلحة الكيمياوية والبايولوجية. وفي شهر فبراير من عام 2002 كان المتخصصون في وكالة مخابرات وزارة الدفاع (DIA) قد حذروا الأدارة الأمريكية من عدم مصداقية تلك المعلومات، لكن وزير الخارجية الأمريكي كولن پاول تجاهل ذلك عند الأدلاء بشهادته لأقناع مجلس الأمن الدولي لتبرير غزو العراق. في شهر مارس من عام 2003 تراجع الليبي عن تلك الأعترافات وقال انه أجبر عليها تحت طائلة التعذيب.(67) هذا وكان دان كولمان قد عبّر عن امتعاضه من أن يصدّق أي انسان اعترافات الليبي، قائلا:
"إنه لمن السخف أن يصدّق الأنسان ولو لوهلة بأن الليبي يعرف أي شيء عن العراق. لقد كان يُدير معسكرا للتدريب في افغانستان، وليس له أية علاقة بالعراق. إن مسؤؤلي الإدارة الأمريكية يدفعون دائما باتجاه إيجاد أية علاقة بين العراق والقاعدة، ولكنه لا توجد مثل تلك العلاقة. والسبب في انهم استحصلوا على معلومات رديئة هو انهم سلكوا أساليب التعذيب المفرط.(68)
ونظرا لأن هذه المعلومات كانت حصيلة للتعذيب، فانه لا يمكن تقديمها كأدلة أمام أية محكمة مدنية أو عسكرية. ومحاكم بوش العسكرية فقط هي الوحيدة التي تعترف بأدلة يُستحصل عليها باستخدام وسائل التعذيب.


معاقبة أحد التابعين لأبن لادن
كان في طليعة الأشخاص الذين اخضعوا لسياسة الأدارة الأمريكية في انتهاج أساليب التعذيب المفرط، مواطن أمريكي اسمه جون ووكر لنذ البالغ من العمر عشرين عاما من ولاية كالفورنيا. وكان لنذ هذا قد انضم الى منظمة طالبان، التي تسعى لتطبيق ما تسميه الشريعة الأسلامية، بقصد محاربة خصومهم في جبهة التحالف الشمالي. وعندما هاجمت القاعدة الولايات المتحدة وجد لنذ نفسه في حالة حرب مع قوات وطنه.
لم ينظم لنذ الى طالبان لمحاربة قوات الولايات المتحدة. في الحقيقة انه في الوقت الذي انظم فيه الى طالبان، كانت الأخيرة قد تلقت مبلغ 43 مليون دولارا من حكومة الولايات المتحدة قصد محاربة زراعة الأفيون والأتجار بها في البلاد. كما لم يقم لنذ بعمل معاد ضد القوات الأمريكية إذ كان في وضع صحي غير مناسب حال تسليمه لتلك القوات. لقد كان مصابا بطلق ناري في فخذه خلال حركة تمرد في سجن كان يديره مقاتلو جبهة التحالف الشمالي. وهم الذين كانوا قد سكبوا مواد حارقة في قبو السجن الذي اختبأ فيه لنذ مع بعض المعتقلين الآخرين.(70) لم يذق لنذ طعاما أو شرابا لمدة تقرب من سبعة أيام، ولم يكن في وضعه هذا مصدر خطر لأيٍّ كان. ومع ذلك فإن الجنود الأمريكيين قد جردوه من ملابسه وشدوه عاريا الى نقالة بعد أن عصّبوا عينيه ووضعوه في حاوية معدنية للنقل باردة ليس فيها شباك لثمانية أيام. ووفقا لما أدلى به محاموه لاحقا فإن الجنود هددوه بالتعذيب والموت خلال تلك الفترة.(71) بقي لنذ على هذه الحال حتى يوم 14 ديسمبر حيث نُقل الى حاملة الطائرات Peleliu وقام الأطباء العسكريون لأول مرة في معاينة جرحه المتقيح.
لم يقم منتسبو وكالة المخابرات بتلك الأجراءات مدفوعين بخبث شخصي أو بدون تخويل أو تفويض من سلطة أعلى، فقد راقب مسؤولو البنتغاون التحقيقات التي خضع لها لنذ عدة مرات في اليوم الواحد، وإن جم هاينز، المستشار القانوني لوزارة الدفاع قد أعطى موافقته للمحققين بأن "يخلعوا قفافيزهم."(72) وهكذا تمّ التحقيق مع لنذ وهوعار في جو قارس البرد مشدودا الى نقالة.
إن الأفراط في التعذيب الذي استُخدم خلال التحقيق مع لنذ ما كان ضروريا، لأن لنذ ومنذ لحظة اعتقاله كان قد تحدث مع مراسل لمحطة سي ان أن والتقطت صوره وبجانبه (شخص يبدو انه ممرض)، وكشف حينها عن هويته وظروف اعتقاله.(73) وعلى الأقل فإن البعض من سوء المعاملة كان دون مسوغ. فمثلا تسلى حراسه بأن كتبوا على عصبة عينيه كلمة "حقير"، والتقطوا صورا تذكارية معه، وقال أحدهم له بأنه سُيعدم وإنهم سيقومون ببيع صوره من أجل جمع المال لمصلحة جمعية مسيحية.(74)
وبناء على أمر عسكري صدر في شهر أكتوبر 2001، فان لجميع السجناء الحق ويتمتعون بحماية معاهدة جنيف. وصرح السكرتير الصحفي للبيت الأبيض آري فلاچر بأن لنذ يُعتبر أسير حرب ويتمتع بالحماية وفق معاهدة جنيف.(75) لكن ذلك بعيد عن الحقيقة كل البعد.
في الوقت الذي كان فيه منتسبو القوات المسلحة يسيئون معاملة لنذ، فإن وزارة العدل كانت تعد العدة لمحكمة صورية، وهو أمر لا يمكنها عمله إن كان لنذ برأيها حقاً أسير حرب. فأذا كان يتوجب معاملته على افتراض انه مجرم، فأنه يتوجب على المحققين أن يذكروه بأن بإمكانه أن يلتزم الصمت، وأن يوكل محاميا للدفاع عنه. وهذان أمران لم يلتزم بهما لا الجنود ولا وكالة المخابرات المركزية. وهما مبدأان يكفلهما الدستور وتمّ تجاهلهما تماما حتى اليوم التاسع من تاريخ القاء القبض على لنذ، وذلك عندما وصل أحد محققي مكتب التحقيقات الفدرالي إلى كابل ليقوم باعداد لائحة اتهام ضد لنذ.
وحتى بعد ذلك، لم يوفر المعنيون في ( مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة المخابرات المركزية والقوات المسلحة) محاميا حسب طلب لنذ. ووفقاً لما صرح به محامو لنذ فيما بعد فإن ممثل مكتب التحقيقات قد كذب باصرار عندما أخبر لنذ انه ليس هناك محام للدفاع عنه. وكان القادة العسكريون قد منعوا ممثلي الصليب الأحمر من إخباره أن أسرته قد وكلت محام للدفاع عنه، وأن ذلك المحامي يحاول الأتصال به. ولمدة 54 يوما لم يكن لنذ على علم بوجود محامين عسكريين في المنطقة يمكنهم أن يدافعوا عنه.(76)
إن مثل هذه الأجراءات تـُعتبر مخالفات مقصودة لحقوقه الدستورية كمواطن أمريكي. وهي أيضأ لم تتمّ على يد قلة من الجنود الجهلة في خضم وطيس معارك حامية، إنما كانت نتيجة قرارات اتخذت على مستوى مسؤولين ذوي رتب عالية في وزارة الدفاع، وتجاهلت هذه القرارات نصيحة مكتب المسؤولية المهنية ((DPR في وزارة العدل. إن توصية محامية المكتب المذكور لم يتم تجاهلها فقط، بل ان رسالتها الألكترونية بهذا الصدد قد رُفعت من ملف القضية، ولم يُكشف عنها أمام المحكمة، كما يقتضي القانون.(77) وعندما احتجت على مثل هذا الإجراء باعتباره يتعارض مع أخلاقيات المهنة القانونية، فإن مرؤوسيها هددوها بأنهم سيعطون رأيا سلبيا عنها خلال مراجعة تجديد عقدها للوظيفة، وأجبروها أخيرا على تقديم استقالتها. وحين أعطت فيما بعد نسخا من رسائلها الألكترونية الى مجلة نيوزويك، هددتها وزارة العدل بإجراء تحقيق جنائي معها، والذي أدى في واقع الأمر الى وضع نهاية لفرصها في الحصول على عمل آخر حتى في القطاع الخاص.(78)
إن مسؤولي الأدارة الأمريكية كانوا يعرفون جيداً أنه قد أسيئت معاملة لنذ وتمّ إذلاله، وإن المعلومات التي استحصلوها منه كانت دون الأخذ بحقوقه القانونية. كما أن قارئي النيويورك تايمز كانوا على علم بذلك. غير أن كل ذلك لم يَلقَ أي احتجاج سوى ان الرئيس الأسبق جورج بوش الأب كان قد صرح بأن لنذ "شخص مسكين" ولم يعمل شيئا ذا خطورة. كما ان المدعي الخاص الأسبق كنث ستار رأى أن لنذ "شاب لم يعرف أين يضع مثاليته، ولا يبدو ان دوره يشبه دور بندكت آرنولد من قريب أو بعيد."(80) حتى أن الرئيس بوش نفسه كان يبدو متعاطفا حين قال "من الواضح أنه قد ضُلِّل."(81)
يبدو أن المدعي العام جون آشكروفت كان له رأي مغاير وهو-أنه تابع لإبن لادن- الذي افلت من القبض عليه. إتهمه بأنه خائن وارهابي ومتآمر في مقتل أحد رجال وكالة المخابرات الأمريكية خلال انتفاضة السجناء، وهذه الأتهامات جميعا لا يمكن اثباتها أمام المحكمة. وبهدف السيطرة على تلك المحكمة الصورية، فإن آشكروفت عين فريقا من المحققين المعروفين بميولهم اليمينية، من ضمنه مايكل شرتوف، الذي أصبح فيما بعد وزيرا للأمن القومي. كما ضمّ الفريق پول مكينلي الذي عُين لاحقا نائبا للمدعي العام. وقد أمّن هذان المسؤولان بأن تجري محاكمة لنذ في شمال ولاية فرجينيا، حيث يقع مبنى البنتاغون الذي تعرض للهجوم يوم سبتمبر11، وحيث تكون محاكم المنطقة متخمة بالقضاة المحافظين الذي سيغضون الطرف عن كل المخالفات التي تتعلق بحقوق لنذ التي يكفلها الدستور الأمريكي. وتعاون القاضي تي أس ألس الثالث مع الإدّعاء لجدولة موعد محاكمة لنذ لتكون في نهاية شهر أغسطس، حتى تحال القضية إلى المُحلفين في وقت يقترب من حلول الذكرى الأولى للهجمات.
وعلى أية حال، فإن مسؤولي البنتاغون لم يكونوا راغبين في أن يُعلن على الملأ أن قواتهم قد أساءت معاملة لنذ، ولذلك فإنهم ضغطوا على الإدعاء العام. وبعد أن حظيت القضية باهتمام اجهزة الإعلام التي يمكن أن تؤثر على اختيار المُحلفين، توصّل الجميع الى قناعة بأنه يجب حل القضية خارج المحكمة.(83) ولما كان محامو لنذ يدركون ان موكلهم سوف لن يلقى محاكمة عادلة فقد اقترحوا عليه أن يقبل العرض الذي قدمه الأدعاء. لقد اُسقطت عن لنذ تهمة الأرهاب (لم يكن ارهابيا إطلاقا)، مُقابل أن يَقرّ بأنه خالف قانونا غير معروف كان قد صدر في حقبة الرئيس، والذي فرض فيه المقاطعة على منظمة طالبان.(84) وافق لنذ على ذلك وحكم القاضي ألس عليه مباشرة بالسجن عشرين عاما.
كما أن شرتوف ومكنلي قد وضعا شرطين إضافيين، أولهما أن يوقع لنذ وثائق تقول إنه لا شخصيا ولا حقوقه قد تمّ التجاوز عليها "بشكل مقصود"، وثانيهما أن يمتنع عن الكشف عن أساليب معاملته واستجوابه طيلة فترة السجن التي سبقت إصدار الحكم عليه. وفي مقابل ذلك وعدت الحكومة بأن يقضي لنذ فترة محكوميته في سجن معتدل الحراسة، قريب من سكن عائلته في ولاية كالفورنيا. ولكن بعد عدة شهور وبناء على أمر من مكتب السجون، نُقل لنذ الى سجن آخر في مدينة فلورنسا في ولاية كولورادو، ثمّ نُقل ثانية الى سجن في مدينة تيراهوت في ولاية إنديانا، حيث أصبح من الصعب على أسرته زيارته بشكل سهل ومُنتظم. وفي آواخر شهر إبريل من عام 2005 أعلن المدعي العام البرتو گونزاليز بشكل ماكر أن لنذ قد اعترف "بمسؤوليلته الإرهابية."(85)
سجون السلطة (الحفر المظلمة القانونية)
وفقا للإدارة الأمريكية، فإن حكومة الولايات المتحدة في حالة حرب مع الإرهاب. ونظرا لأنها في حالة حرب فإن للرئيس سلطات غير محدودة "لاعتقال الإرهابيين وتقديمهم للمحاكم العسكرية كمجرمي حرب. غير أن محامي الحكومة وقوانين الحرب، من ضمنها إتفاقيات جنيف لا تتقبل هذا التفسير، لأن منتسبي القاعدة لا يلبسون زيا عسكريا ولا يُقاتلون في تشكيلات عسكرية، وهم يدعون أيضا بأن هؤلاء مقاتلون أعداء لا تنطبق عليهم صفة أسرى حرب، وأن من حقها وضعهم في حاميات عسكرية وسجون سرية حيث يمكن استجوابهم وممارسة تعذيبم واهدار كرامتهم لسنوات.
باختصار، أعطت الحكومة لنفسها سلطات حربية دكتاتورية في حرب لا نعرف متى تنتهي. ولذلك فانهم سعوا لايجاد "حفر مُظلمة" لها صفة قانونية وبعيدة عن ذراع قوانين الحرب والقانون المدني لكي لا تصل الى المحققين والحراس. وبين جدران هذا السجون السرية، يصرّ المسؤولون بأن محققي الجيش ووكالة المخابرات المركزية لهم مطلق الحرية لاعتقال وتعذيب السجناء بدون رادع أو رقيب، بدعوى أن هؤلاء المعتقلين ليس لهم حقوق قانونية. وبالإضافة الى ذلك، فان الحكومة تدعي ان اللجوء الى أساليب التعذيب هو بذاته أسرار حكومية، مما يجعل أن من يقوم بها من المواطنين الأمركيين (العسكريين والمدنيين منهم) غير خاضعين لأي نوع من المحاسبة. لم يسمع أحد مثل هذا التبرير منذ عام 1856 في قضية درد سكوت ضد ساندفورد، حين قضت المحكمة العليا بأنه ليس للسود في أمريكا نفس حقوق البيض في طلب الأحترام. ويأتي معتقل گوانتانامو في طليعة السجون السرية. إن الفكرة في استخدام هذه القاعدة العسكرية على الأرض الكوبية كمعتقل هو محاولة لتفادي تطبيق القوانين الأمريكية على ما يجري في داخلها. ومن الملفت للنظر ان استخدام هذه القاعدة الحربية في فترتي حكم بوش الأب وكلنتون كان لأيواء اللاجئين الهايتيين، لتحاشي تطبيق قانون الهجرة الأمريكي.(87)
إن الفكرة بأن السجناء في زمن الحرب ليس لهم حق كان لعنة من وجهة نظر المحامين العسكريين. فبدأ من قانون ليبر الصادر عام 1863 (88) كان الجيش الأمريكي في طليعة من نادى للألتزام بالقانون في أوقات الحرب والصراعات، وكتاب دليل الضباط اليدوي لوزارة الدفاع يحتوي بين صفحاته على هذا التصريح الذي أقره الجنرال جورج مارشال بطل الحرب العالمية الثانية، كمبدأ هام.
إن الولايات المتحدة تلتزم بقوانين الحرب، وإن قواتها المسلحة في تعاملها مع كل الناس الآخرين أمر مُتوقع منها، وبأن تلتزم بقوانين الحرب نصا وروحا. وفي حالة خوضنا حربا فإنه ليس من اهدافنا إرعاب المدنيين، قدر الأمكان. إن القتل العمد والتعذيب والقسوة وخلق مشاق غير طبيعية لسجناء العدو أو السكان المدنيين ليست من اخلاقنا، وليس لها ما يبررها تحت أي ظرف. بالمقابل يجب احترام القانون، كما يفهمه الناس في الولايات المتحدة وفي كل بقعة نرفع عليها العلم الأمريكي.(89)
ودعوة الجنرال مارشال هي في الواقع صدى للمادة 31 من معاهدة جنيف الرابعة التي تنص على ما يلي: "يجب عدم اكراه الناس سواء كان ذلك نفسيا أو جسديا لاستحصال المعلومات منهم عن طرف ثالث."(90) وتمّ التأكيد على هذا المبدأ عندما وقّعت الولايات المتحدة عام 1994على توصيات مؤتمر الأمم المتحدة ضد الأرهاب، وإنه "لا يمكن الأستثناء، تحت أي ظرف، سواء كانت الدولة في حالة حرب أو التهديد بها، أو أية ظروف سياسية غير مستقرة أو طارئة، لاستخدام ذلك تبريرا لأي صنف من التعذيب."(91)
حتى ساعة تسلم ادارة بوش الأبن الحكم، فإن سلطات الدولة اثناء الحرب تـُعتبر استثناء لما عليه الحال في زمن السلم، ولا تستمر عادة أطول من الفترة الطارئة التي دعت لتطبيقها. غير أن حرب بوش ضد الإرهاب أعطت تلك السلطات صفة الديمومة وعدم الألتزام بالحدود الجغرافية. وكما وصف جورج أرول في كتابه المعنون عام 1984 للحرب بين أوشينا ويوراسيا أو شرق آسيا، بأن مثل هذه الحرب سوف لن تنتهي، لأنه بالأمكان دائما تبرير الحرب بوجود خطر ما، والهدف دائما هو تأمين التأييد السياسي لمن في الحكم، والحصول على مصادر التمويل لأنفاقها على تلك الحروب.(92) وبقصد ملاحقة الأعداء الجُدد وفق خطط سرية، فإن الرئيس بوش قد أعطى لنفسه الحق في ارسال فرق من قوات الكوماندو و رجال السي آي أي إلى أي بلد في العالم مُزوَدين بتعليمات سرية للقبض على الأرهابيين أو قتلهم، دون مراعاة للقوانين العالمية التي أقرتها الأمم المتحدة.
لقد أصبح شعار إدارة بوش "الحرب، وليس القانون" عندما وضع الأمريكيين بين خياري تحقيق الأمن أو العدالة. كان واضحا أن تلك الأدارة قد افترضت أن التعذيب سيقود الى استحصال معلومات دقيقة وموثوقة وذات قيمة عالية تفوق ما سينجم عن مثل هذه الاساليب على المدى البعيد من كره شديد لدى الجيل الجديد من المُتعاطفين مع العدو.
عندما أثار المُنتقدون الأسئلة حول مفهوم "الحرب، وليس القانون"، انبرى جون يو للدفاع متسائلا "لماذا يجد البعض من الناس صعوبة في فهم أن القانون لا يغطي جميع انواع السلوك البشري؟" ثم أضاف "من الناحية التاريخية كان يوجد ناس سيئون جدا، ولم يحضوا بحماية القوانين."(93) ونفس المنطق تم اللجوء اليه في الكتاب الذي ألفه ديفد فرم ورچارد پرل، اللذين كانا في طليعة المُطبلين لغزو العراق، المعنون "نهاية الشر، كيف نربح الحرب على الأرهاب." ذكر المؤلفان ما يلي: "إن شعبا يؤمن بحكم القانون عليه أن يتفهّم أن لذلك حدودا. فالحرب لها قواعدها، ووفقا لهذه القواعد فإن أعدائنا خارجون عليها."(74)
لقد أعادنا فرم و پرل الى القرون الوسطى، حين كان يُطلق على شخص ما صفة "خارج على القانون" في انگلترا الأنگلو-ساكسونية. لم يكن للخارجين على القانون أية حقوق، وأمكن تصفيتهم تحت حصانة مضمونة لكل من يشارك في مثل تلك التصفيات.(95) ولم يكن لمثل هذه الممارسات من معنى، إلا باستثناء النبلاء الذين شجّعوها قصد الأنتقام. إن تجريد الناس من حقوقهم يخلق وضعا ملائما لممارسات قطاع الطرق والقراصنة، ويشجّع القتل على يد الغوغاء والعصابات التي تعطي لنفسها السلطة لتطبيق القانون.
كان النبلاء في طليعة من اعترض على سياسة "الخروج على القانون" عندما تعلق الأمر بهم لدى محاولة البعض تطبيق ذلك عليهم. في عام 1215 وفي سفوح منطقة رانميد أجبر النبلاء الملك جون أن يوقع على ما سمّي (الوثيقة العُظمى). تشير الفقرة رقم 39 الى ما يلي: "لا يجوز اطلاقا أن يُحتجز شخص حرّ، أو يُجرَد من حق التملك، أو يُعتبر خارجا على القانون أو يُبعد أو يُحرم من أيّ من حقوقه كافة. كما نعد بأن لا نستخدم القوة ضده، أو نُرسل أشخاصا آخرين لينالوا منه، ما لم يكن ذلك عن طريق حُكم مُحلفين من أقرانه، أو حسب قانون البلد" وهكذا تدريجيا أصبح تقديم "لائحة الأتهام" مبدأ "مُقدّسا" واصبحت مبادىء الوثيقة العُظمى مانعة ضد الخروج على القانون والإعتقال الإعتباطي.
بحلول القرن السابع عشر، وعندما بدأت المحميات الأمريكية تبدأ بالتكون في الأرض الجديدة، كان الإفتراض القائم وفق القانون الجزائي بأن الرجل الأبيض يتمتع بكل الحقوق، بغض النظر عن أي اتهام موجّه ضده. واعتـُبر العبيد الهاربون في ذلك الوقت خارجين على القانون. ظلّ هذا المفهوم سائدا في بعض الولايات حتى تمّ الغاء العبودية عام 1866.(97) وبعد ذلك أصبح مفهوم الخروج على القانون تبريرا خطابيا لأجراءات العدالة التي كانت سائدة في الغرب الأمريكي. وخلال الحرب العالمية الثانية طرح قاضي القضاة في بريطانيا جون الزبرك سايمون فكرة العمل ثانية بمفهوم "الخارجون على القانون" وذلك لكي يتم اعدام مجرمي الحرب النازيين بدون محاكمات. غير أن ونستون چرچل وكليمنت أتلي وأنتوني إيدن فضلوا العمل بالأعدامات السريعة، في الوقت الذي أصر فيه جوزف ستالين على محاكمات صورية تنتهي باعدام النازيين. لكن الرئيس الأمريكي هاري ترومان لم يكن يرغب في أن يذكره التاريخ بأنه زعيم مدفوع بواعز الأنتقام. وترتب على ذلك أنه رفض أولا خطة وزير المالية هنري مورگانتو الصغیر بتطبيق مبدأ "قصاص السلام" (الذي ثبت انه كان كارثة بعد الحرب العالمية الأولى. ثانيا، اصرّ على اجراءمحاكمات حقة لكل المتهمين النازيين. وفي النهاية اتفق الزعماء الآخرون مع ترومان بعد أن أدركوا انه ليس من السهل التفريق بين الذين يستحقون الإعدام السريع، وأولئك الذين يقفون أمام قضاء مستقل وربما يكون مصيرهم عقوبة أقلّ من الإعدام.(99)
تعليق معاهدات جنيف
في الوقت الذي غزت فيه القوات المسلحة الأمريكية أفغانستان في شهر أكتوبر 2001، أصدر الجنرال تومي فرانكس قائد القيادة المركزية تعليماته للقوات بأن تلتزم بمبادىء معاهدات جنيف.(100) وحاول بعض المحققين العمل بتلك التوصيات عندما وصلت طلائع المعتقلين الى قاعدة خليج گوانتانامو في يوم 11 يناير من عام 2002.(101)
في نفس اليوم وفي غرفة العمليات في البيت الأبيض، اجتمع وفد من وكالة المخابرات المركزية مع المستشار القانوني للبيت الأبيض البرتو گونزاليز ومحامي ناتب الرئيس ديفد أدنگتون ومحامي دائرة الأستشارات القانونية بوزارة العدل جون يو. ووفقا لما ورد على لسان يو بأن "رجال الوكالة قد قالوا بأنهم سيواجهون صعوبات حقيقية في استحصال معلومات هامة من المعتقلين أذا ما التزموا بمبادىء معاهدات جنيف."(102) كما ادّعى يو فيما بعد أن "تلك كانت أول مرة طـُرح فيها موضوع الأستجواب أمام المسؤولين الرفيعين في البيت الأبيض.(103) غير انه توقع طلبا من هذا النوع من ممثلي الوكالة في مذكرة كان قد أكمل كتابتها قبل يومين.(104)
كان نائب الرئيس چیني ووزير الدفاع رامسفيد المُناديان الرئيسيان لاستخدام أساليب الأستجواب القسرية. ونظرا لأن كليهما قد عملا في ادارة الرئيس فورد حين كان الكونغرس يُحقق في تجاوزات اجهزة المخابرات، وكانا من أشد المعارضين للحدّ من قوة السلطة التنفيذية في الفترة التي تلت فضيحة ووتر گيت، كان كل منهما يطمح لأن يستعيد الرئيس قوته التي طمح اليها رچارد نكسون. ورغم ان موضوع اطروحة رامسفيلد لنيل شهادة الماجستير من جامعة پرنستن كانت تدور حول قضية يونگتاون التي كانت حصيلتها الرفض التام للسلطة المطلقة والحدّ من سلطة الرئيس في زمن الحرب، فإن رامسفيلد كان يعمل عكس ذلك تماما عندما أصبح في موقع المسؤولية. إذ دعا الى ان الرئيس وقت الحرب يكون فوق القانون، حتى وإن كانت الحرب مجازية الى حدّ كبير.
وعلى الجانب الآخر كان هناك المحامون العسكريون الذين أمضوا حياتهم في المهنة، في الوقت الذي كان فيه كل من چیني ورامسفيد يعكفان على اخضاع اولئك المحامين لمسؤولين يُعينون سياسيا وباختيارهما، لكن محاولاتهما قد باءت بالفشل. وعليه أصبح أمامهما الأختيار أن يُجبرا أولئك المحامين، أو أن يلتفا عليهم بطريقة أو بأخرى. الشخص الذي عُهدت اليه هذه المهمة هو ديفد ادنگتون الذي يُعتبر " چیني لچیني"، ومن أشد المتحمسين البيروقراطيين المطلعين على خفايا الأمور، والذي سوّد أبواب البيت الأبيض!
فالمحامون العسكريون المهنيون كانوا يريدون الإلتزام بنصوص معاهدات جنيف، وهم الى جانب أكثر العسكريين المُحترفين، كانت لهم نظرة بعيدة أعمق من تلك التي جاء بها المدنيون العاملون معهم. لم يكونوا راغبين في أن يعطوا العدو في أية ساحة معركة العذر لأساءة معاملة الجنود الأمريكيين الذين قد يتم أسرهم. لكن أدنگتون أراد نتائج مباشرة، وعليه فإنه في يوم 25 يناير من عام 2002 شكا بشكل شديد "إن وضع القيود على استجواب افراد العدو الذين نعتقلهم" كما تتطلب معاهدات جنيف تتسبب في أننا لا نستطيع أن نستحصل بسرعة على المعلومات من الأرهابيين."(105) ولم يكن هو وحده الذي يحمل مشاعر من هذا الصنف. كان بمقدوره أن يعتمد على تأييد مساعدين هامين لرامسفيلد وهما ستيفن كامبون، الذي أصبح نائبا لوزير الدفاع لشؤون التخابر، والشخص الآخر هو جم هاينز، المستشار العام لرامسفيلد (وهو شخص تحت رعاية أدنگتون). لقد عمل هؤلاء جميعا على دفع القوات المسلحة للتخلي عن قوانين الحرب، خاصة فيما يتعلق بأساليب استجواب المعتقلين.
إن قسما مهما من تلك الخطة كان ايجاد مكان لاحتجاز المشكوك فيهم، يكون خارجا عن سلطة القانون الأمريكي. ففي أواخر عام 2001 سأل جم هاينز الأدميرال دونالد گتر، الذي كان حينها القاضي الرئيسي للبحرية الأمريكية، إن كان بالإمكان احتجاز المئات من الأرهابيين على سطوح سفن حربية. ویقول گتر إن محامي رامسفيلد كان يريد اقامة سجن "لا تطاله سلطة المحاكم.(106) أما الميجر جنرال توماس رومينگ، الذي كان من مجموعة المحامين العسكريين المهنيين عام 2001، فيتذكر اجتماعات مع محامي الحكومة سادت فيها الأجواء المتوترة في شهري نوفمبر وديسمبر."كان جون يو يريد أن يستخدم المحاكم بمثل الطريقة التي كانت عليها وقت الحروب مع القبائل الهندية. نظرت اليه في إحدى المرات وقلت بإن ذلك كان قبل أكثر من 100 عام وأنه لا شك لا يشعر أننا ازاء قضايا قانونية حساسة." ثمّ أضاف "فوفق منظورهم القانوني كانوا يرددون انه إذا القبض عليك كإرهابي، فأنت مجرم حتى تثبتَ أنت برائتك، وهذا جنون."(107)
في تاريخ 28 ديسمبر أرسل المحاميان جون يو وپاترك فلپن مذكرة سرية الى جم هاينز ينصحانه فيها بشكل رسمي أن المحاكم الإتحادية لا يحق لها أن تنظر في قضايا طلب "لائحة الإتهام" التي يتقدم بها المعتقلون في قاعدة گوانتانامو البحرية.(108) ومع ان هذا الجزم ادعاء مشكوك فيه، فإن ذلك كان كل ما يحتاجه الجيش. وفي يوم 11 يناير من عام 2002 تمّ جلب الوجبة الأولى من المعتقلين المقيدين بالأصفاد على متن احدى الطائرات الحربية القادمة من أفغانستان. وقد حرص جون يو أن يكون موجودا ساعة وصولهم، وأعدّ قبل ذلك بقليل مذكرة اخرى. فبتاريخ 9 يناير قام يو ومعه المحامي الخاص روبرت دلانتي بنصح جم هاينز قائلين بأن معاهدات جنيف لا تحمي مقاتلي القاعدة أو طالبان.(109) قالا له إن القاعدة ليست بلدا معينا، وعليه فإن أعضائها لا يتمتعون بالحماية التي تكفلها معاهدات جنيف، ومن ضمنها أن تـُنظر قضاياهم أمام محاكم ذات كفاءة، وفقا لما تتطلبه المادة رقم 5. بكلمة أخرى أن هؤلاء مقاتلون أعداء وليسوا أسرى حرب. لذلك فإن اعتقالهم مسألة غير قابلة للجدل.
لم يكلف يو ولا دلاانتي نفسيهما مشقة ذكر ان التعليمات العسكرية قد رفضت ادعاء كهذا قبل خمسين عاما. فوفقا للعرف العسكري أن كل من يُلقي الجيش القبض عليه يقع تحت حماية المادة رقم 3 من معاهدات جنيف، التي تـُحذر من تعذيبه أو معاملته بطريقة لا إنسانية فيها هدر لكرامته.(110) فالعرف العسكري يرفض الفكرة القائلة إن شخصا ما ليس له حقوق. غير ان هذه العقيدة التقليدية قد وُضعت جانبا بفعل ما عمله كل من رامسفيلد وچيني اللذين عملا بنصيحة يو، في الوقت الذي استبعدا فيه المحامين العسكريين المهنيين خلال عملية اتخاذ القرارات السياسية بصدد هذا الموضوع.
هذا وكان وليم هاوارد تافت الرابع، وهو المستشار القانوني لوزارة الخارجية، قد اعترض على رأي جون يو. ففي تاريخ 11 يناير أرسل تافت الى وزارة العدل مذكرة تقع في أربعين صفحة، شرح فيها أن تفسيرهم لمعاهدات جنيف "غير صحيح" و"يتعذر الدفاع عنه" و"مُتناقض". إن الإدعاء بأن أفغانستان "دولة فاشلة"، وعليه لا تنطبق عليها بنود معاهدات جنيف، يتنافى تماما مع "الموقف الرسمي للولايات المتحدة قبل وخلال مجيء طالبان للسلطة." كما حذر هذا المستشار القانوني الرئيس الأمريكي بأنه اذا تجاهل تطبيق معاهدات جنيف، فانه يمكن أن يُحاكم باعتباره مجرم حرب.(111) أرسل تافت نسخة من تلك المذكرة الى گونزاليز، في حين ردّ يو عليها. غير ان تبادل المذكرات في هذا الوقت لم يعنِ شيئا، لأن بوش كان قد قرر بتاريخ 8 يناير، وبدون أية استشارة قانونية، أن حربه على الإرهاب لا تخضع لبنود معاهدة جنيف.(112)
إن مذكرة جون يو بتاريخ 9 يناير لم يكن هدفها حماية من يُلقى القبض عليه، لكنه أراد أن يشرح للمحققين ولمن كان يُشرف عليهم بأنهم في مأمن من تطبيق قانون جرائم الحرب لعام 1996 بحقهم. وهونفس القانون الذي طرحه أحد أعضاء الكونغرس المحافظين بعد مقابلة أحد الطيارين الأمريكيين الأسرى الذين أودعتهم حكومة الفيتنام الشمالية في سجن كان يطلق عليه مجازا "فندق هانوي هلتون". وكانت وزارة الدفاع الأمريكية قد شجعت تشريع هذا القانون الذي صوّت عليه الكونغرس بالإجماع. إعتبر هذا القانون أن خرق معاهدات جنيف يُعتبر جريمة فدرالية يُعاقب مرتكبوها من قبل المحاكم العسكرية والمدنية.(113)
بتاريخ 22 يناير وزّع جي بايبي، رئيس دائرة الإستشارات القانونية، مذكرة أكد فيها أن الرئيس "يتمتع بسلطة د ستورية مطلقة لتعليق التزاماتنا بمعاهدات جنيف قدر تعلق الأمر بأفغانستان طيلة فترة الحرب."(114) إن مثل هذا الإصرار الإستثنائي أصبح دولابا لسياسة التعذيب. يرى بايبي أن الرئيس "وفقا لقوانينا الداخلية يمكنه تعليق الإتفافيات لمجرد قناعته بإن الظروف الضرورية لأية معاهدة لم تعد ملزمة."(115) بكلمة أخرى أن المعاهدات "ليست قوانين ذات أهمية حيوية للبلد"، كما جاء في المادة الرابعة من الدستور التي نصّت بما لا يقبل اللبس أن المعاهدات "ليست إلاّ اتفاقيات سياسية بإمكان الرئيس أن يلتزم بها أم لا، كليا كان أم جزئيا، وبشكل سري أم علني."(116)
في يوم 25 يناير من عام 2002 قام گونزاليز بتوسیع المفهوم الذي طرحته مذكرة بايبي اعلاه. ففي مذكرة وضعها حقيقة وبشكل رئيسي ديفد ادنگتون، مستشار البيت الأبيض، نصح فيها الرئيس بأن حربه ضد الإرهاب هي نوع جديد من الحرب ..... تـُعطي الأولوية للقدرة على استحصال المعلومات بسرعة من الإرهابيين الذين يُلقى القبض عليهم أو على من يُساندهم بغية تحاشي وقوع جرائم اخرى ضد المدنيين الأمريكيين(117) .... وفي رأيي أن هذا النموذج من الفهم يجعل التقييد على استجواب اسرى العدو، كما وضعته معاهدات جنيف، أمرا باليا.(118)
ومن الملاحظ أن نصيحة گونزاليز القانونية ليست إلا صداً لتبرير الفيلد مارشال فلهلم كيتل، وزير الدفاع في حكومة هتلر، عندما رفض اعتبار الجنود السوفيت الذين اُلقي القبض عليهم في الجبهة الشرقية أسرى حرب. إن معاهدات هيگ وجنيف، برأي كيتل ليست إلا "بقايا بالية من تقاليد حروب فرسان القرون الوسطى" ولا تصلح "لصراعنا حتى الموت لأجل تدمير الإرهاب الپولشفي."(119) ومن المعروف أن كيتل قد اُدين في محاكمات نورمبورگ، واُعدم شنقا كمجرم حرب.
إن نصيحة گونزاليز وجماعته لا تقوم على أسس سليمة لثلاثة أسباب. أولا، إن توصياته قد تجاهلت منطق العقل الذي كان معمولا به في صفوف الجيش ومكتب التحقيقات الفدرالية ووكالة المخابرات المركزية بأن التعذيب الجسدي نادرا ما يثمر عن معلومات سريعة يمكن الإعتماد عليها. ثانيا، إن نصيحته وتلك التي قدمها محامو وزارة العدل لم تأتِ على ذكر أن الإستجوابات القاسية تجعل من يقوم بها مخالفا لمقررات مؤتمر الأمم المتحدة ضد التعذيب والوسائل القاسية اللإنسانية الهادرة لكرامة البشر CAT (120) وتشريعاتها.(121) كما لم يذكر أي منهم رفض المحكمة العليا عام 1952 لنظريتهم في اطلاق يد السلطة التنفيذية، التي كانت موضوعا لأطروحة رامسفيلد لنيل الماجستير من جامعة پرنستن.(122) ثالثا، إن تجاهل مقررات معاهدات جنيف دون طرحها للمناقشة العامة، فإن گونزاليز يكون قد أدار ظهره لخمسين عاما من الإلتزام بتلك المعاهدات وفق القانون الأمريكي وغالبية شعوب العالم.
كان هدف گونزاليز واضحا عندما قال (123) "عند الوصول الى الأستنتاج بأن نصوص معاهدة جنيف الخاصة باسرى الحرب، لا تسري على القاعدة وطالبان، فإن الرئيس قد قلل من الخطر الذي يتهدد مسؤولي الإدعاء العام وفق قانون جرائم الحرب لعام 1996."(124)
ولو أخذنا بنظر الإعتبار ما حصل لجون ووكر لنذ، فليس من الصعب أن نفهم لماذا كان گونزاليز يبذل اقصى جهده لحماية كبارمسؤولي الإدارة الأمريكية من الإتهام بخرق قانون جرائم الحرب، إذا ما فكر بعض المحامين المستقلين في إثارة مثل هذه الأتهامات أمام المحاكم الأمريكية أو الخارجية.(125) غير إنه لم يحاول حماية أولئك الذين ساهموا في تعذيب لنذ أو أشرفوا عليه، لكنه خاف أن تـُكشف تلك المعاملة القاسية خلال إجراءات المحاكمة. وعليه فإنه حاول أن يخلق هيكلا شبه قانوني يسمح بالإستجوابات القاسية في المستقبل.
لقد اعترف گونزاليز أن "القرار بعدم شمول القاعدة وطالبان تحت حماية معاهدة جنيف حول أسرى الحرب قد يؤدي الى اضعاف موقف القوات المسلحة ... وربما يؤدي الى حالة من الغموض في موقف أعدائنا."(126) ولكن لم يتخذ هو أو رامسفيلد أية خطوة لاختزال حالة الغموض. فمثلا لم يوضّحا المقصود من المعاملة غير الإنسانية للمعتقلين، كما لم يضعا جهازا لمراقبة عمليات الإستجواب.
أضف إلى ذلك أن واضعي السياسة من المدنيين لم يفهموا كيف تكون التعليمات الجلية أساسا للحفاظ على الأنضباط العسكري بين الجنود الذين تدربوا على كره الأعداء، والذين لا يمكن أن نتوقع منهم أن يعاملوا السكان المدنيين بالحُسنى، خصوصا بعد تعرضهم لفقد البعض من زملائهم خلال الصدامات المسلحة. لقد كان الإهتمام منصبّا على خلق واقع يسمح باستحصال المعلومات عن طريق التعذيب. ولم يُبدِ هؤلاء صبرا مع المحامين العسكريين المهنيين الذين كانت فكرتهم أن "الحاجة العسكرية" تتطلب الإلتزام بنصوص معاهدات جنيف كضمان لتأمين المعاملة الحسنة للأمريكيين الذين يقعون أسرى في أيدي العدو، وكذلك تحاشي خلق الصدامات مع السكان المدنيين في المناطق المحتلة.
وكغيره من الرجال العسكريين، كان وزير الخارجية كولن پاول من المساندين للإلتزام بقوانين الحرب، لكنه لم يفصح عن موقفه هذا حتى يوم 25 يناير. وفی ذلك الوقت، وربما ليس بعلمه، كان القرار قد اُتـُّخذ بتجاهل نصوص معاهدات جنيف. كتب الجنرال السابق ما يلي: "أن تقلب رأسا على عقب سياسة وسلوكا، وتـُضعف مباديء قوانين الحرب عندما يتعلق الأمر بوحداتنا، سواء كان ذلك ضمن صراعات محدودة أم واسعة، سيؤول كل ذلك الى اضعاف تأييد حلفائنا العسكريين، ويحول دون استمرار التعاون معهم أويجعله صعبا. ولربما يقود في بعض الحالات أن تقوم الحكومات الأجنبية بأجراء تحقيقات وتثير قضايا قانونية ربما قد تؤدي الى ادانة مسؤولينا الكبار وافراد قواتنا المسلحة."(127) وتابع مستشاره القانوني المحامي وليام تافت معقبا في مذكرة أعدها هو شخصيا ليذكر من كانوا يدعون لاستخدام التعذيب بالقول "إن الولايت المتحدة كانت قد تعاملت مع المئات من المحتجَزين دون المساس بالتزاماتها ازاء معاهدات جنيف."(128)
إن المتحمسين للتعذيب لم يتوقفوا ولو للحظة للتفكير في انعكاسات تعليق معاهدات جنيف وما يترتب على ذلك من تصرف الجنود الأمريكيين خلال زمني الحرب والأحتلال. إنهم يعرفون جيدا أن الأرهابيين سوف لن يتبعوا مبادىء معاهدات جنيف ولا يهمهم موضوع الجانب الأخلاقي في شيء. ونظرا لأنهم كانوا مقتنعين بتحقيق نصر مؤكد خلال فترة قصيرة، فإن موضوع الحرب بالنسبة لهم اصبح موضوعا لكسب الرأي العام، وتسببوا في النهاية في تبديد مشاعر التأييد والتعاطف التي أعلنها العالم بوقوفه الى جانب الولايات المتحدة إثر هجمات سبتمبر11.
يعترف وزير العدل جون آشكروفت، مثله مثل گونزاليز "بأن قانون الحرب لعام 1996 يجعل مخالفة أي بند من نصوص معاهدات جنيف جريمة يعاقب عليها القانون في الولايات المتحدة." لكن آشكروفت نصح بالإلتفاف على تلك النصوص، وليس عدم الإلتزام بها. "إن الحقيقة التي تقول ان المعتقلين هم مقاتلون غير شرعيين يجعل من قضاياهم مسائل قانونية تقع على عاتق المسؤولين الأمريكيين." فبتاريخ 1 فبراير من عام 2002 نصح الرئيس بوش "إذا ما تقرر عدم الألتزام بمعاهدات جنيف، فإن ذلك سيعطي ضمانة عالية بأنه لا محكمة ستنظر في أية اتهامات ضد ضباط الجيش الأمريكي ولا مسؤولي المخابرات ولا المباحث ولا الجنود، بخرق تلك الاتفاقيات فيما يتعلق بالسلوك في ساحة الحرب وظروف احتجاز المعتقلين وطرائق استجوابهم."(129) ومثله مثل گونزاليز وجون يو، عرف آشكروفت أن واجبه ليس تطبيق القانون لحماية الأجانب من تجاوزات الأمريكيين الذين يمارسون معهم أساليب التعذيب. فبدلا من ذلك رأى ان واجبه ينصب على حماية المُعذِبين الأمريكيين ومرؤوسيهم من أية تبعة قانونية، ومن ناحيه اخرى تجريد ضحاياهم من كل حقوقهم القانونية.
كل هذا يعني ان وزير العدل قد ذهب الى أبعد مما ذهبت اليه ادعاءات المستشار القانوني للبيت الأبيض. فعمل الأخير لم يقتصر على حماية العسكريين وضباط المخابرات من أية تبعات قانونية، إنما حاول أيضا حماية منتسبي مكتب التحقيقات الفدرالية في حالة مخالفة قوانين الحرب لعام 1996، إذا اقتضت الضرورة لاستحصال المعلومات.
بتاريخ 7 يناير من عام 2002 أعلن بوش على الملأ ما كان قد أمر به قبل أسابيع من ذلك.(130) قال :إن كل من يُشكُّ بانتمائه الى القاعدة لا تنطبق عليه حقوق الحماية كأسير حرب أو كمدني كما جاءت به الفقرة 3 من معاهدة جنيف الرابعة. كما أن جنود طالبان ليس لهم الحق في الحماية القانونية ليس لأن دولتهم "دولة فاشلة" فقط ولكن لأنهم لا يقاتلون وفقا لمبادىء قوانين الحرب. إن قراره هذا يُعتبر مخالفا للموقف الذي اتخذته حكومة الولايات المتحدة عندما تحججت الفيتنام الشمالية بنفس الأعذار حتى يتسنى لها إساءة معاملة الأسرى من الأمريكيين والفيتناميين الجنوبيين خلال فترة الستينات والسبعينات.(131) في الحقيقة انه تبنى نفس المنطق الذي تستر خلفه المسؤولون النازيون بإنكار صفة أسرى حرب لكل رجال الكوماندو الأمريكيين والبريطانيين الذين قبضوا عليهم في الصفوف الخلفية.(132) خلاصة القول، انه لم يذهب أي من رؤساء الولايات المتحدة السابقين ولا قادتها العسكريين الى المدى الذي ذهب اليه بوش.
ولغرض التستر على فضاحة عمله هذا والقاء نوع من الضبابية عليه، فقد قرأ الرئيس على الحضور نصا أعده له أدنگتون.(133) قال: "إن سياستنا هي ان القوات المسلحة للولايات المتحدة ستستمر في معاملة الأسرى بالحُسنى وبطريقة تتلائم مع مبادىء جنيف، ولكن الى الدرجة المناسبة التي تقررها الضرورة العسكرية."(134)
فالذي كان في يوم من الأيام قانونا للبلد قلبه بوش ليصبح مجرد رأي سياسي، يمكن بموجبه للعسكريين أن يعذبوا الناس ويمسوا من كرامتهم إذا كان ذلك "ضروريا." إن أوامر الرئيس هذه لم تذكر وكالة المخابرات المركزية بالأسم. وهكذا أصبح بوسع منتسبي الوكالة المذكورة أن يعذبوا الناس ويمسوا من كرامتهم دون أن يوضحوا الضرورة التي تتطلب اللجوء لمثل تلك المعاملة.
في عام 2005 ولدى حضوره ليدلي بشهادته أمام لجنة مجلس الشيوخ، سُئل فلانگان أن يحدد معنى "المعاملة الإنسانية"، لكنه عجز عن أعطاء جواب. و فلانگان هذا هو المستشار القانوني للبيت الأبيض والعضو في مجلس الحرب. وقد عُرف عنه كلامه المخادع. ثم كتب فيما بعد الى اللجنة المذكورة انه "لم يكن على علم بأي توجيه من البيت الأبيض يحدد بالضبط المقصود بالمعاملة الإنسانية." وترتب على ذلك أن أدلى گونزاليز بدلوه مؤكدا "ان عبارة (طريقة انسانية) ليس لها تحديد دقيق قانونيا."(135)
إن تصريحات الرئيس والمذكرات القانونية التي تسلمها كانت تعاني من خلل عميق. ربما يكون مقاتلو القاعدة وطالبان ليسوا "جنودا" بمعنى الكلمة وفق المعاهدة الثالثة من اتفاقيات جنيف، لكنهم مازالوا "مدنيين" ويجب أن يتمتعوا بحماية المعاهدة الرابعة من الأتفاقيات. لقد حاولت وزارة الخارجية ومحامو الجيش المهنيين بشكل متكرر أن يوضحوا انه لا يوجد شخص ليس له ولو بعض الحقوق المحمية وفق اتفاقيات جنيف. إن المجتمع القانوني الدولي كان متفقا تماما على هذه النقطة، لكن مكتب الأستشارات القانونية لوزارة العدل ومجلس الحرب رفضا أن يستمعا لمثل تلك التحذيرات.
لربما كان الرأي العام الأمريكي مرتبكا، لكن الحرس في قاعدة گوانتانامو لم يكونوا كذلك وقالوا للمعتقلين "أنتم هنا في مكان لا يُطبَّقُ فيه القانون. نحن القانون."(136) هذا وكان اللفتنانت جنرال ريكاردو أس سانشز الذي سمح باستخدام أساليب الأستجواب القاسية عندما كان قائدا لقوات التحالف في العراق عام 2003، قد كتب فيما بعد ليصف أوامر بوش. "لقد كانت تلك الأوامر حدا فاصلا في التاريخ العسكري الأمريكي إذ انها وضعت أسسا جديدة للأنضباط القانوني ومبادىء التدريب العسكري وقواعد الأستجواب التي كانت تقوم عليها أسس سلوكيات الجيش الأمريكي ازاء معاملة السجناء في ساحة المعركة، منذ أن أعيد النظر في معاهدات جنيف وصودق عليها عام 1949. فوفقا لتوجيهات الرئيس أصبح من الممكن الآن أن نتجاوز الأسس، أذا كان الأمر يتعلق بإرهابيي القاعدة. وتلك التوجيهات وضعت أمريكا على الطريق المؤدي الى التعذيب."(137)
المبالغة في تهديد الأرهاب
كان مسؤولو الأدارة الأمريكية، مثلهم مثل عامة الأمريكيين، قد أغضبتهم هجمات سبتمبر11 وأرعبتهم. كان رامسفيلد موجودا في بناية البنتاغون عندما وقع الهجوم عليها. وكانت بناية الكونغرس (الکاپیتول) هدفا محتملا للطائرة الرابعة التي قرر بعض ركابها مقاومة الخاطفين مما أدى الى سقوط الطائرة في حقل بولاية پنسلفانيا. وفی تلك البناية، كان أعضاء الكونغرس شديدي الفزع خلال الأسبوع التالي عندما اُرسل طردان يحتويان على مادة الجمرة الخبيثة (الأنثراكس) الى مكتبي شيخين ديمقراطيين والى عدد من مكاتب الأعلام على الجانب الشرقي للبلاد. نجمت هذه الهجمات عن موت 5 أشخاص واصابة 22 شخصا آخرين. إستهدفت الطرود كلا من السناتور توم داشل من ولاية داكوتا الجنوبية والسناتور پاترك ليهي من ولاية فرمونت، اللذين تصرفا بهدوء فائق خلال تلك الهجمات. ولربما كان مصدر تلك المادة هو مختبر الجيش الأمريكي في حامية دريك في ولاية مريلاند، وليس القاعدة. كان نائب الرئيس چيني أقلّ هدوء وهو يعلن "أنه لو كانت فرصة 1% لوقوع كارثة فأنه يجب أن تـُعامل (كأنها أمرا مؤكدا) في الحرب ضد القاعدة."(138)
في شهر يناير من عام 2002 عندما سيق السجناء ببدلاتهم البرتقالية اللون الى أقفاصهم في گوانتانامو، إدعى رامسفيلد بانهم "من أخطر القتلة الشرسين المدربين على وجه الأرض."(139) وأيده قائد العمليات الموحدة الجنرال رچارد مايرز بأنه بإمكانهم "أن يقرضوا خطوط الهايدروليك في سقف طائرة سي17 ليسقطوها ويدمروها."(140) غير انه حين طلب البرتو گونزاليز من البنتاغون اعداد صفحة واحدة لاتهام كل من السجناء الجدد، سارع البنتاغون بالرد انه ليس عندهم معلومات كافية عن معظم السجناء لكي يقوموا باتهامهم ولو أمام محكمة عسكرية لا تراعي أدلة الإتهام.(141) إن الأدلة التي بررت اعتقال اولئك السجناء يجب أن يتم الحصول عليها من السجناء ذاتهم. وعندما وصل الميجر جنرال مايكل دانلفي الى گوانتانامو في شهر فبراير ليشرف على عمليات الأستجواب، وجد أن أكثر من نصف المعتقلين ليس لهم قيمة مخابراتية، أو القليل منها.(142)
في الأيام الأولى من عام 2002 كان الافتراض السائد ان المقاتلين الذين اُلقي القبض عليهم في أفغانستان ارهابيون يجب ارسالهم الى كوبا. كان من ضمنهم شخص مصاب بخلل عقلي وغير قادر على الكلام.(143) وفي شهر مارس شكا اللفتنانت كولونيل بل كلاين الذي كان نائبا لقائد المعسكر، بأن عددا غير معروف من هؤلاء المعتقلين أبرياء، أو ما يُسمى "ضحايا اللحظة" الذين كانوا متواجدين في المكان الخطأ والوقت غير المناسب.(144) بعد شهر تقريبا طار دنلافي الى افغانستان ليحتج على ارسال ما سماه سجناء من نوع "ميكي ماوس" (Micky Mouse) الى كوبا.(145) لقد أصبح معتقل گوانتانامو مكانا "لجمع النفايات" قدر تعلق الأمر بالسجناء الذين كان مسؤولو معسكر الدوحة في الكويت لا يريدون الإبقاء عليهم في أفغانستان ولا يجرأون على اطلاق سراحهم.
وحتى أواخرشهر يوليو من عام 2005 وبعد اطلاق سراح 180 معتقلا، استمر رامسفيلد بدعواه مصرّا على "إنهم ارهابيون مدربون على صنع القنابل والتجنيد وجمع الأموال وحراسة إبن لادن وانتحاريون، ربما بينهم الأنتحاري رقم 20 الذي كان مفترضا فيه أن يساهم بهجمات سبتمبر11.(147) ولكن وفقا لما صرح به مايكل شوور الذي كان يدير نشاطات وكالة المخابرات المركزية لمقاومة الأرهاب حتى عام 2004 "أنه بحلول خريف عام 2002 أصبح أمرا معروفا بأن 10% فقط من معتقلي گوانتانامو كانوا ذوي قيمة ومن العاملين بنشاط. أكثر الرجال، ربما كانوا في أحسن الأحوال، جنودا لا يفقهون شيئا عن الإرهاب."(148)
كان المصدر الرئيسي لتقديرات شوور في أعلاه هو محلل للوكالة يجيد العربية، والذي كان قد استجوب 30 سجينا على الأقل في صيف 2002 والذي "عاد ليقول انه مقتنع بأننا نرتكب جرائم حرب في گوانتانامو." واستنادا لأقوال المحلل هذه، صرح أحد مسؤولي وكالة المخابرات المركزية للصحفي سيمور هرش بأن "أكثر من نصف السجناء كان يجب ألاّ يكونوا في هذا المعتقل. لقد وجدنا أشخاصا نائمين وسط بركة من غائطهم، ومن ضمنهم مجنونان في الثمانينات."(149)
وطبقا لما أدلى به سامي الحاج، مراسل قناة الجزيرة أن 45 من السجناء معه كانوا أولادا يافعين. وقام محاميه كلايف ستاتفورد بمقارنة تلك الأرقام مع القائمة التي أعلنها الجيش الأمريكي بأمر من المحكمة، واستطاع أن يؤيد وجود 64 ولدا بين المعتقلين. لكن الجيش لم يعترف إلا بوجود 27 ولدا كانت أعمار ثلاثة منهم 10 و12 و13 سنة وقت القاء القبض عليهم.(150) هذا وكان شاب سعودي القي القبض عليه عندما كان عمره 17 قد انتحر وهو في سن 22.(151) كان بعض السجناء كبار السن وهزيلي البنية. فالحاج نصرة البالغ من العمر 80 عاما واُصيب بذبحة صدرية كان يجر ساقيه عندما يمشي في أروقة گوانتانامو مرتكزا على عكاز لأربع سنوات وهو يردد كلاما غير مفهوم.(152) أما محمد صديق فقد اُطلق سراحه عندما بلغ من العمر 93.(153)
هذا وكان الجنرال جون گوردن، نائب المستشار القومي لمكافحة الإرهاب قد صُدم عندما اطلع على تقرير وكالة المخابرات الذي تسلمه في صيف 2002. وقد قام هو وجون بلنگر الثالث، المحامي في مركز الأمن القومي، قد حذرا كل من ادنگتون وگونزاليز بأن هذا "تجاوز على مفهوم العدالة الأمريكية." ووفقا لما ذكره أحد الأشخاص الذين شاركوا في ذلك الإجتماع أن ردّ ادنگتون كان "إن هؤلاء (مقاتلون أعداء) ونرجوكم أن تستخدموا هذه العبارة. لقد خضعوا لعملية فحص دقيق، ولا شيء آخر عندنا يمكن الحديث عنه.(154)
الحقيقة هي أن قضايا السجناء لم تخضع لأي فحص دقيق من قبل هيئة قانونية كما تنص عليه معاهدات جنيف.(155) ولم يتم تقديم أدلة للمراجعة من قبل الهيئة المسماة (CSRTs) حتى صيف عام 2004 بعد أمر من المحكمة العليا التي طالبت بذلك الإجراء.(156) كما تطلب الأمر معركة قانونية طويلة اخرى للحصول على قرارات محاكم بوش العسكرية من وزارة الدفاع. وقد استطاع مارك دنيو استاذ القانون في كلية سيتون هول أخيرا في عام 2006 من أن يدرس الأدلة ضد 517 من أصل 750 معتقلا في گوانتانامو. لقد وجد أن الأدلة واهية. وخلافا لادعاءات رامسفيلد فإن معظم معتقلي گوانتانامو هم "أسوأ ما خلق الله، وأنه تم القاء القبض عليهم جميعا في ساحة المعركة."(157) والأمر عكس ذلك تماما. إن 7% أي 21 معتقلا من أصل 517 قد تمت مراجعة قضيته من قبل (CSRTs) وانه قد تم فعلا القاء القبض عليهم في ساحة المعركة. وبالمناسبة، فإن القوات الأمريكية قد القت القبض على واحد منهم فقط.(158) كما وجد الأستاذ دنيو ان 66% من المعتقلين قد تم تسلمهم من السلطات الپاكستانية، و11% من قوات جبهة التحالف الشمالي لقاء مكافئات مالية سخية. وطبقا لما أدلى به الرئيس الپاكستاني السابق مشرف ان حكومته "قد ألقت القبض على 672 من أعضاء القاعدة وسلمت 369 منهم الى الولايات المتحدة لقاء تسلم الملايين من الدولارات."(159)
ما بين 11 يناير من عام 2002 و22 ديسمبر من عام 2006 كان يوجد أكثر من 775 سجين بدون محاكمة في معتقل گوانتانامو. واخيرا قررت هيئة (CSRTs) ان 520 منهم، أي 67% كانوا "مقاتلين أعداء". لكن الملفات التي راجعها الأستاذ دنيو أظهرت ان 8% فقط من مجموع 517 سجين كانوا من مقاتلي القاعدة. كما وجد أن 40% لم تكن لهم علاقة بالقاعدة، و18% لم تكن لهم علاقة بالقاعدة او طالبان. ووجد أيضا أن 60% لم يسبق له ان تحدث مع عضو في القاعدة. ويعتقد الجيش ان أكثر من نصف المعتقلين لم يقوموا بأي عمل عدائي ضد القوات الأمريكية ولا ضد حلفائها.
لقد أوضحت ملفات هيئة (CSRTs) أن غالبية الأدلة ضد المعتقلين كان مصدرها قوات جبهة التحالف الشمالي وضباط المخابرات الپاكستانية. وهذه الأدلة لم يكن بالأمكان التأكد من صحتها أمام المحاكم العسكرية. كما أن المعلومات التي حصلت عليها فرق الإستجواب الأمريكية كان يشوبها الشك لأنها اُخذت بالقوة. والدليل على ذلك أن أحد السجناء قد وجّه أصابع الإتهام الى اكثر من 60 سجينا من الذين كانوا معه.(160) إن بعض المعتقلين قد تمّ تصنيفه "المقاتلون الأعداء" ليس لأنهم كانوا مساهمين في اعمال حربية، ولكن لأنهم كانوا يقومون بأعمال خيرية يُشكّ بعلاقتها بطالبان او القاعدة او المنظمات الأخرى المرتبطة بهما.(161) ومن بين المنظمات البالغ عددها 72 والتي قالت هيئة (CSRTs) انها ترتبط بالقاعدة أو طالبان، اعتبرت وزارة الأمن الوطني ان 16 منها فقط تـُعتبر منظمات خطرة وحرّمت دخول أحد من أعضائها الى هذه البلاد.(162)
وهكذا بعد 6 سنوات من الأستجواب القاسي، كان بمقدور الجيش أن يوجه الإتهامات الى ما يقارب 20 شخصا بالتآمر لمساعدة المنظمات الأرهابية. غير ان الأدلة لم تكن قوية بما فيه الكفاية لأحالتهم للمحاكم، وفق رأي القاضي پول ستيفنسن الذي نظر في قضية (حمدان ضد رامسفيلد لعام 2006). ويحتاج الكونغرس إذن أن يُشرع قانونا يصبح بموجبه التآمر جريمة يعاقب عليها قانون البلاد.(163) يجب أن تـُظهر الأدلة أن المتهم قد حاول إما لوحده أو بالتعاون مع الآخرين لارتكاب جريمة حرب، بغض النظر عمّا إذا كانت تلك المحاولة ناجحة أم فاشلة. وأخيرا استطاعت ادارة بوش عام 2008 من اثبات التهم على سجين واحد فقط من معتقلي گوانتانامو وهو سليم أحمد حمدان، السائق الشخصي لإبن لادن. لقد وجد بأنه مذنب لتقديم المساعدة للقاعدة. غير أن المحكمة العسكرية برأته من التهم الخمس الأخرى الأكثر أهمية.(164) في شهر نوفمبر من عام 2008 كان هناك 250 معتقلا من أصل 775 ما زالوا رهن الأعتقال في گوانتانامو.(165) أما الآخرون فقد تمّ اطلاق سراحهم بطريقة هادئة.
ومع ذلك فإن الخطاب لإثارة الهلع ونشر الأكاذيت حول المعتقلين في گوانتانامو قد حقق اغراضه السياسية. بكلمة اخرى، جعل الكونغرس والرأي العام يتقبل الفكرة بتمتع الحكومة متمثلة بالبيت الأبيض بسلطة غير محدودة، وتبرير اساءة معاملة المعتقلين.



#محمد_الأزرقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأمل الوهم - أوباما والصراع العربي الصهيوني (الحلقة الثالثة ...
- الأمل الوهم - أوباما والصراع العربي الصهيوني (الحلقة الثانية ...
- الأمل الوهم - أوباما والصراع العربي الأسرائيلي (الحلقة الأول ...
- الأمبراطورية الصهيونية الأمريکية- الحلقة الرابعة
- الأمبراطورية الصهيونية الأمريکية - الحلقة الثالثة
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث - الحلقة الأولی
- الأمبراطورية الصهيونية الأمريکية
- ألأمبراطورية الصهيونية الأمريکية
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث -الحلقة الرابعة
- 3-ألمرأة في الدخيل الجائر من التراث
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث - الحلقة الثانية
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث-الحلقة الثانية


المزيد.....




- متوسط 200 شاحنة يوميا.. الأونروا: تحسن في إيصال المساعدات لغ ...
- -القسام- تنشر فيديو لأسير إسرائيلي يندد بفشل نتنياهو بإستعاد ...
- إيطاليا.. الكشف عن تعرض قاصرين عرب للتعذيب في أحد السجون بمي ...
- -العفو الدولية-: كيان الاحتلال ارتكب -جرائم حرب- في غزة بذخا ...
- ألمانيا تستأنف العمل مع -الأونروا- في غزة
- -سابقة خطيرة-...ما هي الخطة البريطانية لترحيل المهاجرين غير ...
- رئيس لجنة الميثاق العربي يشيد بمنظومة حقوق الإنسان في البحري ...
- بعد تقرير كولونا بشأن الحيادية في الأونروا.. برلين تعلن استئ ...
- ضرب واعتقالات في مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في جامعات أمريكية ...
- ألمانيا تعتزم استئناف تعاونها مع الأونروا في غزة


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - محمد الأزرقي - التملص من جرائم التعذيب في السجون الأمريكية