أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الأزرقي - ألأمبراطورية الصهيونية الأمريکية















المزيد.....


ألأمبراطورية الصهيونية الأمريکية


محمد الأزرقي

الحوار المتمدن-العدد: 1752 - 2006 / 12 / 2 - 09:15
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(الحلقة الأولی)
أصبح جلياً ان الشعب الأمريکي قد صوت في أنتخابات السابع من تشرين الثاني ضد سياسة الحرب التي تبنتها إدارة جورج بُش وحزبه الجمهوري، وادارتها للحرب والأحتلال في العراق. وکانت نتيجة الأنتخابات ان الجمهوريين خسروا الأغلبية في الکونگرس بشقيه، مجلس الشعب ومجلس الشيوخ. وقد أدرك المراقبون للوضع السياسي مباشرة انه لم يخسر أحد من اليهود مقعده/مقعدها سواء کان من مرشحي الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، باستثناء واحد منهم سنأتي علی قصته لاحقاً. ولعل فوز السناتور الصهيوني جو لبرمان بمقعده عن ولاية کنَتِکت، يشکل ظاهرة تستحق الوقوف عندها لأنها تعطينا الدليل القاطع علی مدی النفوذ الصهيوني الذي لا يدرکه قطعاً أغلب الأمريکيين. فعندما يتحدث جو لبرمان في قاعة مجلس الشيوخ عن السياسة الخارجية لأمريکا تشعر ان الرجل حقيقة يتحدث وکأنه عضو في الکنيست الأسرائيلي. لعل من المفيد هنا ان نذکر القراء ان لبرمان هذا کان قد رشح نفسه عام 2000 لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الديمقراطي مرادفاً لآل گور، الذي کان هو نفسه نائباً للرئيس کلنتون، ضد المرشح جورج بُش ونائبه چيني. وعندما وقعت جريمة مهاجمة برجي نيويورك وبناية الپنتاگون عام 2001، أصبح جو لبرمان من أشد صقور الأدارة الأمريکية تطرفاً، خاصة في حربها واحتلالها العراق.

لقد سبَّبَ له هذا الولاء المطلق لسياسة المحافظين الجدد بعض التساؤل من قبل زملائه في الحزب الديمقراطي الی حدَّ انه فشل في الحصول علی تأييد اعضاء حزبه في الأنتخابات الأولية التي جرت في ولايته في مطلع صيف عام 2006. وهو الأمر الذي دعاه الی ان يدخل انتخابات تشرين کمرشح مستقل. ومن الطريف ان الحزب الجمهوري قد خذل مرشحه الأصلي، ووضع بدلا من ذلك ثقل ماکنته الأعلامية ونفوذه المالي الی جانب جو لبرمان، حتی اني شاهدت علی شاشة التلفزيون محافظ مدينة نيويورك مايکل بلومبرگ نفسه، وهو صهيوني آخر في موقع قيادي عال، يحضر المسيرات الشعبية ويشارك في اللقاءات من أجل کسب التأييد الشعبي لجو لبرمان. المرشح اليهودي الوحيد الذي لم يفلح في الفوز بمقعد ولايته الجنوبية، تنَسي، في مجلس الشيوخ عن الديمقراطيين هو هارولد فورد. وباجماع الکثير من المراقبين أن أصوله الأفريقية قد کانت السبب الرئيسي في احجام الناخبين عن تأييده، فانتخبوا بدلاً منه المرشح الأبيض الجمهوري. کما خسر سناتور أمريکي مسيحي من ولاية پنسلفانيا اسمه سانتوروم مقعده لأنه من اشد المؤيدين لحروب الأدارة الأمريکية. والسؤال هو لماذا يحافظ جو لبرمان علی مقعده في مجلس الشيوخ، في الوقت الذي يخسر فيه سانتوروم مقعده، وهما بنفس الحماس والتطرف ويعتبران من صقور إدارة بُش؟

مما لا شك فيه ان امتداد النفوذ الصهيوني علی الساحة الأمريکية ليس وليد الصدفة. ففي الوقت الذي کان فيه الحکام العرب يصادرون حريات شعوبهم، ويشغلونها بأزمات ومغامرات عسکرية طائشة، مبددين الثروات القومية في مشاريع فاشلة وتسليح رديء النوعية (مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان) أوغربي من الدرجة الثالثة (السعودية ودول الخليج والأردن)، کانت اسرائيل من جهة أخری، وما زالت تتلقی أفضل الأسلحة الغربية، الأمريکية خاصة، واکثرها تطوراً من الناحية التکنولوجية، بشکل مجاني علی حساب دافع الضريبة الأوربي والأمريکي. وما زالت هذه المعونة العسکرية الفائقة تتری مشفوعة بمنح مالية سنوية مجانية تبلغ البلايين من الدولارات. لقد تحقق ذلك ويستمر من خلال سياسة ذكية مرسومة مدروسة، لأن إسرائيل تدرك منذ نشوئها أهمية جماعات الضغط. کما إن إسرائيل تدرك الدور الذي تلعبه استطلاعات الرأي في الحياة السياسية، فتقوم بمراقبة نتائج الاستطلاعات المتعلقة بالشرق الأوسط. فإذا أشير إلى تأييد لسياسة معينة أو دولة ما، يستخدم ممارسو الضغط النتائج لإقناع السياسيين بالتصويت لقانون ما أو ضده. وينطبق الأمر نفسه على صفقات الأسلحة والمعونات المالية أو اتباع سياسات محددة تجاه الشرق الأوسط. وكثيرا ما تعد السفارة الإسرائيلية في واشنطن والقنصليات الموجودة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة حملات لجمع المعلومات تقوم على تمكين الخطباء والطلاب الإسرائيليين من حضور المؤتمرات والمشاركة في مناسبات اجتماعية. وتقوم السفارة وقنصلياتها باستمرار باستضافة الأساتذة والناشطين الاجتماعين، إضافة إلى رعاية رحلات إلى إسرائيل مخصصة للصحافيين وقادة الكنيسة، كما توفر أبحاثا متعلقة بالجذور والحقوق التاريخية لشعب الله المختار (!) لمجموعة واسعة من اليهود الأمريكيين والأكاديميين والمنظمات السياسية والاجتماعية.

ونتيجة لذلك فإن تأثير الجهود الضاغطة لليهود يتجاوز الوجود الديموغرافي للجالية في الولايات المتحدة. ففي عام 2000 قدر عدد اليهود بحوالي 5.2 ملايين شخص، وهم يشكلون 2.5% من سكان الولايات المتحدة الأميركية. ولكن تمثيلهم في الکونگرس بمجلسيه وفي البيت الأبيض والأعلام والمؤسسات التعليمية والمالية ودوائر القرار الهامة، علی مستوی الحکومة الفدرالية المرکزية وحکومات الولايات المحلية، يتجاوز تلك النسبة أضعاف ذلك بالکثير الکثير. کما ان المنظمات الإسرائيلية لا مجال لحصرها، فهناك منظمات اليهود الأميركية الرئيسْة، مثل اتحاد الحاخامات الأميركيين، والمنظمات الصهيونية النسائية والأکاديمية والطلابية والدينية والصحفية....الخ. ويُعتبر أكثر من نصف أعضاء الكونگرس البالغ عددهم 535 مؤيدا لإسرائيل، في حين أن المؤيدين للعرب يتراوح عددهم بين ثلاثة إلى ستة أعضاء. وتلعب المؤسسات الصهيونية دوراً فاعلاً في الانتخابات الوطنية والمحلية بشکل مستمر. فقد أنفقت لجان العمل السياسي الصهيونية بين العامين 1990-2004 مبالغ قدرت بحوالي 413.3 مليون دولار لمرشحين وحملات انتخابية لمساعدة مؤيدي إسرائيل على النجاح. ولقد خلق هذا الحضور مناخاً كانت نتيجته إن المسائل المتعلقة بالشرق الأوسط، والحقائق المرتبطة بها تقدم محرفة ومشوهة، لأنها غير معروفة من قبل الغالبية العظمى من الأميركيين، ناهيك عن ممثليهم السياسيين. ونضرب مثالا هنا لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آي پاك)، وهي منظمة الضغط الأكثر فعالية التي تعني بالشرق الأوسط. تقوم هذه المنظمة بإرسال وقائع وأساطير وتقارير حول الشرق الأوسط، ومجموعة وافرة من منشورات لكتاب موالين لإسرائيل إلى مسؤولي البيت الأبيض والسياسيين.

تشير جانيس ج. تيري في كتابها "السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، دور جماعات الضغط ذات الاهتمامات الخاصة"، الی انه في ظل رئاسة كارتر أرسلت اللجنة برسالة إلى كارتر حتى يبدي اهتمامه بها، بما أنه قد لا يكون على علم بالوقائع الحقيقية لحرب 1948. ويبذل ممارسو الضغوط من أفراد هذه الجماعة جهودا كبيرة للاحتفاظ بعلاقة وثيقة مع مجموعة كبيرة من المسؤولين الحكوميين، بدءا بالرئيس وحتى أصغرهم مرتبة، وذلك من خلال إلقاء الخطب وتوجيه رسائل الدعم والتقدير، وتدشين مبان، ودعوتهم إلى مؤتمرات وندوات، ومناسبات وحفلات اجتماعية. وفي ذلك كانت الأفضلية للإسرائيليين وجماعات الضغط الموالية لها للوصول إلى صانعي القرار. أضف الی ذلك تأثيرها علی وسائل الأعلام ومؤسسات المال والبحوث السياسية ومؤسسات التعليم العالي المتميزة. وفي هذا السياق تلعب وسائل الإعلام خاصة دورا محوريا واضحا، وغالبا ما كان للانطباعات الشعبية السلبية السائدة التي تتناول المسلمين والعالم العربي تأثيرات سلبية على السياسة الخارجية الأمريكية حيال الشرق الأوسط، فتلعب المواقف والانطباعات الصادرة عن مجموعة واسعة من الرسميين والسياسيين دورا هاما في التأثير في ما يدعمون من سياسات أو يعارضون.

ومن الکتب الجديرة بالقراءة کتاب صدر حديثاً بعنوان "رمال الأمبراطورية" لروبرت موري، وهو صحفي سابق بجريدة وول ستريت جورنال، وهي أكثر الجرائد اليمينية الأميركية نفوذاً. وهو حالياً، رئيس لوكالة كونگريشينال كوارترلي (فصلية الكونگرس) الإخبارية وهي أهم الوكالات الأميركية المعنية بتتبع أخبار الكونگرس الأميركي. والكتاب مكتوب من وجهة نظر صهيونية تقليدية واضحة، بشكل يجعل الكتاب نموذجا لما يعتري التيار الصهيوني الأميركي اليميني التقليدي من تناقضات مزعجة في أحيان كثيرة خاصة فيما يتعلق بوجهة نظر أتباع هذا التيار تجاه الآخر غير الأميركي وغير الغربي بصفة عامة، واتجاه المسلمين والعرب بصفة خاصة.

مشكلة الكتاب هو تناقضاته المزعجة. فهو لم يكتف بهذا الحد، بل تعداه لوصف الوضع الدولي الراهن من منظور "صدام الحضارات" الذي يؤمن به المؤلف بشكل لا يخلو من نظرة سلبية نحو الإسلام والعالم الإسلامي وخاصة الثقافة العربية الإسلامية. إيمان موري بأن العالم مقسم إلى حضارات مختلفة متصادمة جعله ينظر نظرة سلبية مليئة بالصور النمطية للإسلام وللثقافة العربية الإسلامية سعيا منه لإثبات أن الثقافة العربية الإسلامية مختلفة عن الثقافة الأميركية بشكل سلبي لا علاج له. لذا يعد الفصل العاشر من الكتاب، الذي خصصه المؤلف للحديث عن الثقافة العربية الإسلامية بغرض بيان اختلافها الكبير والأبدي عن الثقافة الغربية، فصلا مليئا بالصور النمطية السلبية عن المسلمين والعرب. هذه الصور ذهبت بالمؤلف إلى حد القول، مستعينا ببعض الدراسات المتحيزة ضد المسلمين والعرب، بأن "النساء العربيات يرضعن بناتهن عاما أو عامين بينما يرضعن أولادهن ثلاث سنوات (!)، كعلامة على مركزية قضايا الشرف والجنس في الثقافة العربية الإسلامية وعلى أن هذه الثقافة قائمة على التمييز ضد المرأة." أنا شخصياً، لا أعرف، ولا أعرف شخصاً يعرف هذا الجانب من ثقافتي الذي اخترعه لنا هذا الکاتب الصهيوني الحاقد. وما إکثر اختراعاتهم لتشويه سمعتنا، وزرع مثل هذه الأفکار المتجنية في ذهن القراء والمواطنين في الغرب عنَّا، نحن العرب والمسلمين.

وكما يقول المؤلف فإن "الحداثة تمثل تحديا أكبر للعالم الإسلامي أكثر مما تمثله لأي حضارة أخرى"، وإن الثقافة العربية الإسلامية قائمة على "الحساسيات القبلية، وقوة الشعور بالعار ودونية المرأة والعداء للآخرين". كما يتحدث الكتاب في فصوله المختلفة عن أن أميركا تخوض بالفعل حربا حضارية مع العالم الإسلامي مستخدما في بعض الأحيان عبارات قوية فجة تخلط بين الإسلام كدين والعالم الإسلامي ككيان جغرافي ومجتمعات تمثل هذا الدين. يقول المؤلف في إحدى صفحات الكتاب "نحن الأمريكيون حقا في حرب مع الإسلام"، كما يقول إنه مع اشتعال الحرب الحضارية بين العالم الإسلامي والغرب سوف يرغم المسلمون عبر العالم على "الاختيار بين ثقافتهم والغرب"، وإن "أقلية سوف تختار الغرب". وبهذا يضع موري الثقافة الإسلامية في صدام حتمي لا مفر منه مع الثقافة الغربية دون الحديث عن فرص للتعايش من منظور تعددي يقوم على الاعتراف بالتنوع والسعي لبناء جسور الحوار والتعاون، کما يدعي المدافعون عن مبادئها وديمقراطيتها العتيدة. ثم يستدرك قائلاً "يجب أن تتحالف أميركا علانية أو سرا مع الحكومات المسلمة الدكتاتورية ما دامت هذه الدول راغبة في التحالف مع أميركا ضد الجماعات الإرهابية، كما يجب عليها الحد من نمو المسلمين في أميركا." حقاً!

كما أن هناك کتاباً آخر لا يقل أهمية، أو بالأحری خطورة، عن کتاب روبرت موري. وهذا الکتاب بعنوان "الصرح" لمؤلفه نيل فيرگسون. بداية يشير فيرگسون، بنوع من السخرية، إلى حادثة بسيطة مفاداها انه بينما كان يحاول إيضاح وجهة نظره ذات يوم، لجأ ديك دارمان، مدير خزينة جورج بوش الأب إلى استعارة اكتسبت من يومها شهرة عالمية. قال دارمان إذا كنت في ريبة من أمر ما فما عليك إلا أن تخضعه لاختبار البطة. "فإذا وجدته يبدو كما تبدو البطة، ويسير كما تسير البطة، ويتكلم كما تتكلم البطة، فعندها يكون من المحتمل أن يكون بطة". اليوم نجد أن ابن بوش الأب بات يعتقد أن الولايات المتحدة يمكن أن تجتاز اختبار البطة أمام كل من يريد أن يعرفها كإمبراطورية، رغم كل ادعاءاته أو ادعاءات أركان إدارته التي تزعم العكس. فجورج دبليو بوش يزعم أن "أميركا لم تكن مطلقا إمبراطورية." ويقول وزير دفاعه السابق دونالد رمسفيلد "إننا لم نكن أبدا دولة استعمارية، إننا لا نخرج بجنودنا إلى أنحاء العالم في محاولة للاستحواذ على ما لشعوب أخرى من موارد وأراض ونفط. إن هذا بالضبط هو ما تحجم الولايات المتحدة عن فعله. وهو ما لم نفعله ولن نفعله." أما وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول فيؤكد قائلا "إن الولايات المتحدة لا تسعى إلى إقامة إمبراطورية على الأرض. فنحن لم نكن أبدا إمپرياليين. لكننا نسعى إلى إقامة عالم تصبح فيه الحرية، والرخاء، والسلام ملكا لكل الشعوب، وليس مجرد امتياز خاص للأقلية."

لكن مؤلف كتاب "الصرح" لا يخامره شك في كون الولايات المتحدة إمبراطورية بحق وحقيقة. لكن فيرگسون لا يحاول تأكيد إمبراطورية الولايات المتحدة من موقع ناقد لهذه الصفة، بل مؤيد ومناصر لها، وأكثر من ذلك معاتب للولايات المتحدة لأنها تقف في منتصف الطريق من دون استكمال مشروعها الإمبراطوري بجعله إمبراطورية ليبرالية. لکنه لم يفوت الفرصة للمجاهرة بقدرات امبراطورية العنف الجديدة هذه. يشير فيرگسون إلى القدرات الاقتصادية والعسكرية الهائلة للولايات المتحدة. فقد كان للولايات المتحدة، قبل قيامها بإرسال القوات لغزو العراق، 732 منشأة عسكرية في أكثر من 130 دولة. وتعادل ميزانية وزارة الدفاع الأميركية مجموع ميزانيات الدفاع في الدول الـ12 أو الـ15 التي تليها، ويشكل الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة 40 - 45% من مجموع الإنفاق العسكري لكل دول العالم الـ189. ولدى الولايات المتحدة من الدبابات ما يفوق ما لدى أي دولة أخرى، إضافة إلى كونها الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك "الحاملات الفائقة" التي يبلغ عددها تسع حاملات وطائرات "الشبح" غير المرئية التي تمتلك ثلاثا منها.

عبر الكتاب يتعرف القارئ على محاولات فيرگسون العديدة لمقارنة إمبراطورية الشر الأمريكية بسابقتها الإمبراطورية البريطانية، وطنه الحقيقي، فالرجل أصلاً من اسکتلندا. ويعرض نقاط الاختلاف بينهما فيما يتعلق بدور الاثنتين كقوة عالمية مهيمنة. يقول لنا فيرگسون إن "مجموع الناتج الإجمالي المحلي الأميركي عام 2002، محسوبا بالسعر الدولي للدولار ومعدلا تبعاً للقوة الشرائية المتناظرة، قد قارب ضعفي الناتج الإجمالي المحلي للصين، وتجاوز نسبة الخمس (21.4%) من مجموع الناتج العالمي، وزاد على الناتج الياباني والألماني والبريطاني مجتمعين. وهذا يتجاوز بما يزيد على الضعفين النسب العليا التي حققتها حصة بريطانيا العظمى من الإنتاج العالمي عندما كانت إمبراطورية تهيمن على الأسواق العالمية. وبقدر تعلق الأمر بكل من الإنتاج والاستهلاك، فإن الولايات المتحدة تعتبر إمبراطورية أغنى بكثير مما كانت عليه الإمبراطورية البريطانية في أي يوم من أيامها". أما سيادة الثقافة الأميركية فأمر لا يكاد يوجد من يشكك فيه. وكفى بـ"استعمار الكوكا كولا" شاهدا عليه. أما إذا أردت الاستشهاد بمطاعم "ماكدونالدز" فإن فيرگسون يخبرك بأن عددها قد فاق الثلاثين ألف مطعم تعمل في 47 دولة وموقعاً على امتداد العالم، وأن أقل من نصف هذا العدد فقط موجود داخل الولايات المتحدة.

لقد کان السقوط المريع للکتلة الشرقية قد هيأ الفرصة التي کان الصهاينة بانتظارها لخلق الأمبراطورية الجديدة بأسم أمريکي وبتوجه صهيوني اسرائيلي. فقد سارعت الأدارة الأمريکية الی بناء القواعد العسکرية في الجمهوريات الأسلامية التي کانت منضوية تحت سلطة الأتحاد السوفياتي، وکذلك بلدان أورپا الشرقية وجورجيا للأنظمام اليها في مغامراتها العسکرية في کل أرجاء المعمورة. هذا وکان المفکر اليساري نعوم چومسکي في طليعة من نبه الی هذه الخطة التي بدأت فصولها تتکشف بوضوح بعد فخ الکويت الذي وضعته دوائر القرارات العليا، والذي وقع فيه صدام حسين بکل تسرع وغباء متميز! أصبح الخليج بعدها قلعة عسکرية منيعة لحماية مخططات الصهيونية واحلامها في تحقيق إمبراطوريتها الموعودة. فکتاب "طموحات إمپريالية" يقدم مجموعة من المقابلات مع المفكر الأميركي أجراها ديفد برساميان حول تبريرات الغزو الخارجي، ومذهب الضربات الأميركية الاستباقية، والدول المارقة، والتهديد المتنامي الذي يشكله الاندفاع الأميركي نحو الهيمنة على السلام الدولي، ونظام الدعاية الصهيوني الأميركي الذي يختلق الماضي الخرافي، وينشر الوقائع غير الملائمة من التاريخ.

ويمضي چومسکي الی القول أن سياسية المجموعة الحاكمة في الولايات المتحدة للسنوات القادمة تبدو قائمة على مأسسة سلسلة من البرامج الشديدة الرجعية، من عجز هائل شبيه بما فعلوه في الثمانينيات (الحقبة الريگانية) وتقويض البرامج الاجتماعية، وتقليص الديمقراطية، وسيكون الإرث الذي سيخلفونه صعبا في الداخل. وعلى الصعيد الدولي يأمل الأصوليون اليمينيون الجدد بتوجيه من القيادة الصهيونية مأسسة مذاهب الهيمنة الإمبريالية من خلال القوة والحروب الوقائية المنتقاة. فالولايات المتحدة متفوقة عسكريا، وتأمل المجموعة المهيمنة عليها اليوم أن تتحرك في اتجاهات خطرة، مثل عسكرة الفضاء استنادا إلى القوة الطاغية بصرف النظر عما يحل بالاقتصاد، واطلاق يد اسرائيل في منطقة الشرق الأوسط. وتخطط السياسات الأميركية بناء على إستراتيجيات دعائية تتجاهل رأي الناس وموقفهم، وتفترض أنهم جهلة وأغبياء لا يدركون مصالحهم أو تتوسل بهذه المقولة لتغطية برامج فردية واستبدادية للحكم والقرار والإدارة. وهناك بالطبع نضالات أمريكية سياسية واجتماعية لمواجهة هذه الطموحات الإمبريالية، وتبدو مكاسبها ضئيلة، ولكنها طبيعة هذه الحركات والدعوات. ويدعونا چومسکي الی النضال المصحوب بالصبر، ويذکرنا بدعوات إلغاء الرق وكم احتاجت من وقت، حتی أمكن بالفعل إنجاز أعمال وبرامج للسلام والعدالة.

إن الهدف الأساسي للجمهوريين الجدد هو توسعة مزايا الأغنياء من حلفائهم وفرصهم في الولايات المتحدة والعالم، والتخلي عن برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية والاجتماعية، ولا سبيل لتحقيق تأييد الناس إلا بإخافتهم وإرهابهم. وبغير ذلك فإنهم سينظمون أنفسهم وأصواتهم الانتخابية باتجاه العدالة الاجتماعية. ولكن الإرهاب فرض عليهم أن يتخلوا عن مصالحهم وأولوياتهم من أجل حماية أنفسهم. وتحت غطاء هذه الحماية يمرر الجمهوريون أجندتهم في التغلب على العدو الرهيب، وهو عدو تم انتقاؤه بدقة ليمكن سحقه بسهولة. ويحتاج المواطنون والناس جميعا في العالم كله لمواجهة هذا الطوفان الدعائي إلى استخدام ذكائهم العادي، وتفحص الطوفان الإعلامي بالحس السليم العادي والذكاء المتشكك. لماذا يواجه نشطاء العدالة الاجتماعية في الولايات المتحدة دائما بسؤال مثل "ما الذي علينا أن نفعله؟" وهو سؤال لا يطرح في العالم الثالث بل الناس هناك يخبرونك بما يفعلونه. ومن الملفت للاهتمام في الولايات المتحدة اليوم أن معارضي سياساتها هم من الأساتذة وكبار السن بعد أن كان المعارضون لحربها في فيتنام في الستينيات من الشباب وطلاب الجامعات. فهل يعني ذلك أن معارضة الحرب قد ولت إلا من بقايا معارضيها أنفسهم في الستينيات؟ الواقع أن حملة الستينيات بدأت بعد سنوات من الجهود القاسية وغير الملحوظة لتتحول إلى حركة شبابية ومجتمعية كبيرة. هذا ما يتوقع چومسکي حدوثه في الولايات المتحدة، ولكن ثمة حملة إعلامية وسياسية إغراقية لعدم الإقرار بالتاريخ الفعلي، ولأجل ألا تدرك أن الجهد المتفاني والملتزم يمكن أن يحدث تغييرات كبيرة، وتلك فكرة خطيرة يجري محوها من التاريخ.

السياسيون في البلدان المتقدمة لا يتخذون قراراتهم إلا بعد استشارة كبار الخبراء والاختصاصيين في الموضوع. ومن هو المختص الأكبر بالاسلام ومنطقة الشرق الأوسط والعالم العربي ككل بالنسبة للسياسيين الأمريکيين؟ انه برنارد لويس، المستشرق العجوز الذي ولد في لندن عام 1916. عمل في مقتبل حياته المهنية في الأستخبارات البريطانية ثم جاء الی الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وحصل علی منصب استاذ مساعد في جامعة پرنستون لتدريس الأسلام والعربية. كل الدلائل تشير إلى انه يمثل المرجعية الكبرى بالنسبة لجورج بوش والمحافظين الجدد. ويقتبس الکاتب هاشم صالح من الصحافي الفرنسي ريشار لابيغيير وكتابه الهام الصادر مؤخراً في العاصمة الفرنسية، والذي قال فيه بأن الصهيوني الذي يعمل استاذاً في جامعة پرنستون مارس تأثيراً كبيراً على كل الإدارات الاميركية المتعاقبة منذ عهد رونالد ريگن وحتى اليوم فيما يخص قضايا الشرق الأوسط. وينصحنا ان نراجع كتاب "التراجع الكبير. بغداد ـ بيروت"، اي تراجع شيراك عن السياسة العربية لفرنسا والتحاقه بالمخطط الاميركي الاسرائيلي. وبرنارد لويس هو المسؤول عن مصطلح "صِدام الحضارات" الذي سرقه منه صموئيل هنتنگتون وخلعه على كتابه الشهير حتى ظن الناس انه هو الذي اخترعه! ولكننا نعلم ان برنارد لويس تحدث عن صدام الحضارات بين الاسلام والغرب خصوصاً منذ عام 1964. هذا في حين ان كتاب هنتنگتون لم يظهر إلا في أواسط التسعينات، اي بعد ثلاثين سنة من بلورة لويس له. لكن ما هي الاطروحات الاساسية لهذا المستشرق الصهيوني المحنك؟

في رأي برنارد لويس ان التراث الاسلامي شيء، والتراث اليهودي ـ المسيحي شيء آخر، ولا يمكن ان يلتقيا. ويعترض صالح هاشم علی هذا الرأي بالقول انه "كل علماء الاديان قالوا بان الاسلام ينتمي الى الديانة التوحيدية، مثله في ذلك مثل اليهودية والمسيحية، ولا يوجد اي خلاف بينهما على هذا الصعيد. وأي قارئ للتوراة والانجيل والقرآن يعرف ذلك. ومع ذلك فان المستشرق الصهيوني مصرٌّ على موقفه المتصلب. وفي رأيه ان الاسلام شيء والعلمانية شيء آخر، ولا يمكن ان يلتقيا لأن الاسلام دين غير قابل للتطور على عكس المسيحية واليهودية! وهكذا نلاحظ انه يحشر الاسلام في خصوصية ضيقة تستعصي على كل تقدم او اصلاح. الاسلام دين المتخلفين، والمسيحية ـ اليهودية دين الحضاريين!" وبرنارد لويس، كما يقول الصحافي الفرنسي المذكور آنفاً، هو المسؤول عن شيوع مصطلح الشرق الاوسط وتعميمه لكي يحل محل مصطلح العالم العربي. والمصطلح الأول فضفاض، حيادي، لا لون له ولا طعم. انه مجرد مصطلح جغرافي لا أكثر ولا أقل، وقد بلوره لكي يدمج اسرائيل في المنطقة، ثم وسعه لكي يشمل أمماً اخرى غير عربية كالفرس والاتراك، بل وحتى الأفغان. وهكذا ذاب العرب في خصوصية اخرى اكبر منهم ولا علاقة لها بلغتهم او تراثهم الأدبي.

وقد أخذ بوش عنه هذا المصطلح لكي يطرح مشروعه عن اصلاح الشرق الأوسط الكبير او تشكيله. وهو بهذا المعنى يشمل منطقة شاسعة واسعة تمتد من حدود المغرب الأقصى وحتى حدود افغانستان والباكستان. وبالتالي فلا يوجد عالم عربي، وانما يوجد إطار جغرافي واسع تختلط فيه الأعراق والأقوام واللغات. بل وأكثر من ذلك، لا توجد دول قومية كسوريا مثلاً او العراق، أو لبنان، أو حتى مصر، وانما توجد طوائف وأعراق. فهناك الشيعة، وهناك السنة، وهناك الأكراد، أو العرب، أو البربر في افريقيا الشمالية. ويلوم المنظِّرون الاسرائيليون والأمريکيون الامبراطوريات الاستعمارية السابقة كفرنسا وانجلترا واسپانيا لأنها شكلت دولاً كبيرة غير متجانسة عرقياً أو طائفياً. بمعنى آخر فإن ما يعتبره العرب أقطاراً مجزأة، صغيرة، يعتبره المحافظون الجدد المتبنون للأيديولوجية الصهيونية "بمثابة اقطار لم تجزأ بما فيه الكفاية!"
(للمقال بقية)



#محمد_الأزرقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث -الحلقة الرابعة
- 3-ألمرأة في الدخيل الجائر من التراث
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث - الحلقة الثانية
- المرأة في الدخيل الجائر من التراث-الحلقة الثانية


المزيد.....




- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...
- انفجار ضخم يهز قاعدة عسكرية تستخدمها قوات الحشد الشعبي جنوبي ...
- هنية في تركيا لبحث تطورات الأوضاع في قطاع غزة مع أردوغان
- وسائل إعلام: الولايات المتحدة تنشر سرا صواريخ قادرة على تدمي ...
- عقوبات أمريكية على شركات صينية ومصنع بيلاروسي لدعم برنامج با ...
- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد الأزرقي - ألأمبراطورية الصهيونية الأمريکية