أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الفنان السوري صخر فرزات لـ ( الحوار المتمدن ): في المتاحف قليل من المعلمين الكبار، وكثير من المتسللين الدخلاء















المزيد.....


الفنان السوري صخر فرزات لـ ( الحوار المتمدن ): في المتاحف قليل من المعلمين الكبار، وكثير من المتسللين الدخلاء


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1211 - 2005 / 5 / 28 - 15:05
المحور: مقابلات و حوارات
    


إن ما يميز تجربة الفنان التشكيلي السوري صخر فرزات هو تبّنيه للمذهب التجريدي منذ بداياته الفنية التي تعود إلى أوائل الستينات والمراهنة عليه، لأن حدوسه وقدراته وذائقته الإبداعية العالية التي تفتقت قبل أوانها هي التي كانت تقوده إلى فضاءات الخلق الغامضة التي لا تمنح نفسها للمتلقي دفعة واحدة، حتى وإن كان ذا خبرة بصرية مدربة، فالفنان صخر فرزات يرى في العمل الفني لغزاً محيراً يتطلب الكثير من الجهد لملامسة بعض جوانبه، وسر المتعة الذهنية في العمل الفني هو أن يظل هناك هامشاً عصياً غير مرئي يحتمل العديد من التأويلات والمقاربات الفنية. في هذا الحوار يسلط الفنان صخر فرزات الضوء على محاور عديدة من تجربته الفنية . وفي الآتي نص الحوار.
? لغة صامتة
? كيف تسنى لك أن تبحث في المذهب التجريدي منذ زمن مبكر ( أواسط الستينات ) رغم شيوع المدارس الفنية الكلاسيكية؟ ما علاقتك بتلك المدارس؟ وكيف تؤول منجزها الفني الكبير؟

- منذ بدء محاولتي للرسم كنت أشعر بأن فن الرسم والتصوير بالألوان الصباغية إنما هو لغة صامتة تنحو صوب التلميح ولا تبتغي التصريح بما يعتلج في الإنسان من مشاعر، ولذا رحت منذ أعمالي الأولى أرسم أشكالاً هندسية وغير هندسية متنوعة وأملؤها بألوان ذات مدلولات نفسية شخصية. هكذا كنت أرسم بطريقة حدسية بحتة من دون دراية بعلم نفس الشكل واللون ولا بتاريخ وفلسفة الفن، وحتى من دون معرفة فنية. لوحات كان فيها كثير من الأشكال والألوان المرمّزة. وأذكر عندما طلب مني أستاذ الفنون في الثانوية المشاركة في المعرض السنوي، تقدمت له بأعمال هي أقرب إلى التجريد المرمّز، مؤكداً له بأن مثل هذه الأعمال أكثر تعبيراً عما أريد مما قد أعبّر عنه في منظر طبيعي أو طبيعة صامتة ( أي المواضيع التي تعلمتها من أساتذتي في المرحلة الإعدادية ). وهكذا شاركت للمرة الأولى في حياتي في معرض بلوحات ذات أسلوب يحتوي على كثير من الأشكال الهندسية، وقد أثارت هذه الأعمال في حينها كثيراً من التساؤلات لدى الأساتذة والطلاب على حد سواء، وكانت رغبتهم دائماً في معرفة المدلولات الرمزية لتلك الأشكال والألوان. كان هذا في عام 1960 . عندما قررت أن أكون رساماً وفناناً تشكيلياً ذهبت إلى الأستاذ الفنان ناظم الجعفري الذي كان قد درّسني في المرحلة الإعدادية وزرع فيّ محبتي للفن والرسم. تبين لي معه ويإرشاداته بأن عليّ أن أتعلم حرفة الرسم وتقنيات العمل وهذا يفرض الدراسة الجادة للطبيعة والواقع ولأساليب المعلمين القدامى في كافة المواد المستخدمة. وهكذا كان. فأخذت بالعمل والتدرب لسنوات تخللتها الدراسة في الأكاديمية. إلا أنه وخلال كل هذه المدة كنت مسكوناً بوجهة نظر شخصية بالفن والعمل الفني وجمالية الشكل واللون. باختصار كنت مشغولاً بتعريفات وأسئلة وبطروحات فنية خاصة وبعيدة عما كان متداولاً في حينه في الوسط التشكيلي بدمشق. ولهذا السبب لم أكن من الطلاب المتفوقين في الدراسة لأنني كنت طالباً مشاكساً، حيث لم أكن أبتغي إرضاء الأساتذة بقدر ما كنت أسعى إلى التزود ببعض الخبرة والمعرفة المدرسية من أجل ترسيخ منطلقات مساري الشخصي. وبالتالي فأن خبرتهم ومعرفتهم هي التي كانت بالنسبة لي في موضع المعاينة والاختبار ضمن ميزان المسار الذاتي الذي بدأت رسمه لنفسي منذ بداية عملي في الفن ( الرسم ). اثنان فقط خرجا من منطق هذه العلاقة حيث مدّا معي جسور صداقة لم تنقطع أبداً. تعلمت من الأول أن الوصول إلى شخصنة الأسلوب لا يكون إلاّ بشمولية المعرفة، ومن ثم بشخصنتها في الزمان والمكان، وهذا يحتاج إلى طاقة تمرد على كل ما هو في المحيط، أي على الآخر، وإعطاء الأهمية للمركز، أي للذات. ومن الثاني اكتسبت أهمية ممارسة النسيان المستمر لكل ما تعلمت وسأتعلم، شجاعة الإلغاء للدوائر المرتسمة للوصول إلى الدائرة الأشمل والأبعد والأوسع، وهذا يحتاج إلى طاقة تمرد داخلية، تمرّد في الذات وعلى الذات. أستاذاي وصديقاي اللذان وضعاني على هذا الطريق الصعب، الأول فاتح المدرس، والثاني محمود حوّا. في حوار قديم بيني وبين فاتح سألته مرة: إذاً، ما حاجتك أنت في عملك إلى تلك الخطوط البسيطة والقليلة جداً والتي توحي بالوجه الإنساني إن كنت مؤمناً لهذه الدرجة بقوة التجريد؟ فأجابني بكل جرأة: لأنني لا أملك الشجاعة الكافية لدخول هذا العالم الفسيح الصامت، أنا غير مستعد للدخول في هذا المجهول، أنه فضاء يرهبني ويرعبني، فضاء لا حدود له، لا شكل، لا قوام، إنه الدخول في السر، وأنا سأظل على العتبة، وضحك. أما أنا فقد اخترت الدخول في هذا الفضاء الغامض، ولا أقصد هنا أنني أكثر شجاعة أو تمرداً أو استعداداً من فاتح، ولكن لنقل أكثر تهوراً. فدخول الفنان مجاهل هذا الفضاء وصمت هذا السر هو دخول في ظلمة لا يعرف الإنسان إلى أين ستفضي، إنه كدخول المتصوفة في عتمة الطريق إلى الحقيقة التي لا تتبدى وإن تجلّت، كدخولهم في صمت السر الذي لا لغة له ولا شكل ولا تشكّل.. هكذا كان طريق التجريد بالنسبة لي، توق دائم لاستجلاء معنى وسر هذا ال ( هو/ أنا ). والعمل الفني كان ولا زال بالنسبة لي وسيلة للارتجال والتنقل في هذا المجهول، ولم يكن هدفاً لذاته أبداً. أما عن علاقتي بالمدارس الفنية الأخرى فأقول لك بأنني في المتاحف أقف دائماً مدهوشاً أمام أعمال المعلمين الكبار وأتساءل كيف استطاع واحدهم الوصول إلى ما وصل إليه في استجلاء معالم السر في عمله الفني، وأُذهَل من عمق الطريق الذي رسمه بعضهم في ظلمات هذا الفضاء المجهول بحثاً عن ضوء الحقيقة الذي سيظل لنا جميعاً هذا الفضاء المجهول الحدود بحثاً عن ضوء الحقيقة الذي سيظل لنا جميعاً سراباً لا يلمس. ( في المتاحف قليل من المعلمين الكبار وكثير من المتسللين الدخلاء ).
? صفاء ونقاء
? إذا كانت الموسيقى هي اللغة التجريدية الصافية، فكيف يستطيع الفنان صخر فرزات أن يصل بلوحته التجريدية إلى هذا الصفاء البلوري؟ وكيف تقيم تجربة الفنان موندريان في هذا الصدد الذي أوصل فيه العمل الفني إلى ذروة التجريد معتمداً على التضاد اللوني واللاشخصنة التي تمنح المتلقي متعة بصرية لا تقل شأناً عن اللوحة الكلاسيكية إن لم تتفوق عليها؟
- أنت محق في أن تقول بأن اللغة التجريبية الصافية هي للموسيقى، ولكن هذا في عالم الصوت. ومن الحق أن نقول أيضاً بأن لغة اللون هي اللغة التجريدية الصافية ولكن في عالم الصمت. أما علاقة التجريد بالصفاء والنقاء والشفافية فهي مسألة عضوية، إذ من الخصائص الطبيعية الأساسية للتجريد أن يتصفى ويتجرد من كل الشوائب ومن كل ما علق يه عبر التاريخ، فالشكل المجرد هو هذا الشكل الذي تخلص من كل الدلالات الأدبية المتعارف عليها تاريخياً أو اجتماعياً أو حتى معرفياً، وتبقى بعيداً عن كل التعريفات والقوانين الرياضية للشكل، وهو أيضاً شفاف يصعب تجسده بحدود وقوام شكلانيين. فلهذا أن عمل لوحة تجريدية ما هو إلا غوص في هذه المجاهل الصعبة للصفاء والنقاء والطهارة والشفافية. تبدو اللوحة التجريدية للعابر سهلة طيعة الوصول والتواصل، ولكنه إذا ما توقف أمامها يدرك جدية تحصنها وصعوبة اختراق ستورها وولوج أبواب جناتها، فما هو في السر لا يتجلى ولا يتبدى إلا لمن يبحث عنه حقاً. أما موندريان فقد كان بحاثاً عن السر الشكلاني وعن شكلانية السر. خطوة كبيرة وهامة للدخول في الأعمق بالنسبة لكثير من الناس، وهذا بحد ذاته إضافة وفيض. ولكنني أعتقد ( ويمكن أن يكون هذا لأنني أحمل إرث ثقافة مشرقية ) بأن هذا لا يكفي، فهناك أيضاً سر لهذا الذي لا شكل له، ولم يكن ذل من اهتمامات موندريان.
? أجنحة الحرية
? أنت مقيم في باريس منذ العام 1977 ، وقد اشتركت في العديد من المحافل والأنشطة الثقافية والفنية. هل تستطيع أن تعتبر مرجعيتك أوربية. أم أن هناك خيوطاً خفية تشدك إلى الموروث الفني العربي؟
- وحتى لو عشت أيضاً أضعاف المدة التي عشتها للآن في باريس فان مرجعيتي لن تكون أوربية فقط، ربما ستكون مرجعية ابني الذي ولد في المهجر في أغلبها أوربية، ولكن ليس لواحد مثلي عاش طفولته وشبابه وفترة تشكله الأولى، وعمل وناضل وقاتل في سبيل وطنه الأصلي. إنني أحمل كثيراً من ذكريات الطفولة والشباب في أنساغ جذوري. ورغم أن عدداً من الناس في الوطن ينظر إلى أعمالي وكأنها أعمال أوربية، فأن سعادتي تأتي عندما أسمع الأوربيين المختصين يؤكدون على خصوصية عملي وميزاته الشرقية، وعندما يضعوني تماماً حيث أريد في موقعي كفنان شرقي. ولكنني لا أريد إلى أن انوّه إلى أن الانتماء إلى عائلة لا ينفي الانتماء إلى أمة، والعكس صحيح أيضاً، وبالتالي فإن ذهنيتي الشمولية حضارياً وإنسانياً لا تلغي ذاكرة طفولتي وشبابي في الوطن، وهذا موضوع حتمي وطبيعي في عصرنا. كانت هجرتي لأسباب معينة وأهداف محددة. كنت فقط أريد أن أتنفس، وكان الهواء شحيحاً بالأوكسجين. كنت أود الطيران والتحليق عالياً، وكانت أجنحة الحرية مختوماً عليها بالشمع الأحمر، ومكدسة في أقبية وزنزانات من دون عنوان. كنت راغباً في التفكير المختلف والحب المتميز. وكنت أريد أن أكون حراً في أحلامي وخيالي، وكان ذلك يحتاج إلى إذن وترخيص، فهاجرت. أعرف عدداً لا بأس به من المثقفين والفنانين ممن هاجر وظن أنه قادر على تغيير لون جلدته فكراً وثقافة وحياة. أنا لا أريد أن أطلق عليه أية أحكام، لابد أن ظروفهم كانت تدفع لكل ذلك. فقط أريد أن أقول إنني لست من هؤلاء الذين لا تظهر هويتهم لا في أعمالهم، ولا على جباههم.
? الضوء الغائب
? وأنا أتجول معك في متحف الفن الحديث في أمستردام لمست امتعاضك واستياءك المعلن من بعض اللوحات الفنية الحديثة التي لا تنضوي تحت يافطة محددة أو قالب معين، لكنها من المؤكد تقع تحت ( خانة ) التجريب. كيف يستطيع المتلقي العادي الذي لا يمتلك خبرة بصرية أن يفرّق بين الفن واللافن؟
- إن عالم الفن التشكيلي يرتكز بالدرجة الأساسية على الحرية، وعلى استحالة تأطيره وقوننته. انه كما قلت قبلاً بحثاً في العتمة عن سر مجهول لا يتجلى ولا يتبدى. فمن يستطيع التبجح وادعاء معرفة الطريق الصحيح؟ لا أحد حتماً. المشكل الكبير في الفن التشكيلي هو أن أغلب العاملين فيه موجودون على عتبات هذا الفضاء المظلم، وكل منهم يعرض وجهة نظره في ولوج هذه العتمة، وكل منهم يعتبر أن الطريق الذي رسمه هو القادر على الوصول إلى هذا الضوء الغائب. وامتعاضي في أثناء زيارتنا للمتحف كان من شكل هؤلاء القابعين والمتنطعين والمتبجحين بالمعرفة والفن، واستيائي كان من خواء ما يقترحون علينا من حلول. فأنا لا أعتبر هؤلاء وإن كانت لهم أعمال في بعض المتاحف ممن يستحقون الدخول في جنات المبدعين وفي تاريخ الفن الحقيقي. فالحرية التي تشكل أساس الفن والخلق والإبداع، هي أيضاً المنفذ الذي يتسلل منه كل المشعوذين والمدعين. إلا أن هذا السر الهارب أبداً والذي نلمح وجوده في الأعمال العظيمة لكبار الفنانين، ولا نلمحه في أعمال هؤلاء المدعين هو المعيار الكفيل بكشف هشاشة وخواء إنتاج كل دخيل على الفن. والمتلقي العادي يملك برأيي من الحس الطاهر ومن البصيرة ما يؤهله للتمييز بين الفن واللافن، وذلك رغم أهمية موضوع امتلاك الخبرة البصرية أو عدم امتلاكها. ففي عصرنا هذا يتوجب علينا الحذر في اختياراتنا لمصادر تعلمنا من أجل اكتساب الخبرة البصرية. فمدعي المعرفة في الفن كثر والكمية الكبيرة للمتثاقفين المتواجدة على السطح الاجتماعي والإعلامي والتسويقي في المجتمع الثقافي قد سبب تشويهاً في مكتسب الخبرة البصرية عند بعض الناس.
? قال بول فاليري ذات مرة: ( لبس أخطر من جعل الرسم يتكلم . . الرسم يُرى ) كيف تؤول هذه المقولة، وإلى أي الجانبين تصطف ولماذا؟
- أنه لمن الطبيعي بعد كل ما ذكرت أن أكون في صف بول فاليري فيما قال، ولكنني أود أن أضيف إلى مقولته شيئاً لم تدركه ثقافته الأوربية، وهو أن الرسم لا يرى بالعين فقط، فهو يُدرك بالبصيرة أيضاً، ويتمثل جماله ومعناه بالحدس، لأن الرسم والفن ما هما إلاّ تجل جميل لمعنى باطني مجهول.
? فعل الاستنساخ
? لماذا يتمرد الفنان على الأشكال الفنية دائماً وما سر اللهات المسعور خلف الاكتشافات والمدارس الفنية الجديدة؟ بمعنى آخر هل هناك متسع من الوقت لدراسة كل هذه المذاهب الفنية بشكل معمق يمنح الباحث أو الناقد فرصة كبيرة في الرصد والتأمل والاستنتاج؟
- لا أرى في عمل الفنانين الجادين تمرداً. أنهم هؤلاء الدخلاء الذين يروجون لأعمالهم بادعاء التمرد على إنتاج الآخر. الفنان الجاد إنما يقوم بعمل إضافة في فضاء ملئ فيحدث حالة فيض، لهذا يظن البعض بأن فعل الإضافة هذا صفة تمرد. الفنان الحقيقي لا يحب الاستنساخ ( كلوناج ) وهذا شيء طبيعي إنه يمارس عملية تطهر تؤهله لممارسة الفعل الإبداعي، ومن دون هذا التطهر المعرفي سيصعب عليه النجاة من فعل الاستنساخ والتقليد. يجب على الفنان أن يعرف ويزيد في معرفته، ولكن عليه لحظة الخلق أن يكون قادراً على نسيان ما تعلم وما يعرف ليدخل إلى واحة الإبداع نظيفاً طاهراً. إنه فعل معادل لفعل دخول الجنة. وأتذكر في هذه المناسبة قول السيد المسيح ( وأدخلوا من الباب الضيق ). أما أن كان سؤالك يشير خفية إلى هذا الكم الكبير من المدارس والأساليب الفنية، فهذا أيضاً طبيعي، لأن الفنان في هذا الزمن يعيش عصراً كثير التقلبات والأحداث والتطورات في كافة المجالات، والمتغيرات المعرفية تكاد تكون يومية، وبالتالي فإن الفنان في موضع شك وتساؤل دائم، ومعرفته في موضع تقييم مستمر. وهو ليس وحيداً في معاناته من هذه الحالة، فحياة الإنسان في هذا العصر تضم أكثر من حياة فيما إذا قارناها بحياة الإنسان قبل مائتي عام أو أقل. إذ أن تواتر تغير الأحداث والمنقلبات في كافة المجالات كانت بطيئة، بينما نعيش الآن تسارعاً في الأحداث والمتغيرات لم يسبق له مثيل في التاريخ. فمثلاً أصبحت الدورة التقنية لا تتجاوز في مدتها الشهر على أبعد تقدير، ويمكن أن نعمم ذلك على العديد من المجالات. أما مسألة الوقت المتسع للدراسة والرصد والتأمل، فأعتقد أن هذا أصبح من الصعوبة بمكان، فلقد كثرت المعلومات واتسعت آفاق المعرفة لدرجة أصبح فيها الفرد المطلع، ولنقل المثقف، ربما أكثر معرفة من أمثاله في القرن الماضي، ولكنه بكل تأكيد أكثر جهلاً من قرينه فيما إذا قسنا حجم معرفة كل واحد منهما بحجم المعرفة الكلية للإنسانية لعصر كل واحد منهما. وتحضرني الآن هذه المعلومة، إذ يقال عن مصادر اليونسكو، بأن الإنسانية تنتج كحد أدنى يومياً حوالي ألفين من الكتب القيمة التي تشكل مرجعاً هاماً للدراسة في كافة المجالات، فبالله عليك قل لي من هو المثقف القادر على قراءة أكثر من كتاب صغير في اليوم الواحد؟
? المضمون الحلمي
? حافظ الرسام السريالي على الثيمة بقدر أو بآخر، لكن الفنان التجريدي أجهز عليها وتجاوزها. هل تستطيع أن تجد ثيمات محددة في أعمالك الفنية يمكن إلتقاطها بسهولة وسط هذه الهيمنة الشكلية. أم أنك تؤمن بمبدأ التداخل والتماهي ما بين الشكل والمضمون؟
- في الحركة السريالية هناك أكثر من اتجاه وبالتالي خلاف في وجهات النظر وفي التعريفات أدى إلى إنتاج متنوع ومتعدد. للأسف أن أكثر السرياليين شهرة في وطننا العربي هو سلفادور دالي، وقد أدى ذلك إلى بعض الخلط، فهذا المهرج قدّم الفكر السريالي بشكل كاريكاتوري، بينما تعتبر السريالية حركة فكر وفن وثقافة جادة بعيدة عن الهزء والسخرية. ودالي الذي كان يملك بعضاً من المهارة التقنية المدرسية استطاع أن يكسب شعبيته وانتشاره لأنه كان يقدم إنتاجاً له صلة بالفهم الرعاعي البسيط للسريالية وكذلك للغة الصورة. أما السريالية الحقة فقد كان لديها وجهة نظر متوازنة فيما يخص الشكل والمضمون والأساليب الجادة الأخرى كان الشكل والمضمون بالنسبة لها يشكلان وحدة لا تنفصل. فالمدارس والأساليب المدرسية التقليدية التي تعتمد على الواقع في علاقتها مع الشكل، إنما تعتمد على شكل محدد في مضمونه، واحتمالات التنوع في الموضوع تكاد أن تكون معدومة. إنها تبحث في هذا الشكل بعينه، وبالتالي في هذا المضمون الذي يحمله هذا الشكل بالذات. أما بالنسبة للسريالية الجادة الحقيقية ( وأقصد هنا ماكست أرنست، خوان ميرو وأمثالهما ) فالشكل هنا يمكن أن يكون أي شكل محدد أو غير محدد/ معرّف أو غير معرّف، فطالما أنه قادم من عالم حلمي غير واقعي، فهو يحمل مضموناً حلمياً ( فوق واقعي ). كذلك الأمر بالنسبة للتجريدية فأنها تعتبر أن أي شكل، كبير، أو صغير، هندسي ( مربع مثلث دائرة ) أو غير هندسي، واقعي، حلمي، أو حتى النقطة، هو شكل يحمل عدداً لا يحصى من المضامين، وكذلك فأن اللون لابد في تواجده من أن يتحدد بشكل، وه كذلك يحمل في طيات ذراته أعداداً يصعب حصرها من المضامين، وللإنسان المتلقي أن يحدد مضمون الشكل واللون بما يريد، وهذا يعني نوعاً من الاحترام للمشاهد. إنها الحرية، فالفنان التجريدي لا يفرض على المشاهد كل شيء، لا يفرض عليه كل الحكاية، إنه يقوده في رحلة يحدد له فيها المسار العريض، ولكنه يترك للمشاهد أن يختار لنفسه التفاصيل، وإنني أرى في ذلك عملاً أكثر اقتراباً من عملية الخلق الأولى، حيث الكون محكوم بمعادلة خلق شمولية عامة لا يمكن الخروج عليها، وفي الوقت ذاته، الكون حر في رسم معادلات وعلاقات لعناصره الصغيرة فيما بينها طالما أن هذا لا يمس معادلة الخلق الشمولية الأساسية الأولى. على هذا الأساس، ألا ترى معي إذاً، بأن الرحلة في عالم عمل تجريدي جاد وحقيقي هي رحلة في بحر من المضامين، رحلة في الحرية حيث لا حدود؟ ألا ترى معي أن في ذلك عودة للتأكيد على القيمة الأولى للإنسان والحرية؟
? ماذا يعني لك البعد الرابع على الصعيدين الفني والحياتي؟
? لا أعرف هنا ماذا تقصد بالبعد الرابع، فمن الناحية العلمية والفلسفية هو الزمن، أما من الناحية الفنية فهو مضمون العمل. إن قصدت البعد الرابع بمعنى الزمن فنياً وحياتياً فأنا لا أخفي عليك بأنني أكثر ارتباطاً بالفضاء، أي بالمكان، وربما لهذا من النادر عندي ذكر تاريخ إنتاج العمل عند توقيعي عليه. أما إن قصدت بذلك المضمون وقيمته بالنسبة لي حياتياً وفنياً فالمسألة مختلفة، وهنا أحب أن أوضح بأنني لست إنساناً شكلانياً، لا على المستوى الحياتي ولا الفني، ولكن هذا لا يعني أيضاً عدم الاهتمام بالشكل. على أية حال لا أفضل الفني على الحياتي، فأنا أفهم الحياة من منطلقات فنية آتية من الرسم أحياناً، وأفهم الفن من منطلقات حياتية معاشة أحياناً أخرى. وفي هذا فغن الفني والحياتي مختلطان عندي وفيّ، وليس سوى الإنسان ذو البعد الواحد . . الحرية.
? الجنة الخفية
? كتبت في النقد الأدبي دراسات متعددة في الكثير من الصحف والدوريات العربية والأجنبية. ما هي أبرز الظواهر التي لفتت انتباهك كناقد فني؟ وما هي المسوغات التي تدعوك للكتابة عن فنان معين أو تجربة ما؟ كما كتب الكثيرون عن تجربتك الفنية . . من هو الناقد الذي استطاع أن يستبطن تجربة صخر فرزات الفنية، ويكتشف جوانب لم تلتفت إليها سابقاً؟
- قبل كل شيء أنا لست ناقداً فنياً، ولا أريد أن أكون، فهذه مهنة تحتاج إلى وقت كبير، وأنا لاأملك هذا الوقت. ما كتبته حتى الآن لم يكن نقداً لأنه لا يستند إلى منهجية نقدية، والدراسات والمقالات التي قدمتها، والتي أكتبها أحياناً ولا أنشرها وأستبقيها للأسف حبيسة المصنفات ليست سوى تسجيلات لخواطر وملاحظات وآراء في الفن والحياة، لإنسان يعمل في الفن وينتج أيضاً أعمالاً فنية ويعيش في بيئة ومناخ ثقافي، مما يعطيه الحق لأن يقول رأيه فيما هو مرتبط بهذه المجالات. لا أعرف إن كنت مصيباً فيما سأقول، لكن الناقد في رأيي يحتل موقعاً يجعله قادراً على إطلاق الأحكام، أنه أشبه بالقاضي المتخصص. بالنسبة لي لا أملك طبيعة القاضي، وكتابتي هي محاولة لشرح العمل، لقراءته، أو لنقل أنها تسجيل لمشاعري الشخصية تجاه العمل أو تجاه الفنان وأحياناً الأسلوب. الناقد قادر على الكتابة عن أي فنان أو في موضوع، أحبّه أم لا. بالنسبة لي لا أستطيع الكتابة في أي موضوع إذا لم يكن هناك دافع يحرضني على الكتابة، وهذا الدافع المحرض أما أن يخلق من تعاملي مع العمل الفني أو مع الاتجاه، وأحياناً مع الفنان أو مواقفه وحياته، ولا توجد عندي أية قاعدة في ذلك. كتاباتي تخلق تماماً كما تخلق لوحاتي، هكذا من دون خطة مرسومة مسبقاً، فلذا فهي تخلق منهجها بوجودها وليس قبلاً. ورغم أني عملت في الصحافة لفترة قصيرة ( اليوم السابع لمدة عامين تقريباً ) كمسؤول عن صفحة الفن التشكيلي إلا أنني لم أكن أعتبر نفسي ناقداً أبداً، مع أن المادة المكتوبة كانت تأخذ شكلاً نقدياً بأسلوب صحفي. أما عما قيل وكتب عن تجربتي، نشر أو لم ينشر، فالحقيقة أنا أعتز بكل ما قيل وكتب سلباً كان أم إيجاباً، وأحترم وجهة نظر الآخر دائماً، لأنني أرى في كل رأي جانباً من الحقيقة والصحة، رغم النقاط التي يمكن أن يكون قد غفل عنها، فكما نعرف جميعاً، من الصعب الإحاطة بكل أسرار العمل الفني، لأن العمل الفني الذي يكشف عن أسراره هو ليس عملاً إبداعياً جديراً بالاهتمام. العمل الفني مثله مثل الإنسان، له وجوده المكشوف ووجوده الخفي، أي له جهره وسره، وكما للإنسان جنته، للعمل الفني أيضاً جنته الخفية الخاصة به، وهي عادة موصدة الأبواب، وفيها يكمن سر العمل.
? الفنان في سطور
? من مواليد بانياس-سوريا عام 1943.
? أستاذ سابق في قسم الرسم والتصوير، وقسم العمارة في كلية الفنون الجميلة بدمشق.
? أقام حتى الآن عشرين معرضاً شخصياً في أمريكا وعدد من البلدان العربية والأوربية.
? كما شارك في عدد من التظاهرات الفنية العالمية منها بينالي الإسكندرية، وبينالي سان باولو، واللقاء العالمي للفن المعاصر في باريس، ومعرض من السوريالية إلى التجريد في دالاس – تكساس.
? يقيم في باريس منذ عام 1977.











#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذائقة النقدية للصوص فان خوخ، ولماذا سرقوا لوحتي ( منظر للب ...
- سلسلة أغلى اللوحات في الفنية في العالم( 3 ): - حفلة رقص في م ...
- ما اللوحة الأخيرة التي رسمها فان كوخ قبل أن يطلق النار على ن ...
- بنيلوبي كروز، فاتنة مدريد، وفيلم - العودة - لبيدرو ألدوموفار
- مدرسة دنهاخ الفنية وشاعرية اللون الرمادي
- سلسلة أغلى اللوحات الفنية في العالم - 2 -: - صبي مع غليون - ...
- سلسلة أغلى اللوحات الفنية في العالم: - بورتريه د. غاشيه - لف ...
- المخرج السينمائي سعد سلمان ﻟ - الحوار المتمدن -: الشع ...
- المخرج خيري بشارة لـ - الحوار المتمدن -: في الفيلم التسجيلي ...
- المخرج السينمائي قاسم حَوَلْ لـ - الحوار المتمدن -:عندما تسق ...
- المخرجة الأمريكية - مصرية الأصل - جيهان نُجيم: أشعر أن هناك ...
- لماذا لم تندلع الثورة الذهبية في أوزبكستان، البلد الذي يسلق ...
- الأصولية والإرهاب: قراءة في مستقبل الإسلام والمسلمين في هولن ...
- المخرج فرات سلام لـ - الحوار المتمدن -:أتوقع اقتراب الولادة ...
- موسوعة المناوئين للإسلام - السلفي - والجاليات الإسلامية - ال ...
- التراسل الذهني بين فيلمي (ان تنام بهدوء) و(معالي الوزير) الك ...
- الرئيس الجيورجي ميخائيل ساكاشفيلي والثورة الوردية: حليف أمري ...
- فرايبيرغا، رئيسة لاتفيا الحديدية: تتخلص من تبعية الصوت الواح ...
- -المخرج فرات سلام في شريطه التسجيلي الجديد - نساء فقط
- صمت القصور - فيلم من صنع امرأة: كشف المُقنّع وتعرّية المسكوت ...


المزيد.....




- نتنياهو لعائلات رهائن: وحده الضغط العسكري سيُعيدهم.. وسندخل ...
- مصر.. الحكومة تعتمد أضخم مشروع موازنة للسنة المالية المقبلة. ...
- تأكيد جزائري.. قرار مجلس الأمن بوقف إسرائيل للنار بغزة ملزم ...
- شاهد: ميقاتي يخلط بين نظيرته الإيطالية ومساعدة لها.. نزلت من ...
- روسيا تعثر على أدلة تورّط -قوميين أوكرانيين- في هجوم موسكو و ...
- روسيا: منفذو هجوم موسكو كانت لهم -صلات مع القوميين الأوكراني ...
- ترحيب روسي بعرض مستشار ألمانيا الأسبق لحل تفاوضي في أوكرانيا ...
- نيبينزيا ينتقد عسكرة شبه الجزيرة الكورية بمشاركة مباشرة من و ...
- لليوم السادس .. الناس يتوافدون إلى كروكوس للصلاة على أرواح ض ...
- الجيش الاسرائيلي يتخذ من شابين فلسطينيين -دروعا بشرية- قرب إ ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عدنان حسين أحمد - الفنان السوري صخر فرزات لـ ( الحوار المتمدن ): في المتاحف قليل من المعلمين الكبار، وكثير من المتسللين الدخلاء