وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 4228 - 2013 / 9 / 27 - 16:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ماعلاقة صابئة حران بصابئة البطائح (العراق ) ؟
قال المستشرق الاوراكييني خولسون الذي تخصص بدراسة صابئة حران :
( ان الحرانيين لم تكن لهم وحدة مع المندائيين لان الحرانيين عبدة كواكب , بينما يبغض المندائيون عبدة الكواكب . وقد وافقه على رايه اوليري الذي اعتبر ان الصابئة الحقيقيين كانوا في جنوب العراق ولا علاقة لهم بحران .ولكن الليدي دراور الباحثة التي درست عقيدة الصابئة المندائية , وعاشت معهم واتقنت لهجتهم بالارامية ورطانتهم العربية , تشير الى ان لدى الحرانيين مايشتركون به مع الصابئة المندائية الذين يسكنون جنوب العراق :
( الصابئة المندائية – ج1- ص 13- الليدي دراور – ترجمة نعيم بدوي وغضبان رومي – بغداد – 1987 ) .
قال مار يعقوب الرهاوي ( توفي 708 م ) : ( وقد ورد في كتب الكلدانيين ( يعني الصابئة بحسب الباحث ) قولهم ان السماء والارض والشمس والقمر وسائر الكواكب هي ازلية غير مخلوقة , وهم الهة وارباب , وهم سادة هذا العالم ... ) .
لقد ذكرهم مار يعقوب باسم الكلدان ثم ذكرهم مرة اخرى باسم الحرانيين . وقال ابن الجوزي عنهم : ( اشتغلوا بالتنجيم والسحر وقالوا : لابد من متوسط بين الله وبين خلقه في تعريف المعارف والارشاد للمصالح . الا ان ذلك المتوسط ينبغي ان يكون روحانيا لا جسمانيا , وهذا الوسيط هو الفلك القديم الذي لاصانع له ( تلبيس ابليس – ص 84 ) .
وعندما نشر الالوسي كلمة ( الصابئة )التي ورد ذكرها في القران الكريم قال : هم قوم مدار مذهبهم التعصب للروحانيات , واتخاذهم لها وسائط . وهم فرقتان :
1 – عبدة الكواكب .
2- عبدة الاصنام .
وكل من هاتين الفرقتين اصناف شتى مختلفون في الاعتقادات والتعبدات .
كيف نظر الصابئة الى انفسهم ؟
جاء في كتاب للصابئة المندائية عنوانه ( حران كوثية ) , اي حران السفلى انهم جاؤوا الى بطائح البصرة من مدينة حران وماحولها من جبال ماداي , حيث الينابيع الساخنة في الشتاء والباردة في الصيف .وهذا الوصف ينطبق على منابع نهر البليخ التي يسميها العرب بعين الذهبانية , والتي تسمى اليوم ( عين عروس ) . حيث يوجد المقام المنسوب الى ابراهيم الخليل .
قال ثابت بن قرة الحراني في كتابه ( مشاهير اسرته وسلسلة ابائه ) :
( لقد اضطر الكثيرون منهم ان ينقادوا للضلال خوفا من العذاب ( يشير بهذا الى الحادثة التي اسلم فيها الكثيرون عندما مر المامون بهم عام ( 218 هجرية – 933 م ) . اما اباؤهم فقد احتملوا ما احتملوا بعونه تعالى ونجو ببسالة . ولم تتدنس مدينة حران , هذه المدينة المباركة بضلال الناصرة قطعا ( الناصرة – تشير الى المسيحيين ). فنحن الوارثون والموروثون للصابئة المنتشرة في الدنيا .فالذي يحتمل برجاء وثيق اثقال الصابئة , يعد ذا حظ سعيد . ليت شعري من عمر المسكونة وابتنى المدن ؟, اليس خيرة الصابئة وملوكهم ؟من اسس المرافيء والانهار والقنوات ومن شرح العلوم الغامضة ؟ فهم الذين اوضحوا ذلك كله , وكتبوا عن طب النفوس , ولقنوا كذلك طب الاجساد وملؤوا الدنيا اعمالا صالحة وحكيمة , هي دعامة الفضيلة . فلولا علوم الصابئة لامست الدنيا قفرا فارغة متقلبة في العوز ) ( تاريخ الزمان –ص 48 – 49 : ابن العبري . ترجمة اسحق ارملة – دار المشرق – 1986 ) . يشير بهذا النص التاريخي الى عدة حقائق :
-اعتزاز الصابئي الحراني بماضيه وافتخاره بانتمائه الديني , وباصوله , في زمن بدا يعلن الكثيرون عن اسلامهم بعدان حافظوا على طهارة حران من الدنس وضلال الناصرة ( المسيحية ) .
- تاكيد ثابت بن قرة على وحدة الصابئة ( الحرانية والمندائية ) بقوله نحن الوارثون والموروثون للصابئة المنتشرة في الدنيا ) .
- اشار ثابت بن قرة الى اصل سلالة الحرنية , بانهم من اصول يونانية او رومانية بقوله : ( من عمر المسكونة , وابتنى المدن ؟ اليس خيرة الصابئة وملوكهم ؟ ).
سال احدهم الباحث الحمد كيف كان ثابت بن قرة والتباني وهما من عباقرة الرجال يؤمنان بتلك الديانة النجومية ؟فاجاب الباحث بقول لجوته على لسان ابليس في رائعته ( فاوست ) : ( ما الشرائع والقوانين سوى امراض مزمنة متوارثة تركها لنا اباؤنا واجدادنا , واسلمها الخلف للسلف , فانتقلت عدواها من جيل الى جيل , ومن بلد الى بلد . ثم يمضي الزمن فتصبح حكمتها خرافة وصالحها خبثا ).
من هم صابئة حران ؟
هم قوم من اصول يونانية وارامية ( بحسب الباحث الحمد ) عاشوا في حران وماحولها , وكانوا يتكلمون الارامية التي حوت امالهم وافراحهم وكانوا ينبعون ديانة نجومية سرية لها اسرارها وطقوسها . ومن يتح لهالاطلاع على اسر ارها يبلغ الخلاص .وكانت تقبل الاتباع باحتفالات خاصة . اما المطلع على الاسرار فيصعد بعد الموت الى العالم الالهي ويسكن مع الالهة .
وكانوا يمارسون طقوسهم في معابدهم , او في الخلاء , حول العيون والمياه الجارية ومنابع الانهار , ولهم لباس خاص يميزهم عمن حولهم .
ذكرتهم رسائل اخوان الصفا تحت مسميات ( الصابئون والحرانيون والحنوفون ) ( اي الاحناف ) .الصابئة المندائية كالحرانية يعتقدون ان النجوم والواكب تحتوي على مخلوقات حية وارواح ثانوية لامر ملك النور . وانها تتحكم بمصائر البشر . ويصاحب هذه الارواح الخيرة اضدادها من الارواح الشريرة . ففي فلك الشمس ينتصب ( شماش ) الاله الخير النافع , رمز الخصب والخضرة . ومع الروح الشرير المهلك ( ادوناي ) اله الظلمةمع ارواح نورانية حارسة اخرى .
ترتكز اعتقاداتهم على ثلاثة امور جوهرية :
1 – الماء الجاري ( يردنة ) وهو رمز الحياة العظمى .
2 – الروح خالدة لها صلة بارواح اسلافها وتعيش على صدقات الاهل او قرابين الموتى ( اللوفاني ) وهو عشاء الموتى بالارامية .
3 – الخضوع لما يقوله الكهنة الموكلون بالكتب المقدسة .
ويقسمون اتباعهم الى ثلاث فئات :
1 – فئة الكهنة الكبار وعلى راسهم الكاهن الاعلى .
2 – فئة الناصوريين : وهم طبقة الكهنة ( عامة رجال الدين ) .
3 – فئة العامة ( المندائية ) الذين يطلعون على اسرار الدين , ومعتقداته الخفية ويسهمون في مساعدة رجال الدين , ويتعاطون الحرف والزراعة والتجارة .
حاولت رسائل اخوان الصفا وكتب الكندي والبيروني الدفاع عن عقيدة الصابئة الحرانية عندما قالوا ان عبادة الاصنام لاتتعارض مع توحيدهم لله.
قال اخوان الصفا : ( ان بدء عبادة الامم للاصنام اولا كان عبادة الكواكب , وبدء عبادة الكواكب كان عبادة الملائكة , وسبب عبادة الملائكة كان التوسل بهم الى الله لانهم الحكماء والربانيون والعارفون بالله حق معرفة ....فالصابئة الحرانية هم موحدون . وما هذه التماثيل الا لتقربهم الى الله زلفى .
العلم الالهي عند الصابئة الحرانية
كل فكر فلسفي هو بالضرورة فكر حضاري يعبر عن روح عصره . والفلسفة الحرانية وليدة بيئة معينة وحصيلة تاريخ , ارتبطت بعقيدة وطقوس حران العرفانية .
كانت العقيدة الحرانية مزيجا من افكار واساطير دينية كانت شائعة حول سواحل البحر الابيض المتوسط . ومما ورد على حران من الهضبة الفارسية ووادي السند , على اثر فتوحات الاسكندر المكدوني لبلاد الشرق ( 336 ق . م ) . صارت العقيدة الحرانية جزءا من صميم الفكر العالمي من خلال الجدل والصراع الفكري بينها وبين المسيحية . استطعت الحرانية الصمود , وحافظت على تماسكها ولم تقطع صلتها بالحياة .
ولكن العقيدة الحرانية زالت وذابت في المجتمع الاسلامي , بعد ان دخلت في تكوين المذاهب السرية الاسلامية . وبقيت اثارها ماثلة في مذهب التوحيد الدرزي حنى وقتنا الخاضر .كان من اشهر فلاسفة صابئة حران ثابت بن قرة الحراني ( 227 هجرية – 892 م ) امتاز بعقلية فلسفية موسوعية تركت طابعها الواضح على كل فلاسفة الاسلام ,كابي بكر الرازي وابي نصر الفارابي , وابي الريحان البيروني ,واحمد بن الطيب السرخسي وغيرهم .
كتب ثابت في الفلسفة والرياضيات والعقيدة والطقوس . كتب عنه العلامة ملفان المشرق ابن العبري . في دراسة حديثة للمستشرق بول كراوس ( 1900 -1944 ) حول رسائل الرازي الفلسفية قال : ( ليس هناك فرق بين مذهب الرازي والحرانية , بل ان الالفاظ المنسوبة الى الرازي والقول المنسوب الى ثابت بن قره والحرانيين تتفق اتفاقا كاملا ).
صفات الباري وفيض العالم عنه
كان صابئة حران يعتقدون ان الصانع العبود , واحد وكثير في ان واحد . اما انه واحد , ففي الذات والاصل والازل . واما انه كثير , فلانه يتكاثر بالاشخاص في راي العين , فانه يظهر بها ويتشخص ولا تبطل وحدته في ذاته .
اصل هذه الفكرة جاءتهم من الفيلسوف الافلوطيني المحدث برقلس ( 412 – 485 ) الذي عرف الباري بالجوهر والفرد الذي يتكشف لخلقه في الكثرة . وان الكثرة تسعى لتحقيق الوحدة . وان الباري يظل اصل العالم , وهو ماثل امامنا في كل كور ودور .
قال نجم الدين الكاتبي ( المتوفى 193 هجرية – 1292 م ) قالت الحرانية :
( ان الباري لاشك انه حي فاعل في هذا العالم المحسوس ) .
كان الحرانية ينفون عن الله صفة العلم بالموجودات في هذا العالم , ظنا منهم ان هذا العلم يضيف الى الله الكثرة , فالله غني عن معرفة العالمين , وهو لايعلم الا ذاته اولا ودائما , لان الله عقل العقل .ويجيبون على السؤال التالي : اذا كان الله خالقا لكائنات عاقلة , فكيف يكون لها علم ؟ . اجابوا بان الباري هو المدبر لهذا العالم بواسطة الكواكب الصادرة عن النفس الكلية .والعقل الفعال الذي صدرت عنه النفس الكلية , يعرف الاشياء معرفة تامة . والله او الباري هو التام الحكمة الذي لايلحقه سهو ولا غفلة .وهو الذي تفيض منه الحياة , كفيض النور من قرص الشمس .
هذه الفكرة عن الباري اخذوها من افلوطين ( 204 – 270 م ) الذي اخذها من حكماء حران عندما عاش بينهم (244 – 254 ).
جاء في كتاب التاسوعات لافلوطين :
( انه يصدر عن الواحد الخير , العقل ( النوس ) كصدور الاشعاع من قرص الشمس . ولما كان العقل عاقلا ومعقولا اي يعقل نفسه صدرت عنه النفس الكلية .وهي مبدا الوحدة في الكون . فالنفس هي الحلقة المتوسطة بين عالم المعقولات والعالم المحسوس الذي صدر عنها , فهي سفيرة القدرة . وان وجود العالم مرتهن ببقاء الباري .فمادام الفيض والجود والعطاء ( نوع من التثليث الفلسفي ) متواترا متصلا استمر وجود العالم , وان الباري لايجوز عليه خبر موجب .
نشر الحرانية في منتصف القرن الرابع الهجري , كتاب جماعة الفلاسفة , تتضمن معتقداتهم مع روايات اغريقية عن اصل العالم .وقد غلفوا افكارهم بالصبغة الهرمسية , وقالوا فيه ان الكون حيوان حي كبير , حركته من نفسه لانه مكون من مبداين :
احدهما مبدا سام , عاقل , جكيم , وهو الباري تعالى , صدر عنه العقل , ومن العقل صدرت النفس الكلية .
والثاني هو الهيولي ( الطبيعة ) المضطربة , رغم انها صدرت عن النفس الكلية . وان الباري نظمها , لكنها تمردت عليه , فخرج العالم مضطربا , ناقصا طافحا بالشر ,والقبائح .
واشاع الحرانية فلسفة تبشر بالقدر المحتوم وانه لافكاك للانسان الا بالتوسل والدعاء الافلاطوني والتوسل الهرمسي . وصارت فلسفتهم دعوة للخنوع وركون الانسان المظلوم لقدره المحتوم . والسلوك القويم لايتم بتحطيم القيود بل بضبط سلوك الناس عن طريق الحكمة (صوفيا ) التي تجلب الفرج للانسان بتدبير الكواكب السبع , مدبرات هذا العالم وموجبات احكام النجوم .
هذه الفلسفة هي ترديد لفلسفة الحكيم اليوناني افلوطين الذي يرى ان العالم كائن حي واحد ( وهذا ينطبق على جوهر نظرية الكم وفكر اقطاب التصوف مثل الشيخ ابن عربي )وان الكواكب تعرف صلواتنا , لانها تتصل بنا مباشرة على نحو ما بالتعاطف الكوني ( اي ان الكون نسيج عضوي متصل كلاني ) .
وكان الصابئة الحرانية يكثرون من ترديد ( لااله الا الله ) دون ان يقرنوها بشهادة (وان محمدا رسول الله ) .
يعتقد كاتب المقال ان عدم ترديد الحرانية لعبارة ( وان محمدا رسول الله )لاينفي عنهم اسلامهم لانهم يتبعون نفس طريقة اقطاب التصوف الذين كانوا يرددون كلمة ( هو ) في حلقات الذكر الصوفية , اشارة الى الباري , لانهم يخافون ان يموتوا قبل ان ينطقوا كلمة الله ( هادي العلوي – مدارات صوفية ) .
وللمقال بقية ...
المصدر :
كتاب ( صابئة حران والتوحيد الدرزي ) – للباحث محمد عبد الحميد الحمد – ط 4 – 2011 – دار الطليعة الجديدة – سورية – دمشق .
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟