بدرالدين حسن علي
الحوار المتمدن-العدد: 4223 - 2013 / 9 / 22 - 01:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا أجد إستهلالا لمقالي هذا أفضل من الكلمة التي ألقاها الأستاذ الراحل المقيم حسن الطاهر زروق نائب الجبهة المعادية للإستعمار " الخريجين " من داخل قبة البرلمان السوداني في السادس عشر من أغسطس 1955 والتي تم فيها إعلان إستقلال السودان والذي أصبح يؤرخ له بالأول من يناير 1956 ، قال زروق :
" نعرب نحن أعضاء هذا المجلس عن رغبتنا في البدء فورا في إتخاذ تدابير تقرير المصير ، فإننا في الواقع نعبر عن رغبة إنتزاع شعبنا في أن يسير إلى أمام نحو كامل حريته واستقلاله التام ، نريد كرامتنا بعد أن أهدرت طويلا . "
تصوروا معي هذه مقدمة لكلام قاله قبل نحو ستين عاما ..... ما أشبه الليلة بالبارحة !!!
هذا الموضوع كتبته ثلاث مرات ومزقته ثلاث مرات ، لأني وفي كل مرة أكتبه أحس كأنما أكتب عن والدي – رحمة الله عليه – فقد قابلت الراحل المقيم حسن الطاهر زروق في فترة هامة جدا في حياتي ، بل وشكلت منعطفا حادا ما تزال آثاره باقية ،إنه يعني لي وببساطة القوة الشدة والصدق ، وأكون صريحا معكم هذا الرجل قابلته وكنت فعلا أحتاج لرجل مثله وكثيرا ما يتراءى لي في منامي ، وعندما تكرر هذا أدركت كم أحبه ، لذا الكتابة عنه صعبة ولكن لا بد من ذلك ، أنا أكتب عنه كإنسان وفنان تعرفت عليه ذات يوم من عام 1976 في بغداد ، كان عمره في ذاك الوقت 60 عاما ، كان موفور الصحة والعقل السديد ، كنت أصغره بسنوات كثيرة ، ورغم هذا الفارق في السن إلا أنه كان صديقي الصدوق ، وكنت ألجأ إليه في كل شؤوني الخاصة والعامة ، خاصة وأن والدي حكى لي عنه كثيرا ، وعندما إلتقيته كنت سعيدا جدا ، فها أنذا ألتقي برجل في قامة والدي تماما ، ولكنه كان يصر على أن يقول أنه لا يهتم بالعمر لذا من الأفضل أن نكون أصدقاء وقبلت العرض ،وبدأت علاقتي به بأن أهداني كتابه المترجم " حرية الفن " للكاتب الكبير هوتور اروندل الذي قرأته عدة مرات وكان مصدري الوحيد لكتابي الأول " المسرح والديمقراطية " وكتابه القيم " السودان إلى أين ؟ " .
هناك قصتان طريفتان لا زلت أذكرهما عن حسن الطاهر زروق ، الأولى تعود إلى الستينات من القرن الماضي ، كانت لي علاقة حميمة بحسن عبد الوهاب وكنا نعمل معا في " الحوش " – الإذاعة والتلفزيون والمسرح-وكان حسن كادرا قياديا في تنظيم الأخوان المسلمين ، وكنا نجلس معا في كثير من الأحيان لتناول الفطور ، حسن كان ذكيا جدا ولماحا وصاحب نكته هو والإذاعي النبيه إسماعيل طه ، المهم أذكر في يوم من الأيام كنا نتحدث عن المسألة السودانية والديمقراطية والإنتخابات وهلم جرا ، كان حسن يحكي عن تجاربه في الحياة ، وأذكر أنه حكى لي عن حسن الطاهر زروق بعد فوزه في دوائر الخريجين بعدد قليل من الأصوات بعد ثورة أكتوبر 1964 ، وفي يوم إفتتاح البرلمان قابل زروق أحد شيوخ القبائل الذين فازوا في الإنتخابات وهو يبحث عن كرسي ليجلس عليه ، فسأله زروق عن عدد الأصوات التي حصل عليها فقال له الشيخ : والله ماني عارف كان ميه كان ميتين ألف ، فقال له زروق : ياخي إنت حقو يدوك كنبة مش كرسي ّ
أما الطرفة الثانية تعود إلى الثمانينات من القرن الماضي ، وكنت جالسا جنب صديقي جعفر عباس شقيق صديقي الآخر محجوب عباس في منزل " ناس العالم " العامر بالجلسات الثقافية بحي البوسته بأم درمان ، وكنت يومها عائدا إلى السودان بعد غربة إمتدت لسنين وإنتهت في العراق والكويت ، إلتفت نحوي جعفر وسألني عن حسن الطاهر زروق ؟ فقلت له بخير ، قال لي : ياخي أنا عمري ما شفت بني آدم يحب أم كلثوم زي الراجل ده ، تصور مرة قال لو الثورة السودانية نجحت وأم كلثوم بتغني عنها ما نجحت !
تذكرت يوم أن أهداني كتابه عن أم كلثوم فحفظت جميع أغاني أم كلثوم : الأطلال ، أنت عمري ، هذه ليلتي ، الملك بين يديك لأحمد شوقي ، أنا في إنتظارك ، أكتب لي لبيرم التونسي ، قولي ولا تخبيش يا زين ، السودان لأحمد شوقي ، يا ظالمني لأحمد رامي ، والله زمان يا سلاحي لصلاح جاهين ، أنساك يا سلام لمامون الشناوي ، أصبح عندي الآن بندقية لنزار قباني ، وحتى قصيدة أغدا ألقاك للهادي آدم .
قرأت مرة مقالة يقول كاتبها " يبدو أن أم كلثوم سوف تظل إلى فترة يصعب تحديدها هي سيدة الغناء العربي. فغناؤها ما زال بعد 36 سنة من موتها هو الأجمل والأكثر إعجازاً، وما زالت تجلس على القمة، ثم بعد مسافة يجلس الآخرون من المطربين والمطربات في سائر أنحاء الوطن العربي.
إن العرب والناطقين بالعربية ما زالوا يسمعون أغنياتها بكل الاستمتاع وما زالت بالنسبة لهم أو لكثيرين منهم هي المطربة المفضلة، وما زالوا على استعداد لأن يسمعوا الأغنية أو «الكوبليه» أكثر من مرة ويتأوهون.
ونحكي عن هذه النقطة قصة حكيناها من قبل ولكن في جريدة محدودة الانتشار! والمصدر هو صديقنا وأستاذنا عبدالله عبيد رئيس تحرير «الرأي العام» السابق.
فقد كان الأستاذ الراحل حسن الطاهر زروق ممثل الجبهة المعادية للاستعمار في البرلمان الأول؛ برلمان الحكم الذاتي الذي أعلن من داخله استقلال السودان، منتصف خمسينات القرن الماضي، من مشاهير «الكلثوميين» في البلد يسمع أغاني أم كلثوم ويكتب عنها..
وكان الأستاذ حسن الطاهر زروق يحرص بصفة خاصة على الاستماع إلى أم كلثوم في حفلتها التي تنقلها الإذاعة المصرية في الخميس الأول من كل شهر خلال موسمها الغنائي وكانت هذه الحفلة تقام في دار سينما قصر النيل القريبة من ميدان التحرير الشهير بالقاهرة.
وكان الأستاذ زروق يقيم بالحارة الخامسة بمدينة الثورة وكان في تلك الليلة المشهودة يجلس في بيته مستمتعاً مستمعاً من الراديو إلى أم كلثوم وربما أنه لم يكن مستعداً للتخلي عن ذلك البرنامج حتى لو كان هناك اجتماع مهم عاجل للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، وكان يتحدث باللهجة المصرية رغم أنه لم ير مصر.
ولقد دفع هذا الاهتمام المسرف بأم كلثوم وغنائها وحفلتها الشهرية أحد زملائه الشيوعيين إلى أن يقول له: ما سر هذا الشغف المبالغ فيه بأم كلثوم؟ قال له: لو أنك سمعتها لعرفت، ولأن البرهان بالعمل فإن الأستاذ زروق دعا زميله الشيوعي إلى أن يحضر معه في بيته بالحارة الخامسة حفلة أم كلثوم.
وفي ذات خميس في ليل الثورة التقى الاثنان، حسن الطاهر زروق وزميله الشيوعي وأم كلثوم تغني في الراديو والنشوة تستبد مع كل مقطع - يفرض المستمعون في الحفلة إعادته أكثر من مرة - بالأستاذ زروق وزميله الشيوعي صامت..
وبعد أن انتهت الحفلة قال حسن الطاهر زروق لضيفه الشيوعي ما رأيك؟
وقال الضيف: ثقيلة! وقال حسن زروق: لماذا؟ وقال الضيف: تعيد المقطع 13 مرة، وقال له زروق: «ثقيل إنت اللي حسبتهم». ثم نختم بمقطع من قصيدة نظمها شاعر النيل حافظ إبراهيم ولحنها السنباطي وغنتها أم كلثوم..
وَقَفَ الخلقُ يَنظُرونَ جميعاً
كيَّفَ أبنِي قواعدَ المجدِ وحدي
وبُناةُ الأهرامِ في سالفِ الدهرِ
كفوني الكلامَ عند التحدي
أنا إن قدَّر الإلهُ مماتي
لا تَرىَ الشرقَ يَرفعُ الرَأسَ بعدي
أ
بغدا د" السكرة "
عندما قابلت حسن الطاهر زروق كان يومها لاجئا سياسيا في العراق وعاصمتها " بغداد السكرة " ، علاقتي به كانت علاقة أدبية ثقافية فنية ، ومع ذلك فالشكر موصول لأخي صديق محيسي لأنه كتب ذكريات جميلة مع حسن الطاهر زروق ، والصحفي الكبير عوض برير والأستاذ الكبير محمد عبدالجواد .يقول محيسي :
فى عام 1975 دعانى صديقى محسن خضير مراسل وكالة الانباء العراقية في الخرطوم الي زيارة العراق لحضور مؤتمر شعبي حول عروبة شط العرب المتنازع عليه بين العراق وايران < كانت الدعوة اصلا موجهة الي نقابة الصحفيين التي كانت في حالة عداء شديد مع نظام الرئيس الراحل جعفر محمد النميري بسبب رفض النقابة ان تكون جزءا من الأتحاد الاشتراكي التنظيم السياسي الوحيد في البلاد في ذلك الزمان ,كذلك كان النميري يقاطع نظام صدام حسين لإتهامه بالتامر مع الشيوعيين لأسقاطه في محاولة إنقلابية فاشلة جرت في عام 1970.
كنت يوم ذاك أعمل رئيسا لقسم التنحقيقات بوكالة السودان للانباء , ولما وصلتني الدعوة التي صادفت إجازتي السنوية قررت مغادرة السودان نهائيا للبحث عن عمل في صحافة الامارات العربية المتحدة وهي في بداية نهضتها .
كان النظام العراقى في سبيعنات القرن الماضي ينشر إعلانات في الصحف اللبنانية يرحب فيها بمختلف الكفاءات العربية واعدا إياهم بمنحهم الجنسية العراقية وإيجاد وظائف مريحة لهم كل حسب تخصصه. وصديقي محسن خضيرالذي وجه لي الدعوة لم تكن وظيفته كمدير لوكالة الانباء العراقية الا ستارا لوظيفته الحقيقية كرجل مخابرات عراقي في ثو ب صحفي للتمويه الأمني , وكنا كلنا كصحافيين نعلم ذلك , ولكنا كنا نضع مسافة بيننا وبينه , ولايجد منا شيئا سوي الاخبار المنشورة في الصحف , وكم حزنت عندما بلغني ان محسنا اغتاله ارهابيون رميا بالرصاص وهو خارج من مكتبه بمجلة الف با التي كان يرأس تحريرها بعد سقوط نظام صدام حسين الذي كان يعمل معه كحزبي في منظومة البعث العراقي .
وصلت العراق في مطلع مارس 75 من العام نفسه فأستقبلني في مطار بغداد موفد من النقابة العراقية , وجري إستضافتي فى فندق " ادم " وهو فندق فاخر في شارع السعدون التجاري المشهور.
في ذلك الفندق فوجئت بالزعيم الاتحادي محمد عبد الجواد الذي كان يمثل الجبهة الوطنية المناوئة للنميري برئاسة الشريف حسين الهندي , وسعيد كسباوي الضابط الطيار الذي فصله النميرى من الجيش بعد فشل المحاولة الإنقلابية في يونيو ووظفه العراقيون مدربا للطيران لديهم , ولكن في حقيقة الأمر كان الإثنان يعملان كمستشارين يزودان النظام بالمعلومات التي يحتاجها عن النظام في السودان , واعتبارهما مرجعية عن السودانيين الذين يزورون العراق مثل حالتي.
وصل محمد عبد الجواد ومعه الصحافي سيد احمد خليفة يرحمهما الله قبلي بشهور حاملين رسالة الي القادة العراقيين من الشريف حسين الهندي للرئيس العراقى صدام حسين من أجل مساعدة الجبهة الوطنية السودانية للأطاحة بالرئيس النميرى,وكانت تلك الرسالة بداية تحالف سياسي بين الجانبين افضي فيما بعد ان يمد صدام الجبهة الوطنية بالمال , ويمنحها مجلة الدستور الأسبوعية لتصبح منبرا للمعارضة السودانية من لندن وليرأس تحريرها فيما بعد الراحل محمدعبد الجواد بعد صحفيين لبناني هما وليد ابو ظهر, وسوري هو خلدون الشمعة .
علي مائدة عوض برير
في العراق وجدت استاذنا الصحافي المعروف عوض برير الذي قدم من القاهرة هاربا من حكم النميري بعد مذبحة الشيوعيين المشهورة في السبيعينات , كما وجدت حسن الطاهر زروق عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني الذي استضافة البعثيون كلاجئء ايضا في إطار حكومة الجبهة الوطنية التقدمية التي كان يشارك فيها الشيوعيون العراقيون , وكا ن للإثنين حكايات وحكايات مع البعث العراقي سنأتي اليها فيما بعد .
اقام لي عوض برير الذي كان يرأس قسم الترجمة في صحيفة الثورة الناطقة بأسم الحزب الحاكم حفل عشاء فاخر في منزله في الحي الراقي "عرصات الهندية " دعا له اسرة تحرير الصحيفة وفي مقدمتهم رئيس التحرير السيد محمد جاسم الأمين (ابو نجوي ) وهو قيادي حزبي كبير في المجال الصحافي وحضر الدعوة بجانب اسرة التحرير سودانيان كانا يعملان في منظمة الامم المتحدة ,هما الراحلان عمر عديل الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة بالعراق ,وصلاح نوح المدير العام للأكاديمية الزراعية التابعة للأممالمتحدة ,والتقيت ايضا في هذه الجلسة القيادي الشيوعي سابقا عبد الله ادم الملقب بعبود الذي كان قادما من تشيكوسولوفاكيا بعد انهي دراسته في العلوم السياسية , وجاء يبحث عن عمل هنا إعتمادا علي مشاركة الشيوعيين العراقيين في السلطة مع البعثيين لأول مرة ,وظنا منه ان الأممية الماركسية ستتيح له الفرصة ليجد عملا مع الرفاق البعثيين.
في ذلك العشاء الح علي رئيس التحرير ( ابو نجوي) الذي تعرفت عليه في التو , الح علي ان اعمل معهم بدلا من السفر الي دول الخليج الرجعية حسب قوله ,وتابع , النظام في العراق يفتح ابوابه لكافة التقدميين العرب يستفيد من خبراتهم وليحقق علي الارض النظرية البعثية ( وحدة حرية اشتراكية ) ذلك الشعارالدوغمائي الذي يطالعك اينما ذهبت.
كانت وجهتي الحقيقية هي ابوظبي حيث يعمل شقيقي رحمه الله عليه المهندس بوزارة الاشغال عمر محيسي , ولكن اغراء الراتب والأمتيازات الأخري , والحاح عوض برير علي ان أكون له رفيقا في الغربة جعلتني افكر جديا في العرض , فأستأذنتهم ان اواصل رحلتي الي الامارات ثم اعود اليهم مرة اخري , ولضمان عودتي غيروا مسار رحلتي لتكون بغداد الامارات بغداد عبر الخطوط العراقية.
وصلت الامارات في نهاية ابريل 75 حيث مكثت شهرا كاملا ولكن دون ان اجد وظيفة تناسبني , ذهبت الي الأستاذ علي شمو الذي كان يشغل يومها مديرا لوزراة الاعلام في ابوظبي, ولكن الرجل اعتذر بعدم وجود وظائف في الميزانية تتفق ومؤهلاتي الصحفية,ولكني عرفت فيما بعد ان الرجل لم يكن كثير حماس لتعيين السودانيين ,وكان يفضل عليهم "المصريين " وهو خطأ لايزال يمارسه ذوي الشأن الوظيفي من السودانيين في الخليج حيث يرفضون تعيين بني جلدتهم معهم حتي ولو كانوا مؤهلين.
لم يكن امامي خيار سوي العودة مرة اخرى الي العراق لخوض التجربة مع البعثيين, بالفعل وصلت بغداد في منتصف مايو ونزلت في الفندق نفسه انتظارا للتعيين وبدء العمل, قصدت دار صحيفة الثورة الكائن بشارع الجيش , وسلمت شهاداتي بمساعد ة عوض برير الي ادارة شئون الموظفين لإتخاذ الاجراءات , وكنت اظن ان الأمر لن يستغرق سوي اياما ٌقليلة اكون بعدها لي رأس عملي, ولكن لما كنت قليل المعلومات بالأسلوب البعثي في التعامل مع الغرباء فلم يكن امامي شيئا سوي الإنتظار .
من الصديق عوض برير علمت ان اوراقي ستقوم برحلة طويلة قبل ان يبت فيها , وهنا ك محطات لابد من المرور عليها , تبدا بفرع الحزب السوداني في الخرطوم لتعود مرة اخري الي المخابرات ثم القيادة القومية الكائنة في حي المنصور الراقي.
بعد ثلاثة اشهر بالتمام والكمال جاءت الموافقة الي ادارة الصحيفة بتعيني في قسم الدراسات السياسية ,ومن اول وهله استدعاني رئيس القسم ليكلفني بأعداد دراسة عن الثورة الأريتيرية فصائلها وتوجهاتها , والصراعات داخلها , ولما كنت خبيرا في ذلك بحكم علاقاتي التاريخية بهذه الثورة عكفت مايقارب الأسبوعين علي رسم خطة العمل,وتوفير المراجع من الأرشيف , ولاحظت ان رئيس القسم كان مهتما جدا بهذه الدراسة المكونة من ثلاثة حلقات , و كان يستعجلني في كل مرة ان اسرع في الكتابة, وبالفعل فرغت منها وسلمتها رئيس القسم الذي بدوره سلمها الي رئيس التحرير ,وظللت اراقب الصحيفة كل صباح لأري نتائج عملي منشورا بصفحة الدراسات السياسية, ومر اسبوع واسبوعان حتي انقضى شهرا كاملا ولم تنشر دراستي فقررت الذهاب الي رئيس التحرير لأستوضح منه الامر, الا انه اخبرني بأن من تقاليد الصحيفة الحزبية هي الا يسأل محرروها عن المادة التي يكتبونها , وان امر ذلك متروك فقط لرئيس التحرير , فعدت مساء الي منزل صديقي عوض برير لاشتكي واشرح له مادار بيني ورئيس التحرير, فما كان من عوض الا زجرني ووبخني علي فعلتي هذه محذرا اياي من معاودتها مرة اخري , هامسا في اذني بأن دراساتك قد تكون الان امام فرع المخابرات في القيادة القومية للحزب , فسكت عاملا بنصيحة صديقى عوض الا أكثر من اسئلتي حول ماينشر ومالا ينشر, واستمريت اداوم في عملي بالصحيفة دون ان اكلف بشيء.
في العراق تحت حكم البعث عجايب وغرائب وقصص وحاكايات قريبة الشبه من شياطين جحيم دانتي, فأنت هناك مراقب عن بعد حتي لو كنت معهم, وانت محل شك طالما كنت قريبا او بعيدا عنهم.
ممنوع السهر مع الشيوعيين
ذات مرة استدعاني رئيس التحرير وظننت ان الأمر يتصل بالعمل, وبعد التحيات والسؤال عما كنت مرتاحا في العمل, قال لي" تري شوف عيني انت تري تعمل في جريدة الحزب وهي جريدة ذات وضعية خاصة " ووافقته دون افهم شيئا واستمر , "عيني لاحظ الرفاق ان الرفيق حسن الطاهر زروق يحضر اليك يوميا مساء في الصحيفة وتذهبا سويا الي مكاتب طريق الشعب جريدة الحزب الشيوعي العراقي , وبعد ذلك تذهبوا لتسهروا جميعكم في شارع ابو نواس," اسف ان كنت اتدخل في شأنك الشخصي , فأنت حر في اختيار اصدقائك ,ولكني اتحدث معك كزميل , وليس كرئيس, عموما ارجو ان اردت مقابلة زروق ان يكون ذلك بعيدا عن الصحيفة ,وقبل ان ينهي حديثه معي قلت له ولكن (الشيوعيين) يا استاذ مشاركون معكم في الحكم , ورد بأن هذا صحيح , ولكننا نختلف معهم في كثير من الامور , عموما اردت ان اقشمر (امزح )معك فقط ,ولاتأخذ كلامي مأخذ الجد, لم افسر تراجعه السريع سوي انه جزء من ابلاغ الرسالة لي , فودعته وتوجهت الي صديقي عوض برير اروي له الحكاية فصمت هنيهة وقال لي اخبر ابوعلي الا يحضر اليك في المكتب , واذ نحن منهمكين في الحديث فأذا بجرس الباب يرن وكان الداخل حسن الطاهر زروق الذي استلقي علي قفاه من الضحك عندما اخبرناه بالحكاية , ومنذ ذلك اليوم لم يشرفني ابو علي في مكتبي , ولكنا كنا نلتقي في غرفة محمد عبد الجواد نسهر سويا.
كان حسن الطاهر زروق يرحمه الله لطيفا اذا استلطفك وعنيفا اذا استقبحك , ولم يكن يخف خلافه مع البعيثين كماركسي لينيني, كان قريبا من الشيوعيين العراقيين , نذهب اليهم فى صحيفتهم صوت الشعب ونسهر مع شعرائهم سعدي يوسف , وحسب الشيخ جعفر , وشاذل طاقة, يعتبر حسن الطاهر زروق من رواد الوقعية الاشتراكية في الادب السوداني , وكان قاصا مرموقا كتب مجموعته حسن وبهية والعديد من القصص القصيرة ,كما ترجم اعمالا من الأدب الأفريقي منها قصصا قصيرة لعثمان سنبيم وتشينوا أتشيبي .
بعد عودتي الي السودان هاتفني عام 80 صديقي البعثي سابقا والإنقاذي حاليا كمال حسن بخيت من بغداد ليبلغني رحيل حسن الطاهر زروق, قال لي ان ابوعلي وجدوه مغشيا عليه في الطريق فحملوه الي الي مدينة الطب الا انه اسلم الروح هناك, استقبل جسمانه عدد قليل من الناس هم افراد اسرته لآن امن النميري كان يبحث عن الشيوعيين, دفن حسن الطاهرزروق في مقابر احمد شرفي منهيا نصف قرن من الزمان مناضلا في سبيل سودان مستقل تتحقق فيه العدالة الأجتماعية , فتحقق الأستقلال من الوجود الأجنبي ,ولكن بدأ استغلال اخرفي كافة العهود الوطنية, كان اخرها استغلال الإسلامويين لشعب كامل لم يعرف السعادة ابدا اما "العدالة الأجتماعية " فقد طبقها الحكام الجدد علي سلالاتهم فقط .
ابوعلي وأم كلثوم وصدام
كان حسن الطاهر زروق عاشقا للفنانة المصرية ام كلثوم لدرجة التوجد والتوحد , ومن شدة ولهه بها كان لا يرتبط بأحد يوم حفلها السنوي ,وذات ليلة تواعدنا عوض برير وابوعلي والدكتور قمر الدين قرمبع الذي كان يعمل في برنامج للأمم المتحدة لتعليم الكبار ,تواعدنا ان نحضر مع ابوعلي في منزله حفل ام كلثوم ولكن عوض برير اقترح وكان تموز يغلي ان نتاول شيئا باردا من الجعة العراقية فريدة قبل ان نتوجه الي دار ابوعلي في المنصور لإكمال السهرة.
تلك كانت لحظات رهيبة عشناها طوف الخطر فوق رؤوسنا كأنه نسر اسطوري هائل ,وصرنا غاب قوسين من سراديب صدام , وسجن قصر النهاية الرهيب الذي يعلق فيه المعتقلون علي المراوح.
كان صخب الأصوات يعلو ويرتفع بين رواد الكازينو ,فالعراقيون مثل السودانيين يحبون اللهو الليلي ويغنون جماعيا عندما ينتشون , طاولاتهم تذكر بالريفيرا , والمقرن ,وحديقة النيلين ,ورويال , وكوبا كوبانا في ستينات القرن الماضي, كانت عشرات الأصوات تنادي النادل الذي يتجول بين الصفوف كبهلوان حاذق, بدأت ام كلثوم تصدح من الراديو الموضوع امام مدير الكازينو أستعجلنا ابو علي للمغادرة وكان لهوفا عليها ,ووقعت الواقعة عندما مال النادل علي الراديو وخفض صوت ام كلثوم ليسمع اصوات الرواد, نهض ابو علي سريعا جهة الراديو وهو يصيح في وجه النادل , ياحيوان ياحيوان ارفع الصو ت , ام كلثوم دي احسن من .........صدام حسين بتاعكم يا كلب , وقبل ان ينهي ابو علي حملته الكلامية الغاضبة كان الكازينو خاليا تماما من الرواد , شاهدنا الناس يركضون الي خارجه علي غير هدي كأنما زلزال مباغت ضرب المنطقة, كان كل امريء يفر من اخيه ,اصبنا برعب لايوصف من سب ابوعلي لصدام حسين , ذلك امر لاتقدم عليه حتي الشياطين داخل كهوفها, لم ندر نحن مالذي يجري , احلم هذا ام كابوس؟, ركضنا كغيرنا الي الخارج , ولكن عوض برير تذكر اننا لم ندفع الحساب فعاد الي مدير الكازينو ليدفعه, ولكن المفاجئة كانت اكبر عندما لم يعثر علي اي مسئول في الطاولة, فالمدير وعمال الكازينو كلهم هرعوا كأنما ابتلعتهم الأرض, واسرعنا جميعا لنجد سيارة اجرة تحملنا الي منزل ابو علي , ولكن لم نجد شيئا بالرغم من ازدحام هذا المكان منها, يبدو ان الخبر وصل اصحاب التاكسي الذين "نهروا" قانعين بماكتب الله لهم من رزق.
كانت ليلة عصيبة بالفعل اشبه بكابوس تقيل لزج لا فكاك منه ,وعندما وصلنا الي دار ابو علي سألناه مالذي دفعه للإتيان بمثل ماقام به؟, اليس مافعله كان ضربا من الجنون ؟ لم يكن ابوعلي منزعجا مثلنا بل كان يضحك كأنما فعله امرعادي لا يدعو الي كل هذا الرعب الذي تملكنا, كنا نتوقع ان يرن جرس المنزل الخارجي في اي لحظة ليقتادونا جميعا الي حيث لايدرى احد الي اين ,غير ان ابوعلي ادخل علينا الطمأنينة بأنه لن يحدث لنا شيئا , كان تفسير ابوعلي ان لا احد يستطيع ان ينقل شتيمتي البذيئة لصدام حسين حتي لوكان ذلك مدير المخابرات نفسه , لأن مجرد النطق بها هو جريمة نكراء قد يلاقى صاحبها اهوال جسام اخفها الإختفاء كشبح في الظلام , او تعليق في مروحة يزداد دورانها ودوارها كلما ازدادت سرعتها ,وعندما فكرنا فيما قاله ابوعلي تيقنا من صواب تحليله لآن لا احد كان في العراق يجيء علي سيرة صدام بالخير ناهيك عن الشر مما يجعل اي مواطن عراقي يعيش مزيجا من الحب والكراهية في وقت واحد لزعيم يستطيع ان يقتلك وينفخ بقايا الدخان من مسدسه الذهبي وهو يبتسم, ان شبق القتل والجنس يتساوي لدي الديكتاتوريين في كل البلدان .
حكاية ابوعلي المرعبة أعادت الي ذهني حكاية مأسوية اخري تتعلق بصدام حسين, كنت يومذاك اغادر دار صحيفة الثورة بعد نهاية دوامي وعلي موعد مع حسن الطاهر زروق , وعوض برير ومحمد عبد الجواد في فندق ادم , واثناء عبوري مكتب الأستقبال ,اوقفني رجل مسن يرتسم علي وجههة حزن وخوف, كان الرجل يحمل مظروفا في يده قال انها رسالة الي رئيس تحرير الثورة ,وقبل ان يفض المظروف انتحي بي الرجل جانبا وفضل ان يحكي لي قصته شفاهة, قال كان ابني البالغ من العمر عشر سنوات يلعب مع اقرانه يوم عيد ميلاد الرئيس صدام حسين, وكانت الطائرات ترمي بصور صدام من الجو , واخذ ابني صورة منها ومزقها دون ان يشعر او يقصد , هو عبث اطفال لاغير ويمضي الرجل جري اعتقال ابني كما اخبرني رفاقه وحمل في سيارة بها رجال مخابرات ,والان مضي شهر بالتمام والكمال ولانعرف اين هو , ذهبنا الي كل مراكز الشرطة وكان الرد علينا انه ليس معهم , فجئت يابني اشرح قضيتي الي رئيس التحرير عله يساعدني, قلت للرجل يمكن اعطاء شكواك الي موظف الاستقبال الذي هو في الوقت نفسه رجل امن, لم اقف طويلا مع الرجل فتركته وذهني يستعيد حكاية حسن الطاهر زروق التي كادت ان تخلع قلوبنا , هكذا كان العراق في عهد صدام حسين بيوت اشباح وشياطين وطلع شياطين,ومغارات, واقبية , وسراديب , فكل الناس يحمدون الله عندما يستيقظون صباحا ويجدون اولاهم وبناتهم وزوجاتهم نائمون بالقرب منهم تطلع انفاسهم وتنزل دليل انهم احياء لم يمسهم شر, حكي ان صدام حسين زار ذات مرة روضة للاطفال, واقترب يحمل طفلة جميلة يداعبها ويلاطفها وببراءة الطفولة قالت له , لقد عرفتك انت الرجل الذي يبصق علي وجهه ابي عندما يظهر في التلفزيون فبهت طاقم الدراسة , واضطرب من كان في معية صدام ,ولكن اباعدي بأبتسامته الثعلبية الماكرة انزل الطفلة وواصل جولته كأن لم يحدث شيء وعلي عهدة الرواة لهذه الحادثة فأ ن الطفلة عادت الي منزلها ولكن اباها لم يعد حتي كتابة هذه .
لم تتوقف معارك ابوعلي خصوصا حين يكون الأمر مرتبطا بالحزب الشيوعي السوداني ,وفي احدي احتفالات البعث العديدة اظنها 17 تموزعيد الثورة التار يخ الذي استولي فيه البعثيون علي السلطة في العراق ,جاءت وفود من مختلف دول العالم ,وكان معظمها من دول المنظومة الأشتراكية, جاء من مصر يساريون معروفون امثال عبد الرحمن الشرقاوي , لطفي الخولي , احمد حمروش , حسين فهمي , صلاح حافظ ,ومحمود امين العالم وعبد الرحمن الخميسي, ومن الشيوعين السودانيين جاء من تشيكو سلوفاكيا ابراهيم ذكريا رئيس الأتحاد العالمى الأحمر للعمال ,وحسن اباسعيد مترجما لوفد تشيكي من براغ اقترح علينا ابو علي ان نذهب الي فندق الرشيد حيث ينزل هذا العدد الهائل من يساري العالمين الأوربي الشرقي والعربي, لم نكن نعلم ان "ابو علي يخبيء " لنا مفاجئة من مفاجئات العجيبة, سئل في الإستقبال عن غرفة ابراهيم ذكريا ,فلفت انتباهه موظف الأستقبال بأن ذكريا يجلس في القاعة وبالفعل توجهنا صوبه ,كانت المرة الأولي بالنسبة لي التقي فيها الزعيم العمالي العالمي المعروف, اسقبلنا الرجل بالأحضان مرحبا ومنشرحا , غير ان ابوعلي صافحه ببرود شديد, بعد ان جلسنا احسسنا جميعا ان هناك سحبا راعدة تتكون في مناخ ابوعلي, وجه ابوعلي سؤاله مباشرة الي ذكريا, لماذا لم تنفذ اوامرالحزب وتعود الي السودان؟,كان الحزب يومذاك قد وجهه كل كوادره بالخارج للعودة الي السودان للنضال منه الداخل ضد جعفر النميري, كان رد ذكريا ولماذا لم تسبقني انت ألا ينطبق عليك قرارالحزب ؟ ودخل الأثنان في جدل حاد سمعه الجالسون من الضيوف القريبين من الطاولة التي نجلس عليها, كان ابو علي يرفع صوته منفعلا, توتر الجو وهم علي مغادرة الفندق ,وتدخل احمد حمروش وصلاح حافظ لتهدئة الموقف بين ألأثنين, لقد افسد ابوعلي الجلسة , ووبخه الجميع علي تصرفه هذا, وسألناه مستنكرين ان كان هو مفوض من الحزب الشيوعي لمحاسبة الأخرين, بل ان عبد الجواد ردد له المثل السوداني "غلفا وشايله موسا تطهر"وقال له لماذا لم تنفذ انت نداء الحزب وتعود الي الخرطوم , فلم يرد ابو علي وغير الحديث الي موضوع اخر .
يوم قررت المغادرة
دون اخطار احد قررت مغادرة العراق وحددت ساعة الصفر, ذهبت الي الخطوط العراقية وحجزت لي مقعدا مباشرة الي الخرطوم ,وفي يوم السفر صباحا حزمت حقائبي وسلمت مسئول الإستقبال في الفندق مفاتيح الغرفة وقلت له انني مسافر الي اربيل شمال العراق لقضاء اجازة سأعود منها بعد يومين ولكن فات علي ان كل موظفي الإستقبال في كل الفنادق العراقية هم رجال امن فلم يرد الرجل وتسلم مني المفتاح ولكني وانا اهم بالركوب في تاكسي من امام الفندق توقفت سيارة شرطة وناداني احد الشرطيين من داخلها بأسمي الاخ صديق وين رايح عيني ترجل الشرطي واخذ حقيبتي ووضعهما في السيارة وقال لي "عيني يبغونك في القيادة القومية " قطعت السيارة جسر المعلق حتي مبني القيادة القومية في المنصور, ساورني الشك وداخلني خوف من العملية كلها , كيف عرف هؤلاء بقراري مغادرة العراق؟ في الاستقبال رحب بي رجل قصير مغربي الجنسية عرفني باسمه فؤاد علي عرفت فيما بعد انه عضو قيادة قومية , طلب مني الأنتظارفي مكتب اضوائه خافته , ولكنه لم يشرح لي من الذي يريدني وبعد ساعة تقريبا من الأنتظار المشوب بالقلق والخوف ,قادني الرجل في دهاليز عثمانية طويلة انوارها خافتة حتي انتهي بنا المسير الي باب كبير من خشب الصنوبر, انفتح الباب محدثا صريرا ,ولمحت شخصا اسمر البشرة يجلس علي مائدة بعيدة بعض الشيء, جائني صوته سودانيا خالصا "وين ياخوي ماشي انت قايل البلد دي فوضي تدخل زي ماعايز وتطلع زي ماعايز,عايز تمشى السودان تفضحنا وتقول البعثيين ما عاملوني كويس", من نبرات صوته عرفت انه بدر الدين مدثر عضو القيادة القومية المقرب جدا من الرئيس صدام حسين, بدر الدين من انبل الرجال الذين قابلتهم في حياتي ,هو ورهط من الرجال التاريخيين سعيد ميرغني حمور, اسحاق القاسم شداد, شوقي ملاسي, محمد بشير"عبد العزيز حسين الصاوي" هم الذي اسسوا الحركة البعثية في السودان, قلت لبدر الدين ابدا ياصديقي انني قررت هذه الخطوة لظروف عائلية بحتة ولن انكر ترحيبكم بي , لقد وجدت منكم كل خير, عموما الرجل اقتنع بكلامي وودعني وحملني حقيبة كبيرة لوالدته في بري وتلك كانت اخر عهدي بالعراق , واخر مقابلة لي مع الراحل بد ر الدين. عليه رحمه الله .
[ جاء عوض برير الي العراق قادما من القاهرةعام 73 بحثا عن وطن جديد بعد ان ضيق النميري الوطن القديم , سكن واسرته بالقرب من مكان عمله في صحيفة الثورة ,وعوض برير من لايعرف من ابناء هذا الجيل كان من ما اميز صحافي الجيل الأول احترافا مهنيا وقدرة علي العمل ,وكان مترجما بارعا تعلم اللغة الانجليزية عندما ان يعمل جنديا بقوة دفاع السودان, وسعي الي العلم والمعرفة مثلما فعل ذلك عبد الله رجب قال عنه الصديق الكاتب عمر جعفر السوري "كان عوض برير صحافياً بالسليقة، هادئ الطبع، حاضر البديهة، فكه من غير تكلف، راوية و محدث لا يُمل. لا تعرف متى يعمل أو متى يكتب لكنك ترى ما كتب في الغد، فإذا هو جهد خارق يستغرق من الأخرين بذلاً و جهداً وعرقاً و انزواء عن الناس و العالمين ذلك إن أحسنوا! رأس عوض برير تحرير عدد من الصحف الناطقة باللغتين العربية و الانجليزية فقد كان رئيس تحرير جريدة "أخبار الاسبوع" اليسارية، و اختتم حياته الصحافية في السودان برئاسة تحرير جريدة "نايل ميرور" التي كانت تصدر عن وزارة شؤون الجنوب على عهد الوزير الشهيد جوزيف قرنق. كان عوض برير صحافياً لا يشق له غبار، نسيج وحده في صوغ الخبر و كتابة المقال و ادارة الصحف." ارسل العراقيون عوضا الي بريطانيا للعلاج من تليف في الكبد واستقبلناه الراحل محمد عبد الجواد وانا في مطار بغداد مهنئين بالعودة والشفاء , ولكنه غادر الحياة بعد عام من وصوله بعد ان عاوده المرض مرة اخري, عاش عوض حزنا ممضا في سنواته الاخيرة بعد ان فقد ابنه عباس الذي انتحر في ظروف غامضة.
عمر عديل يواجه النميري
في العراق ايضا تتداعي الذكريات والطرائف تباعا ,تحمل عطر التاريخ القديم, وصل النميري بغداد عام 75 وهي الزيارة الأولي له بعد المصالحة مع صدام ,ويوم ذاك اعتصم الطلاب البعثيين السودانيين امام السفارة السودانية احتجاجا علي الزيارة , كان الأمن العراقي علي علم بالإعتصام وربما يكون قد تم بموافقته , غير ان الأمن نفسه عاد وأجلاهم برفق عن محيطها . في مسرحية توضح للنميري ان هناك اختلاف بين الحزب والدولة .
في المساء اقام السفير حفل عشاء للنميري حضره رئيس الجمهورية احمد حسن البكر, لم نذهب عوض برير وحسن الطاهر زروق وانا الي الحفل بالرغم من الدعوة التي وجهت لنا ,ولكن الذين حضروا الحفل حكوا لنا مادار بين النميري وعمر عديل, جاء عديل متاخرا عن المواعيد فسلم علي صديقه الرئيس احمد البكر واهمل النميري عابرا من امامه كأن لم يراه اصلا مما ادهش النميري الذي بلع الأساءة الدبلوماسية في صمت , ارتبك السفير وخاف وقصد عمر عديل ملاطفا اياه وطالبا منه المغادرة ( لانه تعبان ) ولكن عمر عديل وقف امام الملأ وكشف للحضور ماقاله له السفير ووافق علي مغادرة الحفل ,ولكنه طلب ان يخاطب النميري الذي كان يجلس بجانبه مستشاره اللبناني سليم عيسي المشبوه السمعة وهمزة الوصل بين عدنان خاشقجي تاجر السلاح السعودي المشهور والنميري, كان النميري قد نزع الجواز السوداني من عمر عديل بعد استقالته كمندوب دائم للسودان في الأمم المتحدة وعقده مؤتمرا صحافيا اعلن فيه تركه لوظيفته بعد ان عجزالسودان تسديد رسوم اشتراكه في المنظمة الدولية, كان الجو متوترا وحاول السفير اخراج عمر عديل قبل ان يفجر قنبلته ولكن النميري تدخل وطلب من تركه يتحدث ,وجه عديل حديثه مباشرة الي النميري , قال له تنزع عني الجواز السوداني وتمنحه للقواد الذي يجلس بجانبك وهو يشير الي سليم عيسي, اضطرب الموقف اضطرابا عظيما ,وران الصمت علي المدعويين , وتململ الرئيس العراقي احمد حسن البكر وهو صديق شخصي لعديل وتابع عمر عديل يقول للنميري (جوازك مقطع علي وجهك ) ها انا احمل جوازا عالميا هو جواز الأمم التحدة , وأتحداك ان تنزعه مني, وقبل ان يقترب من البوابة الخارجية قال للنميري هذا القواد الذي يلازمك كظلك عرض علي عندما كنت في سلطنة عمان ان يحضرلي بنت لبنانية فطردته شر طرده ,ركب سيارته الدبلوماسية عليها شعار المنظمة الدولية والتي يقودها سائقه الخاص في الطريق الي منزله ,و يومذاك سمعنا ان صديقه الرئيس احمد حسن البكر استدعاه اليوم الثاني , وعاتبه بشدة علي فعلته تلك التي لم يحترم فيها وجود رئيس دولة العراق , ويقال ان المقابلة انتهت بأعتذار عديل للبكر , ولكنه رفض الأعتذار للنميري الذي كان قد غادر البلاد , ولعمر عديل طرائف اخري تضحك وتخيف في وقت واحد, مرة وفي جلسة مؤانسة مع عراقيين وسودانيين سأله صحافي عراقى , كم راتبك وهو سؤال سخيف يدل علي سخافة سائله , فما ذا كان رد عديل علي السائل ؟, قال له ان راتبي ثلاثة اضعاف راتب رئيسك احمد حسن البكر, فبهت الذي سأل , ثم انسحب من الجلسة خوفا من عواقب سؤاله منيا , لم يكن احد في العراق يستطيع ان يأتي علي سيرة البكر وبعده صدام خيرا او شرا .
وحقيقة - وأعترف بهذا - على كبر سني كان أستاذي وعلمني الكثير جدا ، وأعترف أكثر بأني قضيت معه الساعات الطوال نتحدث عن الأدب والفن وعن كوكب الشرق أم كلثوم التي كان يحبها كثيرا وله كتاب عنها وعن أغانيها والشعراء الذين غنت لهم ، ولكن ابن أخته فيصل - ونسيت اسم والده –لم يستوعب كريزماه ، فحسن الطاهر زروق من كبار أبناء بربر" مواليد 1916" ومن كبار معلمي السودان في الوسطى والثانوية و برلماني وسياسي قوي وعنيد ، ولكن الأهم من كل ذلك كان قصاصا ماهرا ومبدعا وأنا أسميه بفخر شديد رائد القصة الواقعية في السودان ، وعندما أهداني مجموعة من قصصه إندهشت لقدرته الفائقة في طرحه الواقعي لقضايا بلده ،وأعظم هدية تلقيتها في حياتي تلك التي جاءتني من حسن الطاهر زروق عندما أهداني قصة " حي بن يقظان " لإبن طفيل مع مجموعة كبيرة من الكتب الأدبية والثقافية شحنتها جميعا وأرسلتها لشقيقي عبد اللطيف لأني قررت يومها العودة للسودان ، وأقول لكم بصراحة هو الذي علمني حب الموسيقى وكان قارئا نهما واسع الإطلاع والمعرفة وكاتبا متميزا وله كتابات في العديد من الصحف والمجلات السودانية والمصرية أدبا وثقافة وسياسة ، وبإختصار شديد هو واحد من السودانيين الذين أثروا الساحة الثقافية السودانية ، ولو كنت نادما على شيء في حياتي فأنا نادم على عدم التوثيق له بعد أن إلتقيته وتحدثت معه ، فضيعت تلك الفرصة الثمينة التي هيأها لي الله وجمعتني برجل مثل حسن الطاهر زروق
ثم حدث أن إنضم إلينا الشاعر المرهف الرقيق الراحل المقيم عثمان خالد فانطلقنا ثلاثتنا نملأ الأرض جنونا بحلو الكلام ورقة الوصف والخيال خاصة هذا الذي اسمه عثمان خالد والذي لن أنساه كل حياتي ، فحولنا بغداد المدينة المستكينة إلى جنة وارفة ومشاغلة " بنات العراق " الحلوات أيضا ببراءة شديدة يضحك لها عثمان خالد حتى يقع أرضا ، وعاد- عمنا حسن – وآسف للتعبير يلهو ويلهو ولا شيء غير اللهو البريء ، ولكنه أعطانا من غزارة علمه الكثير ، وأهم شيء أهداه لي هو أنه قدمني لعدد كبير من الكتاب والمخرجين والممثلين المصريين أمثال صديقه الحميم الممثل النابغة علي الشريف ويوسف شاهين وكمال الشناوي وسياسيين كثيرين .
وكان حسن الطاهر زروق حزينا جدا عندما أعلمته في ذات يوم بقرار سفري إلى الكويت بعد أن ضاق بي الحال في بغداد المدينة التي أحببتها كثيرا ، فسلمني رسالة لصديق عمره القائد النقابي الراحل المقيم ناصر الفرج وكان وقتها رئيس إتحاد عمال الكويت وسلمتها بدوري لمدير مكتبه عمر محمد خير المقيم بيننا هنا في تورنتووزوج سليمة السباعي .
فارقته وكلي إنشغال بأسرتي التي كنت دائم الإتصال بهم لدرجة أنهم طلبوا عدم عودتي للسودان ، وأذكر جيدا أنني في عام 1980 كنت قد إتخذت قرارا بالعودة إلى بغداد فقط لملاقاة حسن الطاهر زروق ولكنه سبقني بالرحيل في نفس العام ، فغيرت قراري وعدت للسودان ، وكانت أسرتي وخالي الفكي عبد الرحمن سعيدا بتلك العودة وذهب خصيصا لمقابلة خالد المبارك ليبحث معه إمكانية عودتي للعمل وكان ذلك في مقدوره ولكنه إعتذر.
وكأنما عقابا لي على رحيلي مات حسن الطاهر زروق " 1980 " في بغداد بعد وصولي إلى الكويت ودفن في السودان بمقابر أحمد شرفي الشهيرة بأم درمان ، كما مات عثمان خالد فيما بعد بمستشفى الهرم بالقاهرة بموقف لن أنساه من الأمين العام لإتحاد المحامين العرب السابق فاروق أبو عيسى ، وكنت قد جئت القاهرة بعد الغزو العراقي للكويت .
لهما الرحمة وعاطر الذكرى .
#بدرالدين_حسن_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟