أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار البلشي - كيس حكايات















المزيد.....

كيس حكايات


عبد الستار البلشي

الحوار المتمدن-العدد: 4197 - 2013 / 8 / 27 - 13:42
المحور: الادب والفن
    


منذ أن جاء إلى هذه المدينة طلبا للرزق عملا بنصيحة أحد أقاربه، وهو يعيش مفارقة لافتة، حيث يقيم بمفرده وبلا مقابل فى شقة مملوكة لهذا القريب الذى كان قد أعدها للتأجير مفروشة، وتعذر تأجيرها لكونها على أطراف المدينة، ومن ثم فقد كانت مجهزة بأثاث لا بأس به رغم قدمه، فهناك السرير والدولاب فضلا عن الثلاجة والبوتاجاز وطاقمين من الأوانى، لكنه لم يذكر مرة أن احتوت الثلاجة على غير الماء، أو أنه أشعل البوتاجاز لغير عمل الشاى، والسبب ليس لقلة الدخل فقط، بل بالإضافة إلى ذلك لطبيعة عمله كمندوب لإحدى شركات المنظفات. حيث كان نهاره بالكامل مرهون باللف على البيوت والمحلات سعيا لتحقيق معدل عال من المبيعات أملا فى زيادة دخله. ولهذا كان طعامه فى الغالب لا يخرج عن السندوتشات التى يأكلها على عجل فى أى مطعم يمر به، أو فى أحد المقاهى عندما يكون لديه بعض الوقت أو يحقق شيئا من الإنجاز يرضى عنه، حيث يشترى السندوتشات وفى طريقه إلى المقهى يشترى الجريدة، وهناك ينعم بالغداء المتأنى وبقراءة الجريدة ثم يتبع ذلك بشرب الشاى.

وكان يقتنص بعض اللحظات السعيدة عندما يذهب إلى بيت أحد أقربائه ـ غالبا بدعوة و أحيانا بغير دعوة ـ للغداء أو لقضاء يوم كامل، حيث ينعم بدفء الجو الأسرى وبالأكل البيتى.
ولحرصه على مثل هذه الزيارات كان يتحامل على نفسه ليباعد ما بين الزيارة والأخرى مع توزيع زياراته على أكثر من بيت، وأحيانا ما كان ـ على مضض ـ يعتذر بأدب عن بعض الدعوات تجنبا للإثقال. كما اجترح -مع الوقت - لزياراته آدابها؛ حيث كان يطرق الأبواب خفيفا، ثم لخطوة أو خطوتين يرتد للوراء بقدر ما تسمح بسطة السلم، متوخيا ترك مسافة معقولة بينه وبين الباب حتى يجنب مضيفة ـ عندما يفتح له ـ الإحساس بالمداهمة، أو بأنه فى مواجهة حائط يسد عليه النور والهواء. وكان يحمد لنفسه تصرفاته تلك، عندما يلحظ صداها فى وجه صاحب البيت أو فى صوته، وهو يعتب عليه هاتفا بحرارة: أين أنت يا رجل؟ لما كل هذه الغيبة الطويلة؟!، أو لماذا تدق الباب خفيفا على هذا النحو؟! تفضل تفضل.. البيت بيتك !!!

*****

مرة غاب عن زيارة أحدهم لمدة طويلة، كان فيها قريبة هذا يرمم شقته ويعيد طلاءها، ولأنه وأسرته يقيمون فيها فقد كانوا يخلون أثاث الغرفة المزمع طلائها إلى الصالة والغرف الأخرى ثم يردونه إليها بعد جفاف الطلاء، حتى أنجزوا، فى غيابه ، الجزء الأكبر من البيت. ولأول مرة يلقاه أهل البيت ـ على باب الشقة ـ بعتاب محمل باتهام تعمد التغيب لهذه الفترة الطويلة هروبا من المساعدة.
أوجعه العتاب وخشى أن يكون مقدمة لجفاء ممتد. وسعيا منه إلى التكفير عما لم يقصد، اندفع فى المساعدة حتى كفاهم مئونة بذل أى جهد فى حضوره وحتى لمح الرضى فى عيونهم.
وعند الغداء وجد نفسه يستكمل اعتذاره بحكاية طويلة عن معاناته فى غيابه عنهم، حيث كان ضيفا لثلاثة أيام كاملة على قريب آخر، يعرفونه جيدا، وأنه من أول لحظة دخل فيها بيته اشتعلت الخلافات بين هذا القريب وزوجته لشكها فى علاقته بأخرى، ليجد نفسه بين نارين: نار البقاء مع هذه الخلافات حتى تنتهى وتهدأ النفوس، ونار ترك هذا القريب وهو لازال على خلافه مع زوجته؛ وهو ما قد يعد قلة ذوق. فاختار الخيار الأول مع كل ما به من عذاب أهون منه بما لا يقاس نقل أثاث عمارة بكاملها.
كانت عيونهم تلمع بالنشوة وهم يتابعونه صامتين، وعندما انتهى علت مصمصات شفاههم وتتابعت عليه أسئلتهم، وبلا حرص كان يرد عليهم.

استوقفه بعد ذلك زيادة الترحيب به عند كل زيارة، فما أن يجلس حتى تتوجه إليه الأنظار فى احتفاء مصحوب بسؤال لا يتغير: هيه. . ما هى آخر الأخبار؟ ليبدأ هو فى سرد ما نما إليه سماعا من وشايات أو ما كان شاهدا عليه من أحداث فى أحد البيوت.

ولأكثر من مرة ـ بعد ذلك ـ اضطرته الظروف لتكرار الأمر فى كل البيوت التى كان يدخلها، إما استجلابا للحفاوة والترحيب، أو سعيا لتبديد حالة من الخمول أو الضجر تعترى أهل البيت، أو حتى استسلاما منه لإغراء الحكى ومتعته. حتى أصبحت حكايات كل بيت وأسراره موضوعا للحديث فى البيوت الأخرى.

ومع الوقت اكتسب خبرة إضفاء مسحة من التشويق على أخباره، كما لم يكن يتردد للحظة فى تطعيمها بمبالغات من عنده إذا ما لمس من مستمعيه فتورا أو قلة اهتمام، مع حرص بالغ منه على تجنب ما هو مشترك من خلافات ومشاكل بين بيت وآخر حتى لا يجد نفسه، إذا ما طرح الخلاف للنقاش العلنى بين البيتين، وقد افتضح أمره.

*****

أصبحت حياته أكثر حيوية، وتكاثرت عليه دعوات أقاربه فى المناسبات وفى غيرها، ونعم بالمأمول من السعادة حتى بات يخشى النقص بعد الكمال. لكن سعادته هذه لم تدم طويلا، إذ سرعان ما تسلل إليه خوف آخر، خوف من شيئ لا يدرك كنهه، لكنه كان يحس به ثقيلا صعب التجاوز. لم يكن على الإطلاق الخوف من افتضاح أمره فتلك مسألة تجاوزها الوقت، كما أنه اكتسب بما تراكم لديه من أسرار لا حد لها عن كل بيت حصانة وفرت له الكثير من القوة لمواجهة الكل مجتمعين، إذا ما تحتمت هذه المواجهة، التى لن تحدث على الأرجح. ليس فقط لحرصه على تفادى أسبابها، وإنما أيضا لظنه بمشاركة الآخرين له هذا الحرص. فهم ،على ما يبدو، قد تورطوا- مع الوقت ـ فى هذه اللعبة بكاملهم حتى أفاقوا جميعا على الإحساس بالانكشاف والتعرى، إحساس استشعره كل منهم بمفرده ثم تبادلوه بعد ذلك فيما بينهم، حتى انتهوا إلى التلميح به إليه شخصيا.
كل هذا محتمل وقائم بقوة، بل ومن المحتمل أيضا وبذات القوة أن يكونوا هم، وليس هو، من يضع قواعد اللعبة ويرسم حدودها، أو على الأقل فإن نصيبهم فى ذلك ليس أقل من نصيبه. و بالتالى لن تنهد الدنيا لو شاءوا نقل اللعبة من السر إلى العلن، وإذا قاموا بذلك سيكونون هم الأكثر تضررا إذا ما اندك المعبد على رؤوس الجميع .

فهل كان ما يزعجه ويكدر عليه أيامه أنه يلعب دورا لا يليق به ولا بما توجبه المروءة؟ لكن أى مروءة إذا كان ما يقوم به ليس وليد اختيار حر، إذ البادى أنه يؤدى - بكل أسف - دورا مرسوما له ومطلوبا منه؟ أو على الأقل فإنه غير مرفوض منهم، بل كان محل ترحيبهم من البداية، حتى بدا له كثيرا أنهم هم من هيأ له المسرح، ودعاه إلى تقمص هذا الدور والتجويد فى أدائه، لينعموا متثائبين بما يقدمه لهم من تسلية رخيصة؟

أم كانت علة شقائه، الذى أصبح يفوق بما لا يقاس شقاء الحاجة وبرود الوحدة، أنهم لا يدركون شيئا عن هذا الدور على الإطلاق، وأن المسألة ببساطه لا تخرج عن مجرد كونه شخصا يفتقر للأمانة ويستبيح أسرار بيوت فتحت له أبوابها ولملمت غربته؟!

ثقـل عليه الأمر حتى أثقل خطاه وأحنى رأسه، و لازمه طنين مزعج صدعه وأسلمه إلى حالة من الأرق، كثيرا ما امتدت معه لليال متصلة، و أصبح يكثر من الكلام إلى نفسه كلما انفرد بها أو خلا عليه المكان، أى مكان. حتى رأى نفسه ـ ذات مساء وهو بسبيله إلى شقته ـ يعتذر بصوت مسموع لشخص لا وجود له قائلا: إن الوحدة ثقيلة، وترحيب البيوت له ثمنه، ومن كان على حالى من العوز لا يستطيع حمل كيس من البرتقال أو الجوافة لدى كل زيارة أو حتى من زيارة لأخرى، بافتراض أن مثل هذه الهدايا كفيل بفتح الأبواب المغلقة.



#عبد_الستار_البلشي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طقوس ما قبل الخروج من المنزل
- العائد
- الموت فى الظهيرة
- وقت أن صاح الديك
- سالم
- العرس
- مطاردة
- حكاية الرجل و النمر الذى تحول كلبا
- صباح باللبن


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار البلشي - كيس حكايات