أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار البلشي - الموت فى الظهيرة















المزيد.....

الموت فى الظهيرة


عبد الستار البلشي

الحوار المتمدن-العدد: 4191 - 2013 / 8 / 21 - 18:42
المحور: الادب والفن
    


برمودة: نهايات الربيع وبدايات الصيف وموسم حصاد القمح ودراسه. الطقس فيه يتراوح بين حر محتمل وحر لا يطاق يبلغ ذروته فى الفترة من الظهر إلى العصر، ولا يخفف من حدته، خصوصا فى هذه الفترة، سوى بعض النسمات الخفيفة التى تهب بين الحين والآخر. تثير القليل من الغبار كما تطير أحيانا بعض أعواد القمح المكومة فى الأجران. لكن فى هذا اليوم كانت الشمس ـ على نحو غير معهود ـ تصلى الأرض بلا رفق ـ بدفقات من نار. وكنت حيثما التفت زاغ بصرك ولاح لك الصهد وهو يتصاعد من الأرض إلى أعلى فى أعمدة متراقصة شفافة. كما بدت لك الدنيا صاغرة وهى تتلقى هذه الدفقات الغاضبة، التى زادها سكون الظهيرة سطوة وحضورا.

*****

استيقظ من قيلولة خفيفة كان ينعم بها، كالكثير من الفلاحين الذين ينامون مفترشين التراب وظلال الأشجار فى هذا الوقت من اليوم، تمطى فاردا ذراعيه إلى أعلى وهو مستلق على ظهره لا يزال، فانحسر كماه الواسعان عن ذراعين مفتولين. اعتدل جالسا وأجال بصره حوله، وابتسم عندما تناهى إليه صراخ الصبية الصغار وهم يتراكضون ـ عرايا كما ولدتهم أمهاتهم ـ على شاطئ النهر، ويتسابقون إلى القفز فى الماء فى وقت أوت فيه العفاريت إلى خرائبها. وأخيرا استقرت عيناه على الثور وهو يجتر مطمئنا فى مربطه الظليل. أطال النظر إليه بإعجاب، حتى انتبه له الثور وبادله نظرة بنظرة، ثم أطلق خوارا يسيرا أشبه بالمناغاة بالقياس إلى ضخامة حجمه.
تثاءب الرجل فى راحة، ثم انتفض قائما فى خفة تتفق ورشاقة جسمه، تمطى بحرية أكثر ولوى جذعه يمينا وشمالا وللخلف.. ثم بخطى متكاسلة تقدم إلى الثور الراقد و بكفه الخشن أخذ يداعب رقبته، والثور يميل برأسه فى استسلام. حله من الحلقة المربوط إليها وهز الحبل هزا خفيفا فنهض الثور، و بخطى راسخة سار خلفه إلى النهر. ما إن وصلا إلى النهر حتى انكفأ عليه الثور يعب من مائه حتى ارتوى. وبخطوات ثقيلة متحسبة تقدم قليلا حيث ساخت سيقانه فى طين الشاطئ وأثارت سحبا خفيفة من الطين عكرت صفو الماء. أوغل الثور فى المياه الباردة حتى غمرته وأخذ يسبح فى خفة بجسده العملاق. سويعات قليلة ثم بدأ يتجه إلى الشاطئ عندما جذبه الرجل من طرف الحبل الذى كان لايزال ممسكا به.

فى طريق العودة، كانت الحركة من حوله، قد أصبحت أكثر نشاطا. كان ثمة بعض الفلاحين الذين يسحبون مواشيهم من النهر وإليه، كما كانت بعض النوارج قد بدأت بالدوران فى الأجران الأخرى. وعندما وصل إلى جرنه كان جلد الثور الأسود النظيف يلمع تحت الضوء الوهاج لأشعة الشمس بعد أن جف من أثر الماء تماما.
ربط النورج إلى النير المستقر على كتفى الثور من طرف وعلى عمود ينتصب قائما فى مركز دائرة يرسمها المدار من الطرف الآخر، ثم ثبت الغمامة على عينى الثور وطرقع بالسوط فى الهواء كإشارة للبدء، فاندفع الثور فى الدوران بخفة البداية ونشاطها.

*****

( كان يقوم كل يوم مع الفجر للحصاد، و السنابل لازالت مثقلة بالندى، تفاديا لانفراطها مع ضربات المنجل فيما لو كانت جافة، ثم يتبع ذلك بنقل ما حصده أولا بأول حول الجرن الذى هيأه للدراس، وبعد يومين من بداية الحصاد بدأ فى تكسير ما حصده بالنورج فى مرة أولى، تتبعها ثانية ينتهى منها مع انفصال حبات القمح عن أغلفتها تماما، ووصول التبن إلى درجة من النعومة يصبح صالحا معها كطعام للماشية.

*****

تجلد جلبابه، الذى لم يغيره منذ بداية الحصاد، من كثرة ما شربه من عرق وران عليه من تراب، كما تراكم فى ثناياه وداخله، أعلى الشملة الصوفية التى شده بها إلى خصره، خليط من الغبار المتطاير وحبوب القمح وغيرها من البذور المختلفة فضلا عن الحصى الدقيق الذى سرعان ما كان يذوب مع العرق )

قام من جلسته فى ظل الشجرة، وقبض من تحت أقدام الثور حفنة من التبن. ذراها فى الهواء. لم تكن على الدرجة المطلوبة من النعومة. ضرب الثور على كفله براحته وصرخ فيه حاثا إياه على السرعة، ثم شرع فى تقليب "رمية" القمح باللوح حتى يكون أسفلها كأعلاها على ذات الدرجة من النعومة.

فرد قامته وشمل الجرن بنظرة راضية، وبسبابته التى أخذت شكل المنجل مسح العرق العالق بجبينه ثم نثره فى الهواء بهزة من يده، قبل أن يعود لجلسته فى ظل الشجرة ليلتقط أنفاسه، ويشرب قليلا من الماء.
ما كاد يضع قلة الماء على فمه حتى لمح الثور يتوقف وقد رفع ذيله وقوس ظهره استعدادا للإخراج، فوضع القلة سريعا عن فيه وركض إليه. كان الثور قد انتهى وهم بالسير فأوقفه بصيحة منه، ثم انحنى على الروث اليابس وغرفه بيديه معا مع قدر من التبن استخدمه كفاصل بين فضلات الثور وبين راحتيه. ومحاذرا أن يسقط شئ منه على التبن ويختلط به، تاركا فيه رائحة منفرة تعافها البهائم عند الأكل، ألقاه خارج الجرن. انحنى على الأرض وحك كفيه بها ليتخلص مما طالهما من روث أو لحق بهما من رائحة.

لدى انتصابه ثانية وهو ينفض يديه مما علق بهما من تراب، عراه انهاك مباغت أحس معه بدوخة وبزغللة فى عينيه وبثقل يعترى سائر جسده، وعندما هم بالمشى تجاه الشجرة كانت ساقاه ترتعشان من تحته ولم يستطع أن يتقدم لخطوة واحدة قبل أن يسقط على الأرض غائبا عن الوعى.

أسرع إليه بعض الفلاحين من الأجران المجاورة عندما لمحوه وهو يتهاوى كشجرة اجتثت من أصلها. وجدوه مكوما على الأرض كقطعة منها. كان لون جلبابه وما انكشف من جسده بلون الأرض تماما. فردوا جسمه ومدوه على ظهره. وتزاحمت عيونهم على صدره الذى كان يعلو وينخفض بوهن. بادروا برش وجهه بقليل من الماء. ثم بدأو بفك الشملة الصوفية عن وسطه، ليسهلوا عليه التنفس. وما أن فكوها بقليل من الصعوبة، حتى انسال منها شلال متدفق أخضر من النبتات الصغيرة. التى تفتقت عنها حبات القمح وما خالطها من البذور المختلفة على مدار أسبوعين، اتخذت طوالهما من الشملة والثوب وما علق بهما من غبار تربة، ومن عرق الرجل ريا وسقيا.

وعندما خلعوا عنه جلبابه، حتى يخلصوه من عبء بدا لهم ثقيلا على صدره، كان هناك البعض الآخر من النبتات الصغيرة لازالت عالقة بجسده، على شكل حزام أخضر حول خصره. تزحف سيقانها الرقيقة على جذعه مشرئبة البراعم إلى أعلى، فيما كانت جذورها الدقيقة البيضاء تتجه إلى حيث منابت العرق منه.



#عبد_الستار_البلشي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وقت أن صاح الديك
- سالم
- العرس
- مطاردة
- حكاية الرجل و النمر الذى تحول كلبا
- صباح باللبن


المزيد.....




- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الستار البلشي - الموت فى الظهيرة