أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - حوار في شأن ألإسلام والتطرف والإرهاب والتسامح/ أسئلة محمد الحجيري















المزيد.....


حوار في شأن ألإسلام والتطرف والإرهاب والتسامح/ أسئلة محمد الحجيري


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 4186 - 2013 / 8 / 16 - 17:26
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


- ما هو مفهومك للتطرف في سوريا؟
في سورية وغيرها، يتولد التطرف من مسعى طرف اجتماعي أو سياسي أو اعتقادي لأن يشغل موقع الأطراف كلها، أو أن يرجح رؤيته وتوجهاته ويفرضها على الجميع. ويتمثل الأساس المعرفي للتطرف في اختزال الواقع المركب إلى عنصر واحد فيه أو إلى بعض عملياته. يُعرِّف الإسلامي مجتمعاتنا المعاصرة بالإسلام حصرا، ويجعل من نفسه الممثل الطبيعي لهذه المجتمعات الإسلامية، ومن الاتساع الظرفي للتدين الميل الوحيد الشغال في المجتمع. ويُعرِّف البعثي الجدي مجتمعنا بالعروبة وحدها، فيجعل من غير العرب شيئا نافلا أو عارضا، ويرتب جدارة البعثيين وحدهم بالحكم على الصفة العربية الجوهرية لمجتمعنا. وفي الحالين، وأشباههما الكثيرة، يتأسس التطرف كنظام حكم وتفكير، يلغي تنوع المجتمع وتركيبه مصلحة طرف واحد، ولو بالعنف. العنف منهج سياسي مواكب للتطرف دوما، وإن لم يكن عنفا سائلا دوما.
ويلقى التطرف تسويغا فكريا من تمثيل المجتمع المعنى في صورة اختزالية، ترده إلى عنصر واحد من عناصره.
وباختصار، فإن التطرف تمثيل فكري أو معرفي احتزالي، وتمثيل سياسي اختزالي أو واحدي لما هو متعدد، وعنف كامن أو متفجر.
وقد يؤدي طول أمد العيش في ظل أوضاع وبنى متطرفة إلى تشكل التطرف في سيكولوجية معتادة على التبسيط والاختزال، تضيق بكل ما هو متعدد الأطراف ومعقد التركيب، وتجنح إلى الحلول العنيفة للمشكلات الاجتماعية والسياسية والفكرية.
في سورية يتلون التطرف بأوضاع البلد، ويبرر نفسه بالمتاع الإيدلولوجي المتاح بمتناول السوريين.
وهو يحيل إلى ضعف الإجماعات الوطنية في البلد، وإلى انفلات الأطراف الكثيرة، الفكرية والسياسية والدينية والإثنية والطائفية والجهوية من أي إطار وطني جامع، إن بفعل استئثار طرف اجتماعي ساسي محدد بتعريف الوطنية على نحو يناسبه، أي بفعل التطرف، أو بفعل حداثة سن البلد وندرة اشتغال الفاعلين العامين السوريين على عملية بناء الأمة.

- برأيك لماذا يتهم الغرب الإسلام والمسلمين بالتطرف دائماً؟ هل هذا يأتي كبديل عن الصراع بين الشيوعية والرأسمالية؟
أظن أنه تلتقي هنا ثلاث اختزالات. أولها اختزال تيار عريض في الغرب مجتمعاتنا إلى ثقافتها، وثقافتها إلى الدين، والدين إلى الإسلام، والإسلام إلى الإسلاميين، والإسلاميين إلى التيارات العنفية أو الجهادية منهم؛ وثانيها ميل هذا التيار العريض إلى اختزال الغرب ذاته إلى الغرب الماهوي، اليهودي المسيحي (تمييزا عن الغرب التاريخي الأكثر عقلانية: الرأسمالية والعلمانية والليبرالية والديمقراطية والاشتراكية...)، أو اشتقاق تاريخ الغرب الحديث من ماهيته القديمة والثابتة، وفي أي من صيغتيه يضع التصور الماهوي للغرب نفسه في علاقة عداء ماهوية بدورها مع الإسلام، عالما ودينا (دون تمييز بينهما)؛ وثالثها الصفة المتطرفة فعلا، فكريا وسياسيا واجتماعيا، لأكثر تيارات الإسلام المعاصر، وهي تيارات قائمة على اختزال ماهوي مشابه لمجتمعاتنا وللغرب ذاته. الإسلاميون دون استثناء تقريبا يبنون استحقاقهم للحكم في بلداننا على ما يفترض أنها طبيعة إسلامية ثابتة لمجتمعاتنا، تقصي غير المسلم أو غير النمطي في إسلامه إلى موقع هامشي، وحين لا يرون الغرب ضالعا في مؤامرة صليبية يهودية قديمة ومتعددة الحلقات، فإنهم يرونه عالما من الانحلال والتفسخ وانعدام الأخلاق.
وهذا مناسب للأغراض السياسة للطرفين. فإذا كان المسلمون متطرفون جوهريا، وعنفهم ينبع من تكوينهم ذاته، ومن تكوين دينهم، ويستهدف الغرب المزدهر الناجح، فسيكون علينا، نحن الغربيين، مواجهة هذا التهديد، وأن نصون أمننا ونبقى الأقوى. وهذا جيد أيضا لصناعات الدفاع وتجارة السلاح واللوبيات المرتبطة بهما. وإذا كان الغرب إما مؤامرة شريرة قديمة أو انحلالا حديثا، فإن الإسلاميين هم خير من يحموننا منه. يصادف أن ذلك يقتضي أن يكونوا هم وحدهم الحاكمين!

- اذ سقط النظام السوري بدعم من أميركا، هل يحصل وئام بين الجماعات المتطرفة والولايات المتحدة، ويتحول العداء لروسيا؟
ربما "وئام" ظرفي ومحدود. الإسلاميون المتشددون مشدودون إلى ثوابت نظامهم الفكري الذي يستمدون منه الشرعية، والقضية المقومة لوجودهم ذاته، أكثر مما إلى أية مصالح سياسية عارضة. وموقفهم الأساسي هو العداء لأميركا والغرب، وإن حصلت تقاطعات هنا وهناك.
وهم على عداء قوي لروسيا، ربما يكتسب زخما جديدا بفعل سياسة موسكو السورية، لكن أميركا هي مثال العدو، لأنها قائدة الغرب، وتجتمع فيها كل الأشياء التي تفتن الإسلاميين، بالمعنى المزدوج لكلمة فتنة، أي الانجذاب والنفور: القوة والثروة والحرية والفن والانفتاح والدنيوية، والحضور الأكبر للنساء في الحياة العامة، أي كل ما يثير الرغبة في التملك والصراع على التملك، الفتنة.
وأميركا أيضا لا "تتواءم" مع من لا يكون ندا لها. تتعامل مع الإسلاميين أداتيا وعند الاضطرار، وهو ما لا يخفى على هؤلاء وما لا يرضونه.

- الخطاب الاستشراقي يسعى في بعض الأحيان إلى تنميط صورة الإسلام في الغرب كدين مبني على التطرف؟ كيف يمكن الرد على هذه الادعاءات؟
تعديل الصورة يقتضي أولا تعديل الواقع. لدينا مشكلة في واقع الإسلام والمسلمين المعاصر، لا تعالجها أية أشغال على مستوى الصورة. فإذا كنت متطرفا فعلا، تعمل على أن تكون صاحب الكلمة والقرار الوحيد في مجتمعك، فإن إصرارك على تصوير نفسك كمعتدل دون أن تعتدل فعلا لا يعني غير أنك سوبر متطرف، متطرف في تطرفك.
هل تطرفنا نابع بصورة جوهرية من "الإسلام"، أم من الشروط التاريخية الراهنة للمسلمين؟ هذا سؤال علينا نحن أن نطرحه ونجيب عليه بتوسع، دون تبسيطات، ودون الانزلاق في خطابات اعتذارية أو تبريرية، تبقي كل شيء على ما هو عليه، من نوع تلك التي تلوم المسلمين على بؤس حالهم وسوء أفعالهم، وتنتهي إلى القول إن "الإسلام من ذلك براء". لدينا مشكلات معاصرة متنوعة تلجئ قطاعا متسعا من الجمهور إلى "الإسلام"، لكن لدينا أيضا مشكلات كبيرة في الملجأ السياسي الذي هو "الإسلام"، وتتمثل أساسا في الارتباط بين الدين والعنف، وفي "الأصولية" أو القراءة الحرفية للمتون النصية الاساسية، وفي المنزع التطبيقي في التعامل معها، وفي ضياع المثل الأعلى الأخلاقي في الالتباس بين الشريعة والأخلاق، وفي نزعة الاكتفاء الإسلامية والغرور الأجوف المصاحب لها، وفي الالتباس بين الأمة الدينية والأمة السياسية... وغير ذلك كثير. وهي قضايا لا يكف الوعي الإسلامي المعاصر عن التعثر بها وتجنب مواجهتها في آن.
"الخطاب الاستشراقي" لم يصنع شيئا من مشكلاتنا.

- في المقابل كيف يمكن تعزيز وترويج مبدأ التسامح في الإسلام؟
التسامح الإسلامي القديم بني في تصوري على شيئين: اعتراف الإسلام المبدئي بأديان أخرى من السلالة الإبراهيمية وخارجها، ثم سيادة إسلامية لا جدال فيها ولا منازع جديا لها. أي أن التسامح الإسلامي كان تعبيرا عن قوة واقتدار، لذلك كان يتراجع في أوقات اهتزاز السيادة الإسلامية، ويشتد الميل المقابل نحو التعصب والتشدد، لكن لم يحصل أبدا أن بلغ الأمر حد الإبادة على نحو ما فعل الأسبان حيال المسلمين واليهود أيام "حروب الاسترداد"، وهذا بفضل الاعتراف القرآني المبدئي بجماعات دينية أخرى.
وأعتقد أنه قانون عام أن تظهر الجماعات السياسية والدينية ميلا أقوى نحو قبول المختلفين والمغايرين بقدر ما تكون أكثر تمكنا من شروط حياتها وأقدر حيال شروطها الطبيعية والتاريخية. التسامح فضيلة وقيمة، لكن في أساس هذه الفضيلة فضل القوة والثروة المتاح بتصرف المجتمعات والجماعات، والأفراد أيضا.
من جهة أخرى كان موضوع التسامح الإسلامي هو الجماعات عموما، والمعترف بها إسلاميا على نحو خاص، وليس الأفراد.
ولا أرى أن التسامح ممكن اليوم إن لم يتأسس على حرية الاعتقاد الديني وعلى مستوى الأفراد. التسامح الخاص بالجماعات، عدا أنه لا يشملها جميعا، يؤسس للطائفية كنظام سياسي لا مخرج منه، فوق كونه لا يكفل الحماية، ولم يكفلها يوما، للمفكرين الأحرار.
اليوم، يتوفر في المعرض العالمي للنظم الأخلاقية، إن جاز التعبير، ما يتجاوز الصيغ التاريخية للتسامح الإسلامي ويتفوق عليها، وما يوفر اعترافا واحتراما كبيرين للجماعات والأفراد، لا نظير له في مجتمعاتنا المعاصرة وفي عالم الإسلام الأقدم. فإن كان لنا المنافسة في مجال الأخلاقيات، فلا أقل من الاقتراب من هذا المثال العالمي، كي لا نقول محالة تجاوزه.

- لماذا برأيك يربط الغرب بين الإسلام والإرهاب؟
في جانب منه صراع على القيم: من يشغل الموقع الأعلى في الصراعات الفكرية والقيمية، ومن ينجح في مطابقة سلوكه مع القيم الأرفع، فينال من قضية خصمه ومن شرعيتها، ويضعه في موقع الشرير، وهو ما يجعل حياته أدنى قيمة، ويحرمه من تعاطف البشر الآخرين.
وهذا ما يتيح كسب الصراعات السياسية المحتملة بين "الغرب" و"الإسلام"، أي أنه سلاح في الصراع السياسي لا يقل أهمية عن أسلحة أخرى. والواقع أنه سلاح ناجح وفعال اليوم.
وأعتقد أن "الإرهاب" هو نوع من حرب غير النظامية أو حرب السوق السوداء، أو أيضا الحرب بالتهريب، بالنظر إلى تعذر امتلاك الحرب المشروعة والفعالة من قبل مجتمعاتنا وبلداننا المعاصرة. ويتحمل الغرب السياسي في منطقتنا مسؤولية أساسية عن تعطيل قدرة الدولة على الحرب، في مواجهة إسرائيل وأميركا وأي معتد نظامي محتمل، أي انتقاص سيادة الدولة في مجالنا. حين يتعذر على الدول خوض الحرب، وهي من خصائص الدولة الجوهرية والاختصاصات المقومة لوجودها، وحين نعيش شرطا حربيا أو موجبا للحرب (مواجهة إسرائيل المعتدية على الأقل)، فستقوم بالحرب جماعات أخرى دون الدولة وذات عزم. والمصدر الأساس للعزم في مجتمعاتنا المعاصرة هو الدين لكونه يتوفر على ذاكرة حربية وطموح سيادي ومخيلة كونية، وعلى دافع تمايز قوي.
الإرهاب هو الاسم المعتمد غربيا لعنف ما دون الدول، العنف غير المتاح للدول. وبصورة مجملة، يمكن القول إن الدين يقوم بالعنف الذي لا تقوم به الدول. وهو عنف أقل تنظيما وانضباطا من عنف الدول، وأكثر جذرية وأدنى عقلانية، ما يسهل للغرب السياسي وصفه بالإرهاب. علما أن الغرب السياسي يشجع الدول على خوض الحرب الداخلية ضد الإرهابيين المفترضين الذين سهل لهم قصور الدولة السيادي وعجزها عن تملك الحرب الظهور. ومن هذا الباب ما يبدو من تمسك أميركي روسي مشترك بأجهزة الأمن السورية. إنها أداة الحرب المرغوبة ضد المحاربين غير الناظميين أو اللادولتيين، "الإرهابيين".
والخلاصة أن الإرهاب هو سلاح فكري وإعلامي تستخدمه القوى النافذة عالميا ضد خصوم سياسيين لها حالت تلك القوى نفسها بينهم وبين إمكانية امتلاك الحرب الشرعية. حالنا مع الغرب السياسي في شأن الإرهاب حال من يطلب منه القول الشعبي السائر: مقسوم لا تاكل، وصحيح لا تقسم، وكل حتى تشبع!

- كمفكر علماني هل كيف تجد الفرق بين الجهاد والإرهاب؟
لا وجه للربط بينهما إلا من وجهة نظر خطط وترتيبات السياسة المعاصرة لدينا وفي الغرب. الإرهاب هو حرب اللادول في شرط تمتنع فيه حروب الدول، أما الجهاد فله أصول دينية وتاريخية مختلفة جدا، ومعلومة، ولم يتشكك أحد في شرعية الارتباط بين الحرب والدين (الجهاد) حتى ظهور الدولة القومية الحديثة التي صارت تحتكر الحرب لنفسها (والعنف في الداخل أيضا).
ما يقرب بين الإرهاب والجهاد اليوم هو أن عنف اللادول، العنف الذي لا يستمد شرعيته من الدولة، يستمد شرعيته من الدين، ومن مفهوم الجهاد تحديدا. لكن هذا ترابط تاريخي عارض، تحاول المصالح السياسية والمؤسسات الإعلامية جعله ترابطا جوهريا دائما.

- بعد ثورات الربيع العربي زاد العنف والتطرف في بعض الدول التي نجحت في تغيير أنظمتها الاستبدادية... ما تفسيرك لذلك، وهل ثمة خوف من أن تنحو سوريا بهذا الاتجاه؟
الخوف كله في سورية تحديدا. المجتمع السوري مجتمع معنف، تعرض لمعاملة قاسية وحقود طوال عقود، ثم لعنف متوحش دام سنوات قبل جيل، ثم لعنف أشد توحشا منذ عامين وربع العام. وهذا دون أن تتلامح مخارج سياسية عادلة أو غير عادلة من هذا الهول المستمر.
وما يحصل اليوم ومنذ عام تقريبا هو استيقاط كثير من الأشباح النائمة أو الجن الذي كان يسكن الجسد الاجتماعي السوري، ويخرج منه الأن بوفرة مقلقة. والبيئة مناسبة جدا للأشكال القصوى من التطرف في سورية اليوم. ماذ تريد أكثر كي تخرج كل أروانا الشريرة وتجوس آفاقنا طول سنوات: تعذيب وحشي في السجون، قصف بالدبابات والطائرات والصواريخ البعيدة المدى، بالأسلحة الكيميائية، بالكراهية الخارقة في وسائل إعلام سورية عامة وحليفة، بالطائفية محليا وإقليميا؟ وفوق ذلك تجويع مئات ألوف الناس في مناطق محاصرة، مقطوعة عنها الكهرباء والاتصالات منذ شهور، ويقطع عنها الطحين ومواد التموين مزاجيا بين وقت وآخر؟
في سورية انتقلنا منذ شهور، ربما منذ مذابح الحولة والتريمسة في الصيف الماضي، من شرط الثورة التي تواجه بالقمع المتطرف من قبل طغيان سلطاني محدث إلى شرط لا أجد له اسما، تمتزج فيه الثورة مع حرب محلية وإقليمية مفتوحة، مع حرب طائفية، ومع ما محصلته رعاية دولية لهذا الصراع. شرط تمتزج فيه الثورة الاجتماعية بالصراع الطائفي بالجهاد الديني بالإرهاب العدمي. وتقود فيه مقتضيات مواهة السلطة الغول إلى تغول الدين أو ظهور أشكال غولية من التدين المحارب. وتختلط في هذا الشرط أيضا الأزمنة، من "الفتنة الكبرى" الإسلامية إلى الصراعات الاجتماعية والسياسية وصراعات الدول المعاصرة، مرورا بصراعات العشائر والأسر والأفراد الطامحين. وتتجاور فيه الأمكنة وتلتصق ببعضها، من باكستان وأفغانستان والشيشان وإيران إلى بيروت وضاحيتها الجنوبية وإلى أحياء دمشق وضواحيها. قيامة كبرى وفوضى مدمرة وخلاقة في آن.
في البلدان الأخرى الوضع مختلف، وأراه إيجابيا في العموم. هناك صراعات وتوترات شديدة، وقوى متنوعة تختبر نفسها وغيرها، وحدود متحركة وغير واضحة بين الجماعة الدينية والأمة، وبين الدين والحزب الديني والدولة، وبين الشريعة والقانون... وهناك بخاصة خسارة الإسلاميين وضع الضحية التي كانت تنال التعاطف وظهورهم حزبا سياسيا نزاعا إلى التسلط، لا ميزة له سوى أنه منتخب شعبيا، ويبدو أنه يبدد رصيده الشعبي باندفاع. هذه في عمومها تطورات سياسية واجتماعية وفكرية سوية، وبمحصلتها يبدو أنه تتشكل مؤسساتنا ونظمنا السياسية والقانونية في المستقبل.


- هل التطرف هو نتاج الاستبداد أم المجتمع والبيئة أم النص الديني؟
العلاقة أكثر تركيبا في تقديري. الاستبداد مشكلة بحد ذاته من حيث أنه يقمع ويقتل ويولد الأحقاد ونزعات الثأر، وهو يجعل كل شيء أسوأ وأكثر تعقيدا بفعل ما يتسبب به من تجميد الزمن وتعطيل قدرة المجتمع على معالجة وحل مشكلات أخرى، بخاصة ما يتصل بشؤون "المجتمع والبيئة والنص الديني". وفي المثال السوري الذي أعرفه بقدر معقول أرى أن الاستبداد المضاعف الذي عرفناه في العقود الماضية، أو الطغيان الأسدي، قد أضفى ضفة سياسية مفرطة على كل شيء من حيث أنه عمل على نزع السياسة من الجميع، وآل إلى جعل الاشتغال بالسياسة الشكل الوحيد أو الأبرز للفاعلية العامة على نحو نراه اليوم بوضوح. الاشتغال على قضايا الثقافة والدين والقيم الاجتماعية، وهي مواضيع أكثر أهمية وأخصب في تقديري، لا يكاد يتوفر عليه أحد تقريبا، أو يتوفرون عليه بصور تشف عن تفضيلات سياسية وإيديولوجية مباشرة، ما يجعل هذا الاشتغال استمرارا للسياسة بوسائل أخرى تبدو متجردة منها.
أعرف ذلك من تجربتي الشخضية. فقبل الثورة كنت أشتغل أكثر فأكثر على قضايا ثقافية ودينية واجتماعية، لكن مع تفجر الثورة غلب عندي الشاغل السياسي مجددا. هذا ينطبق على أكثر المثقفين السوريين، حتى أن بينهم من صاروا سياسيين متفرغين.

- إلى أي مدى يمكن أن يتحول التطرف الفكري والديني إلى عنف على مستوى الشارع؟
العنف عنصر كامن في التطرف، دينيا كان أم سياسيا. وهو لم يتأخر في الحالة البعثية عن التحول إلى "عنف على مستوى الشارع"، عنف يومي طوال عقود، منظم وسائل؛ ولن يتأخر في حالة الإسلاميين في التحول إلى عنف مماثل ويومي. وظروف الصراع السوري تسهل أمر ترجمة التطرف إلى عنف. أخشى أن نسبة كبيرة من السوريين اعتادت العنف المسلح، وأن السوريين كلهم تقريبا اعتادوا العنف اللفظي والنفسي. والخشية كل الخشية أن تطوى صفحة العنف المادي بتسوية كاذبة، بينما يبقى العنف النفسي والكلامي منتشرا على نحو ما هو الحال في لبنان، تعايش متكارهين.

- يرى مفكرون غربيون أن غزوات النبي محمد تدخل تحت بند العنف الممارس ضد المخالفين لعقيدة الإسلام؟ كيف ترى ذلك؟
هذا إسقاط تاريخي غير شرعي، معرفيا وحقوقيا. كان ذلك عنفا سياسيا جرى في سياق عيني محدد، سمته الأساسية محاربة الدعوة المحمدية واضطعاد معتنقيها، وصولا إلى إخراج النبي وأصحابه من ديارهم. رد المسلمون على ذلك بالقوة حين تسنت لهم الفرصة، وتطور الأمر تدريجيا إلى صراع بين معتنقي الدعوة الجديدة وخصومها، هزم بمحصلته الأخيرون. لم تكن هذه المحصلة مضمونة إلا من وجهة نظر العلم الإلهي الكلي، أو من وجهة نظر من يقف في منتهى التاريخ.
هناك مشكلة في مقاربة هذا الصراع بمعايير اليوم، سواء عند "مفكرين غربيين" أو عند نظراء عرب ومسلمين لهم. لكن هناك مشكلة أيضا في التفكير الإسلامي تتمثل في إضفاء صفة مقدسة على مجمل صراعات الحقبة النبوية، ونزع صفتها التاريخية، ودون تمييز بين تصرفات الرسول بمقتضى النبوة وتصرفاته بمقتضى السياسة (وهو تمييز يجريه بعض الدارسين المسلمين اليوم)، ثم العمل على سحب تلك الصراعات على كل زمان ومكان، وجعلها نموذجا أصليا ومتكررا لكل صراع سياسي يخاض في عالم الإسلام أو بين المسلمين وغيرهم. هذه مقاربة غير سليمة، وتقود إلى عواقب خطيرة، منها الرفض الجذري للعلمانية، ومنها إضفاء صفة دينية على كل صراع سياسي.

- ماذا قدم العالم الإسلامي منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 لتصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام واعتباره دين إرهاب؟
لاشيء مهما.
لكن دعنا لا نقارب "تصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام" من زاوية سياسية ضيقة تتعلق باعتبار غربيين له أنه "دين إرهاب". أعتقد أن هناك حاجة ملحة، حاجة إسلامية أولا وثانيا وثالثا، لإعادة هيكلة التعاليم الإسلامية حول نواتها الأساسية: توحيد الله والعدل بين الناس وعمران الأرض ومكارم الأخلاق. هذه حاجة كبرى للمسلمين وليست مسألة علاقات عامة متعلقة بالصورة والترويج على نحو ما تتعامل معها دول ومجموعات إسلامية كثيرة. المطلوب إصلاح الأصل وليس تصحيح الصورة، ومن أجل تصحيح الصورة.
وإصلاح الأصل يقتضي تعريف الدين باللاإكراه، بالإيمان واليسر وانشراح الصدر والنفس المطمئنة، وتعريف الإكراه باللادين أو بما هو مغاير للدين من أجهزة ومعاملات قائمة على القسر، مثل الدولة والجيش والسجن وعصابات قطاع الطرق.
لا يستقيم شيئ في حياتنا الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية دون ذلك. ويبدو لي أننا اليوم ندخل الزمن الذي يفرض على المسلمين مواجهة تحديات الإصلاح الديني مباشرة. الأمور تصبح جديدة أكثر فأكثر، ومضطربة، وخطرة، وعنيفة، لكن خصبة ومثمرة أيضا، وجدية.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار في شؤون الثورة السورية/ أسئلة جواد صايغ
- حوار في شؤون شخصية وعامة، من الغوطة الشرقية/ أسئلة غسان المف ...
- صورة، علمان، وراية/ مقاربة اجتماعية رمزية لتفاعل وصراع أربع ...
- رسالة إلى المثقفين وقادة الرأي العام في الغرب -
- في نقد -سياسة الأقليات-/ حماية الأقليات من الأكثريات، أم كفا ...
- من -الإسلام- إلى المجتمع/ مقاربة جمهورية علمانية
- وطنيون وخونة وطائفيون...
- الثورة في الداخل والمعارضة في الخارج!
- متى تفجرت الثورة، وأين؟
- حوار حول الثورة السورية في عامين
- 1963- 2011: بين -ثورة- وثورة
- الرقة... صورة -مستعمرة داخلية-
- يوم سقط التمثال
- التناقض الكبير للثورات العربية
- ثورة في المملكة الأسدية
- ثلاثة أشكال للعنف في الثورة
- من مجتمع القضية الكبرى إلى مجتمع المشكلات الصغيرة
- -من بدل دينه فاقتلوه-!
- ثلاثة أشكال للنزعة السلمية في الثورة السورية
- استحضار كربلاء في -قلعة العلمانية-!


المزيد.....




- حادثة طعن دامية في حي سكني بأمريكا تسفر عن 4 قتلى و7 جرحى
- صواريخ -حزب الله- تضرب صباحا مستوطنتين إسرائيليتن وتسهتدف مس ...
- عباس يمنح الثقة للتشكيلة الجديدة للحكومة
- من شولا كوهين إلى إم كامل، كيف تجمع إسرائيل معلوماتها من لبن ...
- فيديو:البحرية الكولومبية تصادر 3 أطنان من الكوكايين في البحر ...
- شجار جماعي عنيف في مطار باريس إثر ترحيل ناشط كردي إلى تركيا ...
- شاهد: محققون على متن سفينة دالي التي أسقطت جسر بالتيمور
- لافروف: لن يكون من الضروري الاعتراف بشرعية زيلينسكي كرئيس بع ...
- القاهرة.. مائدة إفطار تضم آلاف المصريين
- زيلينسكي: قواتنا ليست جاهزة للدفاع عن نفسها ضد أي هجوم روسي ...


المزيد.....

- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد
- تشظي الهوية السورية بين ثالوث الاستبداد والفساد والعنف الهمج ... / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - حوار في شأن ألإسلام والتطرف والإرهاب والتسامح/ أسئلة محمد الحجيري