أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الحلبي - بغل أبي فيصل















المزيد.....

بغل أبي فيصل


وليد الحلبي

الحوار المتمدن-العدد: 4146 - 2013 / 7 / 7 - 21:41
المحور: الادب والفن
    



(طـريق الطنابر) درب ترابية تنحدر من سفح جبل قاسيون متغلغلة في أحشاء غوطة دمشق ، وعلى جانبيها أسوار من الطين تحمي المزروعات من عبث العابثين وعيون المتطفلين ، وأشجار جوز ضخمة انتصبت على الجانبين مشكلة بأغصانها الحانية وأوراقها اليانعة سقفاً أخضر أعطى الطريق شكل سوق الحميدية .

الوقت بُعَيْدَ ظهيرة يوم من أيام أوائل الصيف ، وموكب من عشرات الأطفال يندفع على الطريق الترابية باتجاه البساتين. أقدام الصغار تثير الغبار الناعم، فترتفع غلالته الخانقة إلى ما يقرب من نصف قامة أشجار الجوز ، والشمس قد حَمِيَ شعاعها، فاختلط عرق الأطفال اللاهثين بالغبار المتناثر على وجوههم ، مشكلاً طبقة من الطين الأصفر حيناً والأبيض في معظم الأحيان.

بدت لي الشمس ، وأنا في هذا الجمع الزاحف من أبناء حارتنا ، وكأنها تحاول استجلاء ما يجري على هذه الدرب الترابية . تنجح أشعتها أحياناً في التسلل بينهم حين تتصلب الأرض تحت الأقدام الصغيرة ، فينعدم الغبار ، وتفشل أحياناً أخرى عندما تخترق أقدام الجموع طبقة من التراب الناعم فتثيره مشكلة سحابة كثيفة . نعم هي الشمس نفسها التي كانت أمهاتنا توصينا أن نقذف إليها بأسناننا اللبنية حين تسقط ، طالبين منها أن تأخذ منا أسنان الحمير وتعطينا أسنان الغزلان ، ، ، نعم هكذا كنا نفكر أيام البراءة .

جموع الأطفال تتراكض دون أن تدري لماذا ، مع أنها كانت تعلم إلى أين . بعض الأولاد لبس حذاءً أو انتعل صندلاً ، والبعض الآخر لم يسعفه الوقت - عندما مر الموكب من أمام بيته - فقرر اللحاق بالجمع حافياً، ظاناً أن المسافة لن تطول ، لكنه، وعندما طال المسير، لم يعد بإمكانه الرجوع لإحضار حذائه حتى لا تفوته فرصة مرافقة الموكب .

ولكن أيُّ موكب هذا ؟ . . قلة من الأطفال - وعلى الأرجح من هم في الصفوف الأمامية فقط - كانت تعلم طبيعة وسبب هذه المسيرة ، أما الباقون فيبدو أنهم كانوا متطوعين في مهمة لا يعرفون عنها شيئاً ، باستثناء سماعهم وقع خطوات حصان يسير في المقدمة ، ساحباً وراءه شيئاً ثقيلاً ظهرت أثار جره واضحة على وجه الطريق .

طال المسير - أو هكذا لصغر سِنِّنا كنا نحسب - وبدأت الأعناق الصغيرة تتلفت إلى الخلف مراقبة بتوجس مكبوت بيوت الحي ، الملتصقة ببراعة على حضن الجبل ، تبتعد أكثر فأكثر. بعض الأولاد تخلف عن الركب وآثر العودة حتى لا ينشغل أهله عليه فيكون حسابه عسيراً إن هو عاد متأخراً ، والبعض الآخر صمم على الاستمرار في المسير، رغم أن المسافة بدأت تتسع بينه وبين مقدمة الركب ، فجدّ للحاق به .

عندما كانت الطريق تنحرف يمنة أو يسرة، كانت أسوار البساتين وأغصان أشجار الجوز تظلل رؤوسنا نحن الصغار فنجدُّ في المسير ، أما عندما كانت الطريق تتوازى مع أشعة الشمس، فقد كانت حرارتها تلسع الرؤوس، فيسيل العرق على الجباه من جديد ، ويعلو الطين الوجوه البريئة المتعبة ، فيمسحه الأطفال بالكم الأيمن تارة وبالأيسر تارة أخرى ، فتنظف الوجوه ولو مؤقتاً، وتتوسخ الأكمام إلى أن يحين موعد غسيلها الأسبوعي .

بعد جهد وعناء كبيرين وصل الموكب إلى بوابة أحد البساتين ، وانعطف يميناً عابراً تحت قنطرة لقِدَمِها حَسِبَ كل من مر ّمن تحتها أنها سوف تسقط عليه . توقف الركب ، وتوزع الصغار يمنة ويسرة مشكلين حلقة بشرية ، الآن شاهد الجميع الحصان الذي كان يجر الشيء الثقيل . الآن فقط علمنا أن هذا الشيء الثقيل لم يكن سوى جثة بغل ضخم . على جانب الحلقة البشرية وقف ثلاثة رجال غرباء عن الحي لم يتعرف الأولاد على أي منهم ، أما ذلك الرجل الرابع فقد فوجيء الجميع بأنه ( أبو فيصل ) ، بائع المحروقات الوحيد في الحي .

( أبو فيصل )، رجل في خريف العمر ، حنطي البشرة ، طويل القامة ، أحنت ظهره هموم السنين ، عيناه غائرتان وأنفه مستدق ، لا تسمع له صوتاً ، يتكلم همساً ويسير هوناً ، طيب وساذج إلى حدّ يبعث على الشفقة ، يعمل منذ ما يزيد على العشرين عاماً في بيع المحروقات إلى أهل الحي : في الصيف يبيعهم زيت الكاز للاستعمالات المنزلية ، وفي الشتاء يبيعهم المازوت ( الديزل ) للتدفئة واغتيال البرد. زوجته عجوز طيبة مثله تصرّ نساء الحي على أنها تكبره بخمس سنوات ، وابنه شاب مقعد أصيب بالشلل عندما كان معنا في الصف الأول الابتدائي ، فانقطع عن الدراسة ولزم البيت .

- : ( بغل أبي فيصل مات يا أولاد ) . صرخ أحد الصبية ، فران على الجمع صمت ثقيلٌ ثقيلْ . الآن وضحت لنا القصة ، وسرت همسات بين الأطفال بأن هذه الكومة من اللحم الموشك على التعفن ليست سوى جثة بغل أبي فيصل .

كان بغلاً ودوداً كصاحبه ، ضخم الجثة على عكسه ، بني لون الجلد ، له لطخة بيضاء في جبهته ، كثيف شعر الرقبة ، ولولا ضخامة ظاهرة في فخذيه لحسبه الناظر إليه حصاناً أصيلاً ، شهد أهل الحيّ بذكائه . كان لا يكاد يلمح زبوناً واقفاً على الرصيف حاملاً صفيحة التنك، حتى يقف بعده بأمتار قليلة ، موازياً الزبون مع مؤخرة عربة المحروقات دون تقديم أو تأخير ، فيشرع أبو فيصل في تعليق مكيال المحروقات على الصنبور النحاسي ويملؤه بالسائل ، ثم يقلبه في قمع كبير ثبته على فتحة الصفيحة المعدنية ، والبغل واقف في مكانه لا يبرحه ، وبمجرد أن ينتهي ( أبو فيصل ) من مهمته ، وبينما هو يقبض النقود من زبونه ، يتحرك البغل دون ما حاجة إلى أية أوامر من صاحبه ، ويتقدم بانتظار رؤية زبون آخر. كان بغلاً ذكياً هادئاً استمد دماثة طبعه من طبع صاحبه العجوز .

وسط الحلقة كانت هناك حفرة كبيرة في الأرض صممت بحيث تكفي لابتلاع جثة البغل الضخمة ، وتحت أنظارنا نحن الأطفال المرتعشون رهبة واستغراباً، دفع الرجال الثلاثة جثة البغل إلى الحفرة بصعوبة بالغة ، فسقطت فيها محدثة صوتاً مكتوماً ، وعلت سحابة من الغبار ، حاول الصغار إبعادها بأكفهم عن وجوههم المتعبة ، حينذاك سُمِعَت شهقات من بعض الصبية الواقفين في الصف الأول من الحلقة البشرية ، أعقبتها دموع غزيرة تناثرت من أعين الجميع تأثراً بهذا المشهد الحزين. كان بغل أبي فيصل جزءاً أصيلاً من معالم حارتنا، فكيف لا نبكي عليه؟. بحرقة بكى الجميع دون استثناء، وحده ( أبو فيصل ) لم تسقط من عينيه ولو دمعة واحدة ، وبدا وكأن دموعه قد تراجعت إلى داخل مقلتيه ، وانحدرت إلى حلقه ، فابتلعها بتجمُّلٍ واضح .

كان قلب ( أبي فيصل ) يعتصر ألماً ، فموت بغله يعني انقطاع دخله، ذاك الذي لم يكن يكفي لتسديد نفقات معيشته وثمن دواء ابنه ، وبدون البغل لن يأتيه دخل ، وليس في اليد من المال ما يمكنه من شراء بغل جديد ، والأرجح أنه لم يحتط لهذه الحالة ، حيث لم يخطر على باله قط أن يموت بغلُه قبله ، ويبدو أن الدموع التي انهمرت من عيون الأطفال - والتي كان أبو فيصل يرقبها باستغراب وسعادة مكتومة - قد خففت ، إلى حدٍّ ما ، من مصابه في بغله .

بدأ الرجال الثلاثة في إهالة التراب على جثة البغل ، وما أن صرخ أحدهم طالباً المساعدة حتى بدأنا جرف التراب بأصابعنا الصغيرة وأظافرنا الطرية، وما هي إلاّ دقائق حتى كانت الحفرة قد رُدِمَت تماماً، وبدأ الجمع بالانسحاب التدريجي من السّاحة الحزينة .

بعد أن قفل الجمع عائداً إلى الحيّ ، وبينما اختفت الشمس خلف جبل قاسيون مخلفة وراءها شفقاً أحمر - أضفى على المشهد جلالاً ومهابة بحجم مصاب صاحب البغل - لم يبق عند الحفرة سوى أبو فيصل وقد أشعل سيجارة أخذ منها نفساً عميقاً ، واضعاً يده في جيبه ، مطرقاً في يأس واضح .

مضى فصل الصيف، وحلّ فصل الخريف وبعده الشتاء، وجاء معه موسم بيع المازوت وأبو فيصل لم يظهر بعد . إشاعات سرت في الحي تقول بأنه ذهب إلى ابن عم له في سهول ( حوران ) لكي يحصل منه على بغل جديد، وانقطعت أخباره هناك .
بعد سنوات ، وعندما شارفنا على الانتهاء من مرحلة الدراسة المتوسطة ، جاءت الأخبار بأن أبا فيصل كان قد توفي في مستشفى المواساة منذ سنتين - بعد بغله بأشهر ، وربما كمداً عليه - ، ولما لم تكن عائلته تملك من المال ما يكفي لدفع نفقات جنازته ، فقد تبرعت بجثته إلى قسم التشريح في كلية الطب .

معظم أولاد حيِّنا، الذين شاركوا في جنازة بغل أبي فيصل، يعرفون موقع دفن جثة البغل ، أما أبو فيصل، فلم تُقَمْ أية مراسم دفن ، ولا يعرف أحدٌ له قبراً حتى الآن .



#وليد_الحلبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استنتاجات خنفشارية، من المظاهرات المليونية
- حصاد اسبوع من الحقل المصري
- قطرات الزمن المهتريء (شتتت النكبة الفلسطينية الأسرة الواحدة ...
- المعارضة المصرية: ما لها، وما عليها
- هل في الحزبية والأحلاف ديمقراطية؟
- الدفاتر القديمة
- لكل أمة طباع
- نهاية جميلة
- الرقدة الأخيرة
- عندما تمنيت أن يأكلني الدب القطبي
- عمى الاتجاهات
- خدعونا ورب الكعبة
- آيات الذكر الحكيم بين التفسير والتنبؤ
- هل هي عبقريتهم؟، أم هي سذاجتنا؟
- سيناء، وعصمة الزعيم
- (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
- هل نحن مقبلون على كارثة أخلاقية؟
- يتلاعبون حتى في أحكام الله


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الحلبي - بغل أبي فيصل