علي لّطيف
الحوار المتمدن-العدد: 4146 - 2013 / 7 / 7 - 10:46
المحور:
الادب والفن
لم يعد لدي قدرة ان أري يا أمي , اصبح كل شي لا يعني لي شيئاً , اصبحت كالمسافر المسجون في بلدٍ ظن انه ملاذه في لحظة ضعف ما , قولي لي يا أمي , ما العمل ؟ كيف يمكن لي ان اعود وليد الذي يبتسم مجدداً بمجرد رؤيتك . و لكنك لم تعودي معي يا أمي , لقد غادرتي و تركتيني وحيداً , لا يهمني شي إلا ان اشعر بملمس شفتيك علي جبهتي يا أمي , انتي لا تعلمين كيف انه صعب لي ان استيقظ غداً مرة آخري من غير ان توقظيني لأذهب الي مشاغلي , اين الله , كيف أخذك بهذه البساطة , الا يعلم الله اني احتاجك , لم اعد اريد ان اؤمن به مجدداً . اعتذر يا امي , اعتذر اني مُخدر هذه اللحظة , هذا منقذي بعدما ما ذهبتي , اعتذر اني لا استطيع ان اقف منتصباً امامك كيفما علمتني, اعتذر اني لم اقل لكي ماما منذ ان نزلت الشارع في حينا القذر , نعم يا امي حينا القذر , اعرف انكي علمتني ان احترم المكان الذي اعيش فيه مهما كان , لكن بعدك اصبح كل شي قذراً , اتعرفين سالم يا امي , سالم إبن ابلة خيرية ؟ اعرف انكي تذكرينه , فقد قمتي بنصحه تلك المرة و بالدفاع عنه عندما أخطأ , قائلتاً لوالديه :
" كلنا نخطئ , و فقط من يستحق يتعلم من اخطائه , و ابنكم سالم سيتعلم , اري ذلك غي عينيه . "
اتذكرين يا امي ؟ لكن سالم لم يذكر , سالم قتل امه يا امي , سالم اصبح ابناً للشارع , أخذته الحقارة , إلي ان اصبح سالم و الحقارة واحداً . حاولت ابلة خيرية كثيراً , و لكن سالم لم يرضي ان يحاول , رايته اخر مرة يا امي , رايته و لم أجد في وجهه إلا اعراض المخدر , سالم مات و ما رأيت الا إنساناً خاوياً , حاولت ان اتكلم معه , و لكنه لم يقل كثيراً , بعدها بايام سمعت ان سالم قد مات , علمت ذلك من صراخ ابلة خيرية , لم احب ابلة خيرية كثيراً يا امي , و لكنني حزنت عندما رايتها تبكي و تصرخ , ما الفرق بين فقدان ابنٍ و فقدان امٍ يا امي ؟ تمنيت انكي فقدتيني علي ان افقدك , انتي افضل مني يا امي , يمكنك ان تنزعي القذارة من حينا و انا لا ازيد إلا القذارة , يبدو ان الله يريد لي ان اكون قذراً . صحيح يا امي , لم اكمل لك , بعد العزاء بعدة ايام , جُنت ابلة خيرية و بعد جنونها بعدة اشهر , وجدت ميتة في سريرها مع الفجر , قبل موتها كانت تنزل شبه عارية الي الحي , اتذكر ابناء الحي يشفقون عليها تارة و مرة أخري يرمونها بمزاحهم المثقل بالوساخة مثلهم , سعدت انها ماتت يا امي , لقد ارتاحت و ارتاح اهلها , و نسيت مجدداً , زوجها الحاج عبد الرؤوف مات بعدها ايضاً , لقد كان مريضاً يا امي , بقيت سناء ابنتهم فقط , تكلمت معها بعد موت والدها , عارضاً عليها مساعدتي في اي شي تريد , لكن سناء ليست مثلي يا امي , ليست ضعيفة , سناء إمراة بوجه فتاة , لست خائف علي مصير سناء , ما يقلقني هو إعتراف بعض الشباب لي بأنهم سيحاولون الوصول اليها جسديا إذا رفضتهم , ساحمي سناء يا امي , لا اعلم لماذا اهتم , لست احب عائلة ابلة خيرية يا امي , لكنك غرستي في شيئاً لا يمكن لي ان انزعه مهما حاولت , زرعتي في رغبتي في الصلاح , و لو كنت لا اريد صلاح نفسي , لماذا يا امي لم تكوني كغير الامهات ؟ هل لأنكي كرهتني يا امي ؟ كيف يمكن لي ان اتألم كثيراً عندما اريد ان اكون خيراً ؟ لكنك لم تكرهيني يا امي , اعلم انكِ احببتني , انا جائع يا امي , لدي بعض المال هل اذهب اشتري الخبز و البيض و تعدين لي بعض طبق البيض المميز الذي احب ؟ مئزرك الازرق مازال في المطبخ , مازال ملطخ بالقهوة التي عاتبتني علي سكبها علي مئزرك اخر مرة , احيانا ادخل المطبخ لكي اشتم بقعة القهوة , لكي اتذكرك , و لكني لا انجح , انتي المئزر و انا بقعة القهوة .
استأذنك يا امي , تعبت من الوقوف , سأجلس , مكانٌ موحش الذي تعيشين فيه , انتي لا تعلمين من يسكن بجوارك , ماذا لو كان سيئاً , لا احد يستحق ان يكون بجوارك يا امي , و لكني متاكد من انه لو كان سيئاً ستكونين انتي صلاحه , هل من يوجد بجوارك لديه من يحبك مثلي ؟ لا اتمني ان يوجد من يحبك اكثر مني يا امي , و لكن اليس من السوء الا يكون لاحد ما من يحبه , اتمني ان يوجد لكل احد من يحبه , و لكني لا اظن ان احد مثل هذا يوجد لي يا امي , اعلم اعلم , تشاؤمي لا تحبينه , لكن هو كل ما املك , انا لا اشعر بشي يا امي , لا اشعر بحب الاخرين لي لو وجدوا , فقط اشعر بالكره , المقت , القذارة , هل يحسدونني لإني لدي امٌ مثلك ؟ , الهذا الكره , ام انني من اولئك الذين لا يمكن لأحد ان يحبهم , اعتذر لم اسئلك علي احوالك يا امي ؟ كيف يعاملونك في بيتك الجديد ؟ اتمني انكي بخير , هل ما زال قلبك يؤلمك ؟ لو كان مازال يمكنك ان تاخذي قلبي , لا استعمله كثيراً و ليس لي به اي فائدة , انتي بخير , لو كنتي لست كذلك ستقولين لي , انا اعلم ذلك . اتذكر ابي يا امي , احياناً اتذكره , و لكني لا اتذكر وجهه , هل كنتي تحبينه ؟ لم اراك تبكين عليه في موته , ربما كنت صغيراً و لا اتذكر , و لكني متأكد انك إخترتي الا تبكي عليه , لم اري احد قوي مثلك , و لكني رايتك تبكين مرة , انتي لم تريني , اتذكر انكي بكيتي لإنه تم ضربي من قبل احد ابناء الشارع و انتي لم يكن لديك ان تفعلي اي شي , اردتني ان اكون قوياً , اردتني ان اتعلم ان الحياة قاسية و مواجهتها تجعلها اسهل , اعتذر اني لم اكن قوياً في تلك المشاجرة , اعتذر اني لست قوياً الان , اعتذر عن ذرفك للدموع تلك اللحظة , و اعتذر عن ذرفي للدموع في هذه اللحظة , لماذا غادرتي يا امي ؟ هل حان وقت تركي , و لكني مازلت لست مستعداً , مازلت احتاجك , اكرهك لتركي لي , اكرهك لإنك لم تودعيني , اكرهك لإنك لم تجعليني مثلهم , لا اكرهك , لم اكن اقصد , لا تبكي يا امي , احبك , و ساكون وليد إبنك , ساكون كما تريدين , ساكون عند ظنك .
كانت هذه اخر زيارة لوليد لامه , قرر وليد في ذلك اليوم ان يكون شيئاً , فهم ان الرضوخ للالم اسوء من الموت , تعب من ان يكون لاشي , و في اليوم التالي وُلد وليد آخر , ولد من رحم الالم , من رحم حيه القذر , ولد صالحأً كما ارادته امه , و شائت الاقدار و تحسنت حالة وليد , اصبح المال يتدفق عليه , فتح متجراً صغيراً , توسعت اعماله , و باغتته سناء يوماً ما بأنوثتها , فطار وليد من مكانه مليئاً بالحب , لم تفت بضع اشهر , حتي اصبحت سناء زوجةً لوليد , تهامس الماكرون عليهم بشتى انواع الاشاعات , لكن ما ابي القدر إلا ان يكون الحب قاهراً لكل الماكرين , بعد سنة و نصف من اخر لقاءٍ بأمه , عاد وليد الي مستشفي قرقارش للأمراض العقلية ليزور امه , و لكن هذه المرة لم يعد وحده , بل مع سناء و إبنته ملاك . و لأول مرة منذ سنوات ابتسمت الام , و لم يشاهد هذه الابتسامة إلا ملاك .
#علي_لّطيف (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟