أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كلكامش نبيل - إمكانيّات محاكاة التجربة المصريّة في العراق















المزيد.....

إمكانيّات محاكاة التجربة المصريّة في العراق


كلكامش نبيل

الحوار المتمدن-العدد: 4143 - 2013 / 7 / 4 - 22:39
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



راقب العالم طوال الأيّام الثلاثة الماضية أحداث الثورة المصريّة بعيون ملؤها الإعجاب والترقّب، فقد أبهرت الجماهير التي حشّدت لها حركة تمرّد العالم، والذي لم يكن يتوقّع خروج تلك الملايين لتقول كلمتها بعد مرور أقل من عام على تولّي مرسي لسدّة الحكم. طوال تلك الأيّام الثلاثة والكل يعرف بأنّ النتيجة محتومة وهي زوال حكم الإخوان لأنّهم لم يحشدوا سوى أنصارهم في ساحة واحدة وبدوا منعزلين عن بقيّة أبناء الشعب المصري ومؤسّسات الدولة الرسميّة، ولهذا لم تكن نهاية تلك الثورة غامضة منذ البداية، وهذا ما جعل مواقع التواصل الإجتماعي تمتليء بمشاعر البهجة والإشادة بصنيع الشعب المصري وأنّه قد صنع التاريخ من جديد وأثبت بأنّه شعب صاحب حضارة عظيمة حيّة ومتجدّدة، وكل هذا صحيح فقد تكون هذه الثورة أوّل مبعث للأمل بالنسبة للقوى المدنيّة والعلمانيّة في الشرق الأوسط بعد أن توالت الأحداث الباعثة على الإحباط منذ أحداث ما يسمّى بالربيع العربي والذي يبدو أنّه قد بدأ الآن بقيادة مصر لإعادة الدور المدني والحضاري لشعوب المنطقة ووضع حد لهيمنة الأحزاب الدينيّة ونهاية لأحلام الثيوقراطيّة المظلمة.

ممّا يلفت الإنتباه لأي مراقب للرأي العام من خلال مواقع التواصل الإجتماعي كثرة من عقد مقارنات بين الوضع في العراق ومصر وقد كان البعض يدعو لحصول ثورة مماثلة ويلوم الشعب العراقي على سكوته على الظلم وسوء الخدمات وفقدان الأمن طوال عشر سنوات، ومنهم من شكّك في حب هذا الشعب لأرضه أو أنّه حقّا سليل شعب بابل وآشور العظيمتين – وهذا أمر مجحف في حق شعبنا وهنالك أسباب كثيرة من شأنها أن تكشف زيف وظلم مثل هذه الإتّهامات – فالظروف في العراق تختلف تماما عنها في مصر وعلى كافّة الصُعد السياسيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة والقضائيّة والجغرافيّة والتاريخيّة، وهذه الظروف كلّها تجعل الشعب يبدو ساكتا عن حقوقه ومتنازلا ولكنّني أعتقد بأنّها تعيق الشعب لفترة وبأنّ كل شيء قد يتغيّر إذا ما تمكّن شعبنا من تجاوزها والبدء بصفحة جديدة نحو مستقبل مشرق وواعد يحقّق السلام والرخاء لكل أبناء الوطن الواحد.

من أولى الأمور التي تجعل الوضع في العراق يختلف عنه في مصر هو دور الجيش والذي لا يمكن إنكاره في إسقاط نظام مبارك ومرسي تباعا، إذ لم ينخرط هذا الجيش في صِدام مع الشعب عبر تاريخه وحَرِص دائما على إنتقال يتّسم بالسلميّة منذ إسقاط الملكيّة، وقد أثبت أنّه جيش الشعب وليس جيش السلطة وبأنّه يرفض تدمير الوطن أو الإنخراط في حرب ضد الشعب من أجل دعم رئيس الجمهوريّة ضد إرادة الشعب. وبسبب عدم تصادم هذه المؤسّسة مع الشعب فإنّه يوجد شبه إجماع وطني حول دوره وإحترام وثقة في تدخّلاته. أمّا في العراق فعلى الرغم من أنّ جيشنا خاض حروب كثيرة دفاعا عن الوطن وقدّم تضحيات جسام لا يمكن أن تنسى دفاعا عن الوطن والشعب إلاّ أنّه كان قد إصطدم بهذا الشعب في شمال الوطن وجنوبه ومنذ تأسيسه وبغض النظر عن الأسباب وإذا ما كان ردّ فعله صدّا لما قد يُعدّ تدخّلات خارجيّة أو وضع حد لمسيئيين للأمن أو ردع لقوى إنفصاليّة – وهو أمر يحدث في كل دول العالم – إلاّ أنّ مثل هذه الأحداث ضد الآشوريّين والأكراد والعرب في الجنوب والوسط، بالإضافة إلى كثرة الإنقلابات العسكريّة في العراق أحدثت شرخا في العلاقة بين الشعب في مجمله وجيشه الوطني والذي أصبح في نظر البعض جيش سلطة وليس جيشا للوطن وهذا ما سهّل على الأميركان إتّخاذهم قرار حلّه – وهو ما أغرق البلد في فوضى عارمة مقصودة وجعل الخروج منها شبه مستحيل وجعل العراق أرضا مفتوحة لكل قوى الإرهاب والإستخبارات العالميّة والإقليميّة لتعيث في ارضه فسادا وتسيل من دماء أبناءه أنهارا – إنّ غياب جيش عراقي قوي هو العامل الأوّل في غياب الإستقرار وفي عدم قدرة الشعب على التغيّير وهذا ليس تمجيدا للإنقلابات العسكريّة – فالتبادل السلمي للسلطة هو الأساس وهو طموح كل الشعوب المتمدّنة ولكن وجود مؤسّسات دولة وجيش قوي من شأنهما منع تأسيس نظام إستبدادي وكبح جماح طموحات أي رئيس تسوّل له نفسه الإستفراد بالسلطة. أمّا الجيش الحالي فهو ضعيف التسليح – وهنالك قوى خارجيّة وداخليّة تريد بقاءه ضعيفا – وهنالك فئات من الشعب لا تنظر إليه نظرة ثقة ورضا وهذه مشكلة جسيمة يجب على السلطات العمل على تغيّيرها إن كانت تروم إستقرار الوطن وإزدهاره.

على الصعيد الإجتماعي يمكننا أن نتكلّم عن تشابهات في المجتمع العراقي والمصري من شأنها إضعاف دور الحياة المدنيّة وتتجلّى في هيمنة ثقافة الريف على المدينة عبر عقود خلت، ولكنّ الطابع القبلي يغيب عن مدن مصر بشكل جلي فيما تمكّنت قيم البداوة من شعبنا بسبب كثرة الهجرات والتغيّرات الديموغرافيّة عبر التاريخ والتي قلّصت من دور المجتمع المدني كثيرا وجاءت الظروف الإقتصاديّة الصعبة التي مرّ بها العراق في التسعينيّات لتقضي على ما تبقّى، فالكل يعرف أنّ العراق في مطلع القرن العشرين كان من الدول الرائدة في المنطقة وكانت فيه قوى مدنيّة فاعلة وجمعيّات نسويّة وجرائد نسويّة "ليلى التي صدرت عام 1923" وأخرى سياسيّة ساخرة منها "حبزبوز" و"كنّاس الشوارع" وكانت شوارع العراق تمتليء بمظاهرات مدنيّة تنطلق من تلقاء نفسها ويشارك فيها الرجال والنساء وطلبة المدارس لتعرض مطالبها وقضاياها بحريّة ومستعدين للتضحية بأنفسهم والتعرّض للإعتقال في سبيل تحقيق مطالبهم. فلا يمكن أن يقال أنّ هذا الشعب الذي جدّد الشعر العربي في مطلع القرن العشرين بإدخال الشاعرة نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب للشعر الحر بأنّه شعب نائم، ولا يمكن أن ينسى الناس توافد الأفكار اليساريّة الماركسيّة والقوميّة ومدى تحمّس الناس لتلك الأفكار في حينها، والصور لرفيقات من الحزب الشيوعي في سجون السلطة وهنّ نساء متمدّنات تثبت أنّ هذا الشعب حي وناضل ويناضل من أجل وطنه. "ما الذي حدث إذن؟" قد يتساءل أحدهم، والجواب واضح وإن تشابكت الأسباب، فبداية يجب أن نعرف بأنّ قوى المجتمع المدني في مصر وحتّى المؤسّسات المدعومة من الخارج والتي تعمل تحت مسمّيات عدّة كانت تعمل طوال سنوات حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك بكل حريّة، وكانت التظاهرات تعمّ شوارع القاهرة والكل يذكر جورج إسحاق وحركة " كفاية" وكيف أنّها كانت تجاهر بوجهة نظرها المعارضة للتوريث وكذلك "أيمن نور" وترشّحه لمنافسة الرئيس مبارك في وقتها، كما كانت النقابات تمارس عملها بحريّة وغالبا ما قامت بتظاهرات وإحتجاجات، كما كان الشباب المصري المهتم بشؤون بلده يعبّر عن رأيه بحريّة وكانت الصحف تنتقد الدولة وسياساتها بحريّة وكانت هنالك صحافة معارضة وحتّى جماعة الإخوان – الحركة المحضورة رسميّا – كانت تشارك في الإنتخابات وتفوز بمقاعد في البرلمان بصفة أفراد مستقلّين وإن كانت الدولة تعلم جيّدا بأنّهم من أعضاء تلك الجماعة في شكل يدل على أنّ القبضة لم تكن ديكتاتوريّة بالشكل الذي نعرفه في بقيّة الدول العربيّة، لهذا السبب لم تتعرّض الحياة المدنيّة في مصر للإقصاء كما حصل في العراق وسوريا وغيرها من دول المنطقة. فالجميع يدرك أنّ إنتقاد الحكومة في العراق أبان النظام السابق لم يكن ليراود ذهن أحد أبناء الوطن وسادت ثقافة "أنّ للحيطان آذان" ولم يكن للشعب القدرة على التظاهر والإعتراض والنقاش فكان المواطنون نسخة من الفرد الحاكم من دون هويّة ولا تميّز، كما غاب العمل النقابي وكانت الصحف نسخا متشابهة تحت عناوين مختلفة وكلّها موجّهة من الدولة ولم يكن هنالك حريّة إنترنت ولا حريّة إعلاميّة بل غابت القنوات الفضائيّة عن العراق أبان النظام السابق ولم يكن من الممكن الحصول على كتب معارضة وهذا كلّه شل الحركة الفكرية في العراق بشكل كبير، وعندما تغيّرت الأوضاع، سقط الدكتاتور، لكنّ ثقافة عبادة الصنم طوال ثلاثة عقود لن تزول في ليلة وضحاها ولهذا تكوّنت أوثان أخرى متعدّدة – دينيّة أو قوميّة – تحولقت فئات الشعب حولها لتعكف على عبادتها وترديد عباراتها التي تعبّر عن مصالحها ليس إلاّ فيما أحاط عدد قليلٌ جدّا من الناس بتمثال الوطن الذي طال إقصاءه ويبذلون ما في وسعهم الآن من أجل إستمرار ذلك الإقصاء، لكأنّ هذه الثقافة قد تأصّلت في الشعب على الرغم من أنّ تاريخنا القديم لم يؤلّه الملك كما هو الحال في مصر، إلاّ أنّه الآن يتم إختزال الوطن في شخص فرد سواء بالنسبة للمناصرين للحكومة الحاليّة أو المعارضين لها وحلم النظام السابق يداعب أحلامهم.

العامل الإجتماعي الآخر يكمن في تركيبة الشعب السكّانيّة، وهو عامل مهم يجعل التغيّير صعبا في العراق، فالعراق بلد متعدّد القوميّات والأديان والطوائف – وهو أمر جميل والمفروض أن يكون عامل قوّة وثراء فكري وقد كان كذلك دائما – إلاّ أنّ هذه الفئات الآن تتحولق حول هويّاتها الفرعيّة في ظل عدم قدرة الحكومة الثيوقراطيّة على تمثيل الجميع ولن يمكنها ذلك بالتركيز على هويّة الأغلبيّة، هذا الأمر يُضعف الشعور بالمواطنة ويضعف الشعب والدولة معا ويجعل من الوطن دويلات متصارعة في إطار دولة واحدة. عدم إعتراف بعض الفئات من الشعب بظلم وقع على فئات أخرى وتمجيدهم لما حصل وإصرار الفئات الأخيرة على تبرير الظلم الحالي بسبب ظلم الماضي هو ما يخلق هذه الحلقة المفرغة من الصراع ويمنع التصالح المجتمعي لننسى الماضي ونبدأ بداية جديدة تنقذ مركب الوطن من الغرق. كما إنّ الأميركان حرصوا على تذكية نيران الفرقة منذ اليوم الأوّل ومنذ تأسيس مجلس الحكم عملا بمبدأ فَرّق تَسُد، وقد مهّدت الأحداث التي مرّ بها الشعب العراقي في الفترة السابقة أرضيّة خصبة لتقبّل الفكرة، هذا بالإضافة إلى الأدوار الإقليميّة والتي قسّمت أبناء الشعب الواحد وتلاعبت بهم لمصلحتها فغابت مصلحة الوطن العليا، كل هذا أدّى إلى خطاب خارجي متشنّج جاء ليصفّي حساباته على أرض العراق، وإستغلّت السلطة الحاكمة والمعارضة المفلستين كل هذا من أجل ضمان ديمومة وجودهما، فليس لدى أي منهما برامج تجعلهم مقبولين لدى الشعب ولا إنجازات على أرض الواقع ليتكلّموا عنها في حملاتهم الإنتخابيّة، ولهذا نرى أنّ المشهد يتكرّر مع كل إنتخابات فيتخندق الجميع طائفيّا بسبب الخوف وفقدان الثقة بين أبناء الشعب الواحد، فالبعض يقول أنّ النظام السابق سوف يعود للإنتقام إذا لم نفز في الإنتخابات ويقدّم نفسه على أنّه المنقذ الوحيد للشعب وفي المقابل خطاب المعارضة لا يقدّم ما يطمئن الشعب ويجمعه لتثبت بأنّها الوجه الثاني لنفس العملة الطائفيّة التي أبتلي بها الوطن وفوق كل هذا تفتك المفخّخات والعمليّات الإرهابيّة والأسلحة الكاتمة والإغتيالات بأبناء هذا الشعب فيقنع بالسكوت وقبول كل هذه الأوضاع خوفا من المجهول والذي قد يكون أكثر حلكة وأشد ظلمة، فعندما يفكّر أحدهم في التظاهر سيخشى أن يصنّف بأنّه من فئة ما أو أنّ التظاهرة ستؤدّي إلى ضياع الحكم وعودة الماضي، ولهذا تنفض فئة كبيرة عن مساندة أي حركات إحتجاج سلمي، هذا بالإضافة إلى أنّ التظاهرات الأخيرة التي عمّت بعض محافظات الوطن لم تكن جامعة للوطن وفيها الكثير ممّا يزيد الفرقة وخطابات تحريضيّة بعيدة كل البعد عن التمدّن ولا يمكنها أن تعبّر عن الشعب ككيان واحدة، فما هي إلاّ تظاهرات يهيمن عليها رجال الدين وترفع فيها شعارات لفئات متورّطة بدماء العراقيّين ومظاهرات كهذه لا يمكنها أن تقوّض دولة تهيمن عليها أحزاب دينيّة من طائفة أخرى، بل إنّ وجود رجال الدين على رأس فئتين لهما أهداف متباينة سيؤدّي إلى تفاقم الأوضاع سوءا ويجر الوطن نحو الهاوية، لن يقوّض هذا الوضع المتردّي إلاّ وحدة الشعب ووجود قوى مدنيّة علمانيّة حقّة يمكنها أن تجمع الجميع تحت لواء الوطن فقط ويمكنها أن تكسب ثقة الجميع. وهذا هو ما توفّر في مصر في ثورتها الأخيرة ولهذا تكلّلت جهودها بالنجاح رغم محاولة السلطة أيضا تقسيم الشعب المصري على أسس طائفيّة فهذا الإسلوب هو زاد كل الحركات الدينيّة المفلسة ولن يكون لها وجود إلاّ بإذكاء مثل هذه المشاعر الطائفيّة التي تهدّم كيان أي أمّة إذا ما أبتليت بها، فقد حاولوا عبثا تصوير المظاهرات على أنّها مظاهرات قبطيّة وتحت قيادة الكنيسة المصريّة الوطنيّة ولكن أثبت المصريّون بأنّهم شعب واحد وكانت المظاهرات تضم عنصريّ الأمّة من أقباط ومسلمين وهم في الحقيقة وحدة واحدة وشعب مصري واحد، ولهذا لن يتحقق تغيّير في العراق إلاّ إذا توحّد الشعب ككل وهو أمر صعب وأقر بذلك ولكنّه ليس مستحيلا أبدا وكما يقول الأديب الألماني السويسري هيرمان هيسة "عليك أن تجرب المستحيل لتصل إلى الممكن" وكذلك مقولة نابليون بونابرت "المستحيل كلمة موجودة في قاموس الأغبياء فقط" . لهذا الإنقسام المجتمعي الآن عوامل خارجيّة وعوامل تاريخيّة منذ تأسيس الدولة العراقيّة ولكنّ الشعب متعايش ومنسجم ومندمج مع بعضه وهنالك أدلّة تثبت قدرته على تجاوز ذلك – فهو قادر على ذلك في غياب هذه الأجندات الطائفيّة وسيمكنه ذلك ما أن تختفي – ويمكن أن يضاف عامل الجغرافيا وموقع العراق وعدم وجود عازل طبيعي قوي وتعرّض الشعب للإبادة عبر التاريخ في تغيّير واقع الشعب الذي بنى أوّل حضارة عرفها العالم وقدّم للبشريّة الكتابة والقانون والأدب وأوّل مدينة فإستفحلت عناصر البداوة فيه بشكل أبعده عن المدنيّة، على الرغم من أنّ الحياة السياسيّة في النصف الأوّل من القرن العشرين أيضا تثبت أنّ الشعب كان فاعلا ومتحرّرا من قيود الطائفة والقوميّة والمنطقة والعشيرة ولكنّ النظام الذي شرخ تلك الوحدة الوطنيّة وعزّز دور العشائريّة – والآن الأمور تتفاقم – ولهذا يبدو كأنّ الشعب إنسلخ عن هويّته الجامعة وهذا ما لم يحصل في مصر، فالمصريّون يعتزّون بمصريّتهم ويعادون أي دولة عربيّة تسيء لهم حتّى لو كان ذلك من أجل مباراة كرة قدم – وليست هذه دعوة لتشجع العداء بين الشعوب ولكن هذا دليل على أولويّة مصر بالنسبة لشعبها – بينما في العراق يستاء البعض من كلام حقيقي قد يفضح دور إيران أو السعوديّة وبعض دول الخليج المسيء للعراق، وهذا الإستياء لهذا الطرف أو ذاك يثبت أنّ الولاء لم يعد للوطن وأنّ الهويّة الوطنيّة في العراق تمرّ بأزمة ويتّضح ذلك ايضا في رفض البعض لمجرّد إستعمال كلمة "أمّة عراقيّة" يمكننا إيجادها لتوحّدنا وهنالك أسس تاريخيّة ولغويّة تدعم وجودها حقّا، هذا الرفض يدل على أنّنا لم نتجاوز المرحلة التي تؤهّلنا لجعل وطننا أولويّة والإنطلاق به في مسيرة التقدّم والبناء.
من العوامل الأخرى التي تجعل الوضع في العراق يختلف عنه في مصر وجود مؤسّسة قضائيّة مصريّة قويّة لم تسمح حتّى لحسني مبارك أن يتحكّم فيها بينما مؤسّستنا القانونيّة – رغم عراقتها وتاريخنا القضائي الممتد لآلاف السنين والذي يعدّ الأوّل في العالم بأسره من خلال قوانين أورنمّو ولبت عشتار وأشنونا وحمورابي وغيرهم من رموز القانون في العالم – تمّ إخضاعها للسلطة وتمّ تسيّيسها والأمر يمتد لعقود خلت وليس مستحدثا. والقضاء ركن أساسي لقيام دولة متحضّرة وفي غيابه لا يمكن للشعب أن يعبّر عن رأيه المعارض بطرق سلميّة وهو يثق في أنّه لن يظلم من قبل مؤسّسة قضائيّة مسيّسة.

بعد كل هذا هل يمكن أن نتساءل عن سبب غياب ثقافة التظاهر السلمي في العراق؟ هل يمكن أن نلوم شعب يقتل كلّ يوم بالعشرات والقاتل مجهول وأحيانا معروف ولا يمكن محاسبته وأحيانا مجرم مرعب يقتل بأيديولوجيا الشر الديني المنتشر في المنطقة كالسرطان؟ يقتل الناس في المقاهي والمدارس وصالات الألعاب والأسواق ودور العبادة، لقد أصبح الشعب يلهث وراء لقمة العيش وبحثا عن سبل توفّر له الخدمات المفقودة وهو غير آمن على نفسه في رحلة البحث اليومي الأزليّة هذه ولا يعرف إن كان سيعود إلى بيته أم لا، كل هذه الأمور يجب أن تؤخذ بالحسبان لمن يجلس الآن ويلوم الشعب – وهو محب لوطنه بكل تأكيد وحزين لما يراه – ولكن معالجة هذه الأمور كفيلة بجعل الشعب يلتفت إلى مصيره ولن تحل هذه الأمور إلاّ بوحدة الشعب كأمّة واحدة تطالب بحقوقها هي وليست مصالح دول الجوار المتسربلة في هيئة حقوق ومطالب شعبيّة، ولن تنقذ قيادات أيّة طائفة أتباعها بل ستؤدّي إلى مزيد من الإحتراب والإنقسام ولن ينقذ الوطن إلاّ بخلاصه من القوى الدينيّة التي مزّقت هذا الكيان وأن يتوحّد الشعب خلف قيادات مدنيّة علمانيّة حقّة لها نظرة واحدة للجميع وتؤمن بالمواطنة وعندها سنرى العراق ينهض من جديد لأنّه قادر ومعطاء ولديه الكثير من المبدعين وهنالك بوادر أمل يمكن ملاحظتها في تجمّعات شباب متمدّن يقيم الندوات والمبادرات المستقلّة وبدأ يهتم بالثقافة من جديد – السبيل الوحيد للتطوّر – يمكن ملاحظة نشوء هذه الطبقة في مواقع التواصل الإجتماعي ولدي إيمان بأنّها ستكون مؤثّرة في شريحة كبيرة من شبابنا مستقبلا، هذا بالإضافة إلى ظهور بعض القنوات الإعلاميّة التي تركّز على كشف الفساد بشكل موضوعي وبالأدلّة وبعيدة عن الخطابات المتشنّجة المريضة فلا شيء أسوأ من حكومة طائفيّة إلاّ وجود معارضة طائفيّة وكلاهما تعتاش بوجود الأخرى.

في النهاية على من يفكّر في كسر الذات العراقيّة الجريحة بنقد غير بنّاء وبشكل لا يؤدّي إلى التغيّير أن يتذكّر ما عاناه هذا الشعب في سنوات الحصار الإقتصادي الذي خطّط لكسر هذه الروح أصلا وعليه أن يتذكّر الحروب الطويلة التي طحنت هذا الشعب والتي لم تتح له فرصة لإلتقاط أنفاسه وتضميد جراحه وكلّنا يعرف التبعة الثقيلة للحروب وما تخلّفه من أرواح مشوّهة متألّمة تحتاج إلى فترة نقاهة لتتعافى منها ولم تتوفر لنا هذه الفترة حتّى فقد أعقبت هذه الحروب مهرجانات بشعة للقتل اليومي والمجّاني في الشوارع، ولكن من يعرف تاريخ العراق جيّدا يدرك بأنّ مرض أسد بابل ولبوة نينوى الجريحة لن يطول وسينهض العراق قريبا ويعيد مجده، فهذا الوطن كان أحد أركان ثالوث النهضة في الشرق الأوسط في بداية القرن الماضي عندما كان يقال "مصر تكتب، لبنان يطبع والعراق يقرأ" والوحدة الوطنيّة ونشر الثقافة والتخلّي عن الإنتماء للطائفة هي السبيل لتحقيق ذلك.

كلكامش نبيل

الرابع من تمّوز – 2013



#كلكامش_نبيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد أن ضُربنا في الحرب - قصيدة يابانيّة مترجمة
- فتوحات أم غزوات
- تهويدة طفل - قصيدة سومريّة مترجمة
- رجل قلبي - قصيدة سومريّة مترجمة
- وحدة العراق التاريخيّة والجغرافيّة والثقافيّة
- التحزّبات العابرة للحدود وخطرها على المواطنة
- رسالة الأرض
- الديمقراطيّة الحقّة بالضرورة علمانيّة
- الفيدراليّة، حل أم مشكلة جديدة؟


المزيد.....




- -التعاون الإسلامي- يعلق على فيتو أمريكا و-فشل- مجلس الأمن تج ...
- خريطة لموقع مدينة أصفهان الإيرانية بعد الهجوم الإسرائيلي
- باكستان تنتقد قرار مجلس الأمن الدولي حول فلسطين والفيتو الأم ...
- السفارة الروسية تصدر بيانا حول الوضع في إيران
- إيران تتعرض لهجوم بالمسّيرات يُرَجح أن إسرائيل نفذته ردًا عل ...
- أضواء الشفق القطبي تتلألأ في سماء بركان آيسلندا الثائر
- وزراء خارجية مجموعة الـ 7 يناقشون الضربة الإسرائيلية على إير ...
- -خطر وبائي-.. اكتشاف سلالة متحورة من جدري القرود
- مدفيديف لا يستبعد أن يكون الغرب قد قرر -تحييد- زيلينسكي
- -دولاراتنا تفجر دولاراتنا الأخرى-.. ماسك يعلق بسخرية على اله ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كلكامش نبيل - إمكانيّات محاكاة التجربة المصريّة في العراق